في المعارضة البرلمانية
إن المثالية هي التي جعلتني أختار المعارضة في البرلمان الأول سنة ١٩٢٤؛ فقد شعرت أن من واجبي كنائب أن أتخذ من الحياة النيابية أداةً للكفاح الوطني، وأن تكون استمرارًا لكفاحي الماضي، وهذا يقتضي مني أن أكون على شيء من الاستقلال عن الوزارة القائمة — وزارة سعد — فأؤيدها فيما تُحسن وأنتقدها فيما تخطئ فيه، وأعبِّر عن مبادئ وأفكار قد لا تدين بها الأغلبية، وهذا ما يسمى «المعارضة». فاتجاهي إلى المعارضة كان إذن اتجاهًا سليمًا قويمًا فيما أظن، ولكنها مع ذلك جلبت عليَّ متاعب وعداوات كثيرة ظهر أثرها على تعاقب السنين، بالرغم من اعتراف الجميع أن المعارضة ضرورية للحياة الدستورية. إن هذا كلام يقولونه بأفواههم، ولكنهم في خاصة نفوسهم لا يطيقون المعارضة ويتربصون بها الدوائر، وينتهزون الفرص للتخلص من المعارضين وإسقاطهم، وهذا ما حصل لي سنة ١٩٢٦ و١٩٣٦ و١٩٥١.
ساهمت مع لفيف من إخواني وزملائي في وضع التقاليد الصالحة للمعارضة البرلمانية القويمة.
تألفت المعارضة في بداية الحياة البرلمانية سنة ١٩٢٤ من نواب الحزب الوطني، وكنا في مجلس النواب لا نزيد على أربعة وهم: عبد اللطيف الصوفاني بك، وأنا، والدكتور عبد الحميد سعيد، والأستاذ عبد العزيز الصوفاني. حملنا معًا لواء المعارضة، وكانت غايتنا أن نجعل من الحياة النيابية أداة جهاد في الذود عن حقوق البلاد، ومجال توجيه للحكومة للأخذ بوسائل الإصلاح في شتى نواحيه وإقامة حكم صالح نزيه. وقد حرصت مع إخواني على أن نسير على مبادئ الحزب الوطني داخل مجلس النواب، فكنا لا نفتأ نتمسك بالجلاء ووحدة وادي النيل، وننشد أن يشاركنا الجميع في ذلك، كما كنا نعالج المسائل الداخلية بروح الرغبة الصادقة في الإصلاح. ولم نكن ننظر إلى وزارة سعد كخصم نحاربه، بل كنا نقدِّر فيها صفة الوكالة عن الشعب، تلك الوكالة التي نالتها في ميدان الانتخاب، فكان موقفنا منها موقف التوجيه الخالص لخير البلاد، كنا نعضدها فيما كان يتفق ومبادئنا وننقدها في رفق ولين فيما كنا نختلف وإياها فيه، ولم يدُر بخلدنا أن نخلق لها العقبات أو نشارك في المساعي لإسقاطها. ولكن الوفد لم يقابل هذه الروح بالتقدير والاعتدال، بل حنق من موقفنا؛ إذ كانت سياسته (ولم تزل) اضطهاد المعارضة والمعارضين، وخلق ديكتاتورية برلمانية يتمثل فيها الحكم المطلق بشكل يتفق مع ظواهر الدستور دون حقيقته ومعناه.
وأذكر أن أول موقف لي في المعارضة كان لمناسبة المناقشة في خطاب العرش (جلسة ٢٩ مارس سنة ١٩٢٤) الذي ألقاه سعد زغلول يوم افتتاح البرلمان (١٥ مارس من تلك السنة). وكانت جلسة هامة، حضرها سعد وبقية الوزراء، ورأس الجلسة أحمد مظلوم باشا، وكان يقدِّرني تقديرًا خاصًّا وينظر إليَّ بود واحترام ويعطيني حقي في الكلام بارتياح وسهولة مما كان ييسِّر لي مهمة الكلام في المجلس. كان دوري في الكلام في تلك الجلسة يأتي بعد عبد اللطيف الصوفاني بك، وقد قوطع في بعض العبارات غير مرة، ولكن المجلس تركه يستكمل كل ما أراد الإفضاء به، وفي أثناء خطابه همس في أذني هارون سليم أبو سحلى «باشا» نائب فرشوط، وكان صديقًا لي ويجلس خلفي، ناصحًا لي أن أتنازل عن كلمتي لأنه يرى جوَّ المجلس غير موائم للمعارضة، فلم ألقِ بالي إلى نصيحته وتكلمت معارضًا في دوري، فألفيت من المجلس إصغاءً تامًّا وحُسن استقبال على خلاف ما كان يظن هارون بك، ورأيت مثل ذلك في كل مرة طلبت فيها الكلام.
