تنازع البقاء
ليس شيء يزيد بصيرة القارئ نفاذًا في الطبيعة، ويجعله يدرك قيمة نظرية التطور ويشرب مبادئها، مثل أن يفهم تنازع البقاء؛ فالقارئ يفهم لأول وهلة من هذه العبارة أن الأحياء تتنازع البقاء على الحياة، وهذا هو معناها على الحقيقة، ولكن معناها على المجاز أوسع وأكثر عملًا في الطبيعة.
قال داروين: «إني أستعمل عبارة تنازع البقاء لمعنى مجازي واسع يدخل فيه توقف حياة فرد على آخر، وأيضًا — وهو الأهم — تمكين الفرد من أن يختلف نسلًا».
فليس تنازع البقاء كفاحًا عضليًّا يمتاز فيه القوي من فردين متنازعين فقط، بل هو أيضًا جملة كفايات أخرى كثيرًا ما تكون غامضة ضئيلة القيمة، ولكنها تُظهر الحاصل عليها على خصمه، وقد لا يكون خصمه فردًا مثله، بل قد يكون هذا الخصم حَرًّا شديدًا، أو جفافًا، أو قحطًا، أو مرضًا، أو قد لا يكون التنازع بينه وبين حيوان آخر مباشرة، بل قد يكون بين حيوانين أو نباتين، حياته هو متوقفة على أحدهما، بحيث يبلغه صدى المعركة بينهما، وينفعه أو يضره.
- (١)
أن نسل الأحياء كثير جدًّا، لا يمكن أن تستوعبه بحار العالم ويابسته؛ لأن العالم محدود والنسل غير محدود.
- (٢)
إن كل فرد يولد في هذا العالم يختلف عن غيره، وهذا الاختلاف إما أنه — في مزاحمته لغيره على البقاء — يضرُّه ويؤدي إلى فنائه، وإما أنه ينفعه ويؤدي إلى بقائه.
- (٣)
تتراكم على مدى السنين تلك الميزات الصغيرة التي تميز الأفراد الناجحة في الحياة، ويرثها أبناؤها منها، بحيث إذا مضى مليون عام — مثلًا — صار الفرد الأخير كثير الاختلاف عن الجد الأول، حتى يصير كل منهما نوعًا قائمًا برأسه.
وكل حي في العالم — كما قال «هكسلي» — أشبه شيء بالدوامة؛ تراها في الماء وكأنها ساكنة، ولكنها في الحقيقة متحركة، تتبدل أجزاؤها دقيقة بعد أخرى؛ فالحي متوقف على حال الوسط الذي حوله، وكذلك النوع، وكلاهما يتأثر بهذا الوسط بما فيه من جوٍّ وطعام وأعداء وغير ذلك، فليس يتفق فردان كما لا تتفق سلالتان؛ لأن كل فرد ينزع نزعة خاصة به كما هي طبيعة كل حي، ولأنه لا يوجد وسطان يتفقان في كل شيء؛ فاختلاف الوسط يؤدي إلى اختلاف الحي الذي يعيش فيه.
وقد تساءل جوتيه: «لماذا يجهد الناس ويتألمون؟» وأجاب على ذلك بقوله: «لأنهم يرغبون في الحصول على الطعام وعلى الأولاد، كما يرغبون في إحسان تربيتهم بقدر إمكانهم».
وما قاله جوتيه عن الإنسان يصدُق على كل حي آخر؛ فجميع الأحياء تتنازع على الطعام وعلى إنسال النسل، تفعل ذلك على وجدان منها؛ كما هو الحال في الإنسان، أو على غير وجدان منها؛ كما هو الحال في النبات وكثير من الحيوان.
ولننظر الآن في مقدار تناسل الحيوان، فكل من وقف منا في حقل من حقولنا ورأي مقدار لقاح النخل، أو مقدار لقاح الذرة الذي ينتشر من طرفه الأعلى ويغطي الأرض تحته، أو رأى مقدار سر السمك؛ أي بيضه، وأن كل واحدة من هذا البيض كان مقدَّرًا لها أن تصير سمكة، يعرف مقدار حرص الطبيعة على نشر النسل وإسرافها في ذلك.
