ارتقاء العقل البشري
الجهاز العصبي في الحيوان هو أداة استجابة الحي للعوارض الخارجية؛ لذلك كان أول ظهوره على السطح الخارجي للجسم، حتى إذا تركَّز بعض الحواس في الرأس؛ كالسمع والشم والنظر والذوق، صار مكان الرأس مركز القوى العصبية للحيوان، وأخذ الرأس يكبر بالتدريج؛ لأن هذا الجهاز صار ينمو بتقدم الحيوان في التطور؛ فأكبر الحيوان دماغًا بالنسبة إلى جسمه هو الإنسان، وهو آخر وأعلى حلقة في سلسلة التطور.
ونحن نعرف من قصة التطور أن القشريات؛ مثل الجنبري، قد سبقت السمك، والسمك قد سبق الزواحف، والزواحف قد سبقت الطيور، وأن اللبونات أكثر تطورًا من الطيور، فإذا نحن قسنا أدمغة هذه الحيوانات وجدناها متناسبة مع درجة تطورها؛ فدماغ الغراب — مثلًا — يزيد على دماغ السمكة التي في حجمه بنحو ثلاثين ضعفًا.
وقد كان من ضروب اللباقة التي يَعتدُّ بها المعارضون لنظرية داروين قولهم إن للإنسان عقلًا وأن للحيوان غريزة، فنحن نعقل وهو لا يعقل، ولكن هذا الاعتراض قد ضعف الآن أو بطل، وليس شك في أننا إذا نظرنا إلى الحشرات العليا؛ كالنمل والنحل والزنانير، نجد ٩٩ في المئة من أعمالها غريزة محفوظة آلية لا أثر للعقل فيها، ولكن بذرة العقل لا تزال فيها، ثم إننا إذا نظرنا إلى الإنسان، وهو أرقى الحيوان عقلًا، وجدناه يعتمد في أكثر من نصف أعماله على الغريزة، وحَسْبُنا دليلًا على ذلك أن أكبر ما يدفعه إلى السعي والنشاط غريزتان؛ هما البحث عن الأنثى، والبحث عن الطعام.
وليست الغريزة سوى عمل متكرر أشبه بأعمالنا التي تنطبع في العقل الباطن فيؤديها بلا جهد أو التفات.
- (١)
أن الإنسان حيوان له يد بها إبهام.
- (٢)
أن له عينين في وجهه.
- (٣)
أن له لغة.
لا، إنما اليد في جميع حيوان اليابسة الفقاري تحوي خمس أصابع الآن، أو كانت تحتوي على ذلك العدد قديمًا، كما هو الشأن — مثلًا — في حافر الفرس أو ظلف الثور أو جناح الطائر أو زعنفة الدُلفين.
والأرجح أن الحيوان عندما خرج من الماء إلى اليابسة استعمل زعانفه للتسلق كما يفعل بعض السمك الآن على شطي النيل، فلما صارت الزعنفة يدًا بقيت كذلك إلى أن وصل الإنسان إلى مرتبة الإنسانية، أما في سائر الحيوان فقد حدث التخصص، فصارت الأصابع حافرًا أو ظلفًا أو مخلبًا أو جناحًا، واندغمت في الجسم ثانيًا كما في الثعبان.
ومن ذلك نفهم أن المبالغة في التخصص تؤذي الحيوان وتمنعه من التقدم؛ لأنها تؤدي إلى الجمود، والتطور يحتاج إلى اللدونة والمرونة بحيث يستطيع العضو أن يؤدي جملة وظائف في وقت واحد، ومن هنا نرى الشبه كثيرًا بين يد الضفدع ويد الإنسان على بعد ما بينهما، ونرى الاختلاف كبيرًا بين الجمل ويد الإنسان على قرب ما بينهما.
فيدنا أقل أيدي الحيوانات تخصصًا، ومن هنا ميزتها؛ فإننا نؤدي بها جملة وظائف، ويدنا تختلف عن يد القرد من حيث إن لنا إبهامًا تمسك الأشياء، أما إبهام القردة فلا فائدة منها لهذا الغرض. وأقرب الحيوانات إلينا من هذا الاعتبار هو الليمور الذي سبق القردة في الظهور، ولكنه بالطبع دونها في حجم الدماغ.
ومن عوامل تكبير الدماغ في الإنسان تحوُّل العينين من صدغيه إلى وجهه؛ فإن العينين في جميع الحيوانات الفقارية تقعان في الصدغين كما هو ظاهر في السمك والطيور والبقر، فإذا أراد الديك أن ينظر إلينا أمال رأسه كي ينظر بعين واحدة، فيتراءى لنا كأنه يصعِّر خده، وإذا ركبنا فرسًا وأراد أن ينظر الطريق أمامه ثنى عنقه قليلًا كي ينظر بعين واحدة.
وقد كان الإنسان كذلك قديمًا، كما يدل عليه تطور جنينه، فإن العينين تظهران في الصدغين أولًا، فنحن والقردة العليا نمتاز على سائر الحيوان بهذه الميزة العجيبة التي تتيح لنا رؤية الأشياء بعينين معًا لا بعين واحدة، فيستقيم نظرنا للأشياء التي تتجسَّم لنا على حقيقتها وندرك أبعادها.
فجميع الحيوانات بالنسبة إلينا فيما يشبه العور، بل هي أكثر من ذلك؛ لأنه قد تختلف الصورة التي تنقلها إلى ذهنها إحدى عينيها عما تنقله الأخرى، ولعل هذا هو السبب في إجفال بعض الحيوانات عند رؤية الإنسان وهو على مسافة بعيدة منها؛ إذ إن وضع عينيها لا يجعلها تدرك البعد الصحيح بينها وبينه؛ ولذلك فالحيوان يعتمد كثيرًا على حاسة الشم لأن عينيه لا تكفيانه، ومعظم وجهها ذاهب في الأنف لأن الخياشيم تستغرق أكثره.
وتُعزى القَمَحْدُوَة؛ أي الجزء الخلفي الناتئ من رأس الإنسان، إلى نمو العينين، وقد عرف العلماء هذا لأنه إذا إيف هذا الجزء إيفت العينان، ثم إن زوال العينين من الصدغين أتاح الفرصة للدماغ بأن يتسع ويضخم من الجانبين.
ومما زاد حجم الدماغ توفُّق الإنسان إلى لغة، فإنه لا يكاد يكون للدماغ فائدة بلا لغة تعبر عن أغراضه، ولا نقصد التعبير عن أغراضه لغيره بل لنفسه أيضًا؛ فالخاطر لا يزال مبهمًا غامضًا حتى تقيِّده اللغة بالألفاظ، فالإنسان الذي يعبِّر عن خاطره بالألفاظ يفهم ما يريد ويقصد إليه بلا تردد، والجماعة التي تتفاهم تعيش وتتعقَّل أكثر من غيرها، وربما كان افتقار القردة إلى لغة أهم ما يمنعها من الرقي، فهي تشبه الآن جماعة خرسًا من الناس قد قطع إبهامها فلا تعرف كيف تخترع آلة ولا كيف تتفاهم، دع عنك صغر دماغها.
فإذا قيل لك لماذا لا يصير القرد إنسانًا فاذكر أن دماغ القرد أصغر من دماغنا، وأنه أخرس، وأن يده بلا إبهام تذكر، فهو لا يتناول شيئًا إلا بارتباك وثقل.
فاليد واللغة والعين تعتبر من أهم أسباب نمو الدماغ في الإنسان؛ فقد كان بين هذه الثلاثة وبين الدماغ تفاعل مستمر كلاهما يؤدي إلى رقي الآخر.