النار والطعام
سايرت الثقافة الحضارة؛ فإن الإنسان في حالة البداوة الأولى عاش دهرًا طويلًا وهو لا يعرف الزراعة؛ أي لا يعرف الحضارة؛ لأن الحضارة والزراعة مترادفتان في المجتمع القديم، ولكنه مع ذلك لم يكن طول هذه المدة جاهلًا؛ فإنه كان يعرف كيف يصنع الآلات البسيطة من الحجر، وكيف يصيد الحيوان ويدبِّر له المكايد، وكان يعرف النار، وكانت له سحرة وقصصيون يحركون ذكاءه بما يقصون عليه من العجائب والنوادر.
وبالجملة، كانت له ثقافة لا تختلف عن ثقافة المتوحشين الذين لم يعرفوا الزراعة؛ مثل سكان أستراليا الأصليين، أو بعض قبائل إفريقيا أو أمريكا الآن.
وكانت النار من أهم ما عرفه الإنسان، بل ربما كانت هي أكبر الأسباب في انفراج الهوة بينه وبين القردة العليا، وأحط السلالات البشرية الآن؛ مثل أهل أستراليا أو الفويجيين في جنوب أمريكا، يعرفون النار، ولكن ليس بين القردة الآن ما يعرفها.
والنار تحدث في الغابات وقت القيظ حين يجتمع الجفاف والحر، ولا بد أن أول معرفة الإنسان بها كان عن هذا السبيل، ولكن ثَمَّ فرقًا عظيمًا بين معرفة النار وبين كيفية إحداثها، والغريب أن جميع المتوحشين الآن يعرفون كيفية قدحها بالزند، وكيفية القدح تختلف، ولكن المبدأ واحد، وهو إيجاد اللهب بالاحتكاك.
ولكن جميع المتوحشين لا يطفئون نارهم؛ فكلهم حريص على أن يهيِّئ النار قبل نومه، حتى إذا أصبح وجدها واستخدمها، وهذا يدل على أنهم لا يستسهلون قدح النار بالزند.
وهذا يدعونا إلى الظن بأن ذلك الفرد، أو أولئك الأفراد الذين عرفوا كيف تقدح النار بالزند في أول عهد الإنسان، احتكروا هذه المعرفة لأنفسهم، واستغلوها للسيادة على سائر الناس، وجعلوها من ممارسات الدين أو السحر، وعند الإغريق القدماء أسطورة خاصة بالنار تدلنا على شيء من هذا، خلاصتها أن الرب «برومتيوس» أفشى سر النار وكيفية قدحها بالزند للناس، فعاقبته الآلهة بأن سلَّطت عليه العطش، ووضعته في ماء يربو إلى أن يبلغ فمه، فإذا أوشك أن يشرب غاص ثانيًا، وهو في هذا من العطش إلى الأبد.
والزند والحجر مقدسان عند البراهمة، ورسمُها مقدس للآن عند البوذيين، وتقديس النار عند المجوس من آثار احتكار النار الباقية من البداوة تخطتها إلى عهد الحضارة.
ومهما قلنا في فائدة النار للإنسان الأول فإننا لن نستطيع أن نقدِّر قيمتها في تقدم الإنسان؛ فهي من المخترعات العجيبة التي دفعته إلى الأمام من كل جهة، وساعدته على التطور، بل هي لا تزال كذلك إلى الآن، وإن يكن هذا التطور ليس خيرًا خالصًا.
فبالنار تعوَّد الإنسان أن يعقد مجتمعًا للاصطلاء، فخف شعره أو زال، ثم ارتقت اللغة لما ينشأ من الحديث في مثل هذا الاجتماع، وقد كان الإنسان يجتمع في الصيد، ولكن الصيد يحتاج إلى الترصد والصمت، لا إلى الكلام، ولكن قبل الصيد وبعده يحتاج المجتمعون إلى اللغة، وحين لا يكون هناك ترصُّد يكون الكلام وقت الصيد.
وربما كان فضل المرأة في ترقية اللغة لهذا السبب أكبر من فضل الرجل؛ فإن نساء الرجل كن يجتمعن حول النار في الليل، فكن يتفاهمن بالكلمات؛ لأن الإشارات لم تكن تُرى في الظلام، وذلك وقت غيابه في الصيد، فيأخذن في الحديث، وفي سك الكلمات الجديدة التي تعبر عن المعاني التي تخطر في أذهانهن.
وكانت النار أيضًا سببًا في انتشار الإنسان في الأصقاع الباردة البعيدة التي لم يكن ليطيق المعيشة فيها لولا النار؛ فالإنسان — مثلًا — لم ينتشر في أميركا إلا بعد أن جاز تلك الأصقاع الباردة في شمال آسيا وأمريكا، وهو لم يكن ليستطيع ذلك لولا النار.
