تكملة البحث
أراني قد انتهيت من تقرير ما أردت، وبينت أن للإعراب في العربية عَلَمَين: «الضمة» و«الكسرة»، وأن الضمة علم الإسناد، والكسرة علم الإضافة، واستقريت أبواب الإعراب كما عدَّها النحاة، ورأيت استقامة هذا الأصل معها، واطراده فيها؛ على أنه قد يَسَّر أحكام الإعراب ومكَّن من الإحاطة بها على أقرب وجه وأدناه إلى توضيح سرِّ العربية.
وقد كان في هذا بلاغ ما أردت، ولكني أردت أنْ أُكَمِّل البحث بدرس أبواب، أجاز النحاة فيها وجهين من الإعراب، ساووا بينهما مرة، وفضلوا وجهًا على الثاني في الأخرى. والأصل الذي تقرر لا يساير هذا التخيير، ولا يجيز أن يكون للكلام وجهان من الإعراب يلابس المتكلم أيهما شاء، فمتى ثبت أن للحركة أثرًا في تصوير المعنى تجتلب لتحقيقه، لم يكن للمتكلم أن يعدل عن حركة إلى أخرى حتى يختلف المعنى الذي يقصد إلى تصويره، فيختلف الإعراب تبعًا له. ومن ثَمَّ كانت الأبواب ذات الحكمين أو الإعرابين المختلفين، موضعًا صالحًا لاختبار هذا الأصل، دقيقًا في تقدير مداه، وكان من تكملة البحث أن ندرس هذه الأبواب ونقيس أحكامها بحكمه، وقد رأيتُ أنه كشف عن سر العربية في هذه الأوجه وأبان عن سبب اختلافها، وعن صلة ما بين هذا الاختلاف ودقائق ما يراد من المعنى، وأنه ربما صحح من أحكام النحاة، أو فَصَل في بعض ما بينهم من خلاف.
(١) باب «لا»
- (١)
يجعلونها عاملة عمل ليس، فيُرفع بعدها الاسم ويُنصب الخبر، ويروون لذلك قول الشاعر:
من صدَّ عن نيرانهافأنا ابن قيس لا براحُوقول الآخر:
تعزَّ فلا شيءٌ على الأرض باقياولا وزَرٌ مما قضى الله واقيا - (٢) ويجعلونها عاملة عمل «إنَّ»، فينصب الاسم بعدها غير منون ويرفع الخبر، ولذلك أمثلة كثيرة؛ مثل: ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ (البقرة: ٢)، لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ (يوسف: ٩٢)، لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ (هود: ٤٣).
- (٣) ويجعلونها مهملة فيُرفع بعدها المبتدأ والخبر؛ مثل: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (يونس: ٦٢).
وإذا أردنا أن نعرف الفرق بين ما تعمل عمل ليس، فيُرفع الاسم بعدها، وما تعمل عمل إنَّ فينصب بعدها؛ لنميز مواضع الرفع من مواضع النصب، وجدناهم يقولون: إن الأولى تنفي الواحد، فنفيها محدود خاص؛ تقول: «لا رجلٌ في الدار بل رجلان»، والثانية تنفي الجنس؛ تقول: «لا رجلَ في الدار»، فلا يصح أن تعقب بعده بمثل: بل رجلان، فيتضارب أولُ الكلام وآخره.
وإذا ناقشت هذا الفرق الذي بيَّنوا، لم تجد له ثباتًا، فالشاهدان اللذان روَوهما لإعمالهما إعمال ليس لا يُفهم منهما إلا نفي الجنس، وكيف يفهم على غيره قول الشاعر:
وقول الآخر:
وإذا ضاع معنى الشمول في النفي كان المعنى في البيتين لغوًا.
ومن العجيب أن النحاة لا شاهد لهم على إعمالها كذلك إلا هذا البيتان: قال أبو حيَّان: إنه لم يرد من إعمال «لا» عمل ليس صريحًا إلا بيت واحد، هو:
وقد أنكر الأخفش هذا العمل، واتَّبعه الإمام الرضي، وجعله ابن الحاجب سماعًا، ونص ابن هشام في شرح القطر على أنه خاص بالشعر.
فلم نجد في أقوال النحاة ما يصح به التمييز بين مواضع الرفع ومواضع النصب بعد «لا»، والذين أنكروا إعمالها عمل ليس لم ينكروا — ولا سبيل إلى أن ينكروا — أن الاسم بعدها يكون مرفوعًا، ولكنهم يَعُدُّونها ملغاة؛ ثم لا يعنون ببيان الفارق في المعنى بين الإعمال والإلغاء، ولا بدَّ عندنا من فارق معنوي.
وقد أجهدَنا بحثُ أقوال النحاة في هذا الباب، ومناقشةُ آرائهم، وتَتَبُّعُ جدلهم، لنظفر برأي مستقيم يصل بين حكم الإعراب ومعنى الكلام فلم نجد.
