تطور اللباس
ليس تاريخ اللباس عند الإنسان سوى تاريخ الزينة والحلي؛ فإن الإنسان لم يلبس اللباس في أول أمره اتقاء للبرد والحر، وإنما هو قصد منه إلى الزينة فقط، وهذا هو حال جميع المتوحشين الآن؛ فبعضهم — مثل الفويجيين — لم يعرفوا اللباس قط في تاريخهم، ولا هم في حاجة إليه الآن مع صرامة الجو الذي يعيشون فيه.
ونحن إذا نظرنا الآن إلى لباس السيدات عندنا أو عند الغربيات وجدنا أن الزينة هي العامل الأكبر في انتقاء الزي، وأن المحل الثاني للفائدة الصحية أو لا محل لها على الإطلاق، ونحن الرجال لا يزال في لباسنا شيء كثير من الزينة الخالية من أية منفعة لنا، كما نرى في الطربوش الأحمر وعَذَبته السوداء، ورباط الرقبة، والأزرار العديدة، والخواتم وغيرها.
ولذلك فالكلام عن تطور اللباس هو في أكثره شرح لضروب الزينة التي تزيَّن بها الإنسان من أقدم عصوره إلى الآن، وأكبر ما يبعث الإنسان على الزينة هو ظهور المرأة بمظهر يلفت إليها نظر الرجل ويستدعي إعجابه، وظهور الرجل بمظهر يلفت إليه نظر المرأة؛ لأنه لم يكن في العالم شأن عند الإنسان القديم — بعد الطعام — أهم من العلاقة الجنسية التي تربط النساء بالرجال، فهذه العلاقة التي تشغل عقلنا الكامن (الباطن) الآن، والتي هي مبعث أكثر خواطرنا وأحلامنا، كانت كذلك عند الإنسان الأول، بل كانت أشد من ذلك؛ لأن مشاغله كانت محدودة بالنسبة إلى مشاغلنا، فكان أكثر اجتراره الفكري خاصًّا بالشهوة الجنسية.
فالوَزْرَة التي يغطي المتوحش بها أعضاءه التناسلية لا يدفعه إلى وضعها الحياء من الناس، بل هو يقصد منها إلى لفت نظر الأنثى إليه، وكذلك الحال في الوزرة التي تضعها المتوحشة، وهذا هو السبب في أن هذه الوزرة لا تزيد أحيانًا عن أن تكون عقدًا من الودع والصدف لا يخفي شيئًا، بل يؤكِّد معنى؛ فالحياء من المعاني الحديثة التي أنتجها التمدُّن، والتي لا يعرفها الإنسان المتوحش أو الحيوان، بل الذي أوجدها هو اللباس.
وكلمة «الحياء» مشتقة من «الحيا» وهو عضو التناسل في المرأة، ولا بد أن الإنسان عند بدء خروجه من الحالة الحيوانية كانت بشرته مغطاة بالشعر، وهو لم يتجرد من شعره إلا بالتدريج، بل هو لم يتجرد منه تمامًا للآن.
وربما كان «الانتخاب الجنسي» العامل الأكبر في هذا التجرد؛ فلأمر ما قام في ذهن الرجال منذ زمان بعيد أن المرأة المتجردة من الشعر أجمل من المرأة الكاسية به، فصارت أقل النساء شعرًا أكبرهن أولادًا، وهؤلاء الأولاد يرثون أمهم في قلة الشعر، وما يحدث في المرأة ينعكس أثره بحكم الوراثة في الرجل، فيتجرد الرجل أيضًا من الشعر، وإن كان تجرده أخف من تجرد المرأة (على نحو ما ظهرت الثديان في صدر الرجل تبعًا لظهور الثديين في صدر المرأة).
ومن ضروب الزينة التي تؤيد نظريتنا، وهي أن الحياء ليس أصلًا للباس، أن الشعر ينمو حول الأعضاء التناسلية عند الرجال والنساء دون سائر قرابتنا من القردة العليا؛ فهذا الشعر حديث العهد، وهو لا يقصد منه إلا لفت النظر وابتعاث الخواطر الجنسية في الأنثى والذكر.
وقد تكون معرفة الإنسان بالنار وتعوده الاصطلاء بها من الأسباب التي دعت إلى زوال الشعر أو قتلته؛ فالنار تؤدي وظيفة الشعر في الدفء، ثم هي تؤذي الرجل الشعراني، وقد تؤدي إلى احتراقه.
ومن ضروب الزينة التي يمارسها الهمج الآن، وربما كان أسلافنا يمارسونها أيضًا، تحزيز الوجه والجسم، ولعل الأصل في ذلك أن يثبت الإنسان أنه قد تمرَّس بالقتال وجُرِح، على نحو ما يفخر الطلبة في الجامعات الألمانية الآن بما تركته المبارزات من الجراح في أجسامهم.
ومن ضروب الزينة أيضًا صبغ الوجه بصبغة ما؛ فالهمج في أستراليا — مثلًا — يمضغون ورق اليوكالبت (الذي يسمى في مصر خطأ بالكافور)، ثم يدلِّكون بمضاغهم بشرتهم، فتكتسب بذلك لونًا أخضر، والأصباغ التي تستعملها النساء الآن لا تحتاج إلى شرح.
ومن التحزيز والإصباغ نشأ الوشم الذي لا يزال يمارسه المتوحشون في إفريقيا وغيرها، والمنحطون من المتمدنيين في بلادنا؛ فالوشم هو تحزيز في الجسم يوضع فيه الصباغ.
وبعض الزينة له قيمة سحرية؛ فبعض نسائنا يتزيَّنَّ بحِلْية قبيحة من الذهب تُدعى «كف مريم»، وكذلك يفعل المتوحشون فيحملون على صدورهم يدًا أو سنًّا يتوهمون أنهما تردان عنهم عادية الأرواح البشرية.
ولكن كل هذه الزينة لم تكن لتؤدي إلى اللباس الذي نعرفه الآن، والذي صار فيه معنى الوقاية من الحر والبرد، والأصل في اللباس هو في الأغلب عادة الرجال الذين فازوا في صيد أحد الحيوانات في وضع فروه أو جلده على أكتافهم؛ للفخر والتزيُّن أمام الرجال والنساء؛ فمن صاد حيوانًا مفترسًا؛ كالأسد أو الببر، حمل جلده شهادة على بسالته وقوته، فيغطيه الرجال وتعجب به النساء، ويبقى يحمل هذا الجلد كل يوم لهذه الغاية، وينافسه آخر في هذا العمل حتى يصير حمل الجلود أو الفراء سنَّة متبعة عند الجميع، ثم تعرف قيمتها بعد ذلك في الدفء.
وقد مضى دهر طويل والإنسان يلبس جلود الحيوان قبل أن يعرف المنسوجات؛ فإن هذه كانت تحتاج قبلًا إلى الزراعة، وإلى عدة فنون أخرى.