تقديم الكتاب
هذا كتاب سيراه الناس جديدًا، وما أرى أنهم سيتلقونه بما تعوَّدوا أن يتلقوا به الكتب من الدعة والهدوء، وما أحسبني أخطئ إن قدَّرت أنهم سيُدهَشون له، وأن كثيرًا منهم سيضيقون به، وقد يتجاوزون الضيق إلى الخصومة العنيفة والإنكار الشديد؛ لأن الكتاب جديد كما قلت، في أصله وفي صورته، وهو من أجل ذلك يخالف كثيرًا جدًّا مما ألف الناس، وقد يغير كثيرًا جدًّا مما ألف الناس، فلا غرابة في أن يلقوه بالدهش، وفي أن يثور به الثائرون.
ولكني مع ذلك لا أقدمه إلى الناس كما أقدم شيئًا جديدًا بالقياس إليَّ، فإن عهدي به قديم، وإلفي له متصل، ولست أجاوز القصد إن قلت إني لقيته لقاء الصديق، واستمعت له كما أستمع لحديث الصديق، في كثير من الحب والحنان والوفاء، فهو يذكرني أكثر أطوار حياتي العلمية، منذ أخذت أطلب العلم صبيًّا وشابًّا إلى الآن؛ ذلك أنه كتاب نشأ مع عقل صاحبه، وتطور بتطوره، واختلفت عليه الصروف، كما اختلفت على صاحبه الصروف، ثم خرج منها كما رأيته وكما سيراه القراء، قويًّا صلبًا متينًا، لا يعرف الضعف ولا الفتور، ولا يعرف الخور ولا لين القناة.
أنا قديم العهد به، ألقاه الآن لقاء الصديق؛ لأني قديم العهد بصاحبه، ما لقيته قط إلا امتلأت نفسي بهجة ورقة وحنانًا؛ لأني أرى فيه خير ما مر بي من أطوار الحياة، وشر ما مر بي من أطوار الحياة أيضًا. وأراه الصديق الأمين والأخ الوفي في أطوار الخير والشر جميعًا، وأرى معه هذا الكتاب يتحدث إليِّ به، ويجادلني فيه، ويلح عليَّ في الحديث والجدال، فلا يبلغ إلحاحُه مني مللًا ولا سأمًا، وإنما يثير فيَّ رغبة مجردة إلى المناقشة والحوار.
وما رأيك في أني أعرف إبراهيم منذ آخر الصبا وأول الشباب، حين كنا نلتقي في حلقات الدرس في الأزهر الشريف، فنسمع لشيوخنا، ثم نلتقي بعد الدرس فنعيد ما كانوا يقولون، نكبر أقله فنستبقيه في أنفسنا، ونصغر أكثره فنعرض عنه إعراضًا أو نتخذه موضوعًا للعبث والمزاح.
وحين افترقنا فذهب هو إلى دار العلوم وبقيت أنا في الأزهر، ثم أبى الله إلا أن يجمعنا، ولما يمضِ على فراقنا إلا أقل الوقت وأقصره، فإذا نحن نلتقي في غرفات الجامعة المصرية القديمة، نسمع للأساتذة المحدثين من المصريين والأجانب، ثم لا نكاد نخرج من غرفات الدرس حتى يتصل بيننا الحديث كما كان يتصل بيننا في الأزهر، وإذا دروس الجامعة تفتح لحوارِنا آفاقًا طريفة، كنا نستلذ بها ونستحبها، فنمضي في الحوار وننسى له كل شيء وكل إنسان. نقطع الآماد البعيدة ماشين وقد أُنسينا جهد المشي، وصُرِفنا عما حولنا من حركة الحياة واضطراب الأحياء، وقد ننتهي إلى مكان نأوي إليه ثم ننسى أنفسنا فيه؛ قد صُرفنا عن هذا المكان وعن أنفسنا وعمن يحيط بنا من الناس، إلى ما نحن فيه من حوار، وإلى ما نستمتع به من لذة الحديث.
ثم نفترق مرة أخرى، فيذهب هو إلى مصر العليا مشتغلًا بالتعليم، وأذهب أنا إلى ما وراء البحر مشتغلًا بالتعلم، وينقطع الحوار بيننا، وتنقطع الرسائل أيضًا، ويكاد يخيَّل إلى كل واحد منا أنه قد نسي صاحبه، وأن صاحبه قد نسيه. وتمضي على ذلك الأعوام الطوال، ثم نلتقي، ولا نكاد نأخذ في الحديث حتى يتبين كل واحد منا أنه لم ينسَ صاحبه قط، وكأنما التقينا أمس واستأنفنا لقاءنا اليوم، فنحن نصل حديثًا لم نقطعه إلا أمس، وإن كنا قد قطعناه منذ أعوام طوال.