وتستطيع أن ترى، ونعدُك من الآن أن ستجد، هذا الباب مَثَلًا مُمَثَّلًا تامًّا للجهاد النحوي العنيف، الذي يعتمد على الفلسفة النظرية، وخاصة فلسفة العامل؛ فتكثر فيه فروض القول، ويُستملى من الفلسفة أحكامها؛ على أنه ليس باليد من أقوال العرب إلا النزر اليسير، ومن أجل هذا يكثر الخلاف، ويطول الجدل، ولا فيصل ولا حَكَم.
وقد رأينا أن نرجع إلى «الكتاب الكريم» لنعلم استعمال هذا الحرف ومعانيه، ونتبين حكم ما بعده، فوجدنا استعماله على ما يأتي.
استعمال «لا» مع الفعل
تُستعمَل لا مع الفعل أكثر مما تُستعمَل مع الاسم، ففي سورة «البقرة» وحدها تجيء «لا» في «١٧٠» سبعين ومائة موضع، وهي مع الاسم في «٥٤» أربعة وخمسين فقط، ومع الفعل في «١١٦» ستة عشر ومائة.
- فالناهية: تدخل على المضارع وحده، ويكون بعدها مجزومًا؛ وتجعله في باب الأمر أكثر تصرفًا من فعل الأمر نفسه، ألا تراك تقول: «اقرأ» فإذا أردت النهي قلت: «لا تقرأ»، ولم يكن لك من سبيل إلى استعمال صيغة الأمر، على أنك تقول في المضارع «لتقرأ» و«لا تقرأ»؛ تأمر به وتنهى؟
- والنافية: تختص بالمضارع أيضًا، ولا تدخل على الماضي إلا قليلًا، وبشرط أن
تتكرَّر؛ مثل: فَلَا صَدَّقَ وَلَا
صَلَّىٰ (القيامة: ٣١).
والنافية للمضارع هي أكثر أنواع «لا» استعمالًا، ونصف ما ورد في «الكتاب الكريم» من هذا النوع.
ويُلاحَظ في نفي المضارع، أنك تقول: «لم يتكلم»، فالنفي للماضي، و«ما يتكلم» فالنفي للحال، و«لن يتكلم» فهو للمستقبل، فإذا قلت: «لا يتكلم» كان النفي أوسع وأشمل ففي نفي «لا» معنى الشمول والعموم.
وفي معنى الفعل المضارع شيء من الشمول والاتساع أيضًا؛ فالنحاة يقولون: «إنه للحال والاستقبال.» وأقول: «إنه قد يتناول الماضي أيضًا.» فمثل: «هو كريم يعطي السائل ويكرم الضيف»، ومثل: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (الماعون: ٦-٧) ليس الحال ولا الاستقبال أولى به من الماضي، وأنا أدعك لفهمك وأطمئن إلى حكمك، وفي القرآن الكريم: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ (البقرة: ١٠٢) قدَّر النحاة له «كانت تتلو» وروَوْا قول الشاعر:
فقدَّروا له «كانت» أيضًا، ومهما قدروا فلن يدفعوا أن المضارع قد أفاد هذا المعنى وصوَّره دون أن يذكر ما قدَّروه.
وقد يدل المضارع على ما صار بمنزلة الطبيعة أو العادة، فيتسع ولا يتقيد بزمن، وذلك في الكلام كثير.
ومن شمول المضارع أيضًا أنه يدل على ما يتجدد ويتكرر كما قالوا في بيت الشاعر:
لذلك ناسب المضارع النفي «بلا» فاختصت به، وامتنع أن تنفي الماضي حتى يكون فيه معنى الاستقبال، أو حتى تتكرر ليكون في التكرار معنى من الشمول.
استعمالها مع الاسم
واستعمال «لا» مع الاسم أقل من استعمالها مع الفعل كثيرًا، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، ونرى في سورة «كالإسراء» مثلًا أن «لا» تُستعمَل مع المضارع في ثلاثين موضعًا ولا نجدها مع الاسم إلا في موضع واحد، وهي فيه تأكيد لنفي فعل سابق، قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (الإسراء: ٥٦).
ونجدها مع الاسم، تشابه استعمالها مع الفعل وتسايره فتجيء مفردة ومكررة، أما المفردة فلا تليها إلا نكرة، وأكثر ما تكون هذه النكرة مصدرًا أو في معنى المصدر؛ مثل: ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ (البقرة: ٢)، لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا (البقرة: ٣٢، المائدة: ١٠٩)، فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة: ١٩٣)، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا (البقرة: ٢٥٦)، لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ (يونس: ٦٤)، لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ (يوسف: ٩٢)، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ (الرعد: ١١).