وكنا من ناحيتنا نحن المعارضين نجتنب العبارات العنيفة أو الكلمات النابية في النقاش، وبذلك وضعنا في مستهل الحياة البرلمانية تقاليد أظن أنها صارت أُسسًا صالحة للمعارضة النزيهة. وقد انضم إلينا في المعارضة النواب الدستوريون وبعض المستقلين وبعض النواب الوفديين الذين مالوا إلى اتجاهاتنا، فبلغت عدتنا عشرين نائبًا، طوى الردى معظمهم وبقي منهم ثلاثة أو أربعة، وجميعهم هم: عبد اللطيف الصوفاني، عبد الحميد سعيد، عبد الرحمن الرافعي، عبد الحليم العلايلي، عبد العزيز الصوفاني، محمد شوقي الخطيب، السيد عبد العزيز خضر، الدكتور محمود عبد الرازق، عبد الجليل أبو سمرة، علي علي بسيوني، سلطان السعدي، هارون سليم أبو سحلى، علي الطحاوي المغازي، أحمد المليحي، محمد الشريعي، خليل أبو رحاب، عبد الله أبو حسين، محمود وهبة القاضي، محمد توفيق إسماعيل.
ومع أن مجلس النواب سنة ١٩٢٤ كان في الجملة واسع الصدر بإزاء المعارضة؛ فالوزارة نفسها — وزارة الوفد — لم تكن على هذا الغرار؛ فقد كانت تنظر إلى المعارضين بعين الحقد، وبدا ذلك مما أضمره الوفد لنا من المحاربة في الانتخابات اللاحقة.
وقد قيل عني إنني بمواقفي في المعارضة كنت أريد إحراج سعد، ولَعَمْرِي إن هذا كان أبعد ما يكون عن خاطري؛ فإني ما قصدت إحراج سعد أو وزارته، بل كنت أرى في الحياة البرلمانية ميدانًا لاستمرار الكفاح ضد الاحتلال، فكنت لا أفتأ أحمل على سياسة العدوان البريطاني في مختلف المناسبات، وهي الخطة التي اتبعتها الأغلبية الوفدية في مجلس النواب حينما اشتد هذا العدوان في يونيو ونوفمبر سنة ١٩٢٤ لمناسبة حوادث السودان.
لم أكن أقصد إحراج سعد، ولكن سعدًا كان لا يطيق المعارضة ويحنق عليها؛ لأنه لم يكن يريد من النواب إلا مؤيدين له. وقد زاد حنقه عليَّ حين بدرت منه كلمة بجلسة ٢٤ مايو سنة ١٩٢٤ عُدَّت عليه خطأً سياسيًّا كبيرًا؛ ذلك أني وجهت سؤالًا إلى وزير الأشغال «المرحوم مرقس حنا باشا» طلبت فيه العمل على وقف المشروعات التي كان الإنجليز يقيمونها في الجزيرة (بالسودان)، ولقد أجاب مرقس باشا على سؤالي في هذه الجلسة إجابةً غير مطمئنة، وحصل نقاش بيني وبينه، وكان غرضي التنبيه إلى وجوب درء خطر يتهدد مصر من استمرار هذه المشروعات. ومع أن السؤال كما تحدده الأوضاع البرلمانية يجب أن يظل مقصورًا بين السائل والمسئول؛ فإن سعدًا تدخَّل في النقاش وقال موجهًا الكلام إليَّ: «هل عندكم تجريدة؟» وأراد بهذه الكلمة أن يُظهر استحالة وقف هذه المشروعات.
