تاريخ نظرية التطور
التطور هو النظرية السائدة في العلوم الآن، وهي الصفة التي اصطبغت بها عقول جميع المفكرين في عصرنا الراهن.
وهي الآن تتلخص في أن الحيوان والنبات، على تعدد أنواعهما التي تبلغ الآلاف، نشأت في الأصل من نوع واحد. وأن الجماد نفسه بما فيه من ذرات وجزئيات وعوالم وعناصر يرجع أيضًا إلى أصل واحد.
فالتطور قانون شامل يسري على عالم الجماد وعالم الحيوان على السواء. وهو يقضي بأن الحي أو الجماد دائم التحول لا يثبت على حال واحدة.
فالإنسان لم يكن إنسانًا منذ الأزل وإنما كان حيوانًا يشبه القرد، وكان قبل ذلك يشبه الليمور، وهلم جرًّا، حتى تصل إلى الخلية البسيطة للحياة الأولى على الأرض. وهكذا الحال في سائر الحيوان والنبات.
والجماد نفسه في تطور مستمر، فالرصاص مثلًا لم يكن رصاصًا منذ الأزل وإنما كان في الأرجح «رديوما». وهكذا الحال في سائر عناصر الجماد.
وهذه النظرية ليست جديدة، فقد لمحها الإغريق، وأومأ إليها العرب ظنًّا وحدسًا، ولكن الجديد فيها كثرة الشواهد التي استقراها العلماء للتدليل على صحتها، والبحث في أساليب التطور، والوسائل التي يتوسل بها الحي، نباتًا كان أم حيوانًا، في سبيل بقاء نوعه وإبادة غيره، وتحوله من حال إلى حال، أي تطوره على مدى الزمن؛ أي الإيمان بالنظرية يقينًا عن بينات علمية.
والإغريق أول من لمح هذه النظرية، وكان «أرسطو طاليس» يشير إليها ويؤمن بوجود قوانين طبيعة ثابتة لا تتغير بمشيئة الآلهة. وقال عن أصل الحياة في النبات أنها نشأت قبل أن تنشأ الحيوانات.
وكان «لوكريتيوس» الذي عاش حوالي سنة خمسين قبل الميلاد المسيحي أجرأ القدماء وأبعدهم نظرًا في التطور، فكان يقول إن التحول هو سنة الكون، وإن ما تقوله الأديان الإغريقية عن أصل العالم خرافات، وإن الإنسان كان وحشًا ضاريًا هذبته المدنية، وإنه عرف النحاس، ثم عرف بعد ذلك الحديد، وإن اللغة نشأت بضرورة الاجتماع والحضارة.
وكان علماء الإسكندرية يعرفون هذه الآراء ويقولون بها. ثم حدثت فترة القرون الوسطى، فقام النقل في أوروبا مقام العقل، وطلق العلماء الاستقراء والبحث، وأخذت الأساطير والعقائد مكان البحث العلمي والمنطق.
ولكن علماء العرب في هذه الفترة كانوا يشتغلون بالعلوم، وبعثهم البحث في الكيمياء على الاعتماد على التجارب العلمية، فصارت نزعتهم في العلوم تفوق نزعة الإغريق وتمتاز عليها في الصحة.
فقد كان الإغريق يعتمدون في النظر الفلسفي على المنطق، وكأنهم كانوا يتجاهلون حقائق الحياة، كما تدل على ذلك «جمهورية أفلاطون» حيث قال فيها بشيوعية النساء والأموال، ولم يقف لينظر لحظة هل تنطبق مبادئه المنطقية على أحوال الحياة الراهنة في زمنه، وليس شك في أن «أرسطو طاليس» كان يقول باعتبار الحياة أصلًا والمنطق والتفكير نتيجة، وبفائدة التجريب العلمي، ولكن روح أرسطو طاليس لم يكن الروح السائد بين الإغريق.
وقد لمح عدد كبير من علماء العرب إلى نظرية التطور، فكان الكيميائيون يقولون بتطور العناصر وإمكان تحول معدن خسيس كالرصاص أو الزئبق إلى معدن نفيس كالذهب، ثم توسعوا في النظر، فصاروا يقولون بوحدة الأصل في أنواع النبات والحيوان.
وربما كان أحسن ما كتبوه في هذا الرأي قصة «حي بن يقظان» التي وضعها ابن طفيل، ولخص فيها آراء المشارقة، وأومأ إلى نظرية التطور.
أول مراتب هذه الكائنات تراب، وآخرها نفس ملكية طاهرة. فإن المعادن متصلة أولها وآخرها بالنبات. والنبات متصل، أوله بالمعادن وآخره بالحيوان، والحيوان متصل أوله بالنبات وآخره بالإنسان، والنفوس الإنسانية متصلة أولها بالحيوان وآخرها بالنفوس الملكية.
وقال ابن مسكويه في «الفوز الأصغر» عن مراتب الإنسان: «إنها مراتب القرود وأشباهها من الحيوان الذي قارب الإنسان في خلقته الإنسانية، وليس بينها إلا اليسير الذي إذا تجاوزه صار إنسانًا.»
فإن الشمس تسامت رءوسهم مرتين في كل سنة … فتطول المسامتة عامة الفصول، فيكثر الضوء لأجلها، ويحل القيظ الشديد عليهم وتسود جلودهم لإفراط الحر.
فمن ذلك يرى القارئ أن القدماء، من إغريق وعرب، قد أحست نفوسهم وحدست عقولهم هذا النظام الحيوي في العالم. وكيف أن الأنواع دائمة التحول والتغير، بل إن كيمائي العرب قد أحسوا أيضًا تحول الجمادات.
ولكن كل كلام القدماء في ذلك لم يكن سوى تلميح وإيماء، فلم يمسوا النظرية مساسًا مباشرًا ولم يجعلوها موضوع الدرس المتواصل والتجربة العملية، وهذا هو الفرق بيننا وبينهم الآن.
ثم جاء «داروين» العالم الإنجليزي ووضع سنة ١٨٥٩ كتابه «أصل الأنواع» وقال إن «تنازع البقاء» بين الأفراد هو أكبر عامل يؤدي إلى انقراض بعض الأنواع وبقاء بعضها؛ لأن هذا التنازع يفضي إلى «انتخاب طبيعي» بينها، فكأن الطبيعة مرب يحابي بعض الأفراد فيبقيها ويمنع البعض الآخر من التناسل فتنقرض، فإذا اشتد اختلاف الأفراد صار هذا الاختلاف نقصًا أو ميزة يؤديان إلى بقاء البعض وانقرض البعض الآخر، فتنشأ سلالات جديدة، ثم تتجمع الصفات الجديدة في هذه حتى تصير السلالات أنواعًا جديدة.
وجاء «سبنسر» العالم الإنجليزي بعد داروين، فعمم النظرية حتى جعلها تشمل الهيئة الاجتماعية الإنسانية، وكيف انتقلت بالتدرج من الوحشية إلى المدنية، وكيف أنها دائمة التطور شأنها في ذلك شأن النبات أو الحيوان.
ثم ظهر حوالي أواخر القرن الماضي عنصر «الراديوم» فتبين منه أن الجماد في تطور أيضًا، وأن العناصر كما نعرفها الآن ليست على حال ثابتة، فقد كانت تختلف قديمًا وستختلف في المستقبل عما هي الآن. وأن من الممكن مثلًا أن نحول الزئبق إلى ذهب.
فنظرية التطور تشمل الآن كل شيء حتى أخذ الأوربيون يفكرون في كيفية إنشاء إنسان تكون نسبته إلينا كنسبتنا إلى القرد، وهم يطلقون عليه اسم «السبرمان» أي: الإنسان الأعلى.
وهم يتحسسون هذا الموضوع الآن، ويكتفون بالتخيل، فلا يجرؤ منهم أحد على التخطيط والترسيم. وأجرأهم يقنع الآن بالقول بمنع ذوي العاهات والبله من التناسل بتعقيمهم. وكثير من الأمم الراقية يفعل ذلك الآن.
وبعد فإن نظرية التطور قد فتحت ميدانًا بل ميادين لنظر الإنسان، فقد كان المأثور قديمًا في كتب السلف أن الإنسان خلق كما هو الآن، وسيبقى كذلك إلى الأبد، ولكن نظرية التطور قد بسطت لنا الماضي فجعلتنا نرى الإنسان في غير حاله الآن، وبسطت لنا آفاق المستقبل فملأتنا رجاء بأنه سيكون أفضل مما هو الآن.
فنظرية التطور هي نظرية الرجاء والرقي، وهي المفتاح الذي يفتح لنا مغاليق الماضي المبهم ويرسم لنا مصير الإنسان.