وقد يليها وصف مشتق؛ مثل: إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ (آل عمران: ١٦٠)، وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ (الأنعام: ٣٤)، مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ (الأعراف: ١٨٦)، وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ (يونس: ١٠٧).
ويندر أن يجيء بعدها اسم جنس مثل: لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ (٢، ٦، ١٨ من آل عمران)، ويتكرر هذا المثال في القرآن الكريم، ولكن يندر أن يجيء نظيره، وأندر منه أن يليها جمعٌ مثل: إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ (التوبة: ١٢). ومن السبعة من قرأه: «لَا إِيمَانَ لهم.» بالكسر في همزة إيمان.
- أولها: أن المصدر والمشتق يشبه الفعل مشابهة لا تَخفى. ولقد عدَّ نحاة الكوفة المشتق — اسمي الفاعل والمفعول — نوعًا من الفعل.
- الثاني: التنكير، وقد علمت ما في المضارع من معنى العموم والشمول.
- الثالث: أن الاسم بعد «لا» يغلب أن يتبعه ظرف يتعلق به: ولا يذكر بعده الخبر. وقد لحظ النحاة هذا، فقالوا: إن لا النافية للجنس يكون خبرها محذوفًا أبدًا عند الطائيين، وغالبًا عند الحجازيين.
وأما إذا كُرِّرَت «لا» فإن الاسم بعدها يكون معرفة ونكرة — أيَّ نوع من المعارف، وأيَّ نوع من النكرات — وقد يكون الاسمان نكرة ومعرفة، أو يكون اسم يعادله فعل، وتكرار «لا»، لا يجيء قليلًا ولا عرضًا، بل هو أسلوب من أساليب استعمالها كما تستعمل «أما»، ومن أمثلته: وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة: ١١٢، ٢٦٢، ٢٧٧). لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ (البقرة: ٢٥٤).
والاسم بعدها حين التكرار منوَّن.
وقد تبين لنا أن «لا» تنفي نفيًا عامًّا مستغرقًا في الفعل وفي الاسم، فإذا كانت في نفي الاسم مفردة فإنه يُشار إلى الاستغراق بالتزام التنكير وعدم التنوين، وإذا كانت مكررة كفى التكرار في الدلالة على ما يُراد من الشمول والاستغراق.
هذا معنى «لا» وطريق استعمالها، أما إعراب الاسم بعدها، فإنه إذا كان مرفوعًا بعد «لا» المكررة، فوجهه واضح؛ لأنه متحدث عنه حقه الرفع، وليس إعرابه بمحل خلاف وجدل عند النحاة، ولا هو بموضع نظر عندنا، ولا شيء من المعارضة بينه وبين الأصل الذي قررنا.
أما الاسم المنصوب فهو الذي يعنينا وجه إعرابه الآن، ويبدو أول الأمر أنه متحدث عنه، وأنه صدر جملة اسمية تامة، والمتأمل يرى غير هذا، فإنه ليس بعده من خبر، ولا شيء يتحدث به، تقول: لا ضير، ولا فوت، ولا بأس. فيتم الكلام، ويقدر النحاة الخبر محذوفًا: أي موجود أو حاصل؛ وهو لغو. لا يزيد تقديره في المعنى شيئًا. وما يذكر بعد هذا الاسم من الظروف ليس خبرًا له؛ لأنه يُحذف ويتم الكلام دونه، تقول: «لا ريب»، و«لا ريب في هذا القول»، و«لا ريب عندي في شيء منه»، وكل ما زدته فهو بيان وتكملة، والجملة الأولى وهي: «لا ريب» تم بها المعنى.
والآية الكريمة: ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (البقرة: ٢) يقف بعض القارئين عند لَا رَيْبَ، ويبدأ: فِيهِ هُدًى، وبعضهم يقف عند لَا رَيْبَ فِيهِ، والكلام في كلا الأمرين تام، وليس كذلك الخبر.
وآية لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ (هود: ٤٣) لا تجد فيها ما يصح أن يكون خبرًا على طول الكلام، وأصل الجملة لَا عَاصِمَ وكل ما بعدها بيان يكمل به المعنى، ولكنه لا يُهدَر بحذفه حتى يكون الكلام بلا فائدة.
ويتكلف النحاة جعل هذه الظروف أخبارًا، وليس بالوجه. وفي إعراب «لا إله إلا الله» يجعل بعض النحاة خبر «لا» هو ما بعد أداة الاستثناء، ويجعلونه نظير وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ (آل عمران: ١٤٤) مثلًا. وبين الجملتين فارق بعيد؛ وذلك أنك تقف عند «لا إله» فتتم الجملة ولو أن معناها الكفر، ولو أنك وقفت على وَمَا مُحَمَّدٌ لما أفدت شيئًا ما، وإذن فالاسم بعد «لا» في هذا الاستعمال ليس بمتحدث عنه، وحقه من الحركات الفتحة، ولا شيء فيه من الإشكال.
