حواس الحيوان وعقله
الدماغ والحواس كلاهما نشأ لتدبير مصالح جسم الحيوان، والحواس تتفاوت دقة بين حيوان وآخر، وبعض الحيوان يعتمد على إحدى حواسه دون الأخرى التي يعتمد عليها غيره.
والدماغ والحواس كلاهما أداة للعقل أو الغريزة، والعالم الحيواني ينقسم شطرين؛ بعضه جُلُّ اعتماده في حياته على غريزته، كما هو الحال في الحشرات وما دونها من الأحياء، وبعضه جُلُّ اعتماده على العقل؛ أي الرؤية والتدبر واكتساب الخبرة والتجربة، وهذا هو الحال في الإنسان، ولكن أعمال الغريزة والعقل تتداخل؛ فالطفل الإنساني يرضع أمه بغريزته، والرجل منا يغضب بغريزته، والحشرة إذا عاقها عائق في سيرها ظهر في سلوكها ما يقارب الرويَّة والتدبر.
ولكن يمكن أن نقول على وجه الإجمال إن الدماغ الصغير هو دماغ الغريزة، والدماغ الكبير هو دماغ العقل، وهذا هو ما يمكن استنتاجه بالاستقراء؛ فكلما زاد جرم الدماغ اتجهت أعماله نحو الرويَّة والتدبر؛ أي العقل، وخلصت من الغريزة، فأدمغة الحشرات والقشريات والعناكب؛ أي الحيوانات المفصلية، قليلة الجرم، ولذلك يبدو على أعمالها كأنها كلها غريزية، والحال كذلك في ما هو دون هذه الحيوانات، ثم يكبر الدماغ في الأسماك، ويتدرج في الكبر في الحيوانات البرمائية؛ (أي التي تعيش في البر والبحر كالضفدع)، ثم الزواحف، ثم الطيور، ثم اللبونات؛ (أي التي ترضع أطفالها)، إلى أن يبلغ أكبر جرمه في القِرَدة العليا والإنسان، وبنسبة كبر الدماغ يكون تغلُّب العقل على الغريزة.
والبحث عن تطور العقل ينتهي بالطبع إلى البحث عن تطور أداتيه؛ وهما الحواس والدماغ، وما دام الغرض من العقل أو الغريزة هو تدبير مصالح الجسم والمحافظة عليه، فالبحث في تطور الحواس الخمس ودِقَّتها وتركُّزها في الحيوان هو سبيلنا إلى معرفة تطور الدماغ؛ لأن هذه الحواس هي بمثابة النوافذ التي يطل منها العقل على العالم، أو هي السفير الذي ينقل رسالة العالم إلى الفرد، فهي وسيلة التعارف بين الحي ووسطه.
ويمكننا أن نعقل أن الحواس الخمس، بل أكثر من الحواس الخمس، كان موجودًا في الخلية الحيوانية الأولى بشكل مبهم منتشر، لم تتخصص كل حاسة بمكان، ويمكننا أيضًا أن نتصور أن الأثر الذهني الذي يحصل للأحياء الدنيا من هذه الحواس يشبه على وجهٍ ذلك الأثر الذهني الذي يحصل لنا عندما ننظر في مكان مضيء ثم نغمض عينينا، فتبقى صورته مدة ما بعد إغماض العينين، وهذا هو أول الذاكرة التي هي أصل العقل والغريزة.
وابتدأ ظهور الحواس على سطح الجسم، ولا يزال منها ثلاث على سطح جسم الإنسان؛ وهي اللمس والنظر والسمع، ولكن يجب ألَّا ننسى أن الذوق نشأ على سطح الجسم، ولا يزال بعض الأسماك يذوق الأشياء بسطحه، والفم هو جزء من البشرة الخارجية ينمو معها؛ أي إنه ليس جزءًا من القناة الهضمية نما حتى وصل إلى البشرة الخارجية، بل هو عكس ذلك جزء من القشرة الخارجية نما ودخل في الجسم حتى وصل إلى القناة الهضمية.
ونجد دليل ذلك القرش، وهو سمكة غضروفية كبيرة (ليس بها عظم، وإنما بها غضروف، وتكثُر في البحر الأحمر)، فإن تركيب أسنان هذا الحيوان هو نفسه تركيب فلوسه؛ أي حراشفه التي تنشأ وهو جنين على بشرته الخارجية؛ أي إن فمه ليس سوى امتداد بشرته إلى داخله.
