السلالات البشرية
من عادة الإنجليز أن يؤلِّف صغارَ الكتب كبارُ الناس من العلماء، وقد كان «نيتشه» يأسف لأن بلاده لا تتبع هذه الطريقة، وذلك لأن أقدر الناس على الاختصار مع عدم الإخلال هو العالم المتعمق.
ومن أحسن ما قرأنا من هذه الكتب كتاب صغير يدعى «المغولي بين ظهرانينا»، تأليف الدكتور كروكشانك.
وخلاصة نظرية الدكتور كروكشانك أن هناك ثلاثة أوجه بشرية؛ هي الوجه المغولي، والوجه الزنجي، والوجه الأوربي، وأن الوجه المغولي يشبه وجه قرد جاوة المسمى أورانج أوتان، وأن الصيني في بعض أخلاقه وتركيب جسمه يشبه هذا القرد؛ فكلاهما يقعد بعد أن يطوي ساقيه تحته.
وكف الصيني مخطَّط على طريقة كف الأورانج، وعندما يفقد الصيني عقله ينحو نحو الأورانج في جملة عاداته وأحواله، وكذلك الأوربي إذا فقد عقله وجنَّ بنوع خاص من الجنون قعد بهيئة الشمبنزي، أما الزنجي فيُردُّ في جنونه إلى الغوريلا.
والإنسان وقت الجنون يُردُّ إلى أصله؛ لأن كفاياته العقلية التي تختل هي الكفايات العليا الجديدة التي لم ترسخ بعد في تركيب جسمه، وهي أيضًا أولى الكفايات التي تؤثر فيها الخمر أو الشيخوخة؛ وذلك لأن الإنسان يتطور بما يشبه الطبقات؛ طبقة فوق طبقة، فأثبت الطبقات أقدمها، وأقلها ثباتًا أجدُّها؛ فالعقل من أجد الطبقات وهو لذلك أسرعها زوالًا عند السُكْر والشيخوخة والجنون، وإذا زال ظهر ما يليه من الطبقات، فيُردُّ الإنسان إلى أصله، وتظهر فيه أخلاق أسلافه.
فنحن نعرف — مثلًا — أن كثيرًا من الأطفال، إذا اشتد بهم الضعف من مرض، ظهر على بشرتهم شعر؛ سواء أكانوا ذكورًا أم إناثًا، فإذا عاودتهم الصحة زال الشعر، ومعنى هذا أن قوة الجسم التي اكتسبها الإنسان حديثًا في إخماد نبات الشعر قد ضعفت، فنهضت كفاياته القديمة لا تجد ما يعارضها في الظهور.
ويقول الدكتور كروكشانك إن هذه الوجوه الثلاثة منتشرة في جميع الأمم للاختلاط القديم بينها؛ فقد تجد الطراز الزنجي أو الطراز المغولي في وسط لندن — مثلًا — ولست تجده فقط بين البله الذين ورثوا بلاهتهم، بل تجده أيضًا منتشرًا بين عامة الناس، وقد لا يكون في صاحبه ما يدل على بلاهة أو عته.
وسواء صحَّ هذا الفرض أم لم يصح فإن مما لا يمكن الشك فيه أن لنا عدة أصول؛ فإن متحجرات الجماجم (البشرية) القديمة التي تخالف جماجمنا، ومتحجرات الجماجم نصف البشرية، توجد الآن بكل مكان تقريبًا، ومن المرجَّح أنها اختلطت بنا، وتسرب إلينا من طبائعها شيء كثير.
وكثيرًا ما نجد على وجوه البله في بلادنا مسحة مغولية، نرى أثرها ظاهرًا في بروز الصدغين، وكثيرًا ما نجد الرأس المغولي المستدير متفشيًا في بلادنا وفي أوربا، بل إذا قعد أحدنا على قهوة وأخذ يتأمل السابلة وجد سلالات النوع البشري كلها تقريبًا منطبعة أصولها على وجوههم بدرجة قليلة أو كبيرة.
ولكن مع كثرة هذه السلالات لا يزال النوع البشري نوعًا واحدًا؛ فإن التلاقح يصح بين أي ذكر وأية أنثى من أفراده؛ أي ليس بين الناس مهما اختلفت سلالات الآباء «بغال» عقيمة لا تلد كما يُرى في النتاج الناشئ من الفرس والحمار.
