ذكرى ما مضى
(١) الخرافة رقم ١١: تعمل ذاكرة الإنسان مثل جهاز التسجيل أو كاميرا الفيديو، وتسجل بدقة الأحداث التي عايشناها
عندما يحضر الناس لقاءات جمع شمل الزملاء أو أفراد الأسرة من جديد أو يتقابلون مع أصدقاء الطفولة ليتحدثوا عن «قصص الماضي»، تأسرهم غالبًا حقيقة بسيطة، وهي أن الكيفية التي يتذكرون بها الكثير من الأحداث تختلف، وفي معظم الحالات يكون هذا الاختلاف كبيرًا. فقد يتذكر شخص إحدى المناقشات المفعمة بالحيوية عن السياسة بوصفها مناظرة ودية، ويتذكر آخر هذه المناقشة نفسها على أنها جدال ساخن. هذه الملاحظة كافية لكي تقف بوجه الاعتقاد الشائع بأن ذاكرة الإنسان تعمل مثل كاميرات الفيديو أو أقراص الفيديو الرقمية. إذا كانت ذاكرتنا تعمل بهذه الطريقة المثالية لما كنا نسينا عيد ميلاد أحد الأصدقاء، أو أين أضعنا جهاز الآي بود، أو تاريخ أول قبلة وساعتها ومكانها.
ومع أن ذاكرتنا تخوننا كل يوم بصورة واضحة أحيانًا، فاستطلاعات الرأي تشير إلى أن العديد من الأشخاص يؤمنون أن ذاكرتنا تعمل بطريقة تتماثل إلى حد بعيد مع الطريقة التي تعمل بها أجهزة التسجيل، أو كاميرات الفيديو، أو أقراص الفيديو الرقمية؛ أي إنها تخزن الأحداث وتعيد عرضها كما عايشناها بالضبط. وفي الواقع، حوالي ٣٦٪ منا يعتقدون أن المخ يحتفظ بسجلات مثالية لكل ما عايشناه (ألفاريس وبراون، ٢٠٠٢). في استطلاع للرأي شمل أكثر من ٦٠٠ طالب بإحدى جامعات الغرب الأوسط اتفق ٢٧٪ منهم على أن الذاكرة تعمل مثل جهاز التسجيل (لينز، إك، وميلز، ٢٠٠٩)، وتظهر استطلاعات الرأي أيضًا أن معظم المعالجين النفسيين يرون أن الذكريات تبقى ثابتة تقريبًا إلى الأبد في ذهن الإنسان (لوفتس ولوفتس، ١٩٨٠؛ يابكو، ١٩٩٤).
هذه المعتقدات الشائعة هي في جزء منها بقايا قناعات سيجموند فرويد وعلماء آخرين بأن الذكريات المنسية، التي تكون في أغلب الأحيان صادمة، تبقى راسخة في اللاوعي الضبابي، ولا تتغير معالمها بمرور الوقت ولا يؤثر فيها التنافس مع الذكريات الأخرى (واشتيل، ١٩٧٧)، ولكن على عكس هذه المزاعم، ذكرياتنا ليست أبدًا نسخًا طبق الأصل من الأحداث الماضية (كليفازيفي، جاري، ولوفتس، ٢٠٠٧). الرأي القائل إن ذاكرة الإنسان معيبة وغير موثوق بها في بعض الأحيان ليس حديثًا؛ فقبل أن يطل علينا القرن العشرون صرح عالم النفس الأمريكي العظيم ويليام جيمس، وهو أحد معاصري فرويد، بهذا القول (١٨٩٠): «الذكريات الزائفة ليست على الإطلاق شيئًا نادر الحدوث لكثير منا … فالشك يخالج الكثيرين غالبًا بشأن أمور معينة تعود إلى ماضيهم. ربما يكونون قد رأوها، أو قالوها، أو فعلوها، أو ربما حلموا بها أو تخيلوا أنهم فعلوها» (ص٣٧٣).
صحيح أننا نستطيع دائمًا أن نستعيد الأحداث البارزة أو تلك المرتبطة بالمشاعر إلى حد بعيد، ويعرف هذا النوع من الذكريات ﺑ «ذكريات ضوء الكاميرا» لأنها تكون ذات جودة فوتوغرافية (براون وكوليك، ١٩٧٧)، ولكن تظهر الأبحاث أن الذكريات الخاصة بأحداث مثل اغتيال الرئيس جون فيتزجيرالد كينيدي عام ١٩٦٣، ومأساة تحطم مكوك الفضاء «تشالنجر» عام ١٩٨٦، ووفاة الأميرة ديانا عام ١٩٩٧، والهجمات الإرهابية التي وقعت في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام ٢٠٠١، تنطفئ جذوتها مع مرور الوقت وتتغير معالمها وتتبدل، مثلها مثل الذكريات الخاصة بالأحداث الأقل إثارة (كراكاو، ولين، وبين، ٢٠٠٥-٢٠٠٦؛ نايسر وهيمان، ١٩٩٩).
- الوصف الأول: كنت أحضر درس الدين ودخل بعض الأشخاص وبدءوا يتكلمون عن المكوك. لم أكن أعرف أي تفاصيل عما جرى سوى أنه انفجر، وكل طلبة المدرسة كانوا يراقبون ما حدث، وظننت أن الأمر محزن. وبعد انتهاء الدرس ذهبت إلى غرفتي وشاهدت برنامجًا تليفزيونيًّا عمّا حدث ومنه عرفت كل التفاصيل.
- الوصف الثاني: عندما سمعت بالانفجار لأول مرة كنت جالسًا بحجرة النوم الخاصة بالطلبة المستجدين أنا ورفيقي في السكن نشاهد التليفزيون. أذيع الخبر في أهم الأنباء وانتابتنا صدمة شديدة. شعرت بالقلق الشديد وصعدت لأعلى لأجري مكالمة هاتفية مع أحد أصدقائي ثم تحدثت مع والدي.
أجرى هايك شمولك وزملاؤه (شمولك، بوفالو، سكواير، ٢٠٠٠) مقارنة بين قدرة المشاركين على تذكر حدث تبرئة نجم كرة القدم أوه جيه سيمبسون عام ١٩٩٥ من تهمة قتل زوجته وصديقها بعد صدور الحكم بثلاثة أيام وبعد مرور فترة تتراوح ما بين ١٥ و٣٢ شهرًا. تضمنت ٤٠٪ من إفادات تذكر الحدث بعد مرور ٣٢ شهرًا «تغييرًا كبيرًا في معالم ما جاء في المرة الأولى». كان المشاركون في هذه الدراسة وغيرها من الدراسات المعنية باختبار ذكريات ضوء الكاميرا على درجة كبيرة من الثقة من دقة ذكرياتهم على الرغم من أنها لا تتماشى مع ما أوردوه في وصفهم للحدث بعد فترة قصيرة من وقوعه.
والأكثر من ذلك أن شهود العيان يخطئون أحيانًا في التعرف على المجرمين وينسبون التهم إلى أشخاص أبرياء، ومع ذلك يعبر غالبًا هؤلاء الشهود عن آرائهم التي تفتقر إلى الدقة داخل قاعة المحكمة بكل ثقة (ميمون وتومسون، ٢٠٠٧؛ ولز وبرادفورد، ١٩٩٨). وبصرف النظر عن المعتقدات الشائعة يختار شهود العيان الذين يطيلون النظر إلى الجاني ويرونه من قرب أثناء ارتكاب الجريمة في الأغلب الشخص الخطأ عندما يعرض عليهم صف من المشتبه فيهم أو أثناء وجودهم بقاعة المحكمة. إن العلاقة بين الثقة التي يدلي بها شهود العيان بشهادتهم ودقة ما يتذكرونه هي علاقة ضعيفة بطبيعة الحال أو غير موجودة من الأساس (كاسين، إلزورث، وسميث، ١٩٨٩). تثير هذه النتيجة القلق بصورة كبيرة لأن أعضاء هيئة المحلفين يميلون إلى وضع ثقل كبير على ثقة شهود العيان عند تقدير مصداقية ما يتذكرونه (سميث، ليندساي، برايك، وديزارت، ٢٠٠١؛ ولز وبرادفورد، ١٩٩٨). في استطلاع حديث للرأي شمل ١٦٠ قاضيًا أمريكيًّا ثبت أن ٣٤٪ منهم يعتقدون في وجود ارتباط قوي بين ثقة شهود العيان ودقة ما يدلون به (وايز وسافير، ٢٠٠٤). ومن المثير للانزعاج أن ٧٥٪ من اﻟ ٢٣٩ متهمًا جنائيًّا الذين أطلق سراحهم في يونيو (حزيران) ٢٠٠٩ بناءً على نتائج اختبارات الحمض النووي كان السبب الأهم في إدانتهم هي الشهادة غير الدقيقة التي أدلى بها شهود العيان.
