التطور في قشرة الأرض
قشرة الأرض مؤلَّفة من طبقات أبعدها في العمق أبعدها أيضًا العمر، وهي متراكمة؛ الواحدة فوق الأخرى، وقد تتداخل هنا وهنا بفعل ثوران باطن الأرض، ولكن استقراءنا للطبقات في جميع القارات الخمس قد أنتج لنا نظامًا لهذه الطبقات نعرف منه درجة القدم في كل طبقة
وفي كل من هذه الطبقات نجد متحجرات النبات والحيوان، ومتحجرات كل طبقة تختلف عن متحجرات أية طبقة أخرى مع شيء من التداخل أيضًا؛ أي قد توجد متحجرات في طبقة ما ثم نجدها أيضًا في الطبقتين المتحجرتين العليا والسفلى، ومرجع هذا التداخل حركات بركانية انفجارية أفسدت ترتيب الطبقات.
وهذه المتحجرات إذا تتبَّعناها من الطبقة السفلي حتى الطبقة العليا التي نعيش عليها فإننا نجدها توافق موكب التطور. وقبل الكلام عن دلالة هذه المتحجرات يجب أن نشرح كيفية قياس الطبقات، بحيث نعرف عمر كل منها، ومبلغ السنين التي مضت عليها، ثم كيفية حدوث التحجر في الحيوان أو النبات.
فهناك عدة طرق تُعرف بها عمر الطبقات، أسهلها وأقربها إلى أذهاننا نحن المصريين ما نعرفه من رواسب الأنهار؛ فإن النيل في كل سنة تنساح مياهه في أرض مصر، وتفيض فيها وتتبخر وتبقى رواسبها، فهذه الرواسب ترفع سطح القطر المصري كل عام بمقدار صغير، فإذا حسبنا أن سطح مصر يرتفع مليمترًا في العام بهذه الرواسب فهو يرتفع مترًا كاملًا في ألف عام، أو ألف متر في مليون عام، فإذا وجدنا حيوانًا متحجرًا على عمق ٥٠ مترًا حكمنا بأنه مات منذ خمسين ألف عام.
وما تفعله الأنهار تفعله الأمطار الكاسحة أيضًا.
والآن قد يتساءل القارئ: كيف يتحجَّر النبات أو الحيوان؟
فالجواب أنه كثيرًا ما يسير حيوان فيقع عليه جرف فيدفنه تحته، أو تزلُّ قدمه فيقع في هاوية ثم ينهار عليه التراب من الجوانب فيدفنه، أو قد تنخسف الأرض التي تحمله لفورة في باطنها فيموت تحت ما يتجمَّع حوله من التراب، أو قد يتورَّط في منقع يعجز عن الخروج منه ويموت مدفونًا في طينه، وهذه الأحوال نادرة الوقوع؛ ولذلك فالمتحجرات من النوادر، ونحن لذلك لا نجد كل أنواع النبات والحيوان القديمة، وإنما نجد نوعًا ما يبصِّرنا بما جاء قبله وما جاء بعده.
والحيوان أو النبات المتحجِّر لا يوجد بلحمه وشحمه كما كان في حياته، وإنما يوجد حجرًا قد اتخذ هيئته في حياته وقت موته، وسبب تحوُّله من المادة الحية إلى مادة حجرية أنه عندما يُدفن تحت التراب، وتنزل فوقه الأمطار، تتسرب مياهه إليه فتفسد مادته وتعفَن شأن كل حي، فإذا تعفَّنت تحولت إلى غازات وتطايرت، فيبقى مكانها خاليًا بالهيئة التي مات عليها الحيوان أو النبات.
والمطر إذا تسرب إلى هذا المكان الخالي حمل معه الأملاح التي تذوب فيه وهو يمر بالأتربة التي فوق الحيوان أو النبات المدفون، فهذه الأملاح تتراكم سنة بعد سنة، ومادة الحيوان تفسد وتتحلَّل وتذهب سنة بعد سنة، حتى يجيء وقت يصير فيه الحيوان أو النبات قطعة من الأملاح أو الحجر.
ولطبقات الأرض التي ظهرت فيها الحياة أسماء مختلفة، نستغني عنها ونكتفي بذكر الدهور التي تعاقبت على الأحياء من بدء الخلية الأولى حتى عصرنا الحاضر، ويجب أن نتذكر أننا لا نجد تحت هذه الطبقات سوى صخور بركانية لم يظهر فيها أثر للحياة؛ لأن الحياة لم تكن قد نشأت بعد؛ لحرارة الأرض التي لم تكن قد بردت بدرجة تسمح للحياة بالنشوء.
- (١) الدهر القديم: وفيه ظهرت الحياة الأولى المؤلَّفة من خلية واحدة؛ مثل الألجة، وهي طحلب بحري لا ورق ولا جذع ولا جذر له، لا يزال موجودًا (منه ما هو ذو خلية واحدة، ومنه ما هو ذو عدة خلايا)، وظهرت الخلية الأولى من الحيوانات أيضًا.
وعمق طبقات هذا «الدهر القديم» يبلغ ٧٠٠٠٠ قدم، ولسنا نجد أثر الحياة فيه، وإنما نحن نفرضها؛ وسبب ذلك أن الأحياء التي ظهرت فيه كانت هلامية صغيرة جدًّا فلم تترك أثرًا، ثم إن قُرب طبقات هذا الدهر للصخور البركانية أحالها هي نفسها إلى صخور متبلورة بفعل الحرارة، فضاعت منها معالم الحياة.