والذي عوَّص الأمر على النحاة ما قرروه من أن كل جملة يجب أن تشمل مبتدأ وخبرًا، أو فعلًا وفاعلًا، ولم يعرفوا الجملة الناقصة. ويرونها في النداء مثل: «يا محمد» و«يا علي» فيقدرون أدعو محمدًا، أو أدعوك محمدًا، ولا وجه لهذا التقدير، ولا هو مع المعنى، وكذلك: تحيةً وسلامًا، وصبرًا وشكرًا. يقدرون الفعل لإعراب الاسم المذكور ولا وجه له. وإنما هي جملة ناقصة، والاسم استُعمِل عن الفعل فصار منصوبًا، ومنه عندنا ما نحن فيه من مثل: لا بأس ولا ضير.
فهذا توجيه الإعراب، أما التنوين فإنه سيجيء في بحثنا هذا باب خاص له، ولكنا نعجل لك منه ما يختص بهذا الموضع.
التنوين هو علامة التنكير، والعرب يقصدون في التنكير إلى الواحد من كثير، والفرد الشائع في أفراد.
فإذا قصد إلى الإحاطة وإلى جميع الأفراد، فهو عندهم من مواضع التعريف، وهذا معنى «ال» الجنسية، فالاسم بعد «لا» إذا كانت للجنس بمنزلة المعرف تعريف الجنس، فيحذف منه علَم التنكير وهو التنوين.
ومن النحاة من يرى السبب في بناء هذا الاسم هو معنى الاستغراق، ومنهم من يقول: إنه تضمن الاسم معنى «من» المحذوفة.
هذا يرينا أن النحاة لاحظوا ما بين معنى الاستغراق وحذف التنوين من صلة، وقد بيَّنا لك صلة ما بين الاستغراق والتعريف عند العرب. والله أعلم.
(٢) باب ظَنَّ
ومن الأبواب ذات الوجهين باب «ظَنَّ».
فالنحاة يقرِّرون أن أفعال القلوب من هذا الباب تَنْصِب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وأنها قد يعتريها «الإلغاء» و«التعليق».
والإلغاء أن يُهمَل الفعل فلا يُنصَب شيئًا من المفعولين؛ وذلك أنه قد يتأخر عن المعمولين؛ فتقول: زيد ذاهب ظننت، ويجوز إذن أن تنصب الاسمين والفعل عامل، أو ترفعهما والفعل ملغًى، وإلغاء الفعل ورفع الاسمين هنا أولى.
وقد يتوسط المعمولين، فتقول: زيد ظننت ذاهب. ويجيز النحاة هنا الإعمال والإلغاء أيضًا، ثم يختلفون في أي الوجهين أولى، فجمهورهم يرى أن الوجهين على السواء، ومنهم من يرجح الإِعمال.
أما إذا قدَّمت الفعل على الاسمين وجريت على الأسلوب الغالب، فقلت: ظننتُ زيدًا ذاهبًا، فالإعمال ونصب الاسمين واجب على مذهب البصريين. وأجاز الإلغاء ورفعَ الاسمين في هذه الحالة أيضًا الكوفيون والأخفش من متقدمي البصريين، وابن الطراوة وأبو بكر الزبيدي من نحاة الأندلس، فهذا ملخص قولهم في الإلغاء.
أما التعليق، فهو أن يتقدَّم الفعل ويتأخر الاسمان، ولكن يصحبهما أداة من أدوات الصدارة التي تحجب ما قبلها أن يعمل فيما بعدها؛ مثل: لام الابتداء، و«ما» و«إن» النافيتين.
ويفرِّقون بين الإلغاء والتعليق بأن الإلغاء في كل مواضعه جائز، فحيث ألغيتَ الفعل جاز لك إعماله، أما التعليق فواجب متى تحقَّق سببه، فليس لك أن تُعْمِل الفعل وقد علَّقَتْه أداة نفي أَو استفهام. ويفرقون بينهما بفرق آخر واضح فيه التكلف، فيقولون: إن الفعل الملغى لا يعمل في اللفظ ولا في المحل، أما المعلَّق فإنه يحجب عن العمل في اللفظ ويبقى عاملًا في المحل، وتفصيل ذلك وما فيه من خلاف وجدل، قريبٌ لمن شاء أو يُرجَع إليه في «باب ظن» من الكتب الموسَّعة.
وتفسير هذه الأوجه كلها على الأصل الذي ذهبنا إليه قريب إن شاء الله.
وذلك أنك تقول: ظننتُ زيدًا ذاهبًا، فيتجه همك قصدًا وابتداءً إلى الإخبار بأنك ظانٌّ أمرًا، فأنت تتحدَّث عن نفسك في ذلك، وما الاسمان بعد ظنَّ إلا تكملة وبيان لما تعلق به الظن؛ فحكم الاسمين إذن النصب، وليس فيهما من متحدث عنه فيُرفَع.
