أصل اللغة
يبدو للمتأمل في تاريخ الإنسان عند عرضه مع سائر الحيوان؛ وخاصة تلك اللبونات التي ينتمي إليها، أن كثيرًا مما يمتاز به عليها أنه لم يتطور إلى ناحية التخصص الجامد الذي وقفت عنده معظم الحيوانات الأخرى.
وذلك أن الحيوانات عندما بدأت تخرج من البحر إلى اليابسة تحولت زعانفها إلى أيدٍ وأرجل للتسلق، فكان التسلق أول ما عرفتْ من الوظائف، ثم حدث التخصص، فمشي بعضها على أربع فصارت أيديه حوافر أو أظلافًا، وعاش بعضها بافتراس الحيوان فصارت أصابعه براثن، وحفر بعضها تحت الأرض مثل الخلد ففقد إبهامه، ونزل بعضها ثانيًا إلى البحر مثل اللجاة والدُلفين والقيطس والتمساح فصارت أيديها مجاذيف تشبه الزعانف القديمة، وإن تكن الأصابع لا تزال باقية بها، ظاهرة أو مختفية.
حدث هذا التخصص فتجمَّد التطور وكاد يقف فيها عند حدٍّ، إلا الإنسان، فإنه استمر في تسلُّقه لا يمشي على أربع، وكأنه خرج من البحر إلى الأشجار فلم يرضَ بالنزول إلا إنسانًا سويًّا، فاحتفظ بيديه وفي كل منها أصابعه الخمس، واحتفظ بهيئته القائمة المنتصبة؛ لأن معظم الحيوانات التي تتسلَّق تقف وتمشي وهي منتصبة قليلًا أو كثيرًا كما ترى ذلك في السنجاب والفأر، وساعدته هيئته المنتصبة على أن يضخُم رأسه ويكبر، واستطاع أن يحمل هذا الرأس لأنه يقع عموديًّا عليه، وهو لو كان يمشي على أربع لما أمكنه أن يحمله وهو في هذه الضخامة، حتى وهو في الأشجار لم يبلغ به التخصص أن أضعف إبهامه كما هو الحال في القردة العليا.
ثم انظر إليه الآن تجده لم يتخصص حتى في طعامه؛ فهو يأكل كل شيء في العالم تقريبًا، ولم يتخصص في الصوت؛ فهو بمرانة قليلة يمكنه أن يقلد صوت أي حيوان كما نرى ذلك في بعض الممثلين، ثم انظر إلى فم الحيوان؛ كالكلب أو الثور، تجده ممدودًا إلى الأمام، فإذا أقفله لصق اللسان بالحنك الأعلى ولحمِ الفك الأسفل، فليس في فم الحيوان تجويف يساعده على النطق.
فاعتبر كل هذا، فلو أن الإنسان كان يمشي على أربع لما استطاع أن يحمل دماغًا ثقيلًا، ولما استطاع أن يقف، فنحن لا يمكننا أن نتصور أن يقف الفرس مهما مضى عليه من السنين، ولو أن الإنسان كان قد فقد إبهامه — بالبراعة في القفز بين غصون الأشجار أو بالحفر تحت الأرض كالخلد — لما اكتسب هذه الإبهام ثانيًا بأية حيلة، وقد عرفتَ فيما سبق قيمة هذه الإبهام في إمساك الأدوات والآلات وتداولها، ثم لو كان يتناول طعامه بفمه لطال هذا الفم وضاق، فيصعب عليه عندئذ الكلام.
والإنسان لولا الكلام لما اختلف كثيرًا عن البهائم؛ إذ كان كل فرد — عندئذ — يحتاج إلى أن يخترع المعاني اختراعًا، في حين أننا نتسلمها الآن من سائر الناس بما وضعوه لها من الكلمات.
ويجب أن نذكر في نشأة اللغات الأولى أنها لم تقم أولًا على الكلمات وحدها، بل كان للإشارات الشأن المهم في التفاهم ولا نزال للآن نستعمل بعض هذه الإشارات نريد بها معاني كلماتنا؛ فنهز الكتفين ونحرك الحاجبين واليدين ونرفع الرأس، ولكل من هذه الحركات معنى، وكانت هذه الحركات قديمًا أكثر مما هي الآن.
وبعض هذه الإشارات يعمُّ معناه جميع الأمم؛ كهز الرأس ذات اليمين وذات اليسار لمعنى النفي، وبعض ما يتفاهم به المتوحشون الآن نتفاهم به نحن مع الخرس؛ مثل التعبير عن الركوب بوضع سبابة اليد اليسرى تحت اليد اليمنى في الفرجة التي بين السبابة الوسطى.