- (٢) الدهر الأوَّلي: وله ٣ طبقات ثخانتها كلها ٤٢٠٠٠ قدم، وهي أعمق الطبقات المشتملة على متحجرات، وفيها نرى عدة متحجرات من المحار والإسفنج والمرجان والقشريات؛ (كالجنبري والسرطان)، والسمك، كما نجد أيضًا حيوانًا صدفيًّا ذا خلية واحدة لا بد أنه كان يعيش في «الدهر القديم»، ونجد من النبات «الألجة» النبات البحري الذي ذكرناه في الدهر السابق.
- (٣) الدهر الثانوي: وله ٥ طبقات أيضًا، ثخانتها ١٥٠٠٠ قدم، وفيه نجد الصنوبر والنخل والزواحف والطيور والأسماك والحيوانات الكيسية (التي تحمل أولادها في كيس تحت بطنها؛ مثل الكنغر في أستراليا).
- (٤) الدهر الثالثي: وفيه ثلاث طبقات سمكها ٣٠٠٠ قدم، وفيها متحجرات الثعابين والقياطس والقردة والأشجار الموجودة الآن.
- (٥) الدهر الرابعي: وفيه الطبقة الأخيرة، وثخانتها ٦٠٠ قدم، وبه متحجِّرات الماموث؛ أي الفيل الأشعر المنقرض، وذوات الأربع الصوفية، والإنسان، وجميع الأشجار الحاضرة.
فأنت ترى من هذا أن المتحجِّرات تدل على أن الأحياء لم تخلق كلها مرة واحدة، وإنما تدرَّجت؛ فلسنا نجد الإنسان في طبقات أي دهر ما عدا الدهر الرابعي الأخير، ولكننا نجد الإسفنج في جميع الطبقات منذ الدهر الأولى، ونجد أن الزواحف قد سبقت الطيور واللبونات، ونجد أن أول ما يظهر من الأحياء في الطبقات العميقة هو تلك التي هي في الواقع أبسطها تركيبًا، ثم يتدرَّج الحي من البسيط الذي لم تتخصص الوظائف في جسمه إلى المركب الذي تخصصت وظائف جسمه كل منها في مكان.
والمتحجِّر من الحيوان يدلنا على الصلة التي تصل بينه وبين ما قبله؛ فمثلًا: متحجرات الطيور نجد لها أسنانًا مثل الزواحف، ومتحجرات الفرس نجد لها بدل الحافر أصابع في قدميها مثل الحيوانات التي نشأت منه، وهلم جرًّا.
ومما يساعدنا على درس التطور أن الأحياء الدنيا لا تزال موجودة، فإذا نحن عرضنا أحياء العالم الباقية إلى الآن وجدنا فيها ما يدل على التطور دون حاجة إلى الرجوع إلى المتحجرات في طبقات قشرة الأرض، ولكن هذه المتحجرات تنفي أقل شبهة تعترينا عن التطور؛ فهي تاريخ قديم كتبته يد الطبيعة نعرف منه كيف نشأنا، وكيف ارتقينا إلى حالنا الحاضرة.
ونحن ندرك من ذلك أن الأحياء الدنيا بطيئة التطور، أما العليا فسريعة التطور؛ لهذا لا تزال الأحياء الدنيا التي ظهرت في «الدهر القديم» عائشة بيننا، كما نعرف ذلك من الميكروبات والبكتيريا والخمائر، أما الأحياء العليا فسريعة التطور، فهي لذلك سريعة الانقراض، ومن هنا نعرف السبب في أن «الدهر القديم» كان أطول جدًّا من «الدهر الثالثي» مثلًا.
ونستنتج أيضًا أن التطور الآن أسرع مما كان، ونحن نبصر شيئًا من ذلك إذا قابلنا الأحياء الدنيا؛ فإذا وضعنا مئة محارة في صف واحد وأردنا تمييز كل واحد عن الأخرى صعب علينا ذلك، ولكننا إذا وقَّفنا مئة إنسان صفًّا واحدًا وجدنا الاختلاف والتمييز ظاهرين بين كل شخص وآخر، وهذا الاختلاف داعية إلى التطور.
فالأحياء يسرع تطورها بنسبة ارتقائها، ولذلك سيكون التطور في المستقبل أسرع مما كان في الماضي؛ فالمئات ستأخذ مكان الآلاف، والآلاف تأخذ مكان الملايين من السنين.
وهذا طبق ما نعرفه من الحياة؛ فالحياة تختلف عن الجماد في رغبتها الدائمة في أن يخرج كل حي متميزًا عن غيره بشيء ما؛ فالأحياء الدنيا قليلة النصيب من تحقيق أغراض الحياة، فهي لذلك جامدة تخرج على وتيرة واحدة، أو ما يشبه أن يكون كذلك، أما الأحياء العليا فقد تحققت فيها أشياء كثيرة من أغراض الحياة؛ فهي لذلك تسايرها في أهم خواصها، وهو التغير والاختلاف والتميز، أو بعبارة أخرى سرعة التطور.