ظهور الإنسان
منذ عدة سنوات مرَّت إحدى السفن في المحيط الأطلنطي حين كانت تجتازه إلى أميركا، فوجدت البحر مغطى بآلاف من نوع واحد من السمك الميت، فأخبر رُبَّانها ولاة الأمور في الولايات المتحدة، فأنفذت الحكومة سفينة كي يحقق رجالها هذه المسألة، وذهبت السفينة ووجدت عشرات الآلاف من السمك لا تزال طافية على الرغم مما أكلته سائر الأسماك منه، وأخذوا يبحثون عن علة فناء هذا السمك، فوجدوا أن «تيار الخليج» الدافئ قد انحرف في سيره فدخل في منطقة باردة فرفع درجة حرارتها، وكان هذا السمك معتادًا أن يعيش في برودة نسبية، فلما تغيرت أحوال البيئة لم يقوَ على مقاومة الحرارة، فمات جميع أفراده إلا ما شذَّ وتحمَّل الحرارة، وقد أنقذت حكومة الولايات المتحدة هذه الشواذ واستولدتها حتى تكاثرت.
فما حدث في بضع السنوات الماضية كان يحدث في ملايين السنين الماضية؛ فإن مناخ العالم كان يتغير؛ فالأقاليم الحارة تعود باردة فتموت فيها الأحياء التي لا تقوى على مكافحة البرد، والعكس بالعكس، فنحن نعرف أن النخل لا ينمو إلا في البلاد الحارة، ومع ذلك قد وُجدت متحجِّراته حول القطب الشمالي والأرض الخضراء في كندا، مما يدل على أن المناخ هناك كان حارًّا مدة ما.
وقد أصاب العالم عصور جليدية تبلغ أربعة أو خمسة، كان البرد ينتشر فيها شديدًا في عدة أمكنة، ومعتدلًا في أمكنة أخرى، فكانت الأحياء التي لا تستطيع مكافحته تموت، وتنقرض بذلك أنواع من الحيوان والنبات.
وأهم ما يهمنا من هذه العصور الجلدية اثنان: ذاك الذي أباد الزواحف الكبرى بعد أن كانت تملأ العالم، وبعد أن بلغ حجم بعضها ستة أو سبعة أضعاف الفيل، ثم يهمنا أيضًا العصر الجليدي الأخير الذي انتهى بظهور الإنسان، وهذا العصر لا تزال بقاياه ظاهرة في جو أوربا البارد، ولا تزال قمم جبال الألب، وهي إعجاز الجبال القديمة، مغطاة على الدوام بالثلج صيفًا وشتاء.
فهذه العصور الجليدية كانت بمثابة الامتحان الشاق لا يجوزه إلا ذو الحيوية القوية أو العقل الذكي أو القانع بالطعام القليل؛ فقد قضى أحد هذه العصور على الزواحف الصغيرة، التي لا تزال تعيش بيننا للآن عيشة سرية في ظلام الليل؛ لأنها قنعت بطعام قليل في وقت انتشر فيه البرد، فقلَّ نمو النبات، فلم يعد فيها ما يكفي غذاء الزواحف الكبرى فانقرضت، ولم تكن وسائل تنازع البقاء قائمة على العقل أو القوة الجسدية؛ لأن الدماغ كان في ذلك الوقت صغيرًا جدًّا، فكان إدراك الدينصور — أحد هذه الزواحف — لا يزيد على إدارك طفل لم يُكمِل عامًا من عمره، ولم يكن التنازع متوقِّفًا على القوة الجسدية؛ لأن أقوى هذه الزواحف كان أضخمها جسمًا وأكثرها طعامًا، فلما قل الطعام للبرد بادت كلها، ما عدا حيوانات صغيرة قنعت بالقليل من الطعام، بل يقول البعض بانقراضها كلها.
أما في العصر الجليدي الأخير فقد أتيحت فيه الفرصة للحيوانات أن تتنازع بعقولها؛ لأن الدماغ كان قد بلغ حجمًا يُؤبه به، واتسع إدراك الحيوان، ونحن نعرف ذلك بما نجده الآن من متحجرات الحيوان قبل هذا العصر وبعده؛ فقد تضاعف حجم الدماغ بعد العصر الجليدي في جميع الحيوانات تقريبًا، مما يدل على أن النزاع بينها كان قائمًا على قوة الدهاء وسعة الحيلة والقدرة على الاستنباط.