ويشهد لما قررناه تصريح النحاة بأن الاسمين بعد هذه الأفعال قد صارا فضلةً، وأنه يجوز حذفهما اقتصارًا، والاستغناء عنهما معًا، ومن أمثلته: «من يَسْمع يَخَلْ»، وأَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ (النجم: ٣٥)، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل: ٧٤)، إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (الجاثية: ٣٢).
فلا خلاف بين النحاة في أن الجملة بعد ظن قد فقدت ما فيها من الإسناد وصار جزءاها فضلة يتم بهما ما قبلهما من الكلام.
وقد يكون من هَمِّ القائل أن يقول: «زيد ذاهب» يقصد أولًا إلى الإخبار بهذا والحديث عن زيد، ثم يقول: هذا ظني، أو أظن، أو ظننت. فهنا كلامان، وحكم الاسمين على أصلنا الرفع، وأسلوب الكلام أن يتأخَّر الفعل ويتقدم الاسمان، فيجيء ترتيب اللفظ في النطق على ترتيب المعنى في النفس، وخطوره بالفكر، على أنه يمكن أن يُفهم هذا مع المتوسط أيضًا؛ إذ تقول: زيد أظن ذاهب.
وهذا هو تفسير سيبويه لمعنى الإلغاء في كتابه، قال في «باب الأفعال التي تُستعمَل وتُلغَى»: «وكلما أردت الإِلغاء فالتأخير أقوى … وإنما كان أقوى؛ لأنه إنما يجيء بالشك بعدما يمضي كلامه على اليقين، أو بعدما يبتدئ وهو يريد اليقين، ثم يدركه الشك، كما تقول: «عبد الله صاحب ذاك، بلَغني» وكما قال: «من يقول ذلك؟ تدري؟» فأخر ما لم يعمل في أول كلامه، وإنما جعل ذلك فيما بلغه بعدما مضى كلامه على اليقين وفيما يدري، فإذا ابتدأ كلامه على ما في نيته من الشك أعمل الفعل قدم أو أخر، كما قال: زيدًا رأيت، ورأيت زيدًا. وكلما طال الكلام ضعف التأخير إذا أَعْملت.» ا.ﻫ.
وقد يُفهَم هذا المعنى مع تقديم الفعل، إذا بدا في الكلام ما يدل على استقلال الثاني بالحديث والقصد إلى الإخبار، كما تقول: ظننتُ لزَيدٌ ذاهب. ولولا أن استقلال الثاني من غرض المتكلم كان وجيهًا أن يؤكد الكلام بعد فعل يدل على معنى الشك أو الرجحان، فقد سِيقَ القول مساق التأكيد والتحقيق، ثم قِيلَ: إن هذا مبلغُ ظني، وجهدُ رأيي. وهذا التفسير قد تردَّدَ في كلام سيبويه في مواضع من كتابه.
وما ورد من الرفع بعد ظَنَّ فهو على هذا، والكلام فيه كلامان. وما الأدوات التي عدَّها النحاة معلِّقة للفعل عن العمل إلا دلائل على أن الكلام الثاني مستقل يقصد إلى الإخبار به، فيذكر معه ما يَشهد بابتداء الكلام واستئنافه، وأنه لم يجئ بمنزلة اللاحق وإن جاء في اللفظ متأخرًا.
فهذا تفسير كلام النحاة وما قالوه في الإلغاء والتعليق، على وجه يغني عن كثرة الاصطلاح وتعديد الأقسام، ويريح من كثير من الخلاف، ثم هو يرسل حكم الإِعراب واحدًا مستقيمًا، غير مُردَّد ولا مضطرب.
فليس لنا من موضع نجيز فيه الرفع والنصب، أو نفضِّل أحدَ الوجهين على صاحبه، وإنما هو المعنى الذي يُراد بيانه يوجب سبيلًا واحدًا مخصَّصًا للأداء.
(٣) باب الاشتغال
الموضع الثالث من المواضع التي ردَّد النحاة فيها الحكم بين النصب والرفع باب الاشتغال. وهو باب دقيق عويص، وعَّرَ النحاة فيه البحثَ وأكثروا الخلاف.
وأصل هذا الباب أنك تقول: لقيت زيدًا، فزيد منصوب وهو مفعول «لقيت» كما يعرب النحاة، ولك أن تقدم «زيدًا» لسبب مَا من أغراض التقديم، فتقول: زيدًا لقيت، أو زيدًا لقيته، وهذا التركيب الأخير وحده هو موضع الاشتغال ولأجله خُلِق الباب، وأُطيلت أبحاثه.