وكانت سقطة كبيرة اتخذها خصومه مادةً للطعن عليه، أما أنا فلم يزد تعليقي عليها على قولي: «كنا ننتظر أن نستمد الأمل من كلمات دولة الرئيس لا أن نسمع كلمات تبعث اليأس في النفوس.» ولكن الوفديين حمَّلوني مسئولية تلك الكلمة وكانوا يقولون إنني أحرجت سعدًا وجعلته يقولها! وهذا من أغرب ما يُسمع في معرض التجني؛ فسؤالي لم يكن موجَّهًا إليه، وهو الذي أقحم نفسه في موضوعٍ موجَّه إلى أحد الوزراء، وكان تدخُّله مفاجأة لي، فإذا كان قد أخطأ في تدخُّله وفي قولته هذه، فكيف أتحمَّل هذا الخطأ؟!
(١) حوادث السودان سنة ١٩٢٤ وصداها في البرلمان
وقعت أزمة سياسية في يونيو سنة ١٩٢٤ على أثر منع حكومة السودان سفر وفدٍ يمثِّل خيرة رجاله المؤيدين لارتباطه بمصر والمقاومين للحركة الانفصالية التي دبَّرها الإنجليز هناك؛ فقد منعت سفر هذا الوفد إلى مصر، ولم تكتفِ بذلك بل اعتقلت بعض أعضائه، وفي الوقت نفسه أخذت تستكتب صنائعها عرائض بالولاء للحكم البريطاني.
كان لهذه الأزمة صداها في مجلس النواب بجلسة ٢٣ يونيو سنة ١٩٢٤، وكانت من أهم جلسات البرلمان، تكلمت فيها، وتكلم فيها أيضًا عبد اللطيف الصوفاني بك، ومما قلت في كلمتي:
«إن البرلمان كما قال دولة الرئيس هو ضمير الأمة، وهو قلبها الخفاق، وفي هذه الأيام تدور حوادث خطيرة في السودان؛ إذ تقوم هناك حركتان متناقضتان: حركة طبيعية صادرة من أحشاء الشعب السوداني، وحركة مصطنَعة تقوم بها السلطة الإنجليزية.
أما الحركة الطبيعية فهي التي عرفناها من التلغراف الوارد على المجلس من جماعة من رجالات السودان وذوي الرأي فيه ينادون بأنهم ألَّفوا وفدًا بقصد الحضور لمصر لإظهار ولائهم لمصر ولمليك البلاد فمنعتهم القوة من اجتياز بلادهم ومنعتهم عن أداء هذه المهمة الوطنية.
أما الحركة المصطنعة فتُدبِّرها السلطة الإنجليزية؛ فقد أوعزت إلى صنائعها وبعض موظفي السودان بعقد اجتماع صوري يتظاهرون فيه بالولاء للحكم الإنجليزي، فهذه حركة لا يمكن السكوت عليها لأن الحوادث التي تقع في السودان الآن إنما يُقصد بها الاعتداء على حقوق مصر والسودان وعلى حقوق السيادة المصرية، وإذا قلت السيادة المصرية فلا أرمي إلى الاستعمار والتحكم، وإنما أقصد بالسيادة حقوق الولاية العامة التي يشترك فيها المصريون والسودانيون على السواء.
فإزاء هذه الحركة يجب أن نحتج ونعلن للعالم أجمع رأينا صراحةً بأن الحركة التي يدبرها الإنكليز مصطنعة وأن الحركة الطبيعية هي التي ظهرت في التلغراف الوارد علينا.
سادتي: يجب أن نعلن العالم أننا أول من يهمه عمران السودان وتقدُّمه، وإن التاريخ شاهد على أننا كنا على الدوام عونًا للعمران في السودان، وما تدَّعيه السياسة الإنجليزية من أن بقاء سيادتها هو لمصلحة العمران في تلك البلاد قول مكذوب؛ لأن المصريين هم الذين مدوا السكك الحديدية وشيدوا القصور والبنايات وفتحوا المدارس وشقوا الترع وأقاموا السدود والجسور على النيل وثبَّتوا كل دعائم العمران في السودان وضحَّوا في سبيل ذلك بحياتهم وأموالهم.» إلى أن قلت: «فأضم صوتي إلى الصوفاني بك وأطلب من حضراتكم أن تحتجوا على هذا العمل كما احتجت الأمة المصرية في أبريل سنة ١٩٢٢ عندما أقام الإنكليز حركة مصطنعة شبيهة بهذه الحركة كان من جرائها محاكمة الضابط السوداني علي عبد اللطيف؛ لأنه لما رأى أن الإنجليز ساعون للقيام بهذه الحركة تظاهر مع جماعة من إخوانه وأعلنوا عن عواطفهم وأظهروا تمسُّكهم بمصر وبالولاء لعرش مصر، وأظهروا علنًا أن كل هذه الحركات التي يقوم بها الإنجليز حركات مصطنعة. ومما يشجعنا على طلب الاحتجاج وعلى رجاء الحكومة بأن تقوم بواجب الاحتجاج وأن تضع حدًّا لهذه المسائل، أن معالي مرقس حنا باشا (وزير الأشغال وقتئذٍ) وقت أن كان نقيبًا للمحامين تطوع للدفاع عن علي أفندي عبد اللطيف وعزم على السفر للخرطوم ولم يمنعه إلا أنه فوجئ بتلغراف ينبئه بصدور الحكم على الضابط السوداني. وأظن أن هذا الاحتجاج نشترك فيه جميعًا؛ إذ لا يوجد أي خلاف بيننا، ونحن نصرح علنًا بأننا نؤيد الوزارة كل التأييد في الدفاع عن حقوق مصر والسودان ونؤيدها في ذلك بكل إخلاص.»
