زوجتي
هي «عائشة» بنت خالي محمد المعايرجي. تزوجت بها سنة ١٩٢٠ في إبان الثورة، وكنت في الحادية والثلاثين من عمري، وكان لزواجي بها قصة …
فقد كنت مترددًا بين الزواج والعزوبة، هل أتزوج أم لا أتزوج؟ وأخيرًا رجحت عندي فكرة الزواج لأنه الحالة الطبيعية العادية للإنسان في المجتمع. ولم أرَ ما يدعوني إلى أن أشذ عن هذه الحالة الطبيعية. ثم جاءت المرحلة الثانية، وهي التفكير في أي البيئات أختار منها زوجتي.
وكان لي صديق صدوق يُخلص لي النصح، ويُسدي إليَّ نصائحه بين آنٍ وآخر. فقال لي يومًا دون أن يعلم بتفكيري في الزواج: «لي رأي أود أن أبديه لك.» قلت: «وما هو؟» قال: «إنك في حاجة إلى نقطة ارتكاز في حياتك السياسية.» قلت: «وما هي؟» فقال على الفور: «زوجة غنية!» فصدمتني هذه النصيحة ولم تقبلها نفسي. وشعر صديقي أن تعبيره لم يكن رقيقًا ولا موفقًا، وأراد أن يعبِّر عن رأيه بصيغة أخرى مخفَّفة ومفسَّرة. فأبيت أن أستمع إلى نصيحته ومضيت في سبيلي.
وكان حبي لأمي — وقد توفيت وأنا صغير السن وعشت بعدها يتيمًا من الأم (ومعذرة للغويين عن هذا التعبير) — قد مال بي مبدئيًّا إلى أقرب البيئات إليها.
فلما شبَّت ثورة سنة ١٩١٩ كنت في زياراتي لعائلات خئولتي ألاحظ على «عائشة» تطورًا عجيبًا في نفسيتها وتفكيرها وإحساساتها. كانت ثائرة، واشتركت في مظاهرة السيدات والآنسات (١٦ مارس سنة ١٩١٩)، وكانت تتدفق في أحاديث عن الحالة السياسية وعن تطور الأمة، وأعجبني منها ذكاؤها وجاذبيتها وإخلاصها وروحها الوطنية، فعقدت النية على الزواج بها. ولم أفاتحها في الأمر؛ لأن ذلك لم يكن مألوفًا في هذا العصر، وخاصةً في البيئات المحافظة، ولأني كنت واثقًا من رضاها بأن تكون زوجتي، إلى أن تم عقد زواجي بها في ١٢ مارس سنة ١٩٢٠.
ولمَّا علم صديقي الصدوق بزواجي هنأني بحرارة، ثم سألني في تلطُّف وفي غير فضول: «هل بنت خالك غنية؟» فقلت له: «إن لها إيرادًا يسيرًا في وقف أستحق أنا أيضًا فيه بنصيب يماثل نصيبها؛ أي إنها ليست غنية ولا ذات ثراء.» فكرر لي التهنئة ثم سكت ولم يتكلم. وقطعت سكوته بقولي: «وأنا أيضًا لست غنيًّا ولا ذا ثراء، وهذا في نظري أدعى للانسجام بيننا. ثم إن الغنى مسألة نسبية لا عددية كما يتوهم كثير من الناس؛ فالأغنياء ماذا يصنعون بما يزيد عن مطالبهم المعقولة والمحتملة؟ لا شيء، وما دام الإنسان في غير حاجة إلى الناس فهو لا يقل غنًى عن أغنى الأغنياء.»
وقد اقتنع صديقي بهذه الآراء ووافقني عليها قائلًا: «إن ما تقوله هو الحق، ولكننا كثيرًا ما ننساق وراء أوهام أو أكاذيب اجتماعية يصطلح عليها الناس. ومهما اختلفت الآراء في هذا الصدد؛ فالأمر الجوهري في الحياة الزوجية ليس في الغنى أو قلة الغنى، بل هو التوفيق بين الزوجين، فأرجو لك التوفيق في حياتك الزوجية، وأود لك يا صديقي أطيب التمنيات.»
وأستطيع أن أقول عن زوجتي في صدق وتوكيد: إني وجدت فيها، والحمد لله، شريكة حياتي التي عاونتني على توفير الحياة المنزلية السعيدة، وتيسير الهدوء العائلي الذي ساعدني على العمل والإنتاج.
وأخَصُّ صفاتها الإخلاص، والعناية بصحتي وراحتي. وأنا من ناحيتي أبادلها حبًّا بحب، وإخلاصًا بإخلاص.
ويتجلى إخلاصها أكثر ما يتجلى عندما أمرض أو أحزن، فإذا أصابني مرض تتمنى حقًّا لو أنها مرضت بدلًا عني، وتعتني بي في مرضي أكثر من عنايتها بنفسها ومن عنايتي أنا بها إذا هي مرضت، وعندما ألاحظ ذلك تقول لي: «إن حياتك أنفع للبلاد من حياتي» — هكذا تقول — فأُكبِر منها هذا الشعور.
وهي تتشدد معي في اتباع تعليمات الطبيب وأحيانًا تُلزمني إلزامًا باتباعها.
وعندما مرضت بالتيفوئيد سنة ١٩٢٣ ولزمت الفراش نحو شهرين واشتد بي الخطر، كان الأطباء الذين يعالجونني يقرءون على ملامح وجهها درجة حرارتي قبل أن يقيسوها بميزانهم، ويقولون إن وجهها هو الترمومتر الصادق لحالتي الصحية.
ولما توفيت والدتها سنة ١٩٣٤ — وكنت في رحلة بأوروبا — عدت في أعقاب الوفاة، فأبت أن تقابلني بملابس الحداد، وقابلتني بملابس بيضاء، وتظاهرت باطِّراح الحزن وكتمته بين جوانحها، على الرغم من أني حزنت لوفاة أمها الحنون، وعاتبتها على كتمان حزنها.
وهي تطالع كُتبي بإمعان، وتقرأ كل ما أقول وأكتب، وتُبدي لي أحيانًا ملاحظات سديدة، وتستمع إلى كل أحاديثي بالراديو وتُعجب بها، ومرة أو مرتين قالت لي: «حديثك هذه المرة ضعيف.» فقلت مبتسمًا: «كيف ذلك والناس قالوا لي غير هذا؟» فقالت: «لعلهم يجاملونك، ولكن الحديث ضعيف.» وذكرت الأسباب، فاغتبطت كثيرًا لملاحظاتها، وحمدت الله على أنها تراقبني إلى هذا الحد.
وهي تشاركني في اتجاهاتي الوطنية وتشجِّعني عليها، ولم أرَها مرة تتبرم بالسبيل التي سلكتها في الحياة، ولا رغَّبتني يومًا في أن ألحق بركب «الحياة العملية» كما يصفونها.
إنها زوجة مثالية وكفى، وإني لمدين لها إلى حد كبير بتوافري على العمل والإنتاج، وبالراحة والسعادة في حياتي العائلية.