والعقبة التي لوت طريق النحاة، هي أن الفعل قد نصب الضمير واستوفى بذلك عملَه، فليس له أن ينصِب الاسم المتقدم بعد ما شُغِل بضميره، واضطروا بحكم نظرية العامل وحكم فلسفتهم فيها، أن يقدروا لنصب هذا الاسم عاملًا محذوفًا واجب الحذف، يفسره الفعل المذكور، وتقدير الكلام عندهم: «لقيت زيدًا لقيته.»
والفعل المقدر يُسمَّى: «المضمر على شريطة التفسير» والفعل المذكور في الكلام يُسمَّى: «المشغول أو المفسِّر»، والضمير المتصل به يُسمَّى: «الشاغل».
والاسم المتقدم يُسمَّى: «المشغول عنه أو المحدود»، والباب كله «باب الاشتغال».
والأصل عندهم في الاسم المحدود أنه يجوز فيه وجهان: الرفع والنصب. والرفع راجح لأنه لا يحوج إلى تقدير فعل، والنصب مرجوح لحاجته إلى فعل مقدَّر، ثم قد يعرض للكلام ما يجعل النصب مختارًا، أو يوجب أحد الوجهين.
- الأولى: أن يكون الفعل دالًّا على الطلب بصيغته كفعل الأمر، أو بأداة يَقترن بها كالمضارع بعد لام الأمر ولا الناهية.
- الثانية: أن يقع الاسم بعد أداة، الغالب أن يليها فعل، وذكروا منها أدوات الاستفهام غير «هل»، وأدوات النفي: «ما»، و«لا»، و«إن». على خلاف في بعضها.
- الثالثة: أن يقع الاسم جوابًا لاستفهام منصوب؛ مثل: زيدًا لقيته، في جواب: مَنْ لَقيتَ؟ أو يقع الاسم بعد عاطف على جملة فعلية سابقة، ولم يفصل بين الجملتين بأمَّا؛ مثل: أدنيتُ زيدًا وعمرًا أقصيتُه، فإذا جئتَ بأمَّا كان الرفع المختار، وقلت: أدنيتُ زيدًا وأمَّا عمرٌو فأقصيتُه.
هذا مجمل ما فصَّلوا، وأعفيناك من خلاف وَجَدل عنيف، أما تفسير هذه الأحكام كلها على ما ذهبنا إليه فقريب؛ وذلك أنك إذا أردتَ بالاسم المتقدم على الفعل في مثل: «زيدٌ رأيتُه» أن يكون متحدَّثًا عنه مسنَدًا إليه، فليس إلا الرفع، والاسم آتٍ في موضعه من الكلام؛ وإذا أردت أن هذا الاسم إنما سِيقَ تتمة للحديث وبيانًا له لا متحدثًا عنه، فالحكم النصب، تقول: «زيدًا رأيته»، وقد تقدَّم الاسم عن موضعه، وخُولِف به ترتيبُه لغرض أو لمعنى قصد إليه المتكلم من معاني التقديم.
ووجه الكلام في الحالة الأولى أن تقول: «زيدٌ رأيتُه» تذكر الضمير، وربما جاز «زيدٌ رأيتُ» بحذفه لأنه مفهوم، ولأنه — كما يقول النحاة — فَضْلة.
ووجه الكلام في الحالة الثانية أن تقول: «زيدًا رأيت» ولك أن تقول: «زيدًا رأيتُه» بذكر الضمير زيادة في البيان. وقد قال سيبويه في مثل «زيدٌ رأيتُه»: «النصب عربي كثير، والرفع أرجح.» وما بيَّناه يوافق قوله، ويشرح سببه، ويفصِّل وجه الدلالة في كل من الإعرابين.
أما المواضع التي يرجح النحاة فيها النصب، فأولها أن يكون الفعل دالًّا على الطلب، وقد علمتَ أن الطلب لا يكون خبرًا، ووردت الجملة الطلبية قليلًا في الخبر، فتأوَّل النحاة معناها إلى الخبر، فالحكم هنا النصب؛ لأن الاسم ليس بمتحدَّث عنه، وليس بعده من حديث.
وقد اضطرب النحاة أمام الآيات الكريمة: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (المائدة: ٣٨)، الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (النور: ٢) وذلك أن الفعل للطلب، والمختار في الاسم قبله النصب على مذهب النحاة، وقد ورد مرفوعًا في الآيتين. واتفق القراء السبعة على القراءة بالرفع، فذهب النحاة يتأوَّلون ويختلفون في التأويل والتوجيه من غير أن يبدلوا حكمهم، ثم ذهب ابن السيد وابن بابشاذ إلى اختيار الرفع في مثل الآيتين، وهو ما كان الطلب فيه عامًّا غير خاص، مع اختيار النصب في الخاص مثل «زيدًا اضْربْه». وهذا الرأي هو الحق عندنا؛ وذلك أن فعل الأمر إذا أُرِيدَ به معنى عام وقع في معنى التشريع، وكان حكمًا قياسه الخبر، وكان الاسم المتقدم متحدَّثا عنه حكمه الرفع كما بيَّنا.