وكانت النار أيضًا سلاحًا يمنع الوحوش عن مهاجمة الإنسان في الليل، وللنار فائدتان أخريان: الأولى تهيئة الطعام، والثانية صهر المعادن للصناعة من لوازم الحضارة العصرية، ونحن إنما نصف حال الإنسان في البداوة الأولى، أما الطعام فيجب أن نقول فيه كلمة لعلاقته بالنار.
فطعام الإنسان في الأزمنة القديمة لم يكن يختلف عن طعام القردة العليا الآن، فكان يتألف من بعض الأثمار والجذور وما يسنح من حشرة أو خشاش؛ كالجراد أو العظاء، وإذا اعتبرنا أسنان الإنسان وقناته الهضمية، وحياته القديمة في الأشجار، حكمنا بأنه نباتي في أكثر طعامه، حيواني في أقله؛ وخاصة إذا علمنا أن نحو أربعة أخماس البشر يقتاتون بالنبات الآن.
فكيف إذن عرف الإنسان اللحم واعتاد أكله؟
يغلب على الظن أن الأصل في ذلك هو رغبة الإنسان في تحقيق غاية سحرية، هي الحصول على قوة الحيوان الذي يأكله، ومن هنا أيضًا عادة أكل البشر؛ فإن هذه العادة نشأت أولًا لرغبة الإنسان في الحصول على قوة الرجل المقتول أو الميت، بأن يؤكل قلبه أو دماغه أو أي عضو آخر، بحيث يصير الآكل شجاعًا جريئًا مثل الرجل المقتول المأكول، وقد صارت هذه العادة سببًا بعد ذلك في الاعتقاد بتقمُّص الأرواح الذي صار عنصرًا مهمًا في بعض الأديان الكبرى؛ لأن منطق السحر يقول إني حين آكل رجلًا إنما أتقمص روحه أيضًا.
فلما فشا هذا الاعتقاد بين جماعات الإنسان الأولى عمدوا إلى صيد الحيوانات الكبرى؛ كالفيل والأسد، بغية أن يأكلوا شيئًا من لحمها حتى يحصلوا على قوتها، وما زال بعض الفلاحين عندنا يعتقدون أن من يأكل قلب ذئب يصير قويًّا كالذئب، ويجب أن لا ننسى أن صيد الحيوان كان سهلًا في الأزمنة القديمة؛ لأن الحيوان لم يكن قد تعوَّد الخوف من الإنسان، وإنما صار الخوف كالغريزة فيه بعدما ألحَّ الإنسان في صيده.
ولا بد أن نفرض أن الإنسان كان يأكل أعضاء هذه الحيوانات مع الاشمئزاز الذي يشعر به كل منا عندما يأكل طعامًا جديدًا لم يألفه، أو كان محرمًا عليه بحكم الدين أو العرف.
وكانت النار إذا شبَّت وقت القيظ في الغابات يحترق فيها بعض الحيوان ويموت، فيجد الإنسان الفرصة سانحة لأن يأكل بعض أعضائها، ولا بد أنه كان في هذه الحال يستمرئ طعم لحمها المشوي فينتبه إلى شَيِّ الطعام بالنار ويضري عليه.
وإذا أراد الأستراليون أن يشووا كنغرًا وضعوه في النار بدون أن يبقروا بطنه أو يستخرجوا أمعاءه، فإذا انفتح بطنه بالغازات بقروه بسكينهم الحجرية (الظر) وأكلوه؛ ولذلك يجب أن نعتبر الشي أول ضروب الطهي التي عرفها الإنسان؛ لأنه لم يكن قد عرف الآنية بعد.
والمتوحشون الذين لا يعرفون للآن كيفية صنع الفخار يستعملون قِحْف الرأس في الإنسان لحمل السوائل، أو يستعملون القرعة بعد إفراغها من اللب، وهم لا يمكنهم أن يضعوا مثل هذه الآنية على النار؛ ولذلك يضعون فيها اللحم والماء، ثم ينقلون الحجارة المحماة ويضعونها في القرعة أو القحف فيسخن الماء وينضج اللحم.
وقد نقف هنا ونتساءل: هل تَعدُل فائدة النار للإنسان الأول أضرارها للإنسان الحاضر، من حيث تعويده طعام اللحم وطبخ الطعام وتنشئة الصناعة إلى هذا الحد الذي يكاد يحكم بالفناء على بعض الأمم؟ أَمَا كان أهنأ للإنسان أن يعيش بلا نار؟
ولكن ليس هذا موضوع كلامنا الآن.