حد النحو كما رسمه النحاة
وذلك أن لكل كلمة وهي منفردة معنى خاصًّا تتكفل اللغة ببيانه، وللكلمات مركبةً معنى؛ هو صورة لما في أنفسنا، ولما نقصد أن نعبر عنه ونؤديه إلى الناس. وتأليف الكلمات في كل لغة يجري على نظام خاص بها، لا تكون العبارات مفهمة ولا مصورة لما يُراد حتى تجري عليه، ولا تزيغ عنه.
والقوانين التي تمثل هذا النظام وتحدده تستقر في نفوس المتكلمين ومَلَكاتهم، وعنها يصدر الكلام، فإذا كُشِفت ووُضِعت ودُوِّنت فهي علم النحو.
ولو عُرِضت عليك جملة من لغة لا تعرفها، وبُيِّنَت لك مفرداتها كلمة كلمة، ما كان ذلك كافيًا في فهمك معنى الجملة، وإحاطتك بمدلولها، حتى تعرف نظام هذه اللغة في تأليف كلماتها، وبناء جملها، وذلك هو نحوها.
وكثير من اللغات لا إعراب فيها، ولا تبديل لآخر كلماتها، ولها مع ذلك نحو وقواعد مفصلة تبيِّن نظام العبارة، وقوانين تأليف الكلم.
فالنحاة حين قصروا النحو على أواخر الكلمات وعلى تَعَرُّف أحكامها قد ضيَّقوا من حدوده الواسعة، وسلكوا به طريقًا منحرفة إلى غاية قاصرة، وضيَّعوا كثيرًا من أحكام نظم الكلام وأسرار تأليف العبارة.
فطرق الإثبات، والنفي، والتأكيد، والتوقيت، والتقديم، والتأخير، وغيرها من صور الكلام قد مروا بها من غير درس، إلا ما كان منها ماسًّا بالإعراب، أو متصلًا بأحكامه، وفاتهم لذلك كثير من فقه العربية، وتقدير أساليبها.
نعم؛ ربما تعرضوا لشيء من هذه الأحكام حين يُضطَرون إليها لبيان الإعراب وتكميل أحكامه؛ فقد تكلموا في وجوب الصدارة لأسماء الاستفهام وبعض أدوات النفي، حين أرادوا شرح التعليق وبيان مواضعه، ولزمهم أن يحصوا من الأدوات ما يحجب ما قبله عن العمل فيما بعده، وبيَّنوا بعض الأدوات التي يجب أن يليها فعل، والتي لا يليها إلا اسم، حين أرادوا تفصيل أحكام الاشتغال، ولكن هذه المباحث جاءت متفرقة على الأبواب، تابعة لغيرها، فلم يُسْتَوْفَ درسها ولا أُحِيط بأحكامها.
- (أ)
«ليس» دُرِست في باب كان لأنها تعمل عملها، على أن «كان» للإِثبات و«ليس» للنفي، وعلى أن «كان» للمضي و«ليس» للحال، ولكن العمل وحده — وهو الحكم اللفظي — كان سبب التبويب والتصنيف.
- (ب)
«ما، وإنْ» دُرِستا في باب أُلحِق بكان؛ لأنهما يماثلانها في العمل أحيانًا.
- (جـ)
«لا» دُرِست ملحقة بكان، ثم تابعة لإِنَّ؛ إذ كانت تماثل الأولى في العمل مرة، وتماثل الثانية فيه مرة أخرى. وهذا الحرف أكثر استعماله أن يكون مُهملًا، ويتصرف إذن في النفي تصرفًا واسعًا، ولكن النحاة لا يُعنَون به إلَّا أن يكون عاملًا، وأن يكون ذا أثر في الإعراب.
- (د)
«غير، وإلَّا، وليس» تُدرَس في باب الاستثناء.
- (هـ)
«لن» في نصب الفعل.
- (و)
«لم» و«لما» في جزمه.