ففي آية: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا قانون عام هو — والله أعلم: والسارق والسارقة جزاؤهما قطع أيديهما. وإنما صِيغ الخبر بصيغة الأمر لنوع من التشديد والحث على التنفيذ، وهو أسلوب عربي صحيح شائع سائغ.
وهذا التأويل واضح من كلام سيبويه في الآية؛ إذ قال: إن المعنى والسارق والسارقة من الفرائض يُتلَى عليكم حكمهما. وقد رضي النحاة تأويل سيبويه، ثم رفضوا مذهب ابن السيد، والثاني من الأول.
الموضع الثاني: أن يكون الاسم بعد أداةٍ الغالبُ فيها أن يليها فعلٌ، وذلك بعد همزة الاستفهام وما ولا النافيتين، واختلفوا في إن النافية، فسيبويه يرى الرفع بعدها أَوْلى لكثرة دخولها على الجمل الاسمية، والجمهور يُسوُّونها بما ولا، واختلفوا كذلك في أخوات الهمزة من كلمات الاستفهام غير هل.
والأدوات التي ذكروا يَغْلِب أن يقع معناها على الحدث فيتبعها الفعل المتحدَّث به لا الاسم المتحدث عنه.
ونحن هنا لا نرى جواز النصب والرفع وترجيح النصب، بل نقول: إذا كان المعنى أن تخبر بالفعل وتتحدث به عن فاعله فالحكم النصب، وإذا كان التحدث عن الاسم فالحكم الرفع. وبذلك قال ابن الطراوة من علماء الأندلس، فعنده أن الاستفهام بالهمزة إذا كان عن الاسم، فالرفع واجب؛ مثل: أزيدٌ ضربتَه أم عمرو؟ وإذا كان عن الفعل فالنصب؛ نحو: أزيدًا أكرمته أم أهنتَه؟ وسبيل الكلام في هذا الموضع: أأكرمتَ زيدًا أم أهنتَه، فقُدِّم «زيد» من تأخير. وأنت تعلم حُرِّية الجملة العربية وتَصَرُّف العرب في تأليفها لِمَا يريدون من المعاني الدقيقة الخاصة.
فهذه الأداوت إنما ترشد إلى حكم الاسم بعدها بقدر ما تبين عنه، من أن السياق لفعل يُتَحَدَّثُ به أو اسم يتحدث عنه، وذلك هو مناط الحُكم، وإذا رجعتَ إليه وجدتَ الفصل في كثير من الخلاف والجدل العنيف.
والموضع الثالث: استمده النحاة من المماثلة اللفظية بين الجمل وانسجام التأليف، فإذا كان الاستفهام السابق أو الحديث المتقدم قد وقع بجملة فعلية، فمن حق الانسجام أن يكون الجواب أو الجملة التالية فعلية. وهذا الانسجام من نُظُم العربية التي لا يُمارى فيها، بل هو أوسع كثيرًا مما لَمَح النحويُّون. فإذا كان من غرض المتكلم أن يقطع كلامه ويأخذ في حديث جديد فصَّل الكلام «بأمَّا» وكان الحكم بعدها الرفع.
فقد ترى كيف جُمِعت الأحكام المتشعبة في هذا الباب إلى أصل واحد نَظَمَها جميعًا، ووَحَّد الحُكم، وفَصَل في أوجه الخلاف، وميَّز بينها تمييزًا يعتمد على قرار مطمئن ثابت؛ وذلك بأنه وَصَلَ بين حكم اللفظ وبين المعنى، وأبان عن سر العربية في تأليف الكلم والتصرف فيها.
وربما عددتَ أنَّا أطلنا في بيان هذا الباب وتفصيل أحكامه، فإن يكن قد بدا ذلك لك، فإنا نخشى أن تكون بعيد العهد بأبحاث الباب، ونرجو أن تعود إليه لتذكر ما فيه من خلاف وجدل، ومن أمثلة فُرِضت على العربية، وأحكام ضُرِبَتْ عليها، وستعلم بعد مقدار ما أوجزنا ومبلغ ما يسرنا، والله المستعان.
(٤) المفعول معه
ومن الأبواب التي رَدَّد النحاة فيها الحكم بين النصب وغيره «باب المفعول معه»، ومن أمثلته المشهورة: «سرت والنيلَ» و«جاء البرد والطيالسةَ» و«استوى الماء والخشبةَ».
