صدمة سنة ١٩٢٦
(١) شهداء الانتخابات
أُصبت في حياتي بصدمات كثيرة لا أريد أن أشغل القارئ بها. على أن أشد صدمة أصابتني وقعت لي سنة ١٩٢٦.
كانت هذه السنة في مجموعها فوزًا للأمة، وقد تحدثت عن تفاصيل هذا الفوز في الفصل الحادي عشر من كتابي «في أعقاب الثورة» (ج١) تحت عنوان «اجتماع البرلمان من تلقاء نفسه وعودة الحياة الدستورية».
أما بالنسبة لي شخصيًّا، فكانت هذه السنة صدمة بل محنة كادت تودي بي لولا أن أعانني الله عليها بالصبر والثبات.
كانت عودة الحياة الدستورية نتيجة لدعوة المرحوم أمين بك الرافعي إلى اجتماع البرلمان المنحل من تلقاء نفسه في السبت الثالث من شهر نوفمبر سنة ١٩٢٥، وقد ساهمتُ في نجاح هذه الدعوة بصفتي عضوًا في مجلس النواب المنحل وشقيقًا لصاحب الدعوة، واجتمع البرلمان فعلًا في فندق الكونتننتال يوم السبت ٢١ نوفمبر سنة ١٩٢٥ برياسة سعد، وكان هذا الاجتماع أول خطوة نحو استئناف الحياة الدستورية وعودة الوحدة إلى الصفوف وائتلاف الأحزاب القائمة وقتئذٍ وهي الوفد والحزب الوطني وحزب الأحرار الدستوريين، وتم الاتفاق بين الأحزاب الثلاثة على الدخول في المعركة الانتخابية التي أسفر عنها انعقاد المؤتمر الوطني متفاهمة غير متحاربة، متعاونة غير متنازعة. وكان ظني ألَّا أجد العناء الذي وجدته في انتخابات سنة ١٩٢٤، أو انتخابات سنة ١٩٢٥؛ فإنها في الحق قد أضنتني وأرهقتني، وكان من حقي أن أستريح في معركة سنة ١٩٢٦؛ فإن الائتلاف قد أراح معظم الأعضاء البارزين من الأحزاب حتى فاز أكثرهم بالتزكية. وقبل أن يتم اجتماع البرلمان من تلقاء نفسه قابلت سعدًا في منزله مع حافظ رمضان بك «باشا» والدكتور عبد الحميد سعيد، وعرضنا عليه أن يؤيد الفكرة ويُصدر تعليماته إلى نواب الوفد وشيوخه بحضور الاجتماع، فتلقَّى الفكرة بالارتياح والتحبيذ وأحسن مقابلتنا وتبسَّط في الحديث والتفكه معنا، وانصرفنا مغتبطين مبتهجين، ولكن بعد اجتماع البرلمان وتصافي الأحزاب وتبادل الاجتماعات بينها، جاء دور توزيع المقاعد، ففوجئت بأن الوفد يعارض في ترك دائرة «مركز المنصورة» لي وأصر على أن تكون من دوائر الوفد أي على انتزاعها مني.
(٢) الوفد يصر على إقصائي
فحدثت أزمة بين الوفد والحزب الوطني بسبب هذا الموقف نحوي، ورأى الحزب أن في قبول هذا الوضع إذلالًا له وخذلانًا لعضو بارز من أعضائه انتُخب مرتين عن هذه الدائرة وأدى واجبه ورفع صوت مبادئ الحزب في البرلمان. وفاتحني إخواني في أن ننقض الائتلاف ما دامت النيات قد بدت غير سليمة إلى هذا الحد، فلم أوافقهم على اقتراحهم، وأبيت أن تكون مسألتي سببًا لنقض الائتلاف ولمَّا يجفَّ المِدَاد الذي كُتِبت به وثيقته في اجتماع الكونتننتال، ورأيت من الأحرار الدستوريين مسايرةً للوفد في إقصائي عن البرلمان، ونصحوا أقطاب الحزب الوطني بالتساهل في مسألتي؛ ولم يكونوا في حاجة إلى هذه النصيحة لأنني أنا نفسي قد نصحتهم بذلك من قبلُ. على أنه قد آلمني من الأحرار الدستوريين تهوينهم لشأني إلى هذا الحد، وقد كنت أحمل عنهم عبء المعارضة في مجلس النواب الأول، وكانوا يتخذون من مواقفي مادة لحملاتهم على الوفد، ثم بعد أن وفقنا بينهم وبين الوفد خذلوني إرضاءً للوفد!
