التطور في الحيوان
ربما كان أحب إلى القارئ أن نذكر خلاصة التطور بأسلوب قصصي قليل التدليلات والجدليات، فإن التدليل والجدل، مع ما فيهما من الإبانة لبعض أركان التطور، يشوِّشان القصة باعتبارها عرضًا كاملًا للأحياء من بدء ظهور الإنسان.
فإن قشرة الأرض عندما بردت وصار بخارها يتكاثف وينعقد مطرًا وينزل سيولًا، لم يكن بها هذه المحيطات الواسعة من الماء، وإنما كان الماء متفرقًا في عدة أنحاء منها بهيئة البرك والبحيرات، وكانت الأمطار كثيرة والسيول دائمة، والمياه في حركة متواصلة تغمر بعض الأمكنة أحيانًا ثم تنحسر عنها أحيانًا أخرى؛ لشدة التبخر وتفلُّق الصخور.
وظهر الحي الأول خلية واحدة في الضحاضح، حيث ضوء الشمس وأملاح الطين التي يتألف منها صلصال لزج يشبه المادة البروتينية (مثل زلال البيض)، وما زلنا نحن للآن نبدأ حياتنا خلية واحدة، ثم مضت أزمنة طويلة؛ لأن الخلية الأولى كانت بطيئة التطور، ثم ظهرت الحيوانات المركبة؛ مثل الإسفنج.
وقد كان ظهور هذه الحيوانات تقدمًا بنوع ما؛ لأنه أوجد «جسمًا» مركبًا للحيوان، مؤلَّفًا من عدة خلايا متصلة، وإن لم يكن به شيء من التخصص بعد، إلا إذا اعتبرنا «الأهداب» التي تنمو على حافات خلايا الإسفنج نوعًا من التخصص؛ فإنها تتحرك وتُحدِث تيارًا في الماء حتى يدخل الغذاء إلى جوف الإسفنج، ولا يزال في عيوننا وآذاننا وقصبة رئتنا ودماغنا مثل هذه الأهداب تذكِّرنا بهذا النسب القديم، أما فيما عدا ذلك فالإسفنج مثل الخلية الأولى، بل كان يُذكر قديمًا معها قسمًا واحدًا بلا تمييز.
ثم ظهرت الحيوانات الجوفاء؛ مثل المرجان والقنديل، وهي ذات طبقتين من الخلايا تحتويان على كيس أجوف، ومضت أيضًا مدة متطاولة على العالم وليس فيه من الحيوان سوى الخلية المفردة والإسفنج وهذه «الجوفاء» من الحيوان؛ لأن التطور — كما قلنا — كان بطيئًا في الدهور القديمة.
وقد قلنا إن الأحياء الأولى نشأت في الضحاضح، فكان ينحسر عنها الماء فتتعرض للشمس فتجف وتموت، كما نرى الآن القنديل ميتًا على شواطئ الإسكندرية؛ لأن مادة الحيوانات كانت هلامية سريعة الجفاف إذا زال عنها الماء.
فظهرت لهذا السبب الحيوانات «الشائكة»، وظهورها يعتبر خطوة مهمة في التطور؛ لأنها حصلت على بشرة جامدة بعض الجمود، إذا انحسر عنها الماء لم تجف، بل تبقى حية مدة غير قصيرة، حتى إذا عاد الماء انتعشت، وكانت تمتاز على ما سبقها أيضًا بأن لها قناة هضمية، هي الترسيم البدائي لقناتنا نحن، داخل جوفها، ونرى فيها أيضًا مصاصات يحاول هذا الحيوان الأول أن يتحرك بها؛ وأمثلة هذه الحيوانات هي خيار البحر ونجمة البحر، وكلاهما يُرى على شواطئ الإسكندرية، وله بشرة شائكة.
وكان التقدم بطيئًا أيضًا، ثم ظهرت الحيوانات «الحَلَقية»؛ أي المؤلفة من حلقات، فأسرع التطور بعض السرعة؛ لأن الحيوانات التي ظهرت إلى هذا العهد لم يكن لها شكل متوازي الجانبين، وإنما كانت تنمو نموًّا اعتباطيًّا كما هو الحال في الإسفنج، أو كانت مستديرة كالقرص لها عدة أشعة كنجمة البحر.