ثم يريد الله أن يجمعنا بعد الافتراق مرة أخرى، فإذا نحن في الجامعة المصرية الجديدة نعمل معًا في التعليم، بعد أن كنا نشتغل معًا في التعلم، وإذا أحاديثنا تتصل في الجامعة الجديدة، كما كانت تتصل في الجامعة القديمة، وكما كانت تتصل في الأزهر الشريف، وإذا الأمر يتجاوز بيننا اتصال الأحاديث، فيجد كل منا لذة في أن يختلف إلى بعض ما يلقي صاحبه من دروس، ويشارك فيما يثير بين الطلاب من مناقشة أو حوار.
ثم تفرق الأيام بيننا — أستغفر الله — تحاول الأيام أن تفرق بيننا فلا تستطيع، أخرج من الجامعة وألزم داري حينًا، وأشتغل بالسياسة العنيفة حينًا آخر، ولكني ألقى صاحبي أكثر مما كنت ألقاه قبل المحنة، ويتصل الحديث بيننا أكثر مما كان يتصل قبل الأزمة، ثم أُعاد إلى الجامعة، وإذا نحن نعود إلى الاشتراك في الدرس، ونمضي فيما كنا فيه من الجدل والحوار.
وكان النحو أشد موضوعات الحديث خطرًا، وأكثرها جريانًا فيما كان يكون بيننا من حوار. ضقنا بأصوله القديمة منذ عهد الأزهر، وأخذنا ننكر هذه الأصول أيام الجامعة القديمة، وأخذنا نلتمس له أُصولًا جديدة منذ التقينا في الجامعة الجديدة.
فأنت ترى أني حين أقدم إليك هذا الكتاب الجديد؛ إنما أقدم إليك صديقًا قديمًا عرفته منذ عهد بعيد جدًّا، ورأيته يشب وينمو ويتطور حتى تم خَلْقه واستوى كما تراه في هذه الصفحات.
ولعلك بعد هذا تصدقني إن قلت لك إني الآن حائر لا أدري أي الطريقين آخذ؟ وأي الطريقين أدع؟ طريق الحديث عن الكتاب، أم طريق الحديث عن صاحب الكتاب؟ فكلاهما يملأ نفسي حبًّا وحنانًا وإعجابًا.
فأما الكتاب، فلأنه لا يصور الحياة العقلية لصاحبه وحده منذ أكثر من ربع قرن، ولكنه يصور طرفًا من أطراف الحياة العقلية لي أنا أيضًا، وإن صاحبي ليقرأ على الباب من أبواب الكتاب فلا أسمع صوت صاحبي، وإنما أسمع صوت إبراهيم، ولا أتجه إلى ما أسمع كما تعودت أن أتجه لما يقرأ عليَّ من الكتب والأسفار، وإنما أتجه له في شيء من الاستعداد للمناقشة والتهيؤ للجدل والتأهب للنقد الشديد، كأني أناقش إبراهيم في مسألة من مسائل النحو، وما أعرف أني لقيته فأطلت لقاءه ثم افترقنا دون أن نلم بطرف من أطراف النحو ونخوض في مسألة من مسائله، ونستحضر قول هذا النحوي أو ذاك، ونحاول تخريج هذا البيت أو ذاك.
والكتاب بعد هذا أو قبل هذا يصور صاحبه أدق تصوير وأصدقه وأبرعه، فهو بريء كل البراءة من هذا الغلو الذي يمتاز به المجدون في لون من ألوان العلم، فإذا هم يفتنون بآرائهم الجديدة، ويفنون فيها، وينسون كل قصد واعتدال، ويتكلفون في سبيل ذلك ما يُقبَل وما لا يُقبَل من الرأي، ويحتملون في سبيل ذلك ما يُطاق وما لا يُطاق من التبعات.
والكتاب بريء من هذا كله، يزينه قصد صاحبه وإيثاره للاعتدال، تقرأه فلا تحس أنك تُنتزَع من النحو القديم انتزاعًا، وإنما تحس أنك تمعن فيه إمعانًا، وكأنك تقرأ كتب الأئمة المتقدمين من أعلام البصرة، أو الكوفة، أو بغداد.