وكل من عانى مقاتلة البَق في حيطان منزله، أو الذباب أو الصراصير، يعرف مبلغ ما يلاقي من العنت في ذلك؛ لكثرة تناسل هذه الحشرات، ومن رأى منا كيف تنتشر حشرة المَن في أوراق القطن، وكيف تملأ حقلًا واسعًا في عدة أيام، يدرك شيئًا من هذا الإسراف في النسل الذي يكابد شرَّه الفلاحون حين يسمُّون الإصابة بهذا المَن «الندوة العسلية».
ذكر «وولاس» عشبة تُنتج كل عام من البذر ثلاثة أرباع مليون بذرة، وقدَّر أنه لو عاش هذا النسل ثلاث سنوات فقط، وأعقبت كل بذرة في هذه المدة، لما بقي مكان في اليابسة غير مغطى بها، وقد حسب أنه إذا كان نبات ما يُنتج حبتين اثنتين في السنة، ويستمر النسل على الإنتاج، لبلغ عدد نباتاته في السنة الحادية والعشرين ١٤٨٥٧٦.
ومن الأحياء الصغيرة ما إذا استمر على التكاثر مدة خمسة أيام فقط دون أن يمنعه مانع لملأ المحيط بنسله إلى عمق ميل، وميكروب الكوليرا الذي يتضاعف كل عشرين دقيقة لو مضى عليه يوم واحد وهو يسير بهذا المعدل بلا عائق لبلغ وزنه ٧٣٦٦ طنًّا، وبلغ عدده رقم خمسة وإلى يمينه ٢١ صفرًا.
والفيل معروف بأنه أبطأ الحيوان تناسلًا؛ فإنه لا يلد إلا مرة واحدة في كل عشرين سنة، ومع ذلك فقد حسب داروين أنه إذا استمر التناسل بدون عائق على هذا المعدل لبلغ نسل زوجين بعد ٧٥ سنة نحو ١٩ مليون فيل، وكثيرًا ما نلمح شيئًا من هذا الإسراف في النسل عندما تهجم على بلادنا أرجال الجراد؛ فالجراد يأكل كل ما يقابله، فإذا تجرَّدت الطبيعة أمامه عاد بعضه وأكل بعضه.
وسمكة الكد — الذي نشرب أحيانًا زيته لتقوية الجسم — تبيض في العام مليوني بيضة، فلو تفقَّأت هذه كلها عن سمك لصار البحر كتلة جامدة منه، ومن المحار ما تبيض الواحدة ستين مليون بيضة، فاحسب مقدار هذا النسل بعد عام أو عامين، فإنه يزيد — عندئذ — على الكرة الأرضية.
وهذا الذباب الذي نراه في بلادنا، تبيض الأنثى فيه نحو خمس أو ست مرات، في كل مرة من ١٠٠ إلى ١٥٠ بيضة، فلو نشأت كلها وعاشت وأَنْسَلَت لما عاش شيء إلى جانبها في مصر.
فكثرة النسل هذه داعية إلى الانتخاب الطبيعي؛ لأن كل فرد من هذا النسل يختلف عن غيره اختلافًا صغيرًا أو كبيرًا، وما دام العالم لا يسع هذا النسل كله ولا يكفيه طعامًا، فإنه لا يبقى سوى القادر على البقاء.
فعندما يشتد الجفاف — مثلًا — وتطول مدته يموت أكثر الذباب، إلا أفرادًا قلائل تستطيع مقاومة الجفاف مدة أطول من غيرها، وقد لا تكون هذه المدة سوى دقيقة واحدة، أو يكون بقاؤها عائدًا إلى أنها تأكل غيرها، أو إلى أنها تستطيع هضم المادة الجافة أكثر من غيرها، أو إلى أن حرارة الشمس لا تفعل في غيرها، وهلم جرًّا.