وقد عقَّب سعد على أقوال خطباء هذه الجلسة بكلمة قال فيها:
«تحركت مسألة السودان اليوم ولم تكن الحكومة مستعدة لأن تقول رأيها فيها، ولكني مع ذلك يمكنني أن أصرِّح لحضراتكم بأن الحكومة تشارككم كل المشاركة في شعوركم بالنسبة للسودان، بل تنظر بعين المقت لكل عملٍ من شأنه أن يفصل السودان عن مصر.
والإجراءات التي تتم الآن في السودان كما قال حضرة العضو المحترم عبد الرحمن الرافعي بك على نوعين؛ الأول: وثائق تُكتب واجتماعات تُعقد لإظهار الولاء للحكومة الإنجليزية والرغبة عن الحكومة المصرية، والثاني: منع الذين يريدون أن يقدِّموا ولاءهم للحكومة بالحضور إلى مصر. فأما القسم الأول وهو عقد الاجتماعات أو اختلاس الثقة لأجل إعلان الامتنان من الحكومة الإنجليزية؛ فإنا نصرح هنا وفي كل مكان بأنه باطل ولا يُعتبر حجة علينا.
إذا قُدمت هذه الأوراق أمام أي محكمة أو أي هيئة وحصل التمسك بها، فلسان مصر يقول إنها أوراق باطلة لأنها لم تؤخذ بالحرية المطلقة وأنه يجب قبل التمسك بها أن يكون السودان خاليًا من كل حكومة أجنبية.
أنا في تصريحي هذا منضم إليكم فيما أعلنتم من أن هذه الوثائق وهذه الأوراق وهذه الاجتماعات لا قيمة لها مطلقًا، وهذا كافٍ (أصوات: بدون شك).
وأما فيما يتعلق بالقسم الثاني ألا وهو منع السودانيين المخلصين، وكلهم فيما أظن مخلصون لنا، راضون عن حكمنا، راغبون في بقائنا بالسودان كإخوان لهم، معتقدون أن بلادهم جزء لا يتجزأ من مصر، أقول إن هذه الإجراءات مستنكَرة، ونعلن لجهات الاختصاص بصفتنا حكومة وبصفتنا مجلس نواب استنكارنا لِما يكون صحيحًا منها واحتجاجنا عليها، وإني لمغتبط بأن لكم في هذه الوزارة ثقة تامة وأن تتخذ ما في وسعها لحفظ حقوق مصر في السودان.»
وانتهت المناقشة بتقديم اقتراحين، أحدهما مني، وهذا نصه:
«على أثر التلغراف الذي ورد إلى مجلس النواب من الوفد السوداني الذي عزم على الحضور إلى مصر للإعراب عن ولاء السودانيين لمصر وتمسُّكهم بالارتباط بها، وعلى أثر الأنباء الواردة من السودان عن المناورات المصطنعة التي يُقصد منها الاعتداء على حقوق مصر والسودان، يعلن المجلس عطفه على السودانيين جميعًا لتمسُّكهم بارتباطهم الوثيق بمصر ويعلن استنكاره للمناورات المصطنعة التي يقوم بها دعاة الاستعمار في السودان، ويعلن تمسُّك الأمة المصرية بمبدئها الخالد وهو أن السودان جزء لا يتجزأ من مصر.»