دُرِّست هذه الأدوات كما ترى مفرقة، ووُجِّهت العناية كلها إلى بيان ما تُحْدِث من أثر في الإعراب، وأُغفِل شرَّ إغفال دَرْسُ معانيها، وخاصة كل أداة في النفي، وفُرِّق ما بينها وبين غيرها في الاستعمال. ولو أنها جُمِعَت في باب وقُرِنت أساليبها، ثم وُوزن بينها، وبُيِّن منها ما ينفي الحال وما ينفي الاستقبال وما ينفي الماضي، وما يكون نفيًا لمفرد، وما يكون نفيًا لجملة، وما يخص الاسم، وما يخص الفعل، وما يتكرر، لأحطنا بأحكام النفي وفقهنا أساليبها، ولَظَهر لنا من خصائص العربية ودقتها في الأداء شيء كثير أغفله النحاة، وكان علينا أن نتتبَّعه ونبيِّنه.
ومثل النفي في ذلك التأكيد يَدْرسونه في «باب إنَّ»، ويقرنون «بإنَّ» المؤكدة «أنَّ» الواصلة، «وليت» المتمنِّية؛ لأنها أدوات تتماثل في العمل، وإن تباعد ما بينها في المعنى والغرض. وفي باب الفعل يذكرون نونَي التوكيد وأحكامهما لأثرهما في إعرابه. وفي بحث التوابع يجعلون للتوكيد بابًا خاصًّا يذكرون فيه عددًا من الكلمات، حكمها في الإعراب حكم ما قبلها.
ولو جُمِعت أساليب التوكيد في العربية — ما ذُكِر هنا وما لم يُذكَر — وبُيِّن ما يكون تنبيهًا للسامع، وما يكون تأكيدًا للخبر، وما يكون تقوية لرغبة، لكان أقرب إلى أن تُدرَّس كل أنواع التوكيد، ويُبيَّن لكل نوع موضعه؛ ولكان أدنى إلى توضيح أساليب العربية وسرها في التعبير.
وليس لهذه الأبحاث من موضع يجب أن تُفصَّل وتُبيَّن أحكامها فيه إلا علم النحو.
- الأول: أنهم حين حدَّدوا النحو وضيَّقوا بحثه، حرموا أنفسهم وحرمونا؛ إذِ اتبعناهم من الاطلاع على كثير من أسرار العربية وأساليبها المتنوعة، ومقدرتها في التعبير؛ فبقيت هذه الأسرار مجهولة، ولم نزل نقرأ العربية ونحفظها ونرويها، ونزعم أننا نفهمها ونحيط بما فيها من إشارة، وبما لأساليبها من دلالة. والحق أنه يخفى علينا كثير من فقه أساليبها، ودقائق التصوير بها.
- الثاني: أنهم رسموا للنحو طريقًا لفظية، فاهتموا ببيان الأحوال المختلفة للَّفظ من رفع أو نصب من غير فطنة لما يتبع هذه الأوجه من أثر في المعنى. يجيزون في الكلام وجهين أو أكثر من أوجه الإعراب، ولا يشيرون إلى ما يتبع كل وجه من أثر في رسم المعنى وتصويره. وبهذا يشتد جدلهم ويطول احتجاجهم، ثم لا ينتهون إلى كلمة فاصلة.
على أن هذا السبيل المحدود، وتلك الغاية القاصرة، لم يَصِر إليها النحاة عرضًا، ولكن كان في مساق التاريخ ما رسم الطريق وحدَّده.
وسنشير إلى شيء من هذا التاريخ لا لنعتذر عن النحاة فحسب، ولكن لنهتدي به ولنسلك في درس النحو أهدى سبيل وأجداه.
قال ابن يعيش في شرح المفصل ص٤ ج٧ طبع مصر:
لما كانت الأفعال مساوقة للزمان، والزمان من مقومات الأفعال توجد عند وجوده وتنعدم عند عدمه، انقسمت بأقسام الزمان. ولما كان الزمان ثلاثة: ماضٍ، وحاضر، ومستقبل. وذلك من قبل أن الأزمنة حركات الفلك، فمنها حركات مضت، ومنها حركة لم تأتِ، ومنها حركة تفصل بين الماضية والآتية، كانت الأفعال كذلك: ماض، ومستقبل، وحاضر. فالماضي ما عُدِم بعد وجوده، فيقع الإخبار عنه في زمان بعد زمان وجوده، والمستقبل ما لم يكن له وجود بعد، بل يكون زمان الإخبار قبل زمان وجوده، أما الحاضر فيكون زمان الإخبار عنه هو زمان وجوده.