وقد يكون بقاء بعض النباتات راجعًا إلى أنه أوسع حيلة من غيره على نشر نوعه؛ كأن يكون للبذرة نسيج يجعل الريح تحملها، كما هو الحال في القطن، فالبذور تتسابق إلى أن تحملها الريح حتى تقع بعيدًا عن أمهاتها، فبعضها لا يكون نسيجه خفيفًا فيقع تحت أمه ويموت، وبعضها تحمله الريح ويقع في الماء أو الصحراء فيموت أيضًا، وبعضها يَعلَق بالأشجار فلا يقع على الأرض، وبعد كل هذا تبقى بذرة يقدَّر لها النجاح فتقع حيث تنبت. هذا إذا فرضنا أن القطن يعيش في حالته البرية، أما الآن فإنه في رعاية الإنسان لا رعاية الطبيعة.
وتنازع البقاء قانون شامل عامل كل يوم في إبادة بعض الأحياء وإبقاء بعضها، وذلك الذي يبقى إنما يوفَّق إلى ذلك لميزة فيه تدل على ارتقائه على غيره؛ ولذلك فنظرية التطور كانت تدعى عندنا منذ مدة قريبة نظرية «النشوء والارتقاء»؛ لأن الحي يرتقي كلما صعد في سلم التطور، ولكن «الارتقاء» كلمة ذات معانٍ إنسانية قلَّما تتفق وتطوُّر الحيوان أو النبات؛ فالنعجة في نظرنا مرتقية على النعاج البرية؛ لأنها سمينة، ولكنها في اعتبار الطبيعة منحطة؛ لأنها تعجز عن دفع العدو. والحلقيات؛ كالديدان التي تعيش في أمعائنا، لا يمكن أن نقول إنها مرتقية أو منحطة، فقد فقدت قناتها الهضمية، ولكنها صارت تهضم بجلدها. والخَلْد فَقَدَ تقريبًا قوة البصر؛ لأنه يعيش عيشة سرِّية في نافقاء تحت الأرض، ولكنه يعرف كيف يحفر النافقاء ويحتمي بها ويخرج في الليل، وأيضًا فقدَ ذَنَبه وإبهام يده، فهل هو ارتقى أو انحط؟
لهذا السبب نفضِّل استعمال كلمة «تطور»؛ أي الانتقال من طور إلى طور، على استعمال كلمتي نشوء وارتقاء.
وقد كان أحد الكتَّاب يقول للبرهنة على أن قانون تنازع البقاء يتمشَّى صارمًا قاسيًا بين الأحياء، ينفي منها وينقِّي: «إن الطبيعة حمراء بين الناب والمخلب».
وهذا حق؛ لأنه لولا ذلك لتكدس العالم بالأحياء حتى لا يبقى مكان لمولود جديد؛ فالأسد يقاتل الأسود من أبناء نوعه على الأنثى وعلى المكان، ويقاتل الغزلان والجواميس والأبقار كي يأكلها، ويقاتل الأمراض التي تنتشر بينه، ويقاتل الوسط الذي يعيش فيه، إذا كان الوسط يُفشِيه في الهيئة أو الرائحة.
وكذلك الحال في سائر الحيوان، ومما يدلك على شدة هذا النزاع أنه أُنشئ من مدة قريبة حرم لبعض الطيور في إنجلترا، ومنعت عنها جوارح الطير كالصقر والعقاب وغيرهما، فلم تمضِ مدة حتى فشت الأمراض بين هذه الطيور، واجتاحت عددًا منها … وما ذلك إلا لأن هذا الحرم قد حمى ضعاف الطير وما به قبول للأمراض من الوقوع فريسة للجوارح، فانتشر الضعف بين الطيور، وتفشَّت فيها الأمراض.
فالضعف على أشكاله المختلفة يتفشَّى كل يوم بين الحيوانات، فتموت الأفراد التي يتفشَّى بينها، ولا تبقى سوى الأفراد القوية، ومن هنا ندرك السبب في كثرة الأمراض التي نراها في الحيوان والنبات المدجنين، وقلَّتها في الحيوان والنبات البريَّيْن.
ويمكننا أن نتصور الصراع الهائل بين الأحياء عندما نرى الوسائل التي يتخذها بعضها للعيش، على ما فيها من مشقة مبايَنةٍ الوسط لها.