والثاني من حسين بك هلال، وهذا نصه:
«بعد سماع التصريحات الحكيمة التي أبداها حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء بخصوص الإجراءات غير الشرعية القائمة الآن في السودان للسعي في فصل السودان عن مصر، يكرر المجلس ثقته التامة بالوزارة ويطلب الانتقال لجدول الأعمال.»
فوافق المجلس بالإجماع على الاقتراحين معًا.
وأصدر مجلس الشيوخ احتجاجًا بهذا المعنى بجلسة ٢٥ يونيو سنة ١٩٢٤.
(٢) تصريح الحكومة البريطانية عن السودان في مجلس اللوردات
وعلى أثر تصريحات سعد باشا في مجلس النواب بجلسة ٢٣ يونيو قامت مناقشة بمجلس اللوردات عن السودان يوم ٢٥ يونيو، وصرح اللورد بارمور نائب الحكومة في هذا المجلس قائلًا: «إن الحكومة البريطانية لا تترك السودان بحال، وهي تقدِّر التعهدات الواجب تحمُّلها والتي لا يمكن تركها من غير أن تصاب سمعة إنجلترا بخسارة عظمى، وأستطيع أن أقول من غير تردد إن نظام السودان لن يُسمح بتغييره ولا أن يُنفَّذ ذلك التغيير من غير موافقة البرلمان.»
فظهر من هذا التصريح أن وزارة العمال لا تختلف عن غيرها في سياستها الاستعمارية في السودان. وقد رد سعد على هذا التصريح في مجلس النواب (بجلسة ٢٨ يونيو سنة ١٩٢٤) ضمن خطبة قال فيها:
«إني بالنيابة عن الشعب المصري جميعه وفي حضرتكم الموقرة أُصرِّح بأن الأمة المصرية لا تتنازل عن السودان ما حييت وما عاشت (استحسان وتصفيق طويل)؛ فهي تسعى للتمسك بحقها ضد كل غاصب، ضد كل معتد. تتمسك بهذا الحق في كل فرصة وفي كل زمن. تسعى بكل طريق مشروع سلكه كل مهضوم الحق لأجل أن تحفظ هذا الحق وتصل إلى التمتع به، وإن كنا في حياتنا لا نصل إلى أن نتمتع بحقنا فإننا نوصي أبناءنا وذريتنا أن يتمسكوا به ولا يفرطوا فيه قيد شعرة، وهكذا يوصون هم أبناءهم وأبناء أبنائهم، ولا بد أن يأتي يوم يفوز فيه حقنا على باطل غيرنا. إن حقوق الأمم لا تضيع ولا تتأثر بمجرد أن يقول الغاصب إني أريد أن أتمتع بها دون أصحابها، كلا، ليست هذه طبيعة الوجود، بل كل حق يبقى حيًّا ولا يموت ما دام وراءه مطالب، ونحن ما دمنا مطالبين بهذا الحق، وما دمنا نوصي أبناءنا بالتمسك به، وما دام أبناؤنا يقتفون خطواتنا فلا بد أن نتمتع به نحن أو هم إن شاء الله تعالى (تصفيق).»
إلى أن قال: «أما فيما يتعلق بالمفاوضات؛ فقد جاء في هذه التصريحات: إنها ستكون على أساس تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢.» وقد صرحت غير مرة بأنني أستنكر هذا التصريح، استنكرته خارج الحكومة، استنكرته في البيان الوزاري، استنكرته في كل مناسبة، ولا أزال أستنكره إلى الآن، وأقول إنهم وإن قالوا إننا نتفاوض على قاعدة تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢، فوزارتنا لا تقبل بحال من الأحوال أن تتفاوض على أساس هذا التصريح. ولقد سبق أن قلت لكم إني إذا لم أجد طريقةً للمفاوضة على غير هذا الأساس فإني لا أدخل في المفاوضات أصلًا، وأنا عند قولي، وقلت لكم أيضًا إني إذا لم أصل إلى هذا فإني أتخلى عن الحكم، وأنا مستعد لهذا التخلي (أصوات: أبدًا، حاشا) هذا ما عزمت عليه والرأي لكم (تصفيق متواصل).»
