اعترافاتي١
إن «الاعترافات» بمعناها اللغوي ومعناها القانوني تنصرف إلى المآخذ والنقائص، فاعتراف الإنسان لغةً هو إقراره بالشيء على نفسه، والاعتراف قانونًا هو الإقرار بالدَّين أو بالتهمة، وفي القرآن الكريم: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ؛ فالذي يكتب عن اعترافاته إنما يتكلم عن نقائصه وعيوبه، وعليه أن يحصي على نفسه السيئات، دون الحسنات، وبغير ذلك لا يكون موضوع حديثه «اعترافات».
بهذا المعنى أكتب عن «اعترافاتي»، وليس الحديث عنها عسيرًا؛ فما أكثر ما في حياة المرء من نقائص وعيوب وأخطاء ومآخذ! وحسب الإنسان أن تُربَّى حسناته على سيئاته، وأن ترجح في الميزان مزاياه على نقائصه.
إني أعترف بأن بي نقائص كثيرة، سعيت جهدي ولا أزال أسعى في أن أتحرر منها وأخفف من وطأتها.
(١) الحياء ضعف
وأول ما أعترف به على نفسي أني شديد الحياء، لازمني هذا النقص منذ صباي ولم يفارقني في أدوار حياتي.
إني أعتقد أن الحياء ضعف في الإنسان، ومهما قيل في مدحه فإني أراه على العكس مجلبة للضرر، ووسيلة إلى الزلل، وقد شعرت بأنه أضرني فعلًا وضيَّع عليَّ حقوقًا ومصالح ومزايا كثيرة، وسعيت جادًّا في أن أتحرر منه، ولكن ذهب مسعاي سُدًى.
لست أدري مصدر هذا الضعف ولا كيف تمكَّن مني، ولعله من العناصر الأصلية في تكويني، ومع شعوري بأني لست ضعيف الإرادة فقد ضعفت إرادتي عن علاج هذا النقص.
أنا لا أحب الحياء ولا أريده، ولكن ما حيلتي وقد رُكب هذا النقص في طبعي؟ وكل ما سعيت إليه ألَّا يتحول الحياء عندي جبنًا، ولعلِّي قد نجحت في هذا المجال؛ فإني والحمد لله لست جبانًا، بل عندي قسط لا بأس به من الشجاعة، ولا أريد أن أقول كيف نجحت في هذا المسعى وإلى أي مدًى نجحت؛ لأني إذا استطردت إلى هذا الحديث خرجت من دائرة «الاعترافات» …
(٢) الحياء والحب
وما دمت في صدد «اعترافاتي» فإني أقِرُّ على نفسي بأني تورطت مرةً في الحب عن طريق الحياء، كان ذلك في باكورة الشباب، وأنا بطبعي مرهف الحس، وهذا باب ينفذ منه الحب في يُسر وسهولة، ولقد أحببت حبًّا عاطفيًّا روحانيًّا، ولكني أدركت مع الأيام أن الحب أمر متعِب لا لزوم له ولا فائدة منه، فتخلصت منه، وكان للحياء دخْل في نهايته، كما كان له أثره في بدايته. وتعلمت من هذه التجربة أن من الخير للإنسان أن يَنشد الحب العائلي؛ أي الحب بين الزوجين، الحب الهادئ المعتدل المتصل؛ فإنه من أركان السعادة في هذه الحياة.
(٣) المرونة والعناد
إني لا أملك المرونة الكافية التي يقتضيها الانسجام في المجتمع، أنا مهذب ومؤدب في أحاديثي مع الناس وفي معاملتي لهم كبارًا وصغارًا، والناس — فيما أظن — يشهدون لي بذلك. ولكني أعترف بأني لست مرنًا كما ينبغي، والمرونة في نظري واجبة، وعندي جانب منها، ولكني أعتقد أنه ضئيل، وقد سعيت في أن أستزيد منه فلم أبلغ ما أريد، ولعل السبب في ذلك أن بي عيبًا آخر لا يتفق مع المرونة، وهو العناد، ولا أعرف من أين جاءني هذا العيب.
أرى الناس أحيانًا يكونون في الشرق وأنا أكون في الغرب، أليس هذا عنادًا؟ وعبثًا حاولت أن أعالجه فلم أستطع، وتساءلت لكي أُقنع نفسي بالإقلاع عنه: كيف يتفق الحياء مع العناد؟ فلم أجد جوابًا مقنعًا، إلا أن كليهما عيب، ولكن لا سبيل إلى التخلص منهما.
