الحجج المؤيدة لوجود الإله
الإنسانويون إما ملحدون وإما لا أدريون، ويفترضون في المعتاد أن الإيمانَ بوجود إله أو عدة آلهة غيرُ منطقي أو مبرر، ويزيد آخرون على ذلك؛ إذ يؤكدون على أن الإيمان بالإله غيرُ عقلاني على الإطلاق.
وفي المقابل، فإن المؤمنين بالإله يفترضون في المعتاد أن معتقدهم عقلاني، مع تأكيدهم على أن موقفهم هو «موقف إيماني». إنهم يفترضون أن الإيمان بالإله ليس مثل الاعتقاد في وجود بابا نويل أو الجنيَّات؛ فالأمر أكثر عقلانية بكثير من ذلك. ربما يعترفون أن وجود الإله لا يمكن «إثباته» على نحو حاسم، لكنهم يُصرون دومًا على أن الاعتقاد بوجود الإله شيء عقلاني، إلى حدٍّ ما، على الأقل بالنسبة إلى شخص بالغ متعلم ومتحضر.
لكن إن كان الإيمان بالإله أكثر عقلانية بكثير من الإيمان بوجود الجنيَّات، على سبيل المثال، فما سبب ذلك؟ ما الذي يجعل الإيمان بالإله أكثرَ عقلانية؟ يردُّ المؤلِّهون (المؤمنون بالإله) على هذا السؤال بإجابات مختلفة؛ يحاول كثيرٌ منها عرضَ «حجة منطقية» ما تؤيد وجود إله.
ثمة الكثير من مثل هذه الحجج، وسأعرض هنا لحجتين من أشهر الحجج المؤيدة لوجود الإله، وسأشير إلى نقاط الضعف التي يراها نقادها من الإنسانويين. سأبدأ بمثال على الحجة الكونية، ثم سأنتقل إلى بعض صور برهان التصميم، وفي ذلك مثالان معاصران يستند أولهما إلى التعقيد غير القابل للاختزال والثاني إلى التصميم الدقيق. وهدفي هنا هو مجرد عرضٍ لإطلالة موجزة على بعض المشاكل والاعتراضات التي تواجه مثل تلك الحجج في المعتاد.
(١) الحجة الكونية: لِمَ توجد أشياء من الأساس؟
نظر أغلبنا في وقتٍ ما إلى السماء المرصعة بالنجوم وخطر له السؤال التالي: «من أين أتى كل هذا؟ لِم توجد أشياء بدلًا من العدم؟» هذا سؤال عميق؛ سؤال جدير بدراسة جِدية.
بالطبع، وضع العلماء نظرياتٍ حول كيفية نشأة الكون، وحاليًّا يعتقد أغلب العلماء أن الكون بدأ منذ ١٣ أو ١٤ مليار سنة تقريبًا بالانفجار العظيم؛ ذاك الحدث الذي لم تبدأ معه المادة والطاقة فحسب، وإنما الزمان والمكان أيضًا.
إلا أن تلك الإجابات العلمية يبدو أنها تؤجِّل اللغز فحسب ولا تجيب عنه؛ فنحن نريد الآن أن نعلم: لِم كان هناك انفجار عظيم؟ لِم كانت هناك — وما زالت توجد — أشياء من الأساس؟
وعند هذه النقطة يبدو أننا نواجه سؤالًا لا يستطيع العلم، بالضرورة، أن يجيب عنه؛ فالعلم يفسر الظواهر الطبيعية بالإشارة إلى سمات أخرى من العالم الطبيعي، مثل الأسباب المادية أو قوانين الطبيعة. على سبيل المثال، إذا سألتَ عالِمًا: لِم تجمَّدت المياه الليلة الماضية بالأنابيب؟ فربما يجيبك بما يلي؛ أولًا: من قوانين الطبيعة أن الماء يتجمد تحت درجة صفر مئوي، وثانيًا: الليلة الماضية انخفضت درجة حرارة الماء بالأنابيب لتحت الصفر. وهذا سيفسر لك لِم تجمد الماء. لكن ما الذي يفسر سبب وجود أي قوانين للطبيعة في المقام الأول؟ بل ما الذي يفسر سبب وجود عالم طبيعي من الأساس؟
بالطبع عند هذه النقطة من المفترض أن يدخل الإلهُ في الصورة. لا يستطيع العلمُ تفسيرَ سبب وجود الكون؛ لذا، إن لم نفترض أن وجودَه حقيقة عمياء لا يمكن تفسيرها، يجب أن نتجه إلى الإله بوصفه الحلَّ لتلك المعضلة. فالإله يقدِّم التفسيرَ الوحيد، أو أفضل تفسير متاح على الأقل، للسبب وراء وجود أشياء من الأساس.
