أصل الحضارة
تُطلق الحضارة على جملة معانٍ خاصة تجتمع معًا فيتألف منها معناها؛ ففي الناس طوائف تعيش في الغابات بعيدة عن الحضارة، وبدو الصحراء ليسوا متحضرين إلا بمقدار ما اكتسبوه من المتحضرين؛ من لباس يلبسونه أو ثقافة بسيطة قد تلقنوها منهم في تدجين حيوان أو الإيمان بإله أو معرفة شيء عن الكواكب.
فنحن نفهم من معنى الحضارة ناسًا يعيشون معًا في مقام لا يرحلون عنه، لهم صناعة أو زراعة يرتزقون منها، ولهم نظام اجتماعي ونظام حكومي، ولهم شيء من ثقافة الدِّين أو العلم قلَّت أو كثُرت.
والآن نتساءل: كيف نشأت الحضارة؟
- (١)
صناعة السلاح من الأحجار للصيد.
- (٢)
إيجاد حرمة لنسائه وقت غيابه، وهذا أول الأخلاق.
- (٣)
اجتماع النساء معًا، وفي ذلك تنشيط اللسان على الكلام وإيجاد لغة للتفاهم.
- (٤)
استئناس بعض الحيوانات الصغيرة التي قُتلت أباؤها في الصيد.
ولكن كل ذلك لم يكن ليكفي لإيجاد حضارة؛ فقد كان الإنسان لا يزال يعيش عريانًا لا يعرف شيئًا عن الصناعات المختلفة، يجهل القراءة ولا يعرف من الدين سوى أرواح الغابة وما يتشوَّش به ذهنه من الأحلام، والحقيقة أنه لم يكن في حاجة إلى الحضارة؛ فقد كان مشرَّدًا لا يهدأ بمكان ولا يطمئن إلى صناعة.
وإنما ابتدأت الحضارة حين عرف الإنسان الزراعة؛ لأن الزراعة تقتضي الإقامة بمكان لا متحوَّل عنه، والإقامة تستدعي السكنى في كوخ، فتنشأ صناعة البناء، ثم يصير استئناس الحيوان — الذي كان يحدث اتفاقًا وقت الصيد — تدجينًا دائمًا، فتُعرف صناعات الألبان والأصواف والأوبار، ويعرف الإنسان من اللبن فوائد الخميرة، فيستعملها في خبزه وجعته.
والزراعة تقتضي التوقيت المُحكَم، فيضطر الإنسان إلى معرفة شيء عن الكواكب؛ لأن الإنسان وهو في البداوة يكتفي بالتوقيت القمري، وهذا لا ينفعه بشيء في الزراعة؛ فهو لذلك محتاج إلى معرفة السنة الشمسية، ولا بد له من شيء من الفلك لإتقان ذلك، ثم هذا التوقيت لا يمكن إتقانه ما لم يضبطه بالكتابة.
فالحضارات الأولى نشأت عند الأمم الزراعية في البلاد المعتدلة الحرارة؛ مثل مصر، أو العراق، أو الهند، أو الصين، وأقدم حضارات العالم التي عرفها العلماء الآن هي حضارة مصر؛ ولذلك يمكننا أن نقول إن مصر هي أصل الحضارة في العالم أجمع.
ولست أنزع في هذا الكلام نزعة وطنية، فإن العلماء الإنجليز والأمريكيين يتجهون إلى هذا الرأي الآن، وأمامي الآن كتاب لأحد علماء الإنجليز يُدعى: «أبناء الشمس» تأليف بري العالم الإنجليزي، يبلغ عدد صفحاته ٥٥١ صفحة، يستقصي فيه المؤلِّف آثار الحضارة المصرية في آسيا وأمريكا.
والمنطق والتاريخ يؤيدان هذه النظرية؛ فإن الإنسان كان طيلة الوقت الذي سبق اكتشاف الزراعة خلوًا من أي معنى للحضارة، وكيف يكون متحضرًا من يعيش في الغابة يأكل الأثمار والجذور ويصيد من وقت لآخر وحشًا؟! فإن هذه الحياة لا تتطلب منه معرفة أية صناعة سوى صناعة الصيد.