على أن العناد لم يبلغ بي مبلغ التنطع والسخف، بل إني لأعذر نفسي أحيانًا في عنادي لأني إنما أعاند فيما أعتقد اعتقادًا راسخًا بعد دراسة عميقة بأني على حق فيه؛ فكيف أكذِّب نفسي وأصدِّق الناس؟! ثم إني كثيرًا ما أراهم يسيرون في بعض الشئون وراء أكاذيب ضخمة اصطلحوا عليها دون بحث أو دراسة، فكيف أوافقهم على ذلك؟ وأراهم يرجعون أحيانًا عن آرائهم واتجاهاتهم؛ فما رأوه بالأمس أبيض يرونه غدًا أو بعد غدٍ أسود، وما رأوه حرامًا يرونه اليوم حلالًا، فهل أدور معهم كل يوم أينما داروا؟ إن هذا ما لا أحتمله ولا أطيقه، فليكن مسلكي عنادًا، وليكن العناد عيبًا، ولكنه عيب له «ظروفه المخففة» كتعبير رجال القانون.
(٤) الحفلات والمآدب
الحفلات والمآدب من الوسائل العملية ليكون الإنسان «اجتماعيًّا»، ويتعرف إلى أكبر عدد من الناس، وتعلو بذلك منزلته الاجتماعية والسياسية. ولكني أعترف بأني لا أميل كثيرًا إلى حضور الحفلات والمآدب، وأعتذر عن أكثرها، ولا أحضر إلا القليل منها، وهذا عيب كبير.
إني بطبعي أميل إلى الاجتماعات، أما الحفلات والمآدب فيصدني عنها أن الرسميات لها المقام الأول فيها؛ فأصحاب الرفعة والدولة يقدَّمون على أصحاب المعالي، وأصحاب المعالي يقدَّمون على أصحاب السعادة، والوزراء يقدَّمون على غير الوزراء، والباشوات يقدَّمون على البكوات، والبكوات على الأفندية، وهلم جرًّا، وأصحاب الدعوات يلاحظون هذا الترتيب بكل دقة ولهم عيون ورقباء يقومون على تنفيذه. والصحافة أيضًا تسير على هذا الغرار في وصف الحفلات وأسماء من يحضرونها. وأنا شخصيًّا لا أُقِر هذه الأوضاع ولا أهضم توزيع مظاهر الاحترام والحفاوة بهذا الميزان؛ ومن هنا أميل إلى الاعتذار عن معظم هذه الحفلات والولائم، وهذا ولا شك نقص كبير سأعالجه مع الزمن …
(٥) حسن ظني بالناس
إني حسن الظن بالناس أكثر مما يجب، ويلزمني أن أتعلَّم المثل القائل: «إن سوء الظن من أقوى الفطن»، لقد قرأته كثيرًا ولكني لم أعمل به ولم أتبعه.
أحسنت ظني بأناس كثيرين وخاب ظني فيهم. ومن الغريب حقًّا أني لا أفيد من التجارب، فكان يجب عليَّ أن أسيء الظن بالناس بعد ما رأيت المرة بعد المرة من خيبة ظني في كثير منهم، ولكني مع ذلك أعود فأُحسن ظني بهم؛ أي أعود إلى ما كنت فيه … فمتى — ليت شعري — أتعلَّم؟
(٦) وبالحوادث …
ومن عيوبي أني حسن الظن بالحوادث، وأني متفائل أكثر مما ينبغي، وكثيرًا ما تأتي النتائج على غير ما كنت أتوقع، ومع ذلك لا أتعلَّم ولا أغيِّر من نظري إلى الناس والحوادث.
أنا لا أتهم نفسي بالغباوة؛ فإني لست غبيًّا ولا بليد الذهن، فلا أظلم نفسي وأدَّعي الغباوة، ولكن لماذا إذن لا أتعظ ولا أتعلَّم إساءة الظن بالناس والحوادث؟! لعل لي عذرًا في هذا العيب؛ فإني لو رُضت نفسي على أن أعرف العالم على حقيقته وأسأت ظني بالناس، لمَا ترك لي اليأس مجالًا للعمل، ولسدَّ عليَّ منافذ الأمل، أو لعل الأيام والحوادث سواسية فيما تأتي به من خير أو شر، فلنقبلها على علَّاتها، ولننظر إليها كما يقول فيها أبو تمام:
وليكن الإنسان متغابيًا أو متجاهلًا، لكي يستطيع أن يبقى مكافحًا ومناضلًا؛ فالحياة مرادفة للكفاح والنضال.
(٧) الحقيقة والخيال
وأظهرُ عيوبي أني لست رجلًا عمليًّا ولا واقعيًّا، وأني أقرب أن أكون نظريًّا أو خياليًّا، وأني لا أريد أن أفهم الحياة على حقيقتها.
أنا أعلم حق العلم أن الحقائق شيء والخيالات شيء آخر، وأشعر أنني أعيش غالبًا في جوٍّ من الخيال، ومع اعترافي بهذا؛ فإني أوثر الخيال على الحقيقة أحيانًا. قد يكون هذا مكابرة، أو غفلة، أو ما إلى ذلك، لكني أود أن أبقى متعلقًا بالخيال؛ فقد يكون الخيال خيرًا من الحقيقة، وقد يصبح حقيقة بعد حين، وقد تفيد الأمم من الخيال أكثر مما تفيد من الأمر الواقع!