وقد عقبت على خطبة سعد بخطبة قلت فيها:
«أرى واجبًا عليَّ أن أبدأ كلمتي بتوجيه جزيل الشكر والثناء إلى دولة الرئيس الجليل على تصريحاته التي فاهَ بها اليوم؛ لأنه عبَّر بهذه التصريحات عن شعور الأمة، عبَّر تعبيرًا صحيحًا عن تمسُّكها كل التمسك بحقوقها كاملة. سادتي: نحن في صراع مع السياسة الإنجليزية، ولسنا منخدعين في تلك السياسة ولا معتقدين البتة أن هذا الصراع ينتهي في ساعة أو في يوم، وهذا الصراع سيطول وقد يطول طويلًا، ولكننا ما دمنا متمسكين بالحق فإن هذا الصراع لا بد أن ينتهي بفوز الحق وخذلان الباطل (تصفيق). وما التصريحات السياسية التي تُلقى في مجالس النواب إلا سهام يتراشق بها المتخاصمون كما يترامى المتقاتلون بالقنابل في ساحة القتال؛ فهذه التصريحات التي فاهَ بها الساسة الإنجليز أخيرًا في مجلس اللوردات إنما هي سهام يُقصد منها أن تُثبِّط من عزائمنا، ولا غرض لرجال السياسة الإنجليزية سوى ذلك، ولقد لجئوا إلى هذه الطريقة في كل مناسبة قويت فيها الحركة الوطنية؛ فإنكم تذكرون أنه عندما قامت حركتنا في سنة ١٩١٩ سمعنا في مجلس العموم ومجلس اللوردات تصريحات خطيرة أشد من التصريحات الأخيرة، ومع ذلك لم تكن تلك التصريحات القديمة لتفلَّ من عزمنا بل تخطيناها وسِرْنا إلى الأمام بعزيمة صادقة ولم نكترث لها ولم نعبأ بها.» إلى أن قلت: «والآن أقول لكم إنه إذا كان الإنجليز يعتقدون أننا ضعفاء أمامهم فإن لنا قوة معنوية لا تُنكر، وإننا إذا كنا ضعفاء ماديًّا فنحن أقوياء معنويًّا، ولقد برهن التاريخ على أن القوة المعنوية للشعوب تستطيع أن تهدم كل قوة مادية تعترضها. ولنذكر جميعًا أن المصري هو مادة العمران في السودان، فلا يمكن بقاء العمران هناك إذا انقبضت الأيدي المصرية عن العمل؛ فقد قال لي خبير في شئون السودان عاد منه أخيرًا: إن الإنجليز لا يستطيعون أن يقيموا مشروعات الري في السودان إذا لم يستخدموا العمال المصريين والأيدي المصرية، وقد جرَّبوا مرارًا أن يستخدموا عمالًا صوماليين أو هنودًا أو يمانيين أو جنودًا فلم يستطيعوا أن يقيموا هذه المشروعات ولا أن يستمروا في العمل، والتجئُوا أخيرًا إلى عمال مصر وجنود مصر. ففي يدنا قوة معنوية؛ في يدنا أن نعمل عملًا سلبيًّا وهو ألا نساعدهم على أن يعملوا ضد مصلحتنا وضد مصلحة السودانيين في تلك البلاد، وفي هذه الحالة لا أظن الإنجليز يتجاهلون قوة مصر المعنوية. أنا لا أقول إننا نلجأ إلى طرق العنف والثورة، ولكن في يدنا قوة سلبية أمضى سلاحًا من طرق العنف، وقد تكون هذه القوة هي السِّرُّ في تلك الحقيقة التاريخية التي أجمع عليها المؤرخون وهي: «إن وادي النيل مقبرة الفاتحين من قديم الزمان» (تصفيق)، وإن هذه القوة هي مصداق الحديث الشريف: «مصر كنانة الله في أرضه فمن أرادها بسوء قصمه الله» (تصفيق).»