فكان التقدم بطيئًا، بل قُل إنه كاد يقف؛ لأن الحيوان لم يكن له وجه يتجه به في حركته وتنشأ فيه حواسه وسائر أعضائه الملهمة؛ كالفم والأنف والعين، فلما ظهرت الحيوانات الحلقية؛ كالدود، حدث التخصص في عدة نواح من أجزاء الجسم، وأخذ الحيوان يخرج من الماء إلى اليابسة؛ من الدود نشأت القشريات والعناكب والحشرات؛ لأن كل هذه الحيوانات لا تزال إلى الآن ذات حلقات.
- (١)
أن تكون له بشرة جامدة بعض الجمود، تمنع تبخُّر المياه التي في جسمه عند التعرض للريح والشمس وقت انحسار الماء عنه.
- (٢)
أن يتجه بناحية واحدة من جسمه، وأن ينمو متوازيًا له جانبان.
- (٣)
أن تتخصص الوظائف في أعضائه، فلا يكون الجسم كله عينًا وأذنًا — مثلًا — وإنما يختص جزء منه بالعين وآخر بالأذن، وهلم جرًّا.
وهنا يجب أن نقف ونقول إن جميع الحيوانات لا تزال أحياء مائية وإن كانت تعيش في غير الماء؛ فجسم الإنسان — مثلًا — قد يزن ١٥٠ رطلًا كلها مغمورة في الماء، بل في الماء المالح، ماء البحر، وهو الدم، ما عدا رطلًا واحدًا تقريبًا هو المصنوعة منه البشرة التي تحمي هذا السائل، وكذا الحال في جميع الحيوانات؛ فإننا لما خرجنا إلى اليابسة لم نخرج قبل أن نصنع لأنفسنا بشرة جامدة تمنع تبخر الرطوبة المائية التي في داخل أجسامنا، وكانت الحيوانات «الشائكة» هي الأولى في محاولة ذلك.
وبعض الناس يظن أننا نستنشق الهواء، ولكن هذا خطأ؛ فإننا ما زلنا كما كنا أيام سكنانا البحار نستنشق الأكسجين من الماء؛ فإن الهواء يدخل إلى رئاتنا فيلتقي الدم به، ويذوب الهواء في الدم فتستخرج رئاتنا الأكسجين منه على نحو ما كنا نفعل ونحن نعيش كالسمك في الماء.
وكذلك طعامنا لا يُهضم إلا وهو سائل كالماء، فنحن لا نزال حيوانات مائية كما كنا منذ مئات الملايين من السنين، وليس لنا حيلة في اليابسة سوى هذه البشرة الجامدة التي تمنع تبخر رطوبتنا، ومما هو ذو دلالة أنه في حالة نزف كبير في الإنسان على أثر جرح — مثلًا — لا نزال نستعمل ماء البحر المصفى، أو الماء الملح، بدل الدم المفقود.
وابتدأ الحيوان في جهة واحدة وتوازت أعضاؤه في جانبين منذ ظهور الدود، وبهذا الاتجاه كثر التخصص فظهرت الحشرات والقشريات (كالجنبري) والعناكب. والجهاز العصبي في الدود يجري على طول الجسم، وله عقد، حيث تتجمع القوى العصبية في مكان ما، وهناك ما يشبه أن يكون رأسًا جامدًا، والقلب مستطيل، وبين القلب والجهاز العصبي تجري القناة الهضمية، أما التنفس فمن الجوانب.
ثم ظهرت الحشرات ولها دماغ، وبعض أدمغة الحشرات؛ مثل دماغ النملة، يقول فيه داروين: «إنه أعجب ذرة في العالم، بحيث قد يكون أعجب من دماغ الإنسان».
وبينما الأحياء، بظهور الديدان والقشريات، كانت تحاول الخروج إلى اليابسة كان يجري تطور آخر في البحر بظهور الحيوانات الرخوة؛ كالمحار، ولم يكن ظهور المحار تقدمًا إلا من حيث اعتبار بيئته هو وحده، أما من حيث اعتبار أغراض الحياة العليا، كما نفهمها من العرض العام لجميع الأحياء، فإنه كان تأخرًا؛ إذ إنه قد فقد أهم خطوة في التطور وهي الاتجاه، وتوازي الجانبين، فصار ينمو أحيانًا كالشجر؛ أحد جانبيه أكبر من الآخر، وفقد بعضه القلب والرأس ولصق بعضه بالأرض كالمرجان.