حتى تحديد مصدر الذكريات التي نسترجعها قد يكون شيئًا محيرًا، فحوالي ربع الطلاب الجامعيين يجدون صعوبة في تحديد أن شيئًا ما يتذكرونه بوضوح حدث بالفعل أم كان جزءًا من حلم رأوه في المنام (راسين، ميركيلباخ، وسبان، ٢٠٠١). وقد تفسر لنا هذه «الحيرة في تحديد المصدر» العديد من أخطاء الذاكرة الشائعة التي نقع فيها، مثلما هو الحال عندما نتهم صديقًا لنا بأنه هو من وجه لنا الإهانة التي نكون قد سمعناها من شخص آخر.
في الوقت الحالي يُجمع علماء النفس على أن الذاكرة ليست «توالدية» — بمعنى أنها لا تنتج صورة طبق الأصل تمامًا مما عايشناه — ولكنها «متجددة». ما تسترجعه أذهاننا هو غالبًا مزيج مشوش من الذكريات الدقيقة، بالإضافة إلى ما يتوافق مع معتقداتنا واحتياجاتنا ومشاعرنا وهواجسنا. هذه الهواجس مبنية بدورها على معرفتنا لأنفسنا، وعلى الأحداث التي نحاول أن نسترجعها، وعلى ما عايشناه في المواقف المماثلة (كليفازيفي وآخرون، ٢٠٠٧).
وتنبثق الأدلة المؤيدة لكون الذاكرة ذات طبيعة متجددة من العديد من المسارات البحثية. يعرف علماء النفس الآن أن الذاكرة «تخطيطية»، والمخطط هيكل معرفي مرتب أو نموذج ذهني مخزن في الذاكرة. ويكتسب الإنسان المخططات من خلال تجاربه الماضية وما تعلمه فيما مضى. كلنا لدينا مخططات بشأن الأحداث اليومية، مثل طلب الطعام بأحد المطاعم، فلو أن النادل سألنا هل نرغب في تناول الحلوى قبل المشهيات، فسوف يبدو لنا هذا الطلب غريبًا بالطبع لأنه لا يتماشى مع المخطط المتعلق بالتواجد في المطعم أو «سيناريو» طلب الطعام.
تمثل الأنماط المتكررة نموذجًا مثاليًّا للكيفية التي يمكن أن تؤثر بها المخططات على ذاكرتنا. عرض مارك سنايدر وسايمور أورانويتز (١٩٧٨) على عينة من الأشخاص دراسة حالة مفصلة لامرأة تدعى بيتي كيه. وبعدما قرأ أفراد العينة المعلومات التي عُرضت عليهم، أخبر الباحثان بعض أفراد العينة أن بيتي كيه تعيش في الوقت الحالي حياة جنسية طبيعية، وأخبرا آخرين أنها شاذة، وبعد ذلك قدموا لأفراد العينة اختبارًا ليتعرفوا منه على المعلومات التي جاءت في الفقرة، ووجدوا أن المشاركين غيروا ما تذكروه عن المعلومات الأصلية — مثل العادات المتعلقة بعلاقاتها العاطفية وعلاقتها مع والدها — لكي تتوافق أكثر مع المخطط المخزن بذاكرتهم، الذي يمثل معرفتهم بأسلوب حياتها الحالي. فنحن نعيد تشكيل الماضي لكي يتوافق مع توقعاتنا التخطيطية.
قدم هنري روديجر وكاثلين ماكدرموت (١٩٩٥) تفسيرًا رائعًا لميل الإنسان لتشكيل الذكريات وفقًا للمخططات المخزنة بذهنه؛ إذ قدما للمشاركين قوائم كلمات ترتبط جميعها ﺑ «فخ» يتمثل في بند واحد غير مدرج بهذه القوائم. على سبيل المثال: اطلع بعض المشاركين على قوائم تضمنت هذه الكلمات: خيط، دبوس، ثقب الإبرة، حياكة، حاد، طرف، وخز، قمع الخياط، كومة قش، ألم، وجع، حقنة، والفخ الذي ترتبط به هذه الكلمات جميعها في الذاكرة هو كلمة «إبرة». وجد الباحثان أنه في ٥٥٪ من المحاولات استرجع المشاركون الفخ المتمثل في كلمة إبرة بوصفه مدرجًا في القوائم التي اطلعوا عليها على الرغم من أنه لم يكن كذلك. وفي كثير من الحالات كان المشاركون واثقين من كون البنود الهامة التي لم تعرض عليهم موجودة بقوائم الكلمات، وهذا يشير إلى أن الذكريات الزائفة التي تولدت من هذا الإجراء يمكن أن يراها المشاركون «حقيقية» مثلما يرون ذكرياتهم عن البنود الفعلية المدرجة على القوائم تمامًا. ولهذا السبب أطلق روديجر وماكدرموت على هذه الذكريات الزائفة «أوهام الذاكرة».
خطا الباحثون خطوة أخرى لخلق ذكريات لأحداث واقعية لم تقع أبدًا. في دراسة عرفت ﺑ «دراسة مركز التسوق» عمدت إليزابيث لوفتس إلى تكوين ذكرى زائفة داخل ذهن كريس، وهو فتى في الرابعة عشرة من عمره (إليزابيث لوفتس، ١٩٩٣؛ لوفتس وكيتشام، ١٩٩٤) طلبت لوفتس من جيم، شقيق كريس الأكبر، أن يخبره كذبًا بأنه (أي كريس) قد ضل طريقه داخل مركز للتسوق عندما كان في الخامسة، عندما كان يختبئ وهو يلعب إحدى الألعاب. ومن أجل تعزيز مصداقية هذا الحدث الزائف عرضته لوفتس في شكل حكاية، بالإضافة إلى ثلاثة أحداث أخرى وقعت بالفعل، ثم بعد ذلك طلبت من كريس أن يكتب كل شيء يتذكره. في البداية لم يذكر كريس الكثير عن الحدث الزائف، ولكن خلال أسبوعين كون كريس هذه الذكرى التفصيلية: «وقفت مع الأولاد لثانية، وأظن أنني ذهبت لألقي نظرة على متجر اللعب، أظنه متجر كاي-بي … ضللنا الطريق، وكنت أنظر حولي، وظننت أنني أواجه مشكلة حقيقية. خطر لي أنني لن أرى عائلتي مرة أخرى، وشعرت بالرعب، ثم أتى رجل كبير … وتقدم نحوي … كان رأسه من الأعلى خاليًا من الشعر … وتغطيه حلقة من الشعر الرمادي … وكان يرتدي نظارة … ثم أخذت أبكي وقدمت أمي وهي تقول: «أين كنت؟ لا تفعل ذلك أبدًا مرة أخرى!»» (لوفتس وكيتشام، ١٩٩٤، ص٥٣٢) عندما سألت لوفتس والدة كريس عن هذا الحدث أكدت لها أن ذلك لم يحدث أبدًا.
تبعت هذه الدراسة مجموعة كبيرة من الدراسات المماثلة، وأظهرت أنه في ١٨–٣٧٪ من الحالات يستطيع الباحثون أن يرسخوا في الأذهان ذكريات زائفة تمامًا عن أحداث معقدة تتراوح من: (أ) التعرض لهجوم شرس من أحد الحيوانات، أو حادث منزلي، أو حادث وقع خارج المنزل، أو الخضوع لإجراء طبي (بورتر، يويل، وليمان، ١٩٩٩). (ب) إسقاط وعاء الشراب في حفل زواج (هيمان، هازباند، وبيلينجز، ١٩٩٥). (ﺟ) إطباق مصيدة الفئران على الإصبع في الطفولة (سيسي، كروتوه هوفمان، سميث، ولوفتس، ١٩٩٤). (د) التعرض للتنمر من أطفال آخرين أثناء الطفولة (مازوني، لوفتس، وكيرش، ٢٠٠١). إلى (ﻫ) ركوب منطاد مع العائلة (ويد، جاري، ريد، وليندساي، ٢٠٠٢).
(٢) الخرافة رقم ١٢: يفيد التنويم المغناطيسي في استعادة ذكريات الأحداث المنسية
عام ١٩٩٠ أدين جورج فرانكلين بقتل سوزان ناسون عام ١٩٦٩، وكان أساس هذه الإدانة هو صورته الوحشية — التي استعادتها ابنته إلين إلى ذاكرتها — وهو يقتل صديقة طفولتها منذ نحو عشرين عامًا. عام ١٩٩٦ أسقط المدعي العام كل التهم، وأطلق سراح فرانكلين، وكانت هذه هي أول قضايا «استعادة الذكريات الصادمة» التي تسلط عليها الأضواء بهذه الكثافة.
عام ١٩٩٤ خسر ستيفن كوك قضية تعويض بعشرة ملايين دولار كان قد رفعها ضد جوزيف برناردين، أسقف كنيسة شيكاجو المبجل. وادعت القضية أن برناردين تحرش بكوك منذ ١٧ عامًا.