علم غزير صحيح بأصول اللغة وفروعها، ومذاهب النحويين والأدباء في فهم هذه الأصول والفروع وتخريجها، وتحدث عن ذلك بلغة الرجل الذي ألفه وتعوده، فليس متكلفًا له ولا محدثًا فيه، وتواضع لا يفرضه صاحبه على نفسه ولا يحتال في الازديان به، وإنما هو صورة للطبع ومكون من مكونات المزاج.
تواضع تحسه، فيفيض في نفسك حب صاحبه، والميل إليه، والإعجاب به، والثقة بما يلقي إليك من الحديث، وأمانة في الرأي والنقل جيمعًا، لا تكاد تمضي في الكتاب حتى تحسها قوية جلية، كأقوى ما تكون الأمانة وأجلاها، وإذا أنت ترى المؤلف يحاسب نفسه أشد الحساب كلما خطر له رأي، وكلما جرى قلمه بكلمة، أبغض الناس للتزيد، وأشد الناس انصرافًا عن هذا التهاون مع النفس، الذي يبيح لكثير من الناس ما لا يباح للعالم الخليق بهذا الوصف.
ثم فقه بعد هذا كله بدقائق النحو ودخائله، ويجعله يضطرب في هذا العلم العويص الملتوي، كما يضطرب الرجل في بيت ألفه منذ نشأته، وعرف زواياه وخفاياه، فهو لا يخطو إلا عن علم، ولا يتقدم إلا عن بصيرة.
وهذا الفقه لدقائق النحو ودخائله، وهو الذي ملأ قلب إبراهيم حبًّا للنحو، وكلفًا به، وحنينًا إليه، وعطفًا عليه؛ فهو يدرس النحو رفيقًا به متلطفًا في الدرس، كأنه يخاف أن يؤذيه أو يشق عليه، وكأنه يكره أن يناله بما لا يحب.
يقف عند مسألة من مسائل النحو، فيطيل النظر فيها مشغوفًا بها، ثم إذا أرضى فيها حاجته عاد إليها فأطال الوقوف عندها والنظر فيها، متهمًا فهمه الأول، ملتمسًا أشياء يشفق أن تكون قد غابت عنه، أو خفيت عليه. ثم هو يُقلِّب المسألة على وجوهها المختلفة وأشكالها المتباينة، ثم هو لا يرضى بكتاب أو كتابين أو كتب، ولا يقنع فيها برأي إمام أو إمامين أو أئمة، ولكنه يستقصي ويمعن في الاستقصاء، وإذا المسألة التي يدرسها من مسائل النحو قد أصبحت عنده كائنًا حيًّا له تاريخه، فهو يتتبع هذا التاريخ من أصوله، يرجع إلى أصل هذه المسألة كيف نشأت وكيف تصورها النحويون الأولون، وكيف تحدرت منهم إلى كتب الأجيال المختلفة من النحاة، وبأي طور مرت عند ذلك الجيل، وإلى أي طور انتقلت عند هذا الجيل، حتى إذا أرضى نفسه من هذا الاستقصاء — وما أصعب رضا نفسه! — عاد إلى المسألة يدرسها من جديد كأنه لم يدرسها من قبل، ولكنه في هذه المرة لا يلتمسها في كتب النحويين، وإنما في كلام العرب على اختلاف أجيالهم. يوازن بين ألوان هذا الكلام ويستخلص منه ما يرى أنه الحق، وإذا هو يتفق مع النحويين حينًا ويخالفهم أحيانًا، وليس هذا الكتاب إلا تصويرًا لبعض النتائج التي وصل إليها من هذا الدرس المزدوج.
وإني لمعجب أشد الإعجاب بهذا الصبر الطويل، وهذا الجَلَد الذي لا أعرف له نظيرًا في هذا الجيل الذي نعيش فيه، فليس يسيرًا أن تعاشر النحويين فتطيل عشرتهم، فضلًا عن أن تنفق حياتك كلها في مصاحبتهم، والتحدث إليهم، والتحدث عنهم.
والناس بعدُ يضيقون بالنحو ويتبرمون بحديثه، فما بالك برجل قد أصبح يضيق بكل شيء لا يتصل بالنحو، ويتبرم بكل حديث لا يمس النحو من قريب أو بعيد، حتى سميناه فيما بيننا بالفراء؟!