وبدهي أن الصور الذهنية التي تنشأ عن بعض الحواس تكون دون تلك التي تنشأ عن بعض الحواس الأخرى في مقدار تصوير العالم الخارجي على ما يشبه حقيقته؛ فالعين — مثلًا — تصوِّر العالم الخارجي للذهن بأدق وأوسع مما يصوره الأنف، وكذلك الأذن تصوره أكثر مما يصوره اللمس؛ ولذلك نجد الحيوانات التي دقَّ سمعها وارتقت عيونها؛ مثل الإنسان والقرد، أرقى جميع الحيوانات في العالم.
وأول ما نرى دلائل العقل؛ (أي الرويَّة والتدبر واكتساب التجارب) واضحة في السمك؛ فإن بعضها يحاور الشَّصَّ وبعضها يتوقاه، وللسمك عيون لا تغمض، لا يُعرف مقدار رؤيته بها، وله أذنان يسمع بهما، بدليل أنه يمكن تعويده الحضور للطعام بدق ناقوس، ولكن وظيفة الأذنين في السمك تتصل بمهمة التوازن في السباحة أكثر مما تتصل بمهمة السمع، والسمك — كما قلنا — يذوق أحيانًا بجلده.
ويلي السمك في كبر الدماغ وفي دقة الحواس، الحيوانات البرمائية؛ كالضفدع، وهي تجيد النظر، بدليل أن لسانها يخطف الذبابة فلا يخطئ، ويمكن الضفدع أن تميز بين اللون الأحمر والأبيض، ومن غريب حواسها أنها تشعر بالضوء في أي مكان من جلدها، ومعنى هذا أنها لا تزال تحتفظ بالإحساس بالضوء كما كانت تفعل الحيوانات قبل تركُّز هذا الإحساس في العين.
والزواحف؛ كالثعابين والسلاحف، أكبر دماغًا وأدق حواسَّ؛ إذ هي يمكن تربيتها حتى تميز صاحبها من غيره من الناس وتلبي نداءه، وهي تخرج إلى مسافات بعيدة، وتعود إلى عشها مهتدية بذاكرتها مع التواء الطريق وتشعبها، وكلنا يعرف أن الثعبان يلتذُّ الصفير والغناء والموسيقى، وهذا برهان على دقة آذان الزواحف.
ويلي الزواحف الطيور، وهي تتفاوت في جرم الدماغ ودقة النظر، وأهم حواس الطيور هي عيونها التي تُشرِف بها على الأرض، حتى النسر لا يهتدي إلى الجيفة بأنفه، بل بعينيه التلسكوبيتين العظيمتين، وهي تجيد السمع أيضًا بدليل استحسانها الغناء من ذكورها. والغناء عند بعضها سبيل الذكر إلى الأنثى، ولكنها مع ذلك سيئة التذوق؛ فالدجاجة تبلع حبة من الذرة من غير أن تذوقها، أو ربما كان ذوقها بها ضعيفًا جدًّا.
وجرم الدماغ — كما قلنا — يتفاوت فيها؛ فللغراب والببغاء والصقر والعقاب أدمغة كبيرة؛ ولذلك تسير كلها سيرة العقل المشوب بأدنى غريزة، في حين أن الحمام — مثلًا — صغير جرم الدماغ؛ ولذلك غريزته ظاهرة، يكفي دليلًا على قوتها وضعف عقله أنه إذا نقل الإنسان بيض الحمامة من مرقده وأبعده نحو عشرة سنتيمترات فقط لَما استطاعت الحمامة أن ترده إلى مكانه، بل تذهب إلى مرقده السابق وترقد.
ويلي الطيور في الرقي الذهني اللبونات، ومن اللبونات ما هو دون الطيور في ذلك، ولكن يمكن أن يقال بوجه الإجمال إنها أرقى من الطيور؛ فدماغها أكبر، وقبولها للتعليم والتجاؤها إلى الحيل دليل الرقي في عقلها، ولا شك في أن رأس اللبونات من حيث الرقي الذهني هو الإنسان والقردة العليا، ونظرة واحدة إلى أحط أنواع القردة تدلنا على تنبُّه عقلها؛ فالقرد دائم النشاط والتفزز والاستطلاع، فلست ترى قردًا صامتًا هادئًا كالكلب أو القط أو الثور.
•••
ربما خطَّأنا البعض في قولنا بتسلسل الإنسان من الحيوان لِعِظَم الفرق بيننا وبين الحيوان في القوى العقلية، ولا شك في أن الفرق عظيم حتى بين المتوحش الذي ليس في لغته غير ما يعبر عن أربعة أشياء وليس فيها اسم للمسميات المعنوية، وبين أعلى الحيوانات مثل القرد، وهذا الفرق لا يزال عظيمًا حتى لو استأنسنا القرد ودجناه مثلما دجنا الكلب؛ حيث جعلناه أذكى وأرقى من سلفه الذئب أو ابن آوى؛ فإن الفويجيين يُعدُّون من أحط الهمج، ومع ذلك كنت أدهش كلما رأيت الفويجيين الثلاثة الذين كانوا معنا ينظرون إلى الأشياء نظرنا ويرتأون رأينا فيها بعد أن أقاموا معنا قليلًا في إنجلترا.