وفي حين يقرُّ كثير من المؤلِّهين بأن الحجة السابقة لا تشكِّل دليلًا حاسمًا على وجود إله، يعتقد كثيرٌ منهم أن مثل هذه الحجج «الكونية» — الحجج التي تستدل على وجود الإله بوصفه أفضل تفسير أو التفسير الوحيد لوجود الكون — تمنح معتقدَهم على الأقل قدرًا كبيرًا من الدعم العقلاني.
(٢) مشاكل الحجة الكونية
الحجة الكونية الموضَّحة ملامحُها أعلاه تواجه عدة مشاكل معروفة جيدًا، سأشرح الخطوط العريضة لثلاث منها فحسب:
أولًا، تفترض الحجة أن السؤال: «لِم توجد أشياء بدلًا من العدم؟» سؤال منطقي، لكن هل هو سؤال منطقي؟ بإلقاء نظرة أعمق على الأمر فإن الأمر ليس بهذا الوضوح. لكن إن كان السؤال غيرَ منطقي فهو لا يحتاج لأي إجابة، فضلًا عن احتياجه لإجابة دينية. فيما يلي خط التفكير الذي يخلص إلى أن هذا السؤال لا معنى له في واقع الأمر.
عندما نتحدث عادةً عن وجود «عدمٍ»، فإننا نقصد مثلًا وجود مساحة خالية من الفراغ؛ فعندما أقول: «لا يوجد شيء في فنجاني»، أقصد بذلك أن المساحة الموجودة داخل فنجاني الآن فارغة. وعندما أقول: «لا شيء أقوم به الآن»، أقصد بذلك أنني في هذه اللحظة لا أؤدي أي نشاط. ويقدم الكون الزمكاني، إن جاز التعبير، الساحةَ التي قد تظهر عليها تلك الأمثلة من الأشياء والعدم.
لكن عندما نطرح السؤال الفلسفي: «لِم توجد أشياء بدلًا من العدم؟» فنحن نقصد شكلًا أكثر راديكالية بكثير من العدم، يمكن أن نُطلق عليه العدم «المطلق». والبديل لشيء يُفترض أننا الآن نتصوره ليس مجرد غياب للأشياء أو الأمور التي تجري. يُفترض بنا أن نفكِّر في الاحتمال التالي: ليس الأمرُ غيابَ الشيء أو عدم حدوث أي شيء فقط، وإنما أيضًا لا يوجد زمان أو مكان يمكن أن يوجد فيهما أي شيء أو يمكن أن يحدث أي أمر؛ فالساحة نفسها اختفت الآن.
وهذا نوع عميق ومحيِّر من الغياب؛ محير جدًّا لدرجةٍ لا يتضح معها إن كانت الفكرة تبدو منطقية أم لا (وهو بالتأكيد يطرح بعض الأسئلة المثيرة؛ مثل: «ما الفرق بين التفكير في العدم المطلق، وعدم التفكير في أي شيء؟»)
قد نسارع بقول «لكن بالتأكيد فكرة العدم المطلق منطقية، فما هي سوى فكرة عن «ما كