وجهات البحث النحوي
كان العرب شديدي العناية بالإعراب، وكان حسهم به دقيقًا يقِظًا، يعدُّونه عنوان الثقافة التامة، والأدب الرفيع، والخلق المهذب، قالوا: اللحن هجنة على الشريف. وكان الرجل منهم إذا تكلم فلحن سقط من أعينهم، وكان خالد بن صفوان يحسن الكلام ويلحن في الإعراب، فقال له مرة بلال بن أبي بردة: «تحدثني حديث الخلفاء وتلحن لحن السقاءات!»
وكان العرب يرقبون ذلك من أنفسهم، ويتعمدون الإعراب ويحرصون عليه أن يخطئوه، يروون لعبد الملك بن مروان أنه قال: «شيبني ارتقاء المنابر وتوقع اللحن.»
ويروون عن الحجاج بن يوسف — وهو ما تعلم من الفصاحة وقوة البيان — أنه كان يسأل يحيى بن يعمر النحوي: «أتراني ألحن؟» ويشدِّد عليه أن يبيِّن له ما يسمعه منه من لحن.
فلما وقع اللحن في القرآن كان أثره عليهم أشد، وكان إليهم أبغض، فبادروا إلى إعراب القرآن وضبط كلماته بنقط يكتبونها عند آخر الكلمات تدل على حركاتها — وكان ذلك عمل أبي الأسود في النحو، وعمل طبقتين من النحاة بعده؛ يُعربون المصحف، أي: يضبطون أواخر كلماته بالنقط، ويرسلون المصاحف في الناس يهتدون في القراءة بها وتكون لهم إمامًا.
وقد أطالوا بذلك مراقبة أواخر الكلمات، وربما اختلفوا فيها، وتجادلوا عندها. وطول هذه المراقبة ودأبهم عليها هداهم إلى كشف سرٍّ من أسرار العربية عظيم؛ وهو أن هذه الحركات ترجع إلى علل وأسباب يطرد حكمها في الكلام، ويمكن الرجوع إليها والاحتجاج بها.
وقد أُعجِبوا بهذا الكشف إعجابًا عظيمًا فألحوا في الدرس وفي تتبع الأواخر والكشف عن أسرار تبديلها؛ وسموا ما كشفوا أول الأمر — علل الإعراب — أو علل النحو، ثم لم يلبثوا أن أوجزوا فسموها علم النحو أو الإعراب، ولم يمضِ عليهم زمن طويل، مذ هُدُوا إلى علل الإعراب، حتى كانوا قد أحاطوا بها ودوَّنوها، وجمعها سيبويه في كتابه الذي لم يزل من بعده إمام النحاة.
وإذا كانت فتنة النحاة بما كشفوا قد دفعتهم إلى التسابق في الكشف، وإلى التعمق في البحث حتى أحاطوا بقواعد الإعراب في سرعة معجزة؛ فإنها صرفتهم عن درس ما سوى الإعراب مما في العربية من قواعد لربط الكلام وتأليف الجمل.
بدأ كتابه بمقدمة ذكر فيها كثيرًا من أنواع المجاز التي يَقصِد إلى درسها، ثم أخذ في تفسير القرآن الكريم كله، يبين ما في آياته من مجاز على المعنى الذي أراد.
ثم قال: ومن مجاز المكرر للتأكيد، قال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ أعاد الرؤية، وقال: أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ أعاد اللفظ، وقال: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ وقال: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ومن مجاز المقدم والمؤخر، قال: فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أراد ربت واهتزت … ومن مجاز ما يحول خبره إلى شيء من سببه ويترك خبره هو، قال: فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ حوَّل الخبر إلى الكناية التي في آخر الأعناق.
ثم قال: «وكل هذا جائز معروف قد يكلمون به.»
فهذا مثال مما جاء في مقدمة الكتاب، ومن التفسير قوله: «مالكَ يوم الدين» نُصِب على النداء وقد تحذف ياء النداء مجازه «مالكَ يوم الدين»؛ لأنه يخاطب شاهدًا، ألا تراه يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فهذه حجة لمن نصب، ومن جرَّ قال: هما كلامان … ومجاز من جر «مالكِ يوم الدين» أنه حدَّث عن مخاطبة غائب، ثم راجع فخاطب شاهدًا، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال عنترة:
قال أبو كبير الهذلي:
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ مجازها غير المغضوب عليهم والضالين، ولا من حروف الزوائد والمعنى إلغاؤها.
قال العجاج:
أي في بئر حورٍ: أي هلكة.
وقال أبو النجم:
القفندر: القبيح الفاحش؛ أي: فما ألومُ البيض أن يسخرْن.
وقال:
ولقد نكون أطلنا الاقتباس ولكنه مَثَل من البحث النحوي نريد أن نُجلِّيه للناس، وندعوهم إليه ونستزيدهم منه — لعلهم يذوقون من سر العربية ونظم تأليفها ما يتجاوز آخر الكلمة وحكم إعرابه.
وجاء بعد ذلك بآماد الشيخ عبد القاهر الجرجاني، المتوفى سنة ٤٧١، ورسم في كتابه دلائل الإعجاز طريقًا جديدًا للبحث النحوي، تجاوز أواخر الكلم وعلامات الإعراب، وبيَّن أن للكلام «نظمًا» وأن رعاية هذا النظم واتباع قوانينه هي السبيل إلى الإبانة والإفهام، وأنه إِذا عدل بالكلام عن سنن هذا النظم لم يكن مفهمًا معناه، ولا دالًّا على ما يراد منه، وضرب المثل لذلك بالمطلع المشهور، وهو:
لو خُولِف فيه «النظم» وعُدِل به عن سننه وقواعده، فقيل:
لكان لغوًا من الكلام وعبثًا. ثم بيَّن أن هذا النظم يشمل ما في الكلام من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وفصل ووصل، وعدول عن اسم إلى فعل، أو عن صيغة إلى أخرى، وغير هذا من سائر أحوال الكلمة إذا أُلِّفت مع غيرها لتُفهَم.
وفي الحق أن الإمام أبا بكر قد بلغ أقصى الجهد في تصوير رأيه وتوضيحه، وفي الاستدلال له وتأييده، وأنه تركه بعد في غموض، وخلَّى العلماء منه في اضطراب.
فجمهور النحاة لم يزيدوا به في أبحاثهم النحوية حرفًا، ولا اهتدوا منه بشيء، وآخرون منهم أخذوا الأمثلة التي ضربها عبد القاهر بيانًا لرأيه، وتأييدًا لمذهبه، وجعلوها أصول علم من علوم البلاغة سموه: «علم المعاني»، وفصلوه عن النحو فصلًا أزهق روح الفكرة وذهب بنورها. وقد كان أبو بكر يبدي ويعيد في أنها معاني النحو، فسموا علمهم: «المعاني»، وبتروا الاسم هذا البتر المضلِّل.
- الأول: عامٌّ يتصل بحال العلم في القرن الخامس، عصر أبي بكر، إذْ كانت العقول قد همدت وقُيِّدت بسلاسل من التقليد حرَّمت عليها أن تقبل أي ابتداع أو تجديد.
- الثاني: خاصٌّ يعود إلى طبيعة المذهب، وأن أساسه الذوق وتنبُّه الحسِّ اللغوي لزنة الأساليب ودرك خصائصها. وقد كانت العجمة إذ ذاك غالبة بغلبة الأعاجم، والعلماء واقفون من علم العربية عند ظاهر لفظها، لا يبلغ بهم الحسُّ اللغوي أن يذوقوا ما ذاق عبد القاهر، ولا أن يدركوا ما أدرك، فاضْطُّر إلى مضاعفة الجَهْد في الكشف عن رأيه والاحتجاج له، ثم كُتِب له أن يخلِّي رأيه — على وضوحه — غامضًا يُعرِض عنه قوم ويُحرِّفه آخرون.
ولقد آن لمذهب عبد القاهر أن يحيا، وأن يكون هو سبيل البحث النحوي، فإن من العقول ما أفاق لِحَظِّه من التفكير والتحرر، وإن الحس اللغوي أخذ ينتعش ويتذوق الأساليب، ويزنها بقدرتها على رسم المعاني، والتأثير بها، من بعد ما عاف الصناعات اللفظية، وسُئِم زخارفها.
وإجمال ما في هذا الفصل أن حسَّ العرب بالإعراب وإكرامهم له دعاهم أن يضبطوا بالنقط آخر الكلمات في القرآن الكريم حين يكتبونه، وأن ممارسة النحاة لهذا الضبط هَدَتْهم إلى كشف علل الإعراب، فكان علم النحو؛ وأن اتجاههم إلى أواخر الكلمات وضبط قواعدها قد صرفهم عما كان ينبغي لهم أن يدرسوه من سائر نحو اللغة، وأنه قد كان من أئمتهم من دلَّهم على أهدى مما بأيديهم من قواعد الإعراب، فأغفلوه وأعرضوا عنه، موفِّرين جهدهم على درس الإعراب.
وننظر الآن مبلغ ما كشفوه من سر الإعراب.