وشهد عام ٢٠٠١ إطلاق سراح لاري مايس، وهو السجين رقم مائة الذي يفرج عنه بناءً على نتائج اختبار الدي إن إيه، ومن المؤسف أن لاري قضى ٢١ عامًا بالسجن بتهمة الاغتصاب والسرقة قبل الحصول على عينة من حمضه النووي، ثم أعلنت المحكمة براءته.
-
جانيس، ابنة جورج فرانكلين، أدلت بشهادة أمام المحكمة قالت فيها إن أختها إلين أخبرتها أن ذكرياتها بشأن جريمة القتل المزعومة عادت إليها في جلسة علاجية بمساعدة التنويم المغناطيسي.
-
حُلَّ لغز القضية المرفوعة ضد الأسقف برناردين عندما كشف أحد التحقيقات عن أن ذكريات كوك عن الحادث طرأت على ذهنه لأول مرة بعد أن وضعه تحت تأثير التنويم المغناطيسي معالج لم يحضر سوى ثلاث ساعات فقط من دورة تدريبية عن التنويم المغناطيسي مدتها ٢٠ ساعة. حصل هذا المعالج على درجة الماجستير من كلية غير معتمدة يديرها معلم روحي تابع للحركة الروحية الجديدة يدعى جون رودجر يزعم أن روحًا إلهية قد تجسدت به (مجلة تايم، ١٤ مارس (آذار)، ١٩٩٤).
-
اشترك مايس في عرضين مباشرين للمشتبه بهم ولم تتعرف عليه الضحية، ولكن بعد أن خضعت للتنويم المغناطيسي تعرفت على مايس في عرض آخر للمشتبه بهم، وأبدت ثقتها الكبيرة خلال المحاكمة في أن مايس قد اعتدى عليها.
ولكن الاعتقاد في أن التنويم المغناطيسي يتمتع بقدرة خاصة على استرجاع الذكريات التي تاهت في غياهب العقل لا يزال سائدًا حتى يومنا هذا. في استطلاع للرأي شمل ٩٢ من دارسي علم النفس التمهيدي، وافق ٧٠٪ منهم على أن «التنويم المغناطيسي له فعالية فائقة في مساعدة الشهود على تذكر تفاصيل الجرائم» (تايلور وكوالسكي، ٢٠٠٣، ص٥). وأظهرت استطلاعات أخرى أن ٩٠٪ من طلبة الجامعات (جرين ولين، تحت الطبع) أو أكثر (ماكونكي وجوب، ١٩٨٦؛ وايتهاوس، أورن، أورن ودينجز، ١٩٩١) صرحوا بأن التنويم المغناطيسي يعزز استرجاع الذكريات، وأكد ٦٤٪ أن التنويم المغناطيسي «تقنية مفيدة للشرطة في مساعدة الشهود على تذكر ما حدث» (جرين ولين، تحت الطبع).
وتنتشر هذه المعتقدات أيضًا فيما بين الأكاديميين واختصاصيي الصحة العقلية. اكتشفت إليزابيث وجيفري لوفتس عام ١٩٨٠ أن ٨٤٪ من علماء النفس و٦٩٪ من غير المتخصصين بعلم النفس أبدوا تأييدهم لهذه العبارة: «تظل الذكريات مخزنة بالذهن إلى الأبد.» ووافقوا أيضًا على أنه «باستخدام التنويم المغناطيسي والتقنيات المتخصصة الأخرى يمكن أن يستعيد الإنسان التفاصيل التي لم يكن أمامه سبيل من قبل للوصول إليها.» أجرى مايكل يابكو (١٩٩٤) استطلاعًا للرأي شمل أكثر من ٨٥٠ معالجًا نفسيًّا واكتشف أن أعدادًا كبيرة منهم أيدوا العبارات التالية بنسب تتراوح بين العالية والمتوسطة: (١) ٧٥٪ وافقوا على هذه العبارة: «يُمَكِّن التنويم المغناطيسي الأشخاص من أن يتذكروا بدقة أشياء لم يكونوا ليسترجعوها بأي طريقة أخرى.» (٢) ٤٧٪ وافقوا على عبارة: «المعالجون بإمكانهم أن يثقوا في التفاصيل التي يسترجعها المرضى عن الأحداث الصادمة التي مروا بها عن طريق التنويم المغناطيسي أكثر من تلك التي استعادوها بأي طريقة أخرى.» (٣) اتفق ٣١٪ على أنه: «حينما يستعيد المرء ذكريات متعلقة بصدمة تعرض لها عن طريق التنويم المغناطيسي، فهذا دليل موضوعي على أن هذه الصدمة لا بد أن تكون وقعت بالفعل.» (٤) أبدى ٥٤٪ موافقتهم على أنه: «يمكن استخدام التنويم المغناطيسي في استعادة ذكريات الأحداث الفعلية التي وقعت للإنسان منذ وقت ميلاده.» وأظهرت استطلاعات أخرى (بول، ليندساي، ميمون، وبال، ١٩٩٥) أن نحو ثلث (٢٩٪ و٣٤٪) المعالجين النفسيين وخمسهم (٢٠٪؛ بوليوسني وفوليت، ١٩٩٦) يستخدمون التنويم المغناطيسي لمساعدة مرضاهم على استعادة ذكرياتهم عن محاولات التحرش الجنسي المشتبه في تعرضهم لها.
إن تاريخ المعتقدات القائلة بقدرة التنويم المغناطيسي على تحفيز الذاكرة تاريخ طويل شهد في بعض الأحيان تأرجحًا بين النجاح والفشل. عمل الرواد الأوائل لعلم النفس والطب النفسي — من أمثال بيير جانيت، وجوزيف بروير، وسيجموند فرويد — على تعزيز التنويم المغناطيسي، وكان بيير جانيت واحدًا من أوائل المعالجين الذين عمدوا إلى استخدام هذه التقنية لمساعدة المرضى على استعادة الذكريات المتعلقة بالأحداث الصادمة التي افترض بيير أنها كانت السبب في الصعوبات النفسية التي يمرون بها. وفي واحدة من الحالات الشهيرة استخدم بيير جانيت (١٨٨٩) التنويم المغناطيسي لكي يجعل مريضته ماري «ترتد عمريًّا» إلى مرحلة الطفولة (المعايشة الذهنية لمرحلة زمنية ماضية) التي تعرضت خلالها لصدمة نفسية حينما رأت طفلًا يعاني من تشوه بالوجه. ويفترض أن ماري قد تحررت من أعراض فقد البصر عندما عاشت مرة أخرى ذكرى رؤية وجه هذا الطفل وهي واعية.
الاعتقاد في أن التنويم المغناطيسي يمكن أن يساعد المرضى على استكشاف ذكريات الأحداث الصادمة المدفونة في عقولهم كان هو الأساس الذي بُني عليه «التحليل النفسي التنويمي» الذي عمد الكثير من الممارسين إلى استخدامه في أعقاب الحرب العالمية الأولى لمساعدة الجنود والمحاربين القدامى على تذكر الأحداث التي من المفترض أنها السبب في الاضطرابات النفسية التي يعانونها. ظن بعض المعالجين أن فرص الشفاء الكامل وصلت إلى أقصاها عندما تحررت كافة المشاعر المرتبطة بالأحداث التي استعادها المرضى فيما يعرف ﺑ «التنفيس» (إطلاق المشاعر الأليمة بقوة) وعولج الشعور بالذنب والغضب الذي خرج مع هذه المشاعر خلال جلسات أخرى من التنويم المغناطيسي.
وتمتد الثقة في فعالية التنويم المغناطيسي إلى الجمهور الذي تعرض بكثافة لصور تعكس التنويم المغناطيسي على أنه أداة تشحذ الذاكرة بقوة فائقة وكأنه مصل سحري يكشف الحقيقة. فقد عرضت أفلام مثل «العميل فلينت»، و«تقبيل الفتيات» و«الموت بمجرد الرؤية» و«البعث» قصصًا لشهود يتذكرون بالتفصيل وعلى نحو دقيق، بمساعدة التنويم المغناطيسي، أحداث الجرائم التي شهدوها أو الأحداث التي وقعت لهم أثناء الطفولة وطواها النسيان منذ زمن بعيد.