فإذا سلَّمنا بأن الزراعة هي أصل الحضارة بقي أن نعرف أن الأمم الزراعية سبقت غيرها؛ إذ لا بد أن واحدة منهن قد سبقت الجميع، ولسنا نعرف من تاريخ بابل أو الهند أو الصين أن إحدى هذه الأمم تساوي مصر في قدم تاريخها.
والاستقراء يثبت أن الثقافة المصرية، من دينية وصناعية، قد خرجت من مصر وسارت في جميع آسيا، بل وصلت إلى أمريكا؛ حيث عُرف أسلوب من التحنيط المصري في وقت كان قد مات فيه من مصر؛ إذ كانت المسيحية قد انتشرت عندنا، على نحو ما نرى الآن الصناعات التي كانت فاشية في عهد الحروب الصليبية قد انتشر استعمالها الآن بين زنوج إفريقيا الغربية الذين يصنعون السيوف والدروع على طريقة الصليبيين.
ولا بد أن الحضارة الأولى نشأت في بلاد معتدلة الحرارة حول أحد الأنهار؛ لأن الزراعة التي هي أول أنواع الحضارة لم تكن مستطاعة في العصور الأولى في بلاد شديدة الحرارة أو شديدة البرودة.؛ لأن شدة الحرارة تسرع نمو النبات والأعشاب فلا يستطيع الإنسان السيطرة عليها، ولا يزال للأن سهل الأمازون في برازيل غير آهل بالسكان؛ لكثرة غاباته وأحراشه التي لم يقدر الإنسان على التغلب عليها.
وكذلك شدة البرودة تبطئ نمو الزرع، ويتكلف فيها الزُّرَّاع مشقة أكبر مما يتكلفه الزُّرَاع في البلاد المعتدلة الحرارة، وإنما تنجح الزراعة في أوربا الآن لكثرة الآلات العصرية.
فبلاد مصر هي أولى البلاد التي ظهرت فيها الزراعة في العالم لاعتدال مناخها، وهي لذلك أول قطر عرف الحضارة في العالم؛ لأن الزراعة أجبرت المصري على أن يعرف صناعة البناء (والخزف ضمنًا) وتدجين الحيوان وخميرة الخبز والجعة والتوقيت، وهو يحتاج إلى معارف فلكية عن الشمس والكواكب، ثم الكتابة لكي يضبط بها التوقيت في تقويم خاص.
وما زلنا نحن للآن نشهد بصحة توقيت قدماء المصريين باستعمالنا تقويمهم في الزراعة؛ فإن السنة القبطية هي السنة المعوَّل عليها بين الفلاحين الآن، ومن الحروف الهيروغليفية الصورية اهتدى الفينيقيون وغيرهم إلى حروف أبجدية انتشرت في جميع أنحاء العالم.
وبوجود الزراعة في مصر وُجد مجتمع منظم، ووُجد نظام للكهنة وأوقاف للمعابد، وصار الدين عقائد ثابتة لا تتغير، وكل هذه الأنظمة خرجت من مصر وفشت في البلاد الأخرى، بل ربما كانت لفظة «آمين» المنتشرة في العالم الآن التي تختم بها الأدعية هي نفسها لفظة «آمون» الرب المصري القديم؛ لأنها في الهيروغليفية تكتب «آمن»، ويمكن أن تنطق أمان وأمين وأمون.
وهذه هي الحضارة، وهي لا تختلف عن حضارتنا الراهنة إلا من حيث الدرجة لا من حيث النوع، فمنذ عرف الإنسان الزراعة بدأت الحضارة.