ولننظر الآن في أثر البيئة في الإنسان، ويجب أن نذكر أن أثر البيئة أقل في الإنسان مما هو في غيره من الحيوان، وأنه الآن أقل مما كان في الزمن الماضي؛ فإن المدينة تخفف من أثر البيئة، بل قد تزيل هذا الأثر كلية؛ فإن الحيوان إذا انتقل من مناخ حار إلى مناخ بارد عمد إلى جلده، فزاد كثافة فروه أو أفرز طبقة من الدهن تحته، ولكن الإنسان لا يفعل ذلك، بل يسكن بيتًا ويدفئه، أو يصيد حيوانًا ويستلب منه فروه.
والإنجليزي الذي يعيش في السودان الآن لا يُخشى عليه أن يصير أسود أو أسمر؛ لأنه يحمي نفسه من فعل الضوء بوسائل المدنية العديدة المتوافرة لديه.
فالإنسان مع أنه أكثر الحيوانات تطورًا بطبيعته، لأنه أرقاها، هو الآن أقلها تطورًا بفعل المدنية.
ولكن الإنسان حديث عهد بالمدنية؛ فلذلك كان تأثير الوسط فيه كبيرًا في الماضي؛ فالأوربي أبيض، والصيني أصفر، والزنجي أسود، وكل ذلك بفعل الوسط في الماضي، ولو لم يعمد الإنسان إلى المدنية منذ زمن بعيد لكان أثر هذا الوسط فيه أكبر، بحيث كانت تختلف سلالته اختلافًا كبيرًا يشبه اختلاف أنواع القردة العليا الآن.
وهناك أشياء في فعل البيئة أو المناخ لا نفهم سرها، ولكننا نرى أثرها؛ فوجه الأمرندى — ساكن أمريكا القديم — مستطيل، والأوربيون الذين هاجروا إلى أمريكا قد استطالت وجوههم مثله لعلة لا نعلمها.
ولكننا نعرف أن الأوربي أبيض؛ لأن ضوء الشمس في أوربا ضعيف، والضوء سمٌّ إذا اشتد قتل الحي، ونحن أنفسنا نطهِّر الغرف من الميكروبات بالضوء؛ أي إن الضوء يقتل الميكروبات لشفوفة أجسامها.
فالجسم الحي المعرض للشمس يحتاج إلى أن يحمي نفسه منها بإفراز صبغة تمنع نفاذ الضوء إلى أعضائه الداخلية؛ فالزنجي أسود والأوربي أبيض لهذا السبب، بل الإسكيماوي الذي يعيش قريبًا من القطب الشمالي أسمر البشرة؛ لأن الأرض مغطاة أكثر شهور السنة بالثلج الأبيض الذي يقوم مقام ضوء الشمس في التأثير في البشرة.
وأنف الأوربي أشمُّ مستدق، بينا نجد أنف الزنجي منفطس مفرطح؛ لأن الهواء بارد في أوربا وهو حار في إفريقيا، وبعبارة أخرى نقول إن الهواء يتمدد في إفريقيا بينما هو يتقلص في أوربا. وجسم الأوربي يحتاج إلى كمية من الأكسجين تساوي ما يحتاج إليه جسم الزنجي، ولكن حجم هذه الكمية كبيرة في إفريقيا؛ لأن تمدُّد الهواء صغير في أوربا لتقلصه؛ فالزنجي في حاجة إلى أن يتسع أنفه حتى يأخذ من الهواء الكمية التي يحتاج إليها منه مع جرمها الكبير المتمدد، ثم إن البرد في أوربا يستدعي استدقاق الأنف؛ حتى يدفأ الهواء قبل وصوله إلى الرئة، ومن هنا استدق أنف الأوربي وانفطس أنف الزنجي.
والصيني أصفر لرطوبة بلاده وحرها، فوجهه يشبه أقدامنا عندما نخلع الحذاء، فإن الرطوبة والحرارة تحيلان اللون في القدم إلى صفرة.
والشعر الزنجي مفلفل بفعل الحرارة في الأغلب؛ فإننا إذا عرَّضنا شعرة مستقيمة للحرارة تكمَّشت.
والصيني أو المغولي على وجه عام مستدير الرأس، بينما الأوربي مستطيله، وقد لا يكون للبيئة أثر في ذلك، وإنما هذا الشكل قد يرجع إلى اختلاف السلالة.
ثم يجب ألَّا يبرح من أذهاننا أن الإنسان لا يطاوع البيئة كل الطواعية، حتى بعد أن نحط من ذلك أثر المدنية؛ فإن للإنسان مثلًا أعلى يبتغيه ويريد تحقيقه في وجهه وجسمه، فهو دائم الانتخاب والانتقاء بين إناثه وذكوره، وهذا «الانتخاب الجنسي» ينتهي بإيجاد طراز خاص في الوجه والجسم يختلف فيه كل شعب عن غيره.