وفهمت من ملابسات هذه الأزمة أن الوفد رغم الائتلاف لم ينسَ لي مواقفي في المعارضة في البرلمان، فأصر على إقصائي عن دار النيابة، وتم له ما أراد. وقد درست موقفي في الدائرة مع لفيف من أنصاري فيها، وبحثنا فيما يكون لهذا القرار من أثر في احتمال نجاحي أو سقوطي في الانتخاب، فرجَّح معظمهم سقوطي، وبخاصة لأن انتخابات هذه السنة (١٩٢٦) كانت أول انتخابات تُجرى على درجة واحدة، أي على نظام الانتخاب المباشر، ومن الصعب إقناع نحو عشرة آلاف ناخب بأني أكفأ وأفضل من مرشح الوفد؛ إذ كان لترشيح الوفد في ذاته أثر كبير في نفوس الجماهير في ذلك الحين، هذا إلى أن قرار الأحزاب المؤتلفة جعل هذه الدائرة من حق مرشح الوفد بصفة أصلية. وقد ظللت زهاء شهر تقريبًا حائرًا مترددًا بين خوض المعركة أو الانسحاب منها، إلى أن جاء موعد إقفال باب الترشيح للانتخاب وكنت على ترددي إلى آخر لحظة.
وأخيرًا رجحت عندي كفة الانسحاب عاملًا بالمثل المشهور «بيدي لا بيد عمرو»، وكان هذا القرار من أشق الأمور على نفسي لأن معناه إقصائي عن دار النيابة وعن الحياة البرلمانية، وكم كان ألمي شديدًا حين تصورت أن هذا الإقصاء هو المكافأة التي جوزيت بها على حُسن قيامي بواجبي في البرلمان، بل المكافأة على إخلاصي وخدماتي للبلاد طيلة السنوات التي قضيتها في الجهاد الخالص لله والوطن! وفهمت أن المعارضة مكروهة في بلادنا، وأن تظاهر السياسيين والحكام بأنهم يعتبرونها ضرورية لاستقامة الحياة الدستورية هو كلام في كلام، وأنهم يبغون من البرلمان أن يكون أداة تحبيذ وتأييد لجميع تصرفاتهم سواءً أكانت على حق أو على باطل، ومن يعارضهم ولو كان على الحق فالويل له مما يصنعون!
تألمت من هذا الوضع، وزاد في ألمي أني لم أجد من يواسيني في هذه المحنة ولا من يعطف عليَّ إلا قلة من الناس حفظت لهم جميل مواساتهم لي في تلك الأوقات العصيبة، ورأيت — وهذا ما لم أكن أتوقعه — شماتة من بعض الناس، وخاصةً من الطبقة الممتازة، وعلى الأخص ممن لم أسئ إلى أحد منهم قط، ولست أدري على وجه التحقيق ما هو سبب هذه الشماتة وما سرها! ولقد عددتها عيبًا من عيوب المجتمع، ومن أهم العوائق في سبيل تقدُّم الأمة ونهوضها. ومن الحق أن أقول إني رأيت من الطبقات غير المتعلمة وغير الممتازة عكس هذا الشعور، رأيت منهم شعور التقدير لي والعطف عليَّ، كنت أسمع هذا في أحاديثهم وأقرؤه في نظراتهم. فعجبت كيف يغلب الوفاء وتتجلى الفضائل في الطبقة غير المتعلمة دون الطبقة المثقفة المهذبة، ومن يومئذٍ ازددت إيمانًا بالطبقات الجاهلة من الشعب؛ إذ رأيت فيها من الخير ما يُعوز الطبقات الممتازة وشبه الممتازة.