وسبيلنا إلى معرفة أصل اللغة أن ندرس لغات القردة الحاضرة، ولغة الطفل، ونقابل اللغات الشائعة والقديمة لنرى وجه الاتصال بينها، ولم يدرس واحد من هذه الشئون درسًا تامًّا أو مرضيًا للآن، غير أننا نعرف أننا نشترك والقردة العليا في لفظة «كخ» التي تقال لزجر الطفل عن شيء، وهذه اللفظة موجودة للآن في جميع اللغات، ونعرف أن لفظتي الأب والأم هما (با) و(ما) اللتان ينطق بهما الطفل في عامه الأول، وأن إشارة النفي التي نفهمها من هز الرأس قد نشأت من محاولة الطفل رفض شيء تريد أمه أن تضعه في فمه، ونعرف أيضًا أن هناك بضعة كلمات يشترك فيها الإنجليزي الحاضر والمصري القديم، ثم الألماني المتحضر والأسترالي المتوحش، ثم زنوج إفريقيا والأوربيون، مما يدل على أن اللغات قد تطورت من أصل واحد أو عن عدة أصول قليلة.
وقد كانت النار عاملًا قويًّا في تنشئة اللغات وإيجاد الكلمات؛ لأنها كانت تجمع النساء حولها فيأخذن في القيل والقال كما هو شأنهن الآن، وكانت النار أيضًا تجعل السهر في الليل ممكنًا، وعندئذ لا يمكن التفاهم بالإشارات، فيصبح اختراع الكلمات ضرورة لازمة.
ولا شك في أن محاكاة الصوت المسموع كان أصلًا مهمًّا في اختراع الألفاظ، وكان الإنسان الأول يعتمد عليه كثيرًا في التعبير عن أفكاره، وما زلنا للآن نرى ذلك الأصل في ألفاظ خرير المياه واصطكاك الأسنان وصرير الباب وحفيف الأوراق وعواء الذئب وهدير الرعد، وكذلك في المطر والرعد وفوات القدر وإصفاق الأمواج وما إلى ذلك.
ولغتنا العربية غنية بالاشتقاق، مما يدل على أنه كان كثير الشيوع قديمًا؛ فقد عرف الإنسان النار فاشتق منها النور والنهار، وكان يعبِّر عن الضخامة والكبر بلفظة قديمة لا بد أنها انقرضت وبقي عندنا منها عدة ألفاظ قريبة في النطق والمعنى، مثل جل وكل وجبل وجمل ولج وجلل.
ولا بد أيضًا أنه كان للاستعارة والمجاز شأن عظيم أيضًا في تأليف اللغات، وعندنا في «أساس البلاغة» الذي وضعه الزمخشري ما يثبت عِظَم المدى الذي قطعه الإنسان عن هذا السبيل في تأليف اللغات.
وربما كان أشقُّ ما نال الإنسان في تأليف الكلمات وأعنته إعناتًا عظيمًا مسألة الأرقام؛ فقد يمكن أن يكون عند الأستراليون نحو خمس مئة لفظة تدل على ما حولهم من الأشياء ولكن ليس عندهم سوى لفظتين اثنتين للأرقام؛ وهما واحد واثنان، أما الثلاثة فهي اثنان وواحد، والأربعة اثنان واثنان، وما زاد على ذلك فهو «كثير».
وقد كان للغة أثر كبير في زيادة الفهم في الإنسان؛ لأن التفاعل دائم بين اللسان والدماغ، لا يرتقي الواحد إلا بارتقاء الآخر؛ فالمعنى يتحدد ويتَّضح إذا أحسن اللسان التعبير عنه باللفظ، وهكذا كانت اللغة مثل اليد، إحدى وسائل سيادة الإنسان، وقد استطاعت اللغة أن تجعل الزمن تاريخيًّا والفضاء جغرافيًّا، وبهذا نشأت الثقافة البشرية.
واللغة تعود إلى الاجتماع والإنتاج المشترك، فلو أن الإنسان كان يعيش منفردًا لما احتاج إلى اللغة؛ إذ مع من يتفاهم؟!
فالإنسان، حين ترك الإقامة على الشجر وصار يجتمع مع أقرانه للصيد، صار يتفاهم مع هؤلاء الأقران بالإشارة أولًا، ثم باللغة ثانيًا.