تشارلس داروين
تُعزى نظرية التطور إلى داروين، حتى إنها كانت تسمى إلى وقت قريب «الداروينية» كأنها مذهب ديني ينتسب إلى إمام معين، ومن حق القارئ أن يعرف شيئًا عن ترجمة هذا المفكر العظيم؛ لأنه لا يمكِّن مؤلَّفًا أن ينفصل من مؤلفاته؛ إذ هي تصطبغ وفق مزاجه وذكائه، وقبل كل ذلك وفق العوامل الثقافية التي تعاصره.
ينتسب تشارلس داروين إلى أسرة اشتهرت بالذكاء؛ فإن جده لأبيه هو «أرازموس» الذي عالج نظرية التطور بالذات، وحاول أن يصل إلى حل لعقدتها؛ أي أصل الأنواع، وله مؤلفات في النبات؛ مثل «معبد الطبيعة» و«الحديقة اليونانية»، وكلاهما يتسم بالنظرة الشاملة والنزعة التعميمية اللتين تبرزان في مؤلفات حفيده.
أما جده لأمه فهو «ويدجود» الخزاف العظيم الذي لا تزال مصنوعاته من الأطباق والزهريات تباع تحفًا غالية يقتنيها الأثرياء للفخر، ويعرضونها في مناظرهم للضيوف.
ومن هذين الجَدَّين يعرف القارئ أن التراث الذهني الذي ورثه داروين من عائلتي أبيه وأمه لم يكن مما يستهان به.
وولد داروين في ١٨٠٩، وحصل على التعليم المألوف في مدارس الطبقة المتوسطة، ثم التحق بجامعة أدنبره كي يخرج طبيبًا، ولكنه بعد سنتين كف عن التحصيل؛ نفورًا من الطب، ثم انتقل إلى جامعة كمبردج كي يخرج قسيسًا، ثم كف أيضًا عن التحصيل، وكان طيلة أيامه في هاتين الجامعتين متعلِّقًا بهوايته التي صارت بعد ذلك رسالة حياته وغاية وجوده في هذه الدنيا، وهي دراسة الحيوان والنبات.
ولم يكن «العلم» بمعناه العصري مما يُدرس في هاتين الجامعتين، ولم تكن له شهادة دراسية؛ ولذلك حصل داروين على دبلوم الآداب، بكلوريوس ثم ماجستير في الأدب.
ومن هنا نفهم أن داروين لم ينتفع بتاتًا بالجامعة، وتخبُّطه بين الطب والكهانة يدل على تبلبل ذهنه وتسكعه في الثقافة، كما نفهم أنه لم يكن لهاتين الجامعتين أي فضل في اهتدائه إلى نظرية التطور، وكل ما يذكره داروين أنه عرف «الأستاذ هنسلو» في الجامعة، وأنه كان يسدِّده ويرشده في جمع الحشرات والنباتات النادرة، ويذكر زملاء داروين في شبابه أنه كان مغرمًا بجمع الحشرات، وكان يخرج في رحلات خاصة يبحث فيها عن النباتات الغريبة في البحر واليابسة.
وقد كتب داروين بعد ذلك تفاصيل هذه الرحلة التي رأى فيها الفويجيين المتوحشين في أمريكا الجنوبية، كما رأى السلاحف العظيمة والنباتات الغريبة — في كتاب مستقل نجد فيه تجرثُم الفكرة التي كانت رسالة حياته بعد ذلك في تفسير نظرية التطور وتعميمها في العالم المتمدن، وهذا الكتاب يحوي معارف نادرة كثيرة، كما يدل القارئ على عناية داروين بالتفاصيل.
ولما عاد إلى لندن أخذ في ترتيب أوراقه، وكان من وقت لآخر يلقي محاضرات في الجمعيات العلمية في شأن الأحياء الغريبة التي لقيها في رحلته.
وتزوَّج ابنة عمه، وبقي في لندن سنوات قليلة، ثم رحل إلى قرية داون، وهي تبعد بضعة أميال عن لندن، وتمتاز بالبيئة الريفية التي يحتاج إليها؛ أي السكون للدراسة أولًا، وقلة الاختلاط الاجتماعي الذي يفسد عزلة الكاتب المفكر ثانيًا. وهذا إلى وفرة النباتات والحشرات والطيور والدواجن، وكان قد ورث ثروة من والديه تغلُّ له دخلًا متوسطًا يكفي المعيشة المعتدلة فوق الحاجة ودون الترف.