ولكن مع ذلك يمكننا أن نبيِّن أن الاختلاف بين العقل الحيواني والعقل البشري غير أساسي كما نتوهم، ثم يجب أن نذكر أن الفرق بين أحط السمك وأعلى القرود في القوى العقلية أكبر وأعظم من الفرق بين القرد والإنسان، وهذا الفرق بين السمك والقِرَدة يتدرج في درجات لا يكاد يميزها الإنسان لدقتها، كما يتدرج الفرق بين الهمجي الذي ينفض ابنه على الصخر ويقتله لأنه أسقط سلة المحار، وبين رجل مثل نيوتن أو شكسبير.
وغرضي الآن أن أبين أنه ليس ثمة اختلاف أساسي بين القوى العقلية في الإنسان والحيوان.
أول ما يلفت نظر الباحث في هذا الموضوع هو مشابهة غرائزنا لغرائز الحيوانات؛ فالذكر منا يحب الأنثى، والأم تحب طفلها، مثل ما يفعل الحيوان. وصغار الحيوانات، حتى صغار النمل، تلعب مثل صغارنا، والخوف يفعل بالحيوان مثل ما يفعل بنا، فيقف شعره وترتخي عضلاته ويرتجف جسمه، والحيوانات تحقد ويلذ لها الانتقام مثلنا، وقد شوهد أن إناث القردة تموت جزعًا عند فقدان أطفالها، وأن الكلب يلحس يد صاحبه وهو يقتله، مما يدل على أن عواطف الحب والأمانة شديدة في الحيوانات.
وإناث القردة تتبنَّى اليتامى من نوعها وترضعها وتربيها، والغيرة مشاهدة بين الحيوانات، كما أنها تشعر بالحياء والتواضع والعظمة، فتجد الكلب الكبير يهزأ بنباح الكلاب الصغيرة، كأنه يترفع عن قتالها، وقد حقق الباحثون أن القردة تكره من يضحك منها أو يهزأ بها، ورأيت بنفسي قردًا كاد يجن من الغيظ عندما كان حارسه يقرأ أمامه خطابًا، وبلغ به الغيظ مرة أنه عض ساقه حتى أدماها، والكلب يفهم الفكاهة ويمازح صاحبه، فإذا أُلقيت إليه عصًا كي يأتي إليك بها قعد بعيدًا عنك وهي معه، فإذا دنوت منه جرى منك وقعد، وهكذا، كأنه يتلذذ بالمزاح معك.
هذه لمحة من غرائز الحيوانات يراها القارئ تماثل غرائزنا، ولنتكلم الآن عن تلك الشهوات العقلية العليا كي نرى إن كانت الحيوانات تماثلنا فيها؛ فالحيوانات تتعجَّب من الأشياء الغريبة، وتتطلع إليها كأنها تريد أن تتعرفها مثلنا، وبعض الصيادين يلعبون أمام الغزلان ألعابًا غريبة تستوقف أنظارها، فيصيدونها وهي لاهية بالتطلع إليهم، والقِرَدة تخاف الأفاعي، ولكن الاستطلاع مع ذلك يدفعها إلى الدنو من صندوق الأفاعي، فكانت تقترب مع خوفها، فتفتح غطاءه وهي ترتجف، وتطل عليها ثم تهرب.
وقد جربت تجربة من هذا النوع، فأتيت بثعبان صناعي ووضعته بينها، فاصطفَّت حواليه وجعلت تحدِّق فيه، وتوترت أعصابها في هذه اللحظة لدرجة مضحكة، فقد وقعت مصادفة كرة فقفزت صارخة إلى أعلى القفص، كأنها حسبت أن الثعبان تحرك إليها.
والإنسان؛ خصوصًا المتوحش منه، يحب التقليد، وكذلك الحيوانات العليا كالقِرَدة، وصغار الحيوانات تتعلم أكثر ما تحتاج إليه من أمهاتها بالتقليد، والانتباه والذاكرة ظاهران في الحيوان؛ فالقط يقعد طويلًا عند جحر الفأر منتظرًا خروجه وافتراسه، والكلب يتذكَّر صاحبه بعد غيابه السنين.