ويردِّد النحاة الاسم التالي لهذه الواو، بين أن يُنصَب مفعولًا معه، أو يُعرَب معطوفًا على ما قبله. ويقولون: يترجح النصب إذا تقدم الاسمَ فعل أو شبهه، وكان في العطف ضعف، وذلك مثل: قمت وزيدًا. فإن ضمير الرفع المتصل لا يُعطَف عليه حتى يليه فاصل، فتقول: قمت أنا وزيْدٌ.
ويترجح العطف إذا لم يسبق الاسمَ فعل؛ مثل: كيف أنت وزيد؟ وما أنت وزيد؟ وإذا لم يكن في العطف ضعف؛ مثل: قمت أنا وزيد.
وهم يُطْبِقُون في مثل: «كيف أنت وزيد؟» على ترجيح الرفع، وضعف النصب؛ لأن الاسم لم يتقدمه فعل مع أن لكل من التركيبين معنًى خاصًّا، وموضعًا لا يليق به صاحبه، فإذا قلت: «كيف أنت وأخاك؟» بالنصب، فإنك تسأل عن صلة الاثنين، وتضع هذا التركيب حين يكون بينهما من الأمر ما هو جدير بالاستخبار، وموضع للمسألة.
وإنما أولجهم هذا المأزق أَصْلُهم في فلسفة العامل، وقولهم: إن المفعول معه إنما يُنْصَب «بما من الفعل وشبهه سَبَقَ.» فإذا لم يكن قبله فعل أو شبهه لم يُنصب، وكانت الواو عاطفة، وإذا ورد عن العرب ما هو منصوب مما لم يسبقه عامل، فإنما ذلك لأن العرب قد نوت العامل وطوته فوجب تقديره، على أنهم في سبيل الوفاء بأصلهم قد أغفلوا المعنى، وأضاعوا فرق ما بين إعراب وإعراب، وَوَضْع ووضع.
وكذلك الحال بعد الاستفهام «بما» يروُون لأسامة الهذلي:
بنصب السير؛ فيجيزون الرفع ويختارونه، ويُضَعِّفون النصب، ويُقدِّرون له: ما أكون والسيرَ؟ ومثله في هذا قول مسكين الدَّارمي:
وليس المعنى في البيتين إلا على النصب؛ لأن الاستفهام وما فيه من استنكار أو تعجب، إنما هو لما بين الاثنين، ولا يصوره أن يجيء الاسم رفعًا؛ لأنه إذن لا يؤدي معنى المصاحبة، وإذا بطَلت بطل الاستفهام كله، وضاع ما فيه من معنى.
ويروُون بيت المخبل السعدي في الزبرقان:
فيرتضون الرفع ويجيزون النصب أيضًا، وليس فيه إلا الرفع ليدل على معناه، فإنه استفهامان، كأنه قال: ما أنت وما الفخر، ولا يصور هذا إلا العطف، كما ترى في قول الآخر:
فهذا فرق ما بين الإعرابين، ولكلٍّ موضعٌ. أجل؛ إنه فرق دقيق، ولكنه حق يجب أن يُفْطَن له ليُفْهَم الكلامُ على وجهه وليُسْلَك به سبيلُه.
وفصل القضية في هذا الباب، أنك إذا أردت معنى المصاحبة، وكانت الواو في معنى «مع» وجب النصب، وكان ذلك سائرًا مع أصلنا، فإن الاسم بعد هذه الواو من تمام الحديث، ليس بمتحدث عنه ولا بمضاف إليه، فحكمه النصب، وإذا لم ترد معنى المصاحبة أو المعية — كما هو الاصطلاح — فإنها واو العطف.
على أن هذا الرأي قد صرَّح به بعض المحققين من النحاة. قال الرضي في شرح الكافية في مناقشة بعض مواضع المفعول معه ما نصه: «الأولى أن يُقال: إنْ قصد النص على المصاحبة وجب النصب، وإلا فلا.»
وقريب منه ما نُقِل عن الإمام بدر الدين الإسكندري الدماميني، ونقله الصبان في حاشيته على الأشموني، والخضري في حاشيته على ابن عقيل، ونصُّه من الخضري: «واعلم أن المعنى يختلف بالرفع والنصب؛ لأن النصب نص في المعية، والرفع لمطلق الجمع، كما هو شأن الواو العاطفة، فكيف يُرَجَّح العطف مع اختلاف المعنى؟ فالوجه أن يقال: إن قُصِدت المعيةُ نصًّا فالنصب، أو بقاءُ الاحتمال والإبهام فالرفع، أو لم يُقْصَدْ شيءٌ جاز الأمران، ولعل هذا الأخير مَحْمَل كلامهم. ا.ﻫ. دماميني.»
وما قوله الأخير: «أو لم يقصد منه شيءٌ» إلا تَمَحُّل ليجد لكلام القوم محملًا، ألا تراه يختتم كلامه بقوله: «ولعل هذا الأخير محمل كلامهم»؟