فالعصر الجليدي جعل الحياة شاقة على الأحياء؛ لأن الطعام قلَّ قلة محسوسة، ولأن مطالب الجسم زادت بزيادة البرد، وخرج الإنسان سيدًا للكائنات من هذا العصر؛ لأنه أكبرها دماغًا، وهو لا يزال كذلك للآن؛ فليس في العالم الآن حيوان له دماغ في قدر دماغنا أو أكبر منه سوى الفيل والقيطس، لكن دماغ كل منهما بالنسبة إلى جسمه أصغر من دماغنا بالنسبة إلى جسمنا، أما دماغ الجاموس والجمل والبقر فأصغر من دماغنا نسبة وإطلاقًا مع ضخامة أجسام هذه الحيوانات.
- أولها: أننا كنا نعيش قبل العصر الجليدي على الأرض والأشجار، نفترش غصونها ونعترشها، فقويت فينا حاسة النظر، والنظر أكثر الحواس تذكية للعقل؛ لأنه لو كانت معيشتنا تستدعي قوة الشم أو السمع دون النظر لما ساعد هذا على حدة ذكائنا؛ لأن النظر يجمع عدة صور أمام الذهن فيفسح له مجال التصور، بخلاف الشم أو السمع فإنهما يضيِّقانه إذا قوبل عملهما بعمل النظر.
- ثانيهما: أننا لأننا كنا نتسلق الأشجار، نشأت لنا أيدٍ ممسكة صرنا نستطيع أن نمسك بها الآلات أو نصنعها بها، والحضارة تحتاج مهما كانت منحطة إلى آلات، فلو فرضنا أنه كان للثور عقل مثل عقلنا، وكان محرومًا من يدٍ مثل يدنا لما انتفع بعقله؛ لأنه لا يمكنه أن يصنع آلة بيديه؛ أي ساقيه الأماميتين.
- ثالثًا: أننا لنا لسان ينطق، ولولا هذا اللسان لما انتفعنا بأيدينا وعقلنا إلا قليلًا؛ لأننا كنا — حينئذ — نشبه جماعة من الخرس يعيشون معًا، فالذي ساعد الإنسان على التفوق أربعة أشياء: عقله ونظره ويده ولسانه.
وليس شك في أننا كنا نتسلَّق الأشجار في الزمن القديم، فإن ابن عمنا القرد وابن عم جدنا الليمور لا يزال كلاهما يعيش على الأشجار للآن، ولكن الإنسان لم يقصر معيشته على الأشجار منذ زمن قديم جدًّا، كما يدل على ذلك تركيب قدميه اللتين تختلفان الآن عن أقدام القردة، بل ربما كانت أقرب إلى أقدام الليمور منها إلى أقدام القرد.
ووُجدت حديثًا في روديسيا في إفريقيا الجنوبية جمجمة طفل من هذه الأنواع المنقرضة، ووُجد في جاوة من مدة جمجمة من هذا النوع أيضًا، واختلاف العلماء عنها، هل هي جمجمة قرد أم جمجمة إنسان، دليل على أنها يمكن أن تعد حلقة الاتصال بيننا وجدودنا.
- (١)
جمجمة إنسان بكين الذي انقرض منذ نصف مليون سنة.
- (٢)
جمجمة الإنسان النياندرتالي، الذي يظن بعض العلماء أن دماءه لم تختلط بدمائنا لكراهية نشبت بيننا وبينه؛ لقبح صورته وكثرة الشعر في بشرته، فأفنيناه، وكان له شيء من الحضارة والدين.
- (٣)
جمجمة إنسان هيدلبرج الذي امتزج أيضًا بنا.
- (٤)
إنسان كرومانيون الذي امتزج بنا.
ولا يمكن الجزم بالمكان الذي نشأ فيه الإنسان الحاضر، وإنما يرجَّح أنه نشأ في مكان بارد، والذي يدعو إلى هذا الترجيح أن أقدر الحيوانات على مقاومة برد العصر الجليدي هي — بالطبع — تلك التي كانت تعيش في مكان بارد قبل مجيء هذا العصر؛ لأنها تكون قد تهيأت لشدائده بعض التهيؤ.