يزعم بعض الباحثين والأطباء المعاصرين أن التنويم المغناطيسي يمكن أن يكشف عن عدد من المعلومات القيمة التي طُمست فترات طويلة داخل العقل (شيفلين، براون، وهاموند، ١٩٩٧). ولكن غالبية الخبراء (كاسين، تاب، هوش، وميمون، ٢٠٠١) اتجهت آراؤهم بوجه عام إلى اعتراف عدد كبير من علماء النفس القضائيين بأن التنويم المغناطيسي ليس له أي تأثير على الذاكرة (إردلي، ١٩٩٤) أو أنه يعرقل عملية التذكر ويشوهها (لين، نيوشاتز، فيت، ورو، ٢٠٠١). في الحالات التي أدى التنويم المغناطيسي فيها إلى زيادة عدد الذكريات الدقيقة — غالبًا لأن الأشخاص يخمنون الذكريات ويصرحون بها عندما لا يكونون على درجة كبيرة من الثقة — تتعادل هذه الزيادة أو حتى يتم تجاوزها بحدوث ارتفاع مماثل في عدد الذكريات غير الدقيقة (إردلي، ١٩٩٤؛ ستيبلاي وبوثويل، ١٩٩٤).
وما يزيد الأمر سوءًا هو أن التنويم المغناطيسي يمكن أن ينتج عنه أخطاء في عملية التذكر أو عدد من الذكريات الزائفة أكثر من تلك التي تحدث عندما يتذكر الفرد الأشياء الماضية بصورة عادية، بالإضافة إلى أنه يزيد من درجة ثقة شهود العيان في الذكريات غير الدقيقة، كما في الذكريات الدقيقة (وارتفاع درجة الثقة تلك يعرف ﺑ «تقوية الذاكرة»). وعلى أي حال، إذا كنت تتوقع أن ما ستتذكره خلال جلسة التنويم المغناطيسي سيكون دقيقًا في كل تفاصيله، فمن غير المحتمل أن تتجنب مخاطرة التأكيد على صحة ما تقوله. لقد توصل معظم الباحثين إلى أن التنويم المغناطيسي يزيد قليلًا من حجم الثقة غير المبررة فيما يتذكره الشخص (جرين ولين، تحت الطبع). الأشخاص الذين يتأثرون بسهولة بأفكار الآخرين هم أكثر الفئات تأثرًا بالتنويم المغناطيسي، إلا أن التنويم المغناطيسي قد يعرقل أيضًا قدرة من هم ليسوا كذلك على التذكر. دفعت المخاوف بشأن احتمالية مقاومة شهود العيان الذين يُنومون مغناطيسيًّا للاستجوابات الدقيقة، وعدم قدرتهم على التمييز بين الحقائق الواقعية والخيال الذهني، معظم الولايات إلى منع الشهود الذين يخضعون للتنويم المغناطيسي من الإدلاء بشهادتهم أمام المحاكم.
هل يعطي التنويم المغناطيسي أي نتائج أفضل عندما يتعلق الأمر بتذكر تجارب الحياة التي وقعت في فترة مبكرة للغاية منها؟ عرض فيلم وثائقي تليفزيوني جلسة علاج جماعي ارتدت خلالها سيدة إلى الطفولة ومنها إلى مرحلة وجودها بالرحم ثم أخيرًا إلى تلك الفترة التي كانت فيها حبيسة واحدة من قناتي فالوب بداخل جسد أمها (فرانتلاين، ١٩٩٥)، قدمت هذه السيدة وصفًا مقنعًا لحالة التعب الشعوري والبدني التي قد يعايشها المرء إذا كان عالقًا بالفعل في هذا الوضع غير المريح. قد تكون هذه المرأة مؤمنة بحقيقة تجربتها، ولكن بإمكاننا أن نثق أنها ليست مبنية على الذاكرة؛ فالأشخاص الذين يُخضعون لحالة ارتداد عمري يتصرفون وفقًا لمعرفتهم بالسلوكيات التي تتناسب مع المرحلة العمرية التي يرتدون إليها والمعتقدات والافتراضات التي كونوها عن هذه المرحلة. أثبت مايكل ناش (١٩٨٧) أن الأشخاص البالغين الذين يرتدون عمريًّا إلى مرحلة الطفولة لا يتصرفون وفق الأنماط المتوقعة في كثير من المؤشرات الدالة على مرحلة النمو المبكرة تلك، بما في ذلك الكلمات المستخدمة، والمهارات المعرفية، وموجات المخ (التي تظهر بالتخطيط الكهربي للدماغ) والأوهام البصرية. قد تبدو «تجارب الارتداد العمري» مثيرة للإعجاب الشديد، ولكنها لا تمثل ارتدادًا حرفيًّا لتجارب الطفولة وسلوكياتها والأحاسيس التي يعايشها الطفل.
توسع بعض المعالجين في ادعاءاتهم زاعمين أن المشكلات الحالية تعود أسبابها إلى الحياة الماضية التي عشناها من قبل، وأن العلاج الذي تتطلبه هذه المشكلات هو «العلاج بالارتداد إلى الحياة الماضية» الذي يتضمن التنويم المغناطيسي. على سبيل المثال: نشر الطبيب النفسي براين وايس (١٩٨٨) — الذي ظهر في برنامج «أوبرا وينفري شو» عام ٢٠٠٨ — سلسلة من الكتابات التي سُلطت عليها الأضواء بكثافة تركز على مرضى أخضعهم براين للتنويم المغناطيسي وأدخلهم في حالة من الارتداد العمري لكي «يعودوا إلى الوراء» ليصلوا إلى سبب مشكلتهم الحالية. عندما ارتد مرضى براين وايس عمريًّا حكوا عن أحداث فسرها على أنها بدأت في الحياة الماضية، غالبًا منذ عدة قرون مضت.
على الرغم من أن التجارب التي تُعاش خلال عملية الارتداد العمري قد تبدو مقنعة للمريض والمعالج أيضًا، فروايات المرضى تنبثق عن فترة من فترات الماضي من الخيال، والوهم، وما يعرفونه عن مرحلة تاريخية معينة. في الواقع، الأوصاف التي يقدمها المرضى عن الماضي الذي يفترض أنهم عاشوه عندما تُفحص في ضوء الحقائق المعروفة عن تلك الفترة (مثل هل كانت البلاد في حالة حرب أم سلم، أو الوجه المحفور على العملات المعدنية في هذا البلد) نادرًا ما تثبت صحتها. عندما أُخضع أحد المشاركين في إحدى الدراسات لعملية ارتداد إلى العصور القديمة زعم أنه يوليوس قيصر، إمبراطور روما، عام ٥٠ قبل الميلاد (سبانوس، ميناري، جابورا، دوبرويل، وديوريست، ١٩٩١)، مع أن المصطلحين «قبل الميلاد» و«بعد الميلاد» لم يُسْتَخْدما إلا بعد عدة قرون من زمن يوليوس قيصر الذي مات أصلًا قبل اعتلاء أغسطس، أول إمبراطور روماني، العرش بعدة عقود. وعندما يتصادف أن يروي أحد المرضى معلومات دقيقة عن «حياة ماضية»، يمكننا أن نفسر ذلك بسهولة على أنه «تخمين جيد» قائم غالبًا على درايته الجيدة بالتاريخ.
ولكن ليست كل استخدامات التنويم المغناطيسي مثيرة للمشكلات من الناحية العلمية. تشير الأدلة التي توصلت إليها الأبحاث العلمية المنهجية إلى أن التنويم المغناطيسي قد يكون مفيدًا في علاج الألم، والحالات المرضية، واضطرابات التعود (مثل إدمان التدخين)، ويمكن استخدامه كعلاج مساعد للعلاج السلوكي المعرفي للقلق، والسمنة، وحالات أخرى. ولكن مدى الفوائد التي يمكن أن يحققها التنويم المغناطيسي في هذه الحالات بخلاف الاسترخاء لا يزال غير واضح (لين، كيرش، بارباز، كاردينا، وباتيرسون، ٢٠٠٠).
والخلاصة هي أن النتيجة القائلة إن التنويم المغناطيسي يمكن أن يعزز الذكريات الزائفة لدى بعض الأشخاص هي نتيجة لا تقبل النقاش. ربما تبدو خطوة اتصالك بمنوم مغناطيسي ليساعدك على أن تعرف المكان الذي فقدت فيه خاتمك المفضل منذ سنوات مغرية للغاية، ولكننا ننصحك ببساطة بمتابعة البحث عن ذلك الخاتم.
(٣) الخرافة رقم ١٣: يكبت الأفراد عادة ذكريات التجارب الصادمة
منذ عامين سافرتُ إلى الصين مدة أسبوعين من أجل إتمام بعض الأعمال، وقضيت إحدى الليالي أرقص بملهى في شنغهاي، ثم رحت بعدها في نوم عميق. استيقظت بعد ثلاث ساعات وخطر لي أنني أرى حلمًا جنسيًّا مثيرًا، وبدأت أشعر أكثر وأكثر أن جسدًا حقيقيًّا يعلوني وأنا في فراشي.