وأول الحيوانات التي نجد فيها تلميحًا إلى فَقَار الظهر هو حيوان الإسكيديان وحيوان الأمفيوكوس، وكلاهما مائي يعيش في البحار؛ فأولهما يشبه الزجاجة، له فم ومخرج، وبينهما حبل عصبي مستطيل هو الترسيم الأول للفقار، وهو ثابت في قعر البحر، وقد نشأ له جلد يشبه قشر الشجر.
أما الثاني فحيوان ضئيل لا يزيد على سبعة سنتيمترات، ولكنه طري ليس به شيء من العظم سوى غضروف في مكان فقارنا يمتد على طول جسمه، ووراء هذا الغضروف حبل عصبي، فهو بذلك أرقى من الإسكيديان، ولكن ليس له مخ أو قلب أو فقار أو عينان أو أذنان، ومما يدلنا على أن العظم كان في الأصل غضروفًا، أنه لا يزال كذلك في بعض الأسماك؛ فإن القرش، الذي يكثُر ويُصاد في البحر الأحمر، خلو من العظم، ليس له سوى فقار من الغضروف.
والحيوانات الفقرية نشأت في الأغلب من الحيوانات الرخوة كالأخطبوط، بعد أن تطور جسمها إلى اتجاه أمامي مع توازٍ جانبي، لا من الحيونات الحلقية كالديدان والحشرات.
وبظهور العمود الفقري خَطَت الحيوانات خطوة كبرى؛ لأن الحيوانات الحلقية لم يكن في مقدورها أن تنشر في الهواء والماء واليابسة؛ فالمحيطات الكبرى من الماء لا يسكنها سوى الأسماك والقيطس، ولكليهما فقار، والجبال والسهول تعيش فيها الفقريات أيضًا، حتى الهواء لا يمكن الحشرات الارتفاع فيه مثلما يرتفع العقاب، ولا يمكنها أن تهاجر على أجنحتها من قارة إلى قارة كما تفعل الطيور القواطع.
وبخروج الفقريات إلى اليابسة ظهرت الحيوانات البرمائية؛ أي التي تعيش في البر والبحر؛ مثل الضفادع، وهي تقضي طورًا من حياتها كالسمك لها خياشيم، وطورًا آخر كحيوان اليابسة وحيوان البحر، ثم ظهرت الزواحف وملأت العالم.
وعصر الزواحف يمثِّل القرون المظلمة في تاريخ الأحياء؛ فقد جاء وقت ملأت فيه هذه الزواحف العالم، فكان منها الصغير الذي في حجم السلحفاة الآن، وكان منها الكبير الذي يشبه العظاية (السحلية)، وكان حجمه يبلغ عشرة أضعاف حجم الفيل، وكان منها آكل العشب، وآكل اللحم، ومنها البرمائي، ومنها الخاص باليابسة.
ثم جاء وقت انقرضت فيه هذه الحيوانات إلا القليل جدًّا، وكان انقراضها فجائيًّا، مما يدل على أن سبب ذلك في الأرجح هو تغيُّر حدث في مناخ العالم، بظهور عصر جليدي نشر البرد فأباد هذه الحيوانات التي لم يكن لها صوف أو ريش يحيمها، كما أباد أيضًا أنواع الأمونيت (من المحار) التي كانت تعج بها البحار في وقت الزواحف الكبرى.
ومن هذه الزواحف تفرَّع فرعان كبيران: أولهما الطيور، وثانيهما اللبونات التي ترضع أولادها.
فقد ورثت الزواحف عن الأسماك أربعة أطراف؛ هي الأيدي والأرجل، وكانت قبلًا زعانف، فصارت الأيدي أجنحة للطير، بل لقد نشأ قبل نشوء الطيور الراهنة طيور أخرى من الزواحف كانت تطير بلا ريش، وإنما أطرافها متصلة بأغشية على نحو ما نرى في الخفاش، وقد انقرضت ولا علاقة لها بطيورنا الحاضرة.
ففي أستراليا — مثلًا — حيوان يدعى الأخدنة، له خرطوم يلتقط به النمل ويأكله، وليس لهذا الحيوان ضرع أو ثدي، وإنما كل ما له أنه عندما يبيض (وهو لا يلد) يتشقَّق بطنه وتخرج منه مادة زيتية تشبه زيت الشعر فيلحسها أولاده، ثم يشترك هذا الحيوان والزواحف في أن له مخرجًا واحدًا يتبرز ويبول منه معًا.