تناسل الحيوان
ليس التناسل في الأحياء إلا ضربًا من النمو، بل قل هو نمو منفصل، وليس النمو في الحقيقة إلا توالدًا متصلًا، ولو كان في مقدور الطبيعة أن تجعل الحي ينمو إلى ما لا نهاية بحيث لا يموت من كبر حجمه لما احتاجت إلى الاحتيال لبقائه وتخليده بواسطة النسل.
ومن هذا ندرك معنى القانون الذي يشمل الحيوان والنبات معًا، وهو أن نسل الحي يتوقف على طول عمر الأبوين؛ فإذا كان الأبوان طويلي العمر؛ كالفيل والقيطس والإنسان والنخل والسنديان، كان النسل قليلًا، وإذا كان الأبوان قصيري العمر لكثرة ما يتعرضان له من الأخطار كان النسل كما هو الحال في المحار والحشرات، كثيرًا يعد بالآلاف والملايين؛ لأن الغرض من التناسل تخليد النوع حتى لا ينقرض، فطول عمر الفرد يُقتطع في حساب الطبيعة من عدد نسله.
ونلمح هذا المعنى أيضًا من الوقت الذي يتوالد فيه الفرد؛ فإنه يستمر في النمو إلى أن لا يمكنه زيادة نموه بدون الإضرار بنفسه، فيبتدئ — عندئذ — في التناسل. فالأميبة، وهي خلية مفردة، إذا بلغت حدَّ الكبر الذي لا تستطيع أن تزيد عليه انقسمت إلى قسمين، وينقسم كل منهما قسمين، وهلم جرًّا، والنباتات والحيوانات العليا تبتدئ في التناسل عندما يتقارب نموها أن يبلغ حدَّه.
ولا يزال التناسل نموًّا — لا أقل ولا أكثر — في بعض النباتات، فإذا قطعنا جزءًا من غصن شجرة ووضعناه في طينة نما شجرة جديدة، وهو لو لم ينمُ شجرة جديدة لنما غصنا كبيرًا؛ فالنمو والتناسل كلاهما يرجع إلى غريزة واحدة، هي بقاء النوع.
والتناسل في الأحياء الدنيا يكون — كما قلنا — بالانقسام؛ تنقسم الخلية خليتين، وتستمر على ذلك، ولا تموت إلا بعارض. وأول تلميح يبدو عن ظهور الجنس والتوالد بواسطة الذكر والأنثى هو ما يُرى في النقاعيات، وهي أحياء ذات خلية واحدة، إذا طال عليها الانقسام عمدت إلى نوع ابتدائي من التلاقح، فتجتمع خليتان، وتندغمان وتصيران خلية واحدة، فتنشط بذلك وتعود إلى الانقسام من جديد.
فإذا تركنا هذه الأحياء البسيطة ونظرنا في الإسفنج وجدنا ابتداء التخصص؛ فإن بعض خلاياه تنفصل منه وتتلاقح؛ أي تندغم إحداها في الأخرى، ثم تأخذ في الانقسام المتصل حتى تصير جسمًا إسفنجيًّا، فالإسفنج يحتوي على بيض الأنثى وبذرة الذكر، وبتلاقحهما يظهر حيوان جديد من الإسفنج.
ولا يزال في الطبيعة للآن جملة حيوانات مثل الحلزون والعلق، حتى بعض الأسماك، يحتوي الفرد منها على بذرة الذكر وبيضة الأنثى، فليس هناك حلزون ذكر وحلزونة أنثى، وإنما هناك فرد يحتوي على البيضة الأنثوية والبذرة الذكرية معًا، ويحصل التلاقح داخل جسمه بدون حاجة إلى فرد آخر.
ومعظم النباتات المزهرة تجري هذا المجرى؛ فنبات الذرة — مثلًا — يحتوي على بذور الذكر (وهي في قمته)، وعلى بيض الأنثى (وهي في القنديل)، أما النخل والتوت (والحيوانات العليا) فتحتوي على جنسين منفصلين: الإناث والذكور، كل منهما مستقل.
وبدهي أن الحي الذي يَنتُج عن تلاقح فردين مختلفين عانى كل منهما ظروفًا وكابد تجارب لم يعلنها الآخر، يحصل على امتيازات لا يحصل عليها ذلك الذي نشأ من فرد واحد؛ فالأول يولد وبه قبول للاختلاف والتغاير، ويكون حاصلًا على كفايات تجعله أسرع في التطور.
فهذا هو معنى ظهور الجنسين في الحيوانات والنباتات العليا، فإذا التقى حي نشأ من فردين بحي آخر نشأ من فرد واحد تغلَّب الأول على الثاني في تنازع البقاء؛ لأنه أكفأ منه وأميز؛ لحصوله على كفايات اثنين، في حين أن ذاك لم يحصل إلا على كفايات فرد واحد.