تساءلت ما الذي حدث في تلك الليلة، ولكنني لم أستطع أن أتذكر أي شيء في الصباح. ظننت أنني كبتُّ بداخلي ذكرى شيء مؤسف، ولذا اتصلت بشخص من إحدى كليات الطب كان يجري بحوثًا متعلقة بالتنويم المغناطيسي، وبعد الجلسة الثانية التي حاولت أن أستعيد فيها ما حدث، تذكرت أن أحد الرجال بشركتي اعتدى عليّ جنسيًّا. كنت أنا منافسته الرئيسية على منصب أعلى، وأظن أن ما حدث كان سببه أنه قال لنفسه: «من تظن هذه المرأة نفسها؟ سوف يلقنها هذا درسًا.»
أثار الجدل حول إمكانية طرح الأشخاص ذكرياتهم عن الصدمات التي تعرضوا لها خارج وعيهم نقاشات حادة استمرت منذ أيام مجد التحليل النفسي الفرويدي في أواخر القرن التاسع عشر إلى وقتنا هذا. لا يوجد خلاف كبير حول احتمال أن تكون الذكريات التي يستعيدها الناس باستمرار دقيقة، أو حول استطاعة الأشخاص أن يتذكروا الأحداث التي لم يفكروا فيها لفترة حتى بعد سنين من حدوثها. النقطة مثار الجدل هي: هل هناك آلية دفاعية خاصة تعتمد على الكبت تفسر لنا نسيان المعلومات المتعلقة بأحداث صادمة؟ هل يكبت الإنسان الذكريات ليقي نفسه من عواقب الصدمات؟ (شيفلين وآخرون، ١٩٩٧؛ إردلي، ٢٠٠٦) أم أن الذكريات المكبوتة هي، على حد قول عالم النفس ريتشارد ماكنالي: «أحد الموروثات النفسية التي لا تؤيدها نتائج الاختبارات والتجارب»؟ (ماكنالي، ٢٠٠٣، ص٢٧٥).
الطريقة التي عُرضت بها فكرة الكبت في وسائل الإعلام الشهيرة جعلتنا لا نفكر قط في أن هذه القضية تشهد جدلًا مريرًا في الأوساط العلمية. فالذكريات المكبوتة المتعلقة بالأحداث المؤلمة — التي تتدرج من التحرش الجنسي بالأطفال إلى مشاهدة مقتل الأبوين أو ارتكاب جريمة قتل بالماضي — التي عرضتها أفلام سينمائية مثل «تأثير الفراشة» (٢٠٠٤)، و«بشرة غامضة» (٢٠٠٤)، و«عودة الرجل الوطواط» (١٩٩٥)، و«ذكريات مكبوتة» (٢٠٠٧)، وبرامج تليفزيونية مثل «الشوق للتذكر» (١٩٩٣)، تبدو كأنها أحداث عادية للغاية. وتصور العديد من كتب مساعدة الذات الشهيرة الكبت على أنه استجابة طبيعية، إن لم تكن تقليدية، للأحداث الصادمة. كتبت جوديث بلوم (١٩٩٠) تقول: «نصف من تعرضوا لوقائع زنا المحارم لا يتذكرون أنهم تعرضوا للاعتداء الجنسي» (ص٨١). ويزعم ريني فريدريكسون (١٩٩٢) أن: «الملايين أسقطوا من وعيهم وقائع اعتداءات جنسية مخيفة، أو بعض سنين عمرهم، أو سنوات طفولتهم بالكامل» (ص١٥).
ربما لن نندهش إذا عرفنا أن العديد من غير المتخصصين يجدون هذه الادعاءات مقنعة. أجرى جوناثان جولدنج وزملاؤه (جولدنج، سانشيز، وسيجو، ١٩٩٦) استطلاعًا للرأي شمل ٦١٣ طالبًا من طلبة الجامعات، وعبر معظم المشاركين فيه عن قناعتهم بالذكريات المكبوتة، وعلى مقياس متدرج من ١ إلى ١٠ أعطى الرجال ٥٫٨ لاحتمالية حدوث هذه العملية والنساء ٦٫٥. وقال ٨٩٪ من المشاركين إنهم مروا من قبل بتجربة تتعلق بالذكريات المكبوتة سواء بصورة شخصية أو من خلال التغطية الإعلامية، ورأى معظمهم أن الذكريات المكبوتة يجب أن تُضم إلى الأدلة المستخدمة في المحاكم.
يمكننا أن نرجع الآراء الشائعة التي تؤمن بوجود الذكريات المكبوتة إلى اعتقاد سيجموند فرويد في أن حالات العصاب الوسواسي والهستيريا مبعثها كبت تجربة اعتداء جنسي حدثت في مرحلة الطفولة؛ إذ كان فرويد (١٨٩٤) يرى أن الكبت هو دافع يحركه اللاشعور لنسيان الذكريات أو النزوات غير السارة (هولمز، ١٩٩٠؛ ماكنالي، ٢٠٠٣). في الوقت الحالي ترتكز بعض أساليب التحليل النفسي (جالاتزر-ليفي، ١٩٩٧) وعلاجات استعادة الذاكرة (كروز، ١٩٩٥) على الرأي القائل إن الذكريات المكبوتة لا بد أن يُكشف عنها النقاب. وتعتمد هذه العلاجات على فكرة أن المرضى لن يتمكنوا من حل الأسباب الجذرية لمشكلاتهم النفسية إلا إذا استكشفوا ذكرياتهم المكبوتة عما تعرضوا له وهم أطفال من صدمات تتعلق غالبًا بالاعتداء الجنسي. ويعكس الكثير من هذا الفكر المنهج الاستكشافي القائم على التماثل (راجع المقدمة)، فمثلما يكون علينا أن نخلع السن عندما يكون بها خراج حتى لا يتقيح، يكون علينا أيضًا أن نمحو الذكريات المكبوتة للصدمات لكي نحل المشكلات التي تواجهنا في الحاضر.
تشير استطلاعات الرأي إلى أنه بدءًا من منتصف التسعينيات من القرن الماضي كان معظم المعالجين يعمدون إلى التفتيش عن الذكريات المكبوتة واستخراجها من غياهب العقل. أجرى مايكل يابكو (١٩٩٤) استطلاعًا للرأي شمل ٨٦٠ معالجًا نفسيًّا وتوصل إلى أن ٦٠٪ منهم يعتقدون أن الكبت مسبب رئيسي للنسيان، وحوالي ٤٠٪ يعتقدون أن الناس لا يستطيعون تذكر الكثير عن أيام طفولتهم لأنهم عمدوا إلى كبت ذكرياتهم عن الصدمات التي تعرضوا لها. واستطلعت ديبرا بوول ومعاونوها (بوول، ليندساي، ميمون، وبال، ١٩٩٥) آراء ١٤٥ معالجًا نفسيًّا أمريكيًّا حاصلين على درجة الدكتوراه ويحملون تراخيص مزاولة المهنة، ونشرت نتائج هذا الاستطلاع في دراستين، وحملت دراسة أخرى نتائج استطلاع رأي ٥٧ معالجًا نفسيًّا بريطانيًّا. توصل الباحثون إلى أن أكثر من ثلاثة أرباع المعالجين صرحوا بأنهم استخدموا تقنية واحدة على الأقل من تقنيات استعادة الذاكرة، مثل التنويم المغناطيسي، والتخيل الموجه، والأسئلة المكررة والتحفيز (كأن يسأل المعالج المريض مثلًا: «هل أنت واثق من أنك لم تتعرض للاعتداء الجنسي؟ من فضلك استمر في التفكير في هذا الأمر») من أجل «مساعدة المرضى على أن يتذكروا الاعتداء الجنسي الذي تعرضوا له في الطفولة». بالإضافة إلى أن ٢٥٪ من المشاركين الذين كانوا مسئولين عن علاج سيدات بالغات اعتقدوا أن استعادة الذاكرة كانت مكونًا رئيسيًّا من مكونات العلاج، واعتقدوا أيضًا أنهم يستطيعون أن يحددوا من أول جلسة المريضات اللاتي اختفت بعض الذكريات من وعيهن سواء بسبب الكبت أو أي شيء آخر، وكانوا يستخدمون اثنتين أو أكثر من تقنيات استعادة الذاكرة ليعززوا استعادة الأحداث الماضية أو اكتشافها. بعد مرور عام على هذه الدراسات أجرت ميليسا بولسني وفيكتوريا فوليت استطلاعًا آخر لآراء المعالجين (١٩٩٦) وتوصلتا إلى نتائج مماثلة.