أنا معجب بهذا الصبر، ولكن إعجابي بنتائجه عظيم أيضًا، وما رأيك في رجل يستطيع أن يؤرخ نشأة النثر العربي؛ يستخلص تاريخه لهذا الفن الأدبي العظيم من درس النحو وإطالة النظر فيه، ويصل إلى نتائج باهرة حقًّا؟! وما رأيك في رجل يطيل النظر في النحو، فإذا هو يرُد تفكير النحويين إلى تفكير الفلاسفة والمتكلمين من المسلمين، وإذا هو يرد قصور النحو وتقصيره إلى علته الطبيعية، وهي أن النحويين قد فلسفوا النحو، فقصروا به عن أن يذوق جمال العربية، ويصور ذوقها كما كان ينبغي أن يصور.
وهو لا يتحدث إليك بهذا كله حديث المدعي بغير دليل، أو المتكثر من غير طائل، ولكنه أمين دقيق، لا يقول إلا عن علم، ولا يرى إلا عن بصيرة، دليله معه دائمًا ودليله ملزم دائمًا؛ لأنه لا يحاول أن يقنعك إلا بعد أن يفرغ من إقناع نفسه، وليس إقناعه نفسه بالشيء اليسير.
أليس هذا كله خليقًا أن يُحبِّب إليَّ الحديث عن هذا الكتاب وتقديمه إليك؟!
أليس هذا كله خليقًا أن يصرفني إلى الكتاب عن صاحبه؟! ولكن صاحب الكتاب كما قلت ملائم أشد الملاءمة لكتابه؛ لا ترى في الكتاب خصلة إلا وهي مستمدة من نفس صاحبه، ملائمة لطبعه، مشتقة من مزاجه، فهو أبعد الناس عن التكلف، وأبغضهم للتصنع، وأشدهم ترفعًا عن الرياء.
ما في الكتاب من صدق اللهجة صورة ما في صاحبه من صدق الخلق، وما في الكتاب من الدقة والأمانة، صورة ما في صاحبه من الدقة والوفاء، وما في الكتاب من القصد والاعتدال، صورة ما في نفس صاحبه من التواضع الذي يكرم به الرجل، ويملأ قلوب الذين يعرفونه حبًّا وإكبارًا ووفاء.
أقبل عليَّ إبراهيم ذات يوم فقرأ عليَّ فصولًا من كتابه هذا، فأبيت عليه إلا أن يمضي في القراءة من الغد، وما زلنا كذلك، يقرأ وأسمع وأناقش، حتى فرغنا من قراءة الكتاب، ولم يكن يعرف له اسمًا، فاقترحت عليه هذا الاسم الذي رسمه به «إحياء النحو» فأكبره واستكثره وأشفق منه، وألححت أنه فيه، فلم يستطع لي خلافًا.
وأنا أتصوَّر إحياء النحو على وجهين؛ أحدهما: أن يقربه النحويون من العقل الحديث ليفهمه ويسيغه ويتمثله، ويجري على تفكيره إذا فكر، ولسانه إذا تكلم، وقلمه إذا كتب. والآخر: أن تشيع فيه هذه القوة التي تحبب إلى النفوس درسه ومناقشة مسائله، والجدال في أصوله وفروعه، وتضطر الناس إلى أن يُعنَوا به بعد أن أهملوه، ويخوضوا فيه بعد أن أعرضوا عنه.
وأشهد لقد وُفِّق إبراهيم إلى إحياء النحو على هذين الوجيهن، فانظر في هذا الكتاب فسترى أن إبراهيم لا يعرض عليك علمًا ميتًا، وإنما يعرض عليك علمًا حيًّا يبعث الحياة في الذوق.
ثم سترى إبراهيم لا يعرض عليك مسائل جامدة هامدة، ولكنه يفتح للنحويين طريقًا إن سلكوها فلن يحيوا النحو وحده، ولكنهم سيحيون معه الأدب العربي أيضًا.
ثم انتظر بهذا الكتاب وقتًا قصيرًا فسترى أني لم أغلُ ولم أسرف، حين زعمت في أول هذا الحديث أنه سيُحفِظ قومًا، وسيدفعهم إلى الخصومة والجدال دفعًا.
فالكتاب كما ترى، يحيي النحو لأنه يصلحه، ويحيي النحو لأنه ينبه إليه من اطمأنوا إلى الغفلة عنه، وحسبك بهذا إحياء.
أرأيت أني كنت خليقًا أن أقف موقف الحائر؟! لا أدري أأتحدث عن الكتاب أم عن صاحبه، وأني خليق الآن بعد أن بينت لك مصدر هذه الحيرة أن أكتفي من تقديم هذا الكتاب إليك، بأن أسجل بهذه الكلمة القصيرة القاصرة ما يملأ قلبي من حب لإبراهيم، وما يملأ عقلي من إعجاب بكتاب إبراهيم.