(٣) تلاحق الحوادث
على أثر إخفاق محادثات سعد-مكدونالد (سبتمبر–أكتوبر سنة ١٩٢٤)، ثم استقالة سعد في ١٥ نوفمبر سنة ١٩٢٤، فاسترداد استقالته، ثم مقتل السردار السير لي ستاك باشا في ١٩ نوفمبر؛ فالإنذارات البريطانية، فاستقالة سعد نهائيًّا، اجتمع مجلسَا النواب والشيوخ في مساء ٢٤ نوفمبر سنة ١٩٢٤ في جو مضطرب مكفهر، وأعلن سعد في كلا المجلسين استقالة الوزارة واستعداده لتأييد كل وزارة تشتغل لمصلحة البلاد. وقرر مجلس النواب في تلك الجلسة الاحتجاج على تصرفات الحكومة البريطانية، وعهد بوضع صيغة الاحتجاج إلى لجنة ألَّفها المجلس من أربعة أعضاء وهم: الوكيلان حمد باشا الباسل وأحمد محمد خشبة بك «باشا»، والأستاذ مكرم عبيد «باشا»، وأنا، فوضعنا صيغة الاحتجاج، وأقره المجلس بالإجماع، وهذا نصه:
«إزاء الاعتداءات الأخيرة التي وقعت من الحكومة البريطانية ضد حقوق الأمة المصرية وسيادتها ودستورها يعلن مجلس النواب: «أولًا»: تمسُّكه بالاستقلال التام لمصر والسودان اللذين يكوِّنان وطنًّا واحدًا لا يقبل التجزئة. «ثانيًا»: أنه بالرغم من استنكار الأمة ومليكها وحكومتها وبرلمانها للجرم الفظيع الذي ارتُكب ضد المأسوف عليه السير لي ستاك باشا سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام، وبالرغم مما قدمته الحكومة من الترضية وما اتخذته من الوسائل الفعالة لتعقُّب الجناة وتقديمهم إلى العدالة؛ فإنه لمما يؤسف له كل الأسف أن الحكومة البريطانية رأت أن تستغل هذا الحادث المحزن لقضاء مطامعها الاستعمارية والاعتماد على قوَّتها المادية للانتقام من أمة بريئة تعتمد على قوة حقها وعدالة قضيَّتها، فلم تقتصر على مطالبها البالغة حد الإرهاق فيما يتعلق بالجريمة نفسها بل تعدَّت هذه الدائرة وذهبت إلى المطالبة بسحب الجيوش المصرية من السودان، وإلزام الوحدات السودانية من الجيش المصري بحلف يمين الولاء لحاكم السودان، والتصريح بزيادة مساحة الأطيان التي تستغلها الشركات الاستعمارية البريطانية في السودان من ٣٠٠ ألف فدان إلى ما لا نهاية له، وعدول الحكومة المصرية عن كل معارضة لرغبات الحكومة البريطانية فيما تدَّعيه من حماية المصالح الأجنبية في مصر، إلى آخر ما جاء في التبليغات الإنجليزية، ثم نفَّذت فعلًا ما توعَّدت به وزادت عليه احتلال جمارك الإسكندرية معلنةً أنه أول التدابير التي تنوي اتخاذها. ولما كانت هذه التصرفات منافية لحقوق البلاد لِما فيها من الاعتداء على استقلالها والتدخل في شئونها والعبث بدستورها وتهديد حياة البلاد الزراعية والاقتصادية فضلًا عن أن هذه الاعتداءات ليس لها أي علاقة بالجريمة ولا نظير لها في التاريخ.
فلذلك يعلن مجلس النواب المصري على ملأ العالم شديد احتجاجه على هذه التصرفات الجائرة الباطلة، ويُشهد الأمم المتمدينة على تلك المطامع الاستعمارية التي لا تتفق مع روح هذا العصر وحقوق الأمم المقدسة، ويُبلغ احتجاجاته برلمانات العالم، ويرفع الأمر إلى مجلس عصبة الأمم طالبًا إليه التدخل في الأمر لرفع الحيف عن أمة بريئة تتمسك بحقوقها المقدسة في الحياة والحرية ولا تبغي عن استقلالها بديلًا.»
وأقر المجلس هذا النص بالإجماع.
وقرر مجلس الشيوخ احتجاجًا بهذا المعنى.
(٤) انتخابات سنة ١٩٢٥
هذه مجموعة أعمالي في مجلس النواب، أنشرها لمناسبة تقدمي للانتخاب للمرة الثانية في الدائرة التي شرفتني بالنيابة عنها في المرة الأولى: دائرة مركز المنصورة.
إن من حق كل دائرة انتخابية أن تطلب من نائبها أن يقدم لها حسابًا عن أعماله، فها أنا ذا أؤدي واجب الأمانة وأقدِّم حسابًا عن أعمالي في دار النيابة.