تعتمد شهرة استخدام الإجراءات المساعدة في استعادة الذاكرة على التصريحات الطبية غير الرسمية أكثر مما تعتمد على الأبحاث المنهجية العلمية (ليندساي وريد، ١٩٩٤؛ لوفتس، ١٩٩٣؛ سبانوس، ١٩٩٦)، فهناك العديد من القصص المنقولة تحكي عن أشخاص يبدو أنهم استعادوا ذكريات عن حوادث اعتداء وقعت منذ عقود عديدة عن طريق العلاج النفسي (إردلي، ١٩٨٥)، ولكن ديفيد هولمز (١٩٩٠) راجع الأبحاث العلمية التي أجريت خلال الستين عامًا الماضية ولم يعثر على أي أدلة علمية تؤيد حدوث الكبت، ومن ثم اقترح ساخرًا أن أي استخدام لهذا المفهوم تسبقه العبارة التالية: «تحذير: لم تثبت نتائج الأبحاث التجريبية صحة مفهوم الكبت وربما يكون لاستخدامه آثار خطيرة على التأويل الدقيق للسلوك الإكلينيكي» (ص٩٧). وحديثًا فحص ريتشارد ماكنالي (٢٠٠٣) الأبحاث العلمية المنشورة فحصًا دقيقًا وتوصل إلى أن الأدلة العلمية المؤيدة لظاهرة كبت الذكريات ضعيفة، وقال إن التاريخ المرضي للعديد من الحالات، الذي قُدم كدليل مؤيد على فقدان الذاكرة الانفصالي، عجز عن تأكيد وقوع الحادث الصادم (شيفلين وآخرون، ١٩٩٧)، وأن بإمكاننا أن نفسر فقدان الذاكرة الذي حدث لتلك الحالات كحالة عادية من حالات النسيان أكثر من كونه كبتًا للذكريات.
وفي تعارض مع فرضية الكبت، تظهر الأبحاث أن معظم الأشخاص يتذكرون الأحداث الصادمة مثل محرقة الهولوكوست والكوارث الطبيعية بصورة جيدة — وفي بعض الأحيان بصورة جيدة للغاية — وتكون ذكرياتهم عنها في صورة استرجاع مفاجئ وقوي للحدث يسبب لهم الانزعاج (لوفتس، ١٩٩٣؛ شوبيه وكيلستورم، ١٩٩٧). والأكثر من ذلك أن استعادة بعض الأشخاص ما يزعم البعض أنه ذكريات مكبوتة عن أحداث غير معقولة وغير موثقة — مثل اختطافهم على يد مخلوقات غريبة، أو المشاركة في طقوس عبادة الشيطان — هو أمر يثير الشكوك في صحة الكثير من الذكريات الأخرى الأكثر معقولية التي يُزعم أن المرضى يستعيدونها خلال العلاج. تكمن المشكلة في أن المعالجين لا يستطيعون غالبًا أن يفرقوا بين «الإشارة» التي تصدرها الذكريات الصحيحة و«الضوضاء» الصادرة عن الذكريات الزائفة (لوفتس، ١٩٩٣).
أورد ريتشارد ماكنالي (٢٠٠٣) التفسير الآتي — بديلًا عن الكبت — لكيفية حدوث تأخر استرجاع أحداث الاعتداء الجنسي التي تقع في مرحلة الطفولة. فكما أشار ماكنالي تثير محاولات أحد الأقارب لإقامة علاقة جنسية مع الطفل شعوره بالارتباك أكثر من إثارتها الشعور بالضيق، ولكن بعد مرور العديد من السنوات يتذكر الشخص ما حدث باشمئزاز لأنه يدرك أنه كان في الواقع حادث اعتداء. وتأخر استعادة الأحداث لا يعد شيئًا غريبًا لأن الناس في بعض الأحيان ينسون الأحداث البارزة بحياتهم — مثل الحوادث والإقامة بالمستشفيات — حتى بعد مرور عام واحد على حدوثها (ليلينفيلد ولوفتس، ١٩٩٨).
ولكن هناك مشكلة أخرى تكمن في دراسات فقدان الذاكرة الانفصالي، وهي أن عجز الأشخاص عن تذكر حدث معين لا يعني أنهم كبتوا ذكرياتهم عنه أو حتى نسوه (بيبر، ١٩٩٧). لنأخذ ما قامت به جيل جودمان وزملاؤها كمثال توضيحي على هذا الأمر (جودمان وآخرون، ٢٠٠٣)؛ إذ أجروا مقابلات متكررة مع ١٧٥ شخصًا تعرضوا خلال طفولتهم لحوادث اعتداء جنسي موثقة، وذلك بعد مرور ١٣ عامًا على هذه الأحداث. شملت الدراسة ثلاث مراحل من المقابلات. في البداية لم يذكر ١٩٪ منهم الحوادث التي تعرضوا لها، وفي المرحلة الثانية التي أجريت فيها المقابلات عبر الهاتف انخفضت النسبة إلى ١٦٪، أما في المقابلة الثالثة التي كانت مقابلة شخصية، فكانت نسبة الأشخاص الذين عجزوا عن ذكر الحوادث التي وقعت لهم ٨٪ فقط. من الواضح أن الأحداث التي استعادها المشاركون كانت حاضرة في الذاكرة، مع أن المشاركين لم يذكروها في البداية. ربما شعروا بإحراج شديد في البداية منعهم من ذكر تعرضهم للاعتداء الجنسي، أو كان الأمر يتطلب عدة محاولات تحفيزية حتى يستعيدوا ما حدث.
الميل إلى تسمية حالات النسيان العادية أو غير المفهومة بالكبت يبدو أنه أمر راسخ بعمق في تراثنا الثقافي. واجه الطبيب النفسي هاريسون بوب وزملاؤه الأوساط العلمية بتحدٍّ رائع (بوب وآخرون، ٢٠٠٦)، إذ أعلنوا على أحد المواقع الإلكترونية المتخصصة عن مكافأة قدرها ١٠٠٠ دولار لأول شخص يستطيع أن يستخرج مثالًا على فقدان الذاكرة الانفصالي الناجم عن التعرض لصدمة في أي عمل خيالي أو واقعي مكتوب بأي لغة قبل عام ١٨٠٠. وعلى الرغم من أن أكثر من ١٠٠ باحث قد رد على هذا الإعلان، فلم يستطع أي منهم أن يجد وصفًا واضحًا لحالة واحدة من حالات فقدان الذاكرة الانفصالي. استنتج المؤلفون أنه إذا كان فقدان الذاكرة الانفصالي يمثل ظاهرة نفسية تحدث بصورة طبيعية مثل الهلاوس أو الضلالات، لكان يجب أن يكون هناك دلائل عليها في الشخصيات الخيالية أو الحقيقية. وانتهى بوب وزملاؤه إلى أن كبت الذكريات يبدو أنه نتاجٌ حديثٌ نسبيًّا لثقافتنا بداية من القرن التاسع عشر.
انخفضت إلى حد ما حدة الجدل الذي تشهده الأوساط العلمية عن ظاهرة كبت الذكريات خلال العقد الماضي، إذ ظهر مفهوم أجمعت عليه الآراء وهو أن الإجراءات المغناطيسية — مثل التنويم المغناطيسي والتخيل الموجه، والأسئلة المغرضة أو الاستدراجية — يمكن أن تولد ذكريات زائفة عن أحداث صادمة، وأن تأخر استعادة الأحداث الصحيحة يحدث غالبًا نتيجة عملية التذكر والنسيان العادية، وليس الكبت.
ونحن نفحص حالة كحالة المرأة البالغة من العمر ٢٨ عامًا التي أوردناها في البداية، من المهم أن نفكر في تفسيرات لتأخر استعادة الأحداث بديلة عن تلك التي يتعذر تصديقها، مثل التعرض للاعتداء على يد عبدة الشيطان (لانينج وبورجيس، ١٩٨٩). على سبيل المثال: يمكن أن تكون هذه المرأة قد أحست بوجود شخص ما في فراشها بسبب ظاهرة غريبة ولكنها شائعة بطريقة مثيرة للدهشة وهي ظاهرة «شلل النوم» التي تحدث نتيجة انقطاع دورة النوم. ما بين ثلث إلى نصف طلاب الجامعات مروا بحالة واحدة على الأقل من حالات شلل النوم (فوكودا، أوجيلفي، تشيلكوت، فينديتيللي، وتيكوتشي، ١٩٩٨). يرتبط شلل النوم في الأغلب بشعور بالذعر، وإحساس بوجود كائن مؤذٍ بالقرب من أو حتى فوق الشخص الذي يكون عاجزًا عن الحركة. التعرض لواقعة مرعبة مثل شلل النوم بالإضافة إلى محاولتها أن تعيد تجميع ما حدث لها خلال جلسة التنويم المغناطيسي ربما أقنعاها بأنها تعرضت لاعتداء جنسي. وعندما عُرض هذا التفسير عليها قررت المرأة ألا ترفع دعوى قضائية على زميلها.
في النهاية نحب أن نوجه تحذيرًا: ليس كل ما يسترجعه الإنسان من ذكريات بعد سنوات أو حتى عقود من نسيانها هي بالضرورة ذكريات زائفة (شولر، أمبادار، وبنديكسن، ١٩٩٧)؛ لذا لا يجب أن يتجاهل المعالجون النفسيون كل الذكريات التي استعادها مرضاهم حديثًا عن حوادث الاعتداء الجنسي في الطفولة. ولكن لا يجب عليهم أيضًا أن يعتقدوا في صحة الذكريات التي يسترجعها المرضى إلا إذا وُجد الدليل الذي يعززها.