فالسرطان، هذا الحيوان البحري الضعيف، قد اضطره تنازع البقاء إلى ترك البحر والصعود إلى قمم الجبال، وإلى تسلق الأشجار، والزواحف اضطرت إلى الطيران في الهواء، بل اللبونات نفسها؛ كالخفاش، اضطرت إلى الطيران واعتلاء الهواء، كما نزل بعضها؛ كالدُلفين، إلى البحر، وأحال يديه إلى زعانف، وبعض الأسماك نزلت إلى قعر البحر على عمق خمسة كيلو مترات، وتحمَّلت ضغط الماء العظيم، وصارت تعيش مما يتساقط إليها من حُطامة الأحياء.
وقد لا يكون التنازع مباشرًا — كما قلنا — وإنما يبلغ صداه الحي فيؤثِّر فيه؛ فقد ضرب داروين مثلًا عن علاقة البرسيم بالقطط، وقال إنه يكثر إذا كثرت القطط؛ لأن القطط تأكل الجرذان، فلو انقرضت لأكلت الجرذان حقولنا، وخير طريقة نزيل بها الثعابين من المنازل أن نقتل ما فيها من جرذان؛ فالتنازع بيننا وبين الثعابين ليس مباشرًا، وإنما يبلغها صداه بقتل الجرذان.
ونحن نقاتل جراثيم الملاريا ونمنع نموها بقتل البعوض الذي تعيش في جسمه، وديدان البلهارسيا لا بد أن تقضي مدة من حياتها في جسم قوقعة تعيش في قنواتنا، فلو أبيدت هذه القواقع لبادت هي أيضًا، والدودة الوحيدة التي نصاب بها أحيانًا لا تعيش في أمعائنا إلا إذا عاشت قبلًا في لحم البقر، فإذا انقرض البقر انقرضت هي أيضًا.
ومعنى كل هذا أن تنازع البقاء لا يشترط فيه أن يكون كفاحًا مباشرًا بين اثنين، بل قد يكون سلسلة طويلة، حيث تتوقف حياة نوع على جملة أنواع أخرى.
ثم قد يكون تنازع البقاء دقيقًا غامضًا يتوقف على أشياء صغيرة لا نأبه لها، فإننا نعرف — مثلًا — أن الإنكليز متغلبون على الهنود، فنتوهم من ذلك أن هذا تنازع بقاء قد فاز فيه الإنكليز وانهزم الهنود، ولكن الهندي يعيش الآن بحفنة من الذرة، والإنجليزي يحتاج إلى كميات كبيرة من الطعام لكي يتغذى منها جسمه، فلو حدث فجأة قحط وأصاب الاثنين لفاز الهندي؛ فإن قناته الهضمية قد ضربت على الطعام الجَشِب الحقير، وصارت كل ما فيه من غذاء، بخلاف الحال في الإنكليزي.
وقد نرى القطن والحَسَك فنظن أن القطن أرقى منه، يمكنه أن يتغلب عليه، وليس هذا هو الواقع؛ فإن الحسك يعيش في الصحراء في تربة رديئة مع قلة ماء، فتمتد جذوره بعيدة إلى حيث الرطوبة، فيقاوم بذلك جفاف الرمل وسخونته وحر الشمس، أما القطن فلا يمكنه أن يفعل ذلك، ولو قل الماء لمات القطن وعاش الحسك.
فتنازع البقاء هذا هو علة ظهور السلالات الجديدة ثم الأنواع الجديدة، فهو يستغل كل اختلاف في الفرد ليجعله سبيل بقائه أو هلاكه، والهلاك أكثر من البقاء؛ لأنه لا يتفوق إلا الأقلُّون.
وقد كانت تغيرات المناخ وظهور العصور الجليدية داعية إلى انقراض عدد هائل من الحيوان؛ مثل الزواحف الكبرى في اليابسة، ومحار الأمونيت في المياه.
ولكن، مع كل هذا الذي قلنا عن التنازع، يجب ألَّا ننسى أن التعاون بين الأحياء يؤدي في أحيان كثيرة ما يؤديه التنازع، بل ربما لا يقل عنه في تطور الأحياء.