ورأيت بعض أصدقائي الوفديين لا يقرون ما فعله الوفد معي، وكانوا يُظهرون لي شعورهم؛ إذ يذكرون أني وقفت إلى جانبهم في أوقات الشدة أناضل عنهم وأختصم الأقوياء من أجلهم، ثم إذا عادت لهم الدولة جازوني على حُسن صنيعي معهم جزاء سِنِمَّار، ولكن هكذا الحياة السياسية في بلادنا، وربما في غير بلادنا أيضًا، فيها الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والحقد والحسد، والغدر والجحود، والدس والالتواء، والكذب والخداع، وما إلى ذلك …
وقد أعرب لي صديق من الوفديين عن شعوره نحوي، وأخذ يذكِّرني بما كان ينصحني به منذ سطع نجمي (كذا تعبيره) في البرلمان؛ إذ أشار عليَّ بانتهاز أي فرصة لأنسحب من المعارضة وأنضم إلى صفوف الوفد قائلًا لي إن مستقبلًا باهرًا ينتظرني إذا أنا أقدمت على هذه الخطوة. وعندما كنت أجيبه بأنني في المعارضة لا أهاجم وزارة الوفد ولا أعمل على إحراجها بل إني أسلك في معارضتي سبيل الاعتدال والهوادة كما ترى مني، كان يقول لي إن المعارضة في ذاتها مكروهة في البلاد التي لم تألف بعد الحرية والنظم الديمقراطية. وكانت تنتهي أحاديثنا دائمًا على غير اتفاق. وعندما ذكَّرني بهذه الأحاديث في سنة ١٩٢٦ لم أزد في جوابي له عن الشكر؛ إذ رأيتني أوثر السكوت والصمت في تلك المحنة، وما فائدة الكلام؟ ومع من كنت أتكلم؟ وهكذا انسحبت من الحياة البرلمانية، أو بعبارة أوضح أُقصيت عنها مرغمًا سنة ١٩٢٦، وظللت مبعدًا عنها ثلاث عشرة سنة إلى أن عدت إليها عضوًا منتخبًا لمجلس الشيوخ سنة ١٩٣٩، ثم أُقصيت عنها مرة أخرى سنة ١٩٥١.
أثرت تلك المحنة في صحتي، ولم يكن هذا ضعفًا مني ولا يأسًا، ولكنه رد فعل للتأثرات النفسية التي لا قِبَل للإنسان على دفعها؛ فالمرء يستطيع أن يصبر ويستطيع أن يتجلد ولكن هذا لا يمنعه من أن يتألم، وما أحقَّ المجاهد بالألم إذا هو رأى من مواطنيه تنكرًا له حيث ينتظر منهم التقدير، وحربًا عليه حيث ينتظر التعضيد والتشجيع! وظللت أشهرًا عدة أعالج هذه الحالة النفسية وألتمس مخرجًا من هذا الضيق، وخاصةً عندما تذكرت مصير إخوانٍ لي في الجهاد برَّح بهم الألم في مثل هذه الظروف فأودى بحياتهم؛ فإني على يقين من أن سقوط عبد اللطيف بك المكباتي في انتخابات سنة ١٩٢٤، وعبد اللطيف بك الصوفاني في انتخابات سنة ١٩٢٥، وأحمد بك لطفي في انتخابات سنة ١٩٢٦، كان من الأسباب التي عجَّلت بوفاتهم في السنوات التي سقطوا فيها. حقًّا إن لكل أجل كتابًا، ولكن الأسباب مرتبطة بمسبِّباتها، والنتائج مرهونة بمقدماتها.
وقد أوجد الله لي مخرجًا من هذه المحنة، فألهمني أن أشغل نفسي بعملٍ استغرق معظم تفكيري وجهودي، وصرفني وقتًا طويلًا عن الحياة البرلمانية، وهو تأريخ الحركة القومية.