(٤) الخرافة رقم ١٤: معظم المصابين بفقدان الذاكرة ينسون كل تفاصيل حياتهم الماضية
«أين أنا؟» «من أنا؟»
هذان هما السؤالان اللذان يُطرحان في الأغلب بأفلام هوليوود على لسان الشخصيات التي تستعيد وعيها بعد فترة من دخولها في غيبوبة، أي فترة مطولة من فقدان الوعي. تشترك معظم الأفلام التي تصور فقدان الذاكرة في شيئين رئيسيين؛ أولًا: أن أكثر مشكلات فاقدي الذاكرة وضوحًا تكون دائمًا هي نسيان ذكريات ماضيهم. وهم لا يواجهون غالبًا أي صعوبة في تعلم أشياء جديدة، أو يواجهون صعوبات بسيطة. ثانيًا: أنه إذا ظل فاقدو الذاكرة في غيبوبة مدة طويلة، بضعة أسابيع أو أشهر، فإنهم يفقدون غالبًا كل ما يتذكرونه عن حياتهم الماضية، فعقولهم تتحول إلى صفحات بيضاء مُسح منها ماضيهم أو لم يبق منه سوى القليل. في أغلب الأحيان، لا يتذكر هؤلاء الأشخاص السنة الحالية، ومكان سكنهم، وأزواجهم، ووظيفتهم، وربما حتى أنفسهم.
لنتفحص بعض الأمثلة التي اخترناها من عالم السينما والتليفزيون: يعد فيلم «حديقة الأكاذيب» (١٩١٥) من أوائل الأفلام التي عرضت لفقدان الذاكرة، وتدور أحداثه حول فتاة تزوجت حديثًا تنسى كل شيء عن نفسها، بما في ذلك هويتها، بعد تعرضها لحادث سيارة (باكسينديل، ٢٠٠٤). أما فيلم «سانتا مَنْ؟» (٢٠٠٠) الذي يتمتع بقالب كوميدي، فتدور أحداثه عن سانتا كلوز الذي يسقط من فوق زلاجته وينسى هويته وكل ذكرياته عن الماضي. وفي ثلاثية أفلام جيسون بورن («هوية بورن»، و«سيادة بورن»، و«الإنذار الأخير لبورن» التي عُرضت في الفترة من ٢٠٠٢ إلى ٢٠٠٧) يفقد البطل — الذي يؤدي دوره مات ديمون — كل ذكرياته عن حياته وينتحل شخصية جديدة، وهي شخصية قاتل مأجور يعمل لحساب الحكومة. يكثر استخدام هذه الفكرة بتنويعاتها المختلفة في أفلام هوليوود التي تعرض قصص القتلة المحترفين، ومنها «قبلة الوداع» (١٩٩٦) الذي تدور أحداثه حول عميلة سرية تنسى كل شيء عن نفسها بعد تعرضها لصدمة على الرأس. يقول أحد الكتاب إن حالات فقدان الذاكرة الشديدة تُعرض في أفلام هوليوود بوصفها «إحدى المخاطر المهنية التي يتعرض لها القتلة المحترفون» (باكسينديل، ٢٠٠، صفحة ١٤٨١). وفي المسلسل الكوميدي «سامانثا مَنْ؟» الذي تقوم ببطولته كريستينا آبلجيت، تفيق البطلة، وهي طبيبة نفسية، من غيبوبة استمرت ثمانية أيام بعد تعرضها لحادث سيارة لتجد أنها لا تتذكر أي شيء عن نفسها وماضيها رغم سلامة جميع وظائفها العقلية الأخرى.
الطريقة التي تصور بها الأفلام السينمائية حالات فقدان الذاكرة تنعكس في آراء معظم المواطنين الأمريكيين (أوجيل وآخرون، ١٩٩٧؛ سويفت وويلسون، ٢٠٠١). قال ٥١٪ من المواطنين الأمريكيين المشاركين بأحد استطلاعات الرأي إن الأشخاص الذين تعرضوا لصدمات على الرأس يجدون صعوبة في تذكر الأحداث التي وقعت قبل تلقيهم لهذه الصدمات أكثر من تلك التي يواجهونها عند محاولتهم أن يتذكروا ما وقع بعد ذلك من أحداث (جوفيير، ريستهولت، ووارنر، ١٩٨٨). وفي استطلاع حديث للرأي قال ٤٨٪ من الأمريكيين إنه بعد التعرض لصدمات الرأس يصعب على الناس تذكر ما حدث في الماضي أكثر من تعلم أشياء جديدة. وهناك نسب كبيرة من المواطنين الأمريكيين يظنون أنه بعد التعرض لصدمات الرأس ينسى الأشخاص بطبيعة الحال أنفسهم ولا يستطيعون أن يتعرفوا على أي فرد يعرفونه (جويلميت وباجليا، ٢٠٠٤).
ولكن نظرة علم النفس الحقيقي إلى حالات فقدان الذاكرة تختلف كثيرًا عن نظرة علم النفس الشعبي لها؛ فالمشكلة الأساسية التي يواجهها الأشخاص الذين يتعرضون لإصابات بالرأس أو سكتات دماغية ليست «فقدان الذاكرة التراجعي»، أي نسيان الماضي السابق للإصابة، ولكن تتمثل مشكلتهم في «فقد الذاكرة التقدمي»، أي نسيان المعلومات الجديدة (شاستر، ١٩٩٦). هذا يعني أن فاقدي الذاكرة غالبًا يواجهون صعوبة في تكوين ذاكرة جديدة، ويكون بعضهم قد فقد ذكرياته عن الماضي أيضًا. أكثر حالات فقدان الذاكرة التقدمي شدة التي كُتب عنها في علم النفس هي حالة إتش إم، وهو رجل وحيد توفي عام ٢٠٠٨ عن عمر يناهز الرابعة والسبعين. عام ١٩٥٣ خضع هذا الرجل لجراحة بالمخ من أجل وقف حالات الصرع الشديدة التي كان مصابًا بها والتي لم تستجب لأي علاجات. وبعد الجراحة التي استؤصلت خلالها منطقة الحصين (وهي منطقة في المخ تقوم بدور مهم في عمل الذاكرة طويلة الأجل) أصبح إتش إم عاجزًا إلى حد بعيد للغاية عن تكوين ذكريات عن الأحداث الجديدة التي يعاصرها، وهي التي يطلق عليها علماء النفس «الذكريات العرضية» (كروكين، ٢٠٠٢). كان إتش إم يقرأ المجلات نفسها مرات ومرات وكأنه لم يرها من قبل، ودائمًا لا يتذكر الأشخاص الذين تعرف عليهم منذ خمس دقائق، وكان يشعر بحزن عميق في كل مرة يبلغه أطباؤه بوفاة عمه (ميلنر، ١٩٧٢؛ شيمامورا، ١٩٩٢). ومع أنه كان مصابًا ببعض أعراض فقدان الذاكرة التراجعي، فحالة فقدان الذاكرة التقدمي كانت هي مشكلته الأساسية، وهي كذلك لمعظم فاقدي الذاكرة.
فيلم «التذكار» هو واحد من الأفلام الأمريكية النادرة التي عرضت المبادئ العلمية لعلم النفس بصورة صحيحة إلى حد بعيد. تدور أحداث هذا الفيلم البوليسي الذي عُرض عام ٢٠٠٠ عن ليونارد (الذي قام بدوره جاي بيرس) المصاب بحالة شديدة من حالات فقدان الذاكرة التقدمي بعد تعرضه لإصابة بالرأس. ولأنه عاجز عن تكوين ذكريات عرضية استغله الآخرون بلا شفقة حتى انتهى به الحال إلى قتل رجل بريء. وقد وُفق صانعو الفيلم في عرض مشاهده بترتيب عكسي، مما عكس لنا إلى حد بعيد إحساس ليونارد بالحياة في الحاضر فقط.