وهنا استقر وشرع يؤلِّف، وأخرج كتابه العظيم «أصل الأنواع» في ١٨٥٥، فارتجَّت الدنيا به كما لو كان قنبلة قد انفجرت وأسمعت الجامعات التي كانت تدرس الآداب، بل الغيبيات الخرافية والتي كان كثير من مدرسيها دكاترة في الإلهيات يعتقدون أن أسطورة آدم وحواء تكفي لتفسير الخلق، وقوبل الكتاب من الأكثرين بثورة من الغضب والحنق والاشمئزاز والنفور والسخرية، وقوبل من الأقلين بالرضى والتعقل.
ولم تمضِ سنوات حتى كان قد أعيد طبعه وتُرجم إلى أكثر من عشر لغات متمدنة، وكان هذا الكتاب جرثومة لتفكير توجيهي جديد، ليس في النبات والحيوان فقط، بل في الاجتماع والاقتصاد والدين والسياسة، وكان داروين في هذا الكتاب متحفظًا مستحيًا، ولكنه تجرَّأ بعد المجادلات، التي وصلت أحيانًا إلى السباب، على أن يؤلِّف كتابًا آخر هو «أصل الإنسان»، وموضوعه أننا والقردة من أرومة واحدة.
وفي ١٨٧٢ ألَّف كتابًا آخر، هو «التعبير العاطفي» في الحيوان، ثم ألف في ١٨٧٥ كتاب «النباتات التي تأكل الحشرات»، وهذا غير رسائل عديدة موجزة أو مفصلة عن موضوعات نباتية أو حيوانية.
وبقيت مجلة «بنش» الفكاهية سنوات وهي تستمد من نظرية التطور، ومن داروين نفسه، موضوعًا أسبوعيًّا للفكاهة، ولكن فكاهتها كانت خالية من السخرية، مقصورة على الدعابة، كما ترى من هذه الأبيات التي كتبتها في ١٨٧١، وفيها تصف أسلافنا كما صورهم داروين:
•••
والناظم هنا يتهكم بالمتمدِّنين كما يتهكم بداروين، ولا نحتاج إلى ترجمة هذه الأبيات؛ لأنها سهلة مفهومة، كما أنها في الترجمة تفقد لذعتها.
وكان داروين مديد القامة يبلغ ١٨٠ سنتيمترًا، وكان من الطراز الذي نسميه في عصرنا انبساطيًّا؛ أي كان وجهه مستديرًا، قد بكَّر الصلع في رأسه، وكان سيئ الهضم كثير الشكوى، يحتاج إلى عناية خاصة في تهيئة الطعام، ولعله انتفع بهذا المرض الذي أكسبه عادات السكون والتأمل.
وكان يُعرف في القرية باسم «الدكتور»، لا يجهله أحد من سكانها الذين كانوا يحبونه ويحترمونه، وكان يخرج عصاري كل يوم على جواده للنزهة ومعه كلبه، ولما مات الجواد لم يشترِ غيره، وصار يكتفي بالسير في الطرق المتنحية بين الحقول، ولم يكن يشرب الخمر ولكنه كان يدمن التدخين، حتى كان يضع علبة الدخان خارج الغرفة كي يجد من بُعدها عنه مثبطًا عن الإدمان، وكان يستيقظ في السادسة من الصباح وينام في العاشرة مساء.
وقد أنجب سبعة أولاد مات منهم في الطفولة والصبا اثنان، أما الخمسة فقد نشأوا نشأة حسنة ونجحوا في الحياة، وفي السنوات العشر الأخيرة من عمره قبل وفاته في ١٨٨٢ كانت داره محجًّا للعلماء، يفدون إليه من القارات الخمس.
هذا هو الرجل الذي أكسبنا تصورًا جديدًا للحياة، ونقل التفكير البشري من النظر الغيبي الخرافي للكائنات الحية إلى النظر المادي الواقعي.
وفي فرنسا يُعطى لتلاميذ المدارس الثانوية كتاب «براون سيكار» عن الغدد الصم للمطالعة والدارسة، وهو في ميدانه لا يقل في القيمة البذرية للتغيير الثقافي عن «أصل الأنواع» لداروين أو يقاربه، ولكن داروين وبراون سيكار لا تحبهما وزارة المعارف المصرية، وتؤثر عليهما الماوردي وابن المقفع ونكات العباسيين وأشعارهم في الهجاء والمديح، وهذا أحد الأسباب التي تمنع تغيُّرنا؛ أي تطورنا، وتبقينا أمة شرقية تتعلق بالتقاليد والخرافات، وتكره الابتكار والابتداع.