أتقدم للانتخاب بمشيئة الله تعالى هذه المرة لكي أواصل أعمالي في مجلس النواب وأُتم المشروعات التي قدَّمتها ودافعت عنها وحالت الظروف بكل أسفٍ دون إنفاذها في دور الانتخاب الأول. أتقدم للانتخاب لنفس الغرض الذي تقدمت من أجله في المرة الأولى، وهو أن أضع مجهوداتي وقواي ومعلوماتي تحت تصرُّف الغاية التي تقصر دونها كل غاية وهي الاستقلال التام لمصر والسودان، مجدِّدًا العهد أن أخدم الوطن بكل إخلاص ونزاهة واستقامة بعيدًا عن كل مصلحة شخصية أو غاية حزبية.
من أراد أن يحكم لي أو عليَّ فليقرأ هذه المجموعة، وليُمعن النظر في كل سطر من سطورها المنقولة عن المحاضر الرسمية لجلسات مجلس النواب، وليقرأ ما كتبته الصحف الوفدية تعليقًا على أقوالي، ثم ليحكِّم بعد ذلك ضميره وليكن حكم الضمير نافذًا لا مردَّ له. إني ما تقدمت للانتخابات لمصلحة شخصية، ولو كنت أوثر مصلحتي الشخصية لابتعدت عن الحياة النيابية لأني ما جررت منها مغنمًا، فضلًا عن أنها عادت عليَّ بأضرار يعرفها الكثيرون، ولكني احتملت هذه الأضرار وإني مستعد لأن أحتمل مثلها وأضعافها بالصبر والرضا والارتياح لأن في أعناقنا جميعًا أمانة الوطن، وليس من صدق الوطنية أن يتردد الإنسان في احتمال هذه الأمانة. أتقدم للانتخابات وأنا عالِم بأن قومًا قد اعتزموا أن يحاربوني ويُلقوا في طريقي ما شاءوا من العقبات، فإلى هؤلاء السادة الأماجد أقول لهم: إني لست حريصًا على الانتخابات بمقدار حرصي على الدفاع عن المصلحة الوطنية وعن الحقيقة والتاريخ.
فها أنا ذا أنشر على الملأ صحيفة أعمالي في مجلس النواب، فهي حجتي أمام ناخبيَّ الذين شرَّفوني بثقتهم، وهي حجتي أمام الناس، أمام خصومي وأصدقائي على السواء، وهي حجتي أمام التاريخ. أنا لا أذكر في هذه المقدمة أعمالي في المجلس، وحسبي أن يقرأها المنصفون مدونةً في هذه المجموعة، ولا أزكي نفسي، ولكن أقول فقط كلمة صغيرة للذين عزموا على أن يحاربوني في الانتخابات: أيها السادة، ألم تشتركوا في آخر جلسة من جلسات البرلمان في القرار الإجماعي الذي أصدره المجلس باختياري مع الأستاذ مكرم عبيد بك لوضع احتجاج المجلس على اعتداءات السياسة الإنجليزية بعد حادثة السردار وكان القرار مبنيًّا على «اختيار اثنين موثوق بهما ثقة تامة بالإجماع.» فإذا كنت أنا الضعيف موضع هذه الثقة في أشد الأوقات حرجًا، فكيف أكون الآن، ولم يمضِ شهر على هذه الشهادة الإجماعية، موضع الطعن والتشهير؟! ألم تكن هذه الشهادة نتيجة أعمالي في المجلس؟ إني أترك لضمائركم تقدير هذا الموقف وإني واثق بأنكم ستجيبون غدًا أو بعد غد صوت الحق والضمير.
إني واثق من حكم الضمائر إذا حكمت، وإني مطمئن لأني أديت واجبي، وسيحكم التاريخ، وسيحكم الله وهو خير الحاكمين.
إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
وقد رشح الوفد ضدي هذه المرة الأستاذ السعيد محمد سبع «بك» (وكيل مدير مصلحة الأملاك الآن ١٩٥١) وفزت عليه بأصوات قليلة، ولم يكد المجلس الجديد يجتمع يوم ٢٣ مارس سنة ١٩٢٥ حتى حُل في اليوم نفسه فضاعت مجهوداتي في الانتخاب سُدًى.
وقد عُطلت الحياة النيابية بعد هذا الحل نحو ثمانية أشهر، إلى أن عادت على أثر اجتماع البرلمان من تلقاء نفسه في السبت الثالث من شهر نوفمبر سنة ١٩٢٥، وأعقب هذا الاجتماع ائتلاف الأحزاب ثم انعقاد المؤتمر الوطني ثم انتخابات سنة ١٩٢٦.