ولكن لا تزال وسائل الإعلام تستخدم أسلوبًا آخر في تصوير حالات فقدان الذاكرة يتنافى مع الحقيقة في الأغلب. فالحالات التي تعرف ﺑ «فقدان الذاكرة الشامل» التي تعرضها الأفلام التي تدور أحداثها عن أشخاص لا يتذكرون هويتهم وكل تفاصيل حياتهم الماضية هي حالات نادرة للغاية (الجمعية الأمريكية للطب النفسي، ٢٠٠٠). يُعتقد أنه في الحالات غير المعتادة التي يحدث فيها فقدان شامل للذاكرة يرجع ذلك في الأغلب إلى أسباب نفسية، مثل التوتر الشديد، وليس لصدمات الرأس أو الأسباب العصبية (باكسينديل، ٢٠٠٤). ومع ذلك يشك بعض علماء النفس في أن فقدان الذاكرة الشامل المترتب على الأسباب النفسية يحدث من الأساس (ماكنالي، ٢٠٠٣)، وربما يكونون على صواب، لأنه من الصعب أن نستبعد تمامًا في تلك الحالات أن يكون فقدان الذاكرة الظاهر على الشخص هو نوع من التمارض، أي ادعاء أعراض مرضية كاذبة من أجل تحقيق مكسب أو هدف، مثل الحصول على تعويض مادي أو التهرب من تأدية الخدمة العسكرية (سيما، ميركيلباخ، نيجمان، نوير، وهوناك، ٢٠٠٢).
ولا يجب أن نغفل ذكر وجود اثنين من المعتقدات الخاطئة الأخرى بشأن فقدان الذاكرة. قد تكون المشاهد التي نراها كثيرًا في الأفلام السينمائية هي التي أوحت لنا بالمعتقد الأول (باكسينديل، ٢٠٠٤) إذ يظن الكثيرون أن الأشخاص الذين يستعيدون وعيهم بعد غيبوبة مطولة يفقدون كل شيء عن ماضيهم، ولكنهم فيما عدا ذلك يتصرفون بطريقة طبيعية بعد الإفاقة مباشرة. إذا كنا سنصدق هذه الصورة التقليدية التي تعرضها أفلام هوليوود فهذا معناه أن هؤلاء الأشخاص بإمكانهم أن يجيبوا عن الأسئلة بطريقة واضحة ومفهومة ويتحدثون مستخدمين جملًا كاملة، حتى لو كانوا يعتقدون أننا لا نزال في عام ١٩٨٩ — وهو العام الذي فقدوا فيه وعيهم مثلًا — ولسنا في عام ٢٠٠٩. في أحد استطلاعات الرأي قال ٩٣٪ من المشاركين — وهي نسبة ضخمة — إنهم يظنون أن الأشخاص المصابين بفقدان حاد في الذاكرة ولا يكادون يذكرون أي شيء عن ماضيهم يتصرفون بطريقة طبيعية في كل النواحي الأخرى (هاكس، شارم، وجوكين، ٢٠٠٦)، ولكن للأسف أثبتت الأبحاث أن هذا الرأي لا يعدو أن يكون رجاء. الأشخاص الذين يفيقون من الغيبوبة وهم مصابون بحالة واضحة من حالات فقدان الذاكرة دائمًا يصابون بقصور خطير ودائم في النواحي المعرفية، بما في ذلك مشكلات في الإدراك والتعلم (هووبر، ٢٠٠٦).
المعتقد الخاطئ الآخر الذي يعد أكثر غرابة أنه في حالة التعرض لإصابة بالرأس، فإن إحدى أفضل الطرق للتخلص من فقدان الذاكرة هي التعرض لإصابة أخرى بالرأس. هذه الطريقة الإبداعية لاستعادة الذاكرة هي إحدى آليات الحبكة الروائية المستخدمة في العديد من الأفلام السينمائية وأفلام الكرتون، ومنها أفلام القط توم وطرزان (باكسينديل، ٢٠٠٤). عام ١٩٨٧ عرض فيلم بعنوان «السقوط» قام ببطولته كيرت راسيل وجولدي هون، وفيه تفقد السيدة التي لعبت دورها جولدي هون ذاكرتها بعد تعرضها لصدمة على الرأس إثر سقوطها من فوق سطح يخت بحري، ثم تستعيد ذاكرتها في وقت لاحق من الفيلم بعد تلقيها صدمة أخرى على رأسها. ربما يعد هذا الرأي تطبيقًا خاطئًا للمنهج الاستكشافي القائم على التماثل (راجع المقدمة): فإذا كان تعرضنا لصدمة على الرأس قد يجعلنا نفقد ذكرياتنا، فتلقينا صدمة أخرى على الرأس قد يؤدي إلى استعادتها، وكما أن رأسين أفضل من رأس واحد، فصدمتان أفضل أيضًا من صدمة واحدة (باكسينديل، ٢٠٠٤). تشير استطلاعات الرأي إلى أن ٣٨–٤٦٪ من المواطنين في كندا وأمريكا يصدقون هذا المعتقد الخاطئ (جويلميت وباجليا، ٢٠٠٤). ومثل عدد من المعتقدات الخاطئة الأخرى التي يعرضها هذا الكتاب، لا يعد هذا المعتقد خاطئًا فقط، بل عكس ما هو صحيح أيضًا. فعندما يتلقى الإنسان صدمة على رأسه تتعرض شبكة المسارات العصبية فيه للتلف، وهذا يجعله عرضة أكثر للتأثر بالعواقب الوخيمة التي تنتج عن إصابات الرأس التي تحدث فيما بعد.
في المرة القادمة التي تشاهد فيها فيلمًا يحكي قصة سيدة فقدت كل ذكرياتها وباتت لا تعرف أي شيء عن هويتها بعد أن تعرضت لإصابة بالرأس، هناك شيء هام يجب ألّا «تنساه» ألا وهو: فقدان الذاكرة الحق هو نسيان هوليوود العميق للأدلة العلمية.
(٥) الفصل ٣: خرافات أخرى تستحق الدراسة
الخرافة | الحقيقة |
---|---|
«تبقى ذكرى كل الأشياء التي عشناها مخزنة إلى الأبد بعقولنا حتى وإن لم نستطع أن نتذكرها كلها.» | لا توجد أدلة تؤيد هذا الادعاء، بالإضافة إلى أن عقولنا ليست كبيرة إلى الحد الذي يسمح لها بتخزين ذكرياتنا عن كل ما عايشناه. |
«يمتلك بعض الأشخاص «ذاكرة فوتوغرافية» حقيقية.» | تدل الأبحاث على أنه حتى الأشخاص الذين يمتلكون القدرة على «استحضار الصور» — وهي أقرب الدرجات إلى الذاكرة الفوتوغرافية — تخونهم الذاكرة ويعيدون تشكيل الذكرى. |
«إذا بذلنا جهدًا فبإمكاننا أن نتذكر الأحداث التي مررنا بها منذ الميلاد.» | ظاهرة فقدان الذاكرة الطفولي لا تمكننا من أن نتذكر أي شيء حدث لنا قبل سن عامين أو عامين ونصف. |
«الذاكرة تتنقل كيميائيًّا.» | المحاولات التي تمت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي لنقل الخبرات التي تعلمتها بعض الديدان المستورقة بتقطيعها وإطعامها لديدان مستورقة أخرى لم تتكرر أبدًا. |
«تأثر الذاكرة بالإيحاءات هي مشكلة تواجه فقط الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة.» | يمكن أن تتأثر تقارير الذاكرة لجميع الفئات العمرية بالأسئلة الموجهة؛ وفي بعض الحالات، يتأثر الأطفال الأكبر سنًّا أكثر ممن يصغرونهم بالإيحاءات. |
«الأشخاص الذين لا يمكنهم أن يتذكروا ماذا تناولوا على الغداء أمس يعانون ضعفًا ﺑ «الذاكرة قصيرة الأجل».» | تستمر الذاكرة قصيرة الأجل مدة ٢٠ ثانية أو أقل؛ وجميع هؤلاء الأشخاص تقريبًا يعانون ضعفًا بالذاكرة طويلة الأجل. |
«الصّمُّ أو حفظ المعلومات بدون فهم هو أفضل وسيلة للاحتفاظ بها.» | المعلومات التي يلتفت الشخص إلى معناها وهو يتعامل معها تبقى مخزنة بذهنه فترة أطول من المعلومات التي يكررها فقط مرات ومرات دون أن يفهم معناها. |
«تحدث عملية النسيان في الأغلب بسبب تحلل المعلومات في أمخاخنا.» | بالإضافة إلى تحلل المعلومات يؤدي التداخل أيضًا إلى جزء كبير من عملية النسيان. |
«الدواء المستخرج من شجرة الجنكة الصينية والأدوية العشبية الأخرى تساعد على تحسين الذاكرة لدى الأشخاص الطبيعيين.» | تأثير الجنكة على الذاكرة الطبيعية إما ضعيف أو غير موجود. |
(٦) مصادر وقراءات مقترحة
للتعرف أكثر على هذه الخرافات وغيرها عن الذاكرة انظر ديلا سالا (١٩٩٩، ٢٠٠٧)؛ جولد، كايهيل، ووينك (٢٠٠٢)؛ لوفتس ولوفتس (١٩٨٠)؛ وماكنالي (٢٠٠٣)؛ شاستر (٢٠٠١)؛ سولومون، آدمز، سيلفر، زيمير، ودوفوه (٢٠٠٢)؛ وتيرتل ووانت (٢٠٠٨).