أما كيف عرف الإنسان الزراعة فلا يزال موضع شك، وقد قيل في ذلك أنه عندما كان الإنسان يدفن موتاه كان يضع بعض الأثمار معه حتى يأكلها؛ اعتقادًا بأنه يحتاج إلى الطعام بعد وفاته، فكانت البذور التي في الأثمار تنمو، بل تنمو زكية لأنها تتغذى بسماد الجثة المتوفاة، فكان هذا داعيًا إلى تنبيه ذهنه إلى الزراعة وإلى الإيمان بأرواح الموتى أيضًا.
ومن الإيمان بأرواح الموتى ترقَّى الإنسان إلى الإيمان بالآلهة، ومما يزيد هذا الظن أن الأمم القديمة، وبعض الطوائف المتوحشة الحديثة، كانت تضحي بإنسان أو بماشية وتقطِّعه أجزاء توزعها في الحقول حتى يزكو الزرع؛ كأنها تجري على التقليد القديم حين كان يعتقد الإنسان أن الزرع لا ينمو إلا عن واسطة ميت، وربما ابتدأت الملكية في الأرض أيضًا من هذا الأصل؛ لأن من دفن قريبًا له صارت الأرض حوله حرمًا له يزرع فيه ما يشاء، ويكون الزرع ملكه؛ لأن روح الميت التي أنبتته هي روح قريبه الذي لا حق لأحد عليه غيره.
وسواء أصحَّت هذه الفروض عن الزراعة أم لم تصح فإن الذي يمكن الجزم به أن الزراعة هي أصل الحضارة، وأن القطر المصري أول ما زرع من أقطار العالم، فهو بذلك أصل حضارته، وانتظام الفيضان الذي يأتي به النيل كل عام مع مواظبته في مواعيد محددة كان جديرًا بأن يفتح أذهان المصريين القدماء إلى قيمة الماء في حياة النبات، وبأن يرشده إلى الزراعة.
وبتقدُّم الصناعة وظهور المعادن صارت الزراعة تتجه نحو الشمال بالتدريج، في أفينيقيا أولًا، ثم في بلاد الإغريق، ثم في إيطاليا، ثم في أوربا، صاعدة من الجنوب إلى الشمال؛ أي من الحر إلى البرد.
وأغلب الظن أن الزراعة نشأت أولًا على عمل الرقيق، وللرِّقِّ فضل على الإنسان؛ لأنه علمه مزاولة العمل والإقلاع عن حياة التشرد في الغابات، وفي معاني «عَمَل» و«شُغْل» و«نَصَب» ما يدل على أن الإنسان القديم لم يكن يستسيغ العمل.
وكما كانت الزراعة أصل الحضارات القديمة فهي لا تزال أساس الحضارات الحديثة، ولكن ظهر عامل جديد في الحضارة، وهو الصناعة التي يختلف أثرها الاجتماعي عن أثر الزراعة؛ فالزراعة تدعو إلى تشتيت العمال، كما هو الحال في الهند ومصر، وهذا يساعد على وجود حكومات استبدادية، وأيضًا تتوافر فيها الأقوات الرخيصة ويتكاثر فيها السكان، فتنتشر الفاقة بين العمال الفلاحين لهذا السبب، والفاقة تدعو إلى الاحتقار والمهانة، ثم إلى استبداد الأغنياء بالفقراء.
أما حيث تكون الحضارة صناعية فإن أجور العمال تبقى مرتفعة والأقوات غالية الثمن، وارتفاعها يدعو إلى احترامهم؛ لأنهم لا يظهرون بمظهر الفقر المهين، والعمال يتجمَّعون حول المصانع ويتعاونون على صيانة حقوقهم وزيادتها، وهنا تنشأ الحكومة الديمقراطية، ومن هنا نفهم السبب في ديمقراطية الحكومات الأوربية.
والحضارة الأوربية تتجه الآن نحو الاشتراكية بلا جدال، يساعدها على ذلك نزعة الأهالي الديمقراطية وكثرة الآلات؛ فإن انتشار الآلات والمصانع الكبيرة لا يتفق والملكية الفردية.