والتصوُّر، وهو تخيل الأشياء الغائبة، موجودة عند الحيوان، بدليل أنها تحلم، والكلب عند إهلاله؛ أي عندما يصيح ذلك الصياح بين النباح والأنين في ظلمة الليل، يتخيل أشياء تثير أشجانه.
والعقل من الصفات الإنسانية، ومع ذلك فالعلماء على رأي واحد الآن في أن أكثر الحيوانات العليا تعقل، وكلما تقدم البحث ظهر أن أكثر الأفعال التي تأتيها الحيوانات، وكانت تُظن قبلًا أنها نتيجة الغرائز، إنما هي نتيجة التقليد العقلي؛ فقد رأيت فيلًا كان إذا رأى شيئًا يَقصُر عنه خرطومه وأراد أن يتناوله مد خرطومه فوق هذا الشيء ونفخ، بحيث إن تيار الهواء الذي ينفخه يلتقي بالأرض فيتفرق ويدفع إلى ناحية الفيل هذا الشيء، ورأيت دبًّا كان في حوض مملوء بالماء، فكان إذا رأى لقمة بعيدة عنه أحدث تيارًا بيده في الماء فتصل إليه اللقمة؛ فهذه الأعمال تدل على عقل.
وذكر «ونجر» أنه كان يعطي القردة بيضًا لتأكله، فكانت أول ما عرفته تسحقه سحقًا، فكان يضيع أكثر ما فيه على الأرض، ولكنها تعلمت بالاختبار بعد ذلك ألَّا تكسره إلا بالتؤدة وتقشره بأظافرها، وكان يعطيها قطع السكر ملفوفة فتسرع في أكلها، فوضع مرة زنبورًا في الورق فكانت لا تفتح الورق من هذا الوقت إلا بعد أن تضعه على آذانها وتهزه لتحزر ما فيه.
وذكر آخر أن كلبًا من كلاب الصيد رأى نفسه بين بطتين مصيدتين؛ إحداهما جريحة ولكنها تستطيع الطيران، والأخرى ميتة، وأراد أن يرجع بالاثنتين معًا، فوقص عنق الحية وحملهما إلى صاحبه، والقردة تماثل الإنسان في الصفات العقلية، حتى الجنون يعرض لها كما يعرض للإنسان.
وقد ميز البعض الإنسان من الحيوان بأنه يستطيع الترقي والتقدم، وأنه يستعمل النار، ويستأنس الحيوانات، وأنه قادر على التفكير المجرد، وأنه يستعمل لغة ما، ويستعين بالآلات، ويقدِّر الجمال … إلخ.
أما عن الترقي، فمعناه الانتفاع من الاختبارات الشخصية، والحيوانات تنتفع من التجارب التي تمر عليها؛ فالحيوانات المسنَّة لا تقع في الفخاخ بالسهولة التي تقع بها صغارها، والصائد لا يستطيع الصيد في موضع واحد دائمًا؛ لأن الحيوانات تعرف الفخ وتتوقاه.
وقد ارتقى الكلب من الوحشية إلى حالته الحاضرة، فالقرد يكسر البندق والجوز بالأحجار، والفيل يقطع أغصان الأشجار ويذُبُّ عن نفسه بها الذباب، وقد رأيت قردًا يغطي نفسه بلحاف عندما عرف بأنه سيُضرب، والقِرَدة تتقاذف بالأحجار وقت القتال، كل هذا يدل على استعمال الحيوانات للآلات.
أما عن اللغة، فالقردة تتفاهم بأصوات محدودة، والببغاء تسمي المسميات، وغاية ما يختلف الحيوان عن الإنسان أن هذا الأخير أوسع منه باعًا في التعبير عن الأشياء والأفكار، ويجب أن نذكر أن اللغة صناعة من الصناعات نتعلمها تعلمًا، فهي ليست ميزة طبيعية للإنسان، حتى الطيور تتعلم أحيانًا أغاني الطيور الغريبة عنها وتعلِّمها لأولادها.
والحيوان يقدِّر الجمال مثل الإنسان؛ فالذكران من الطيور تتبختر وتتطوَّس للإناث وقت التلاقح؛ حتى تنتخب الأنثى أجملها لونًا، وبعض الطيور يزيِّن عشه بالأصداف الزاهية، وهي تتلصص وراء الطيور لتخطف منها جملة ريشات.
والحاصل أنه ليس ثمة فرق نوعي بين الإنسان والحيوان في القوى العقلية.
هذه هي خلاصة صغيرة لداروين، يقف منها القارئ على ناحية معينة من التطور عالجها هذا العبقري الذي وضع التعقل المادي للكائنات الحية مكان التعقل الغيبي.