وهنا يجب أن نقف هنيهة لنرى صفات الأنثى والذكر في الحيوان وأثرهما في التطور؛ فصفات الأنثى هي صفات البيضة، وهي الركود والبطء في الحركة، أما صفات الذكر فهي صفات الجرثومة المنوية، وهي النشاط والانبعاث والطلب؛ فذكورة الحيوان نشيطة خفيفة عادية، أما الإناث فراكدة بطيئة مستكينة، ولعل الأصل في ذلك أن البيضة أكبر من الجرثومة المنوية، فمن الاقتصاد أن تتحرك الجرثومة وتبقى البيضة في مكانها تتلقاها.
ومما هو ذو دلالة في معنى التناسل، أن بعض الأحياء تموت أو تُقتل عند ظهور نسلها؛ فالقمح والذرة يموتان بظهور الحَب، وبعض الحيوانات لا يخرج منها بيضها إلا بعد تمزيق بطنها، فتموت الأم على الأثر، وأنثى العنكبوت وأنثى العقرب كلتاهما تأكل الذكر بعد أن ينتهي من التلقيح، وهذا يتسق والنظرية التي ذكرناها في أول هذا الفصل، وهي أن التناسل ضرب من النمو يقصد به تخليد النوع، فما دام النوع قد ضُمن بقاؤه بظهور النسل لم يعد من المهم بقاء الأبوين أو أحدهما إلا حيث تقتضي العناية بالنسل وجودهما.
بل ربما يكون موت الأبوين ضرورة يقتضيها بقاء النوع؛ لأنه ليس من مصلحة النسل الجديد أن يزاحمه على الغذاء الجيل السابق؛ لأنه يقتله — عندئذ — ويحرمه غذاءه، في حين أن ظهور النسل الجديد وبقاءه أنفع للنوع من بقاء الجيل السابق وأقبل للتطور منه، فمن مصلحته ألَّا يجد ما يزاحمه على البقاء وهو بعدُ في الطفولة.
وهذا هو معنى الموت وفائدته الكبرى لجميع الأحياء العليا؛ فالموت عامل من عوامل الحياة، والأحياء الدنيا لا تعرف الموت للآن؛ فالأميبة والنقاعيات خالدة، ولكننا نحن نموت لأننا أرقى منها، فإن نظرية التطور تقول بأن الجيل الجديد يَفضُل الجيل السابق؛ فأولادنا أفضل منا، فليس من مصلحتهم أن نعيش معهم ونزاحمهم على العيش، بل المصلحة أن نخلي لهم الميدان، وهذا ما تقوله وتفعله سائر الحيوانات العليا.
ولينظر القارئ كيف يلقي أكثر السمك وجميع القشريات والحيوانات الرخوة والشائكة والجوفاء بيضها في الماء ولا تُعنى به، ثم كيف تتدرج العناية إلى أن تبلغ أقصاها في الإنسان، وأن هذه العناية لا تزال ناقصة في بعض الحيوانات العليا؛ إذ إن الأم تأكل أحيانًا بعض أولادها، ومما هو ذو دلالة ويومئ إلى ذكرى قديمة سيئة أن الكلبة والذئبة كلتيهما تطرد الذكر من الدخول على جرائها؛ فالغريزة الأبوية لم تكمُل للآن في الذئب أو الكلب.
والغريزة الجنسية لم تبلغ نهايتها، والحيوانات جميعها في تطور مستمر.
وإلى التناسل، أو بالأحرى إلى شهوة التناسل، يُعزى الصوت وما تلاه من اللغة في الإنسان؛ فإن غاية الصوت الأولى النداء للأنثى، وذكران الطيور لا تغنِّي إلا رغبة في اجتذاب الأنثى إليها.
ثم إلى التناسل قد تُعزى ألوان الطيور وريشها المختلف الزاهي؛ فإن الأنثى تنتخب الذكر الذي يتطوَّس فتُعجب بريشه وصوته، ومَن رأى الدندي وهو يرفُّ ويتبختر أمام أنثاه، أو رآه وهو يقاتل دنديًّا آخر لأجل الأنثى، عرف قيمة الانتخاب الجنسي.
وهذا الانتخاب الجنسي كثيرًا ما كان عاملًا في إبادة الضعيف وبقاء القوي الذي استطاع أن يهزم خصومه من الذكور ويستأثر بالإناث، فلا تلد إلا من بذرته نسلًا يخرج على غراره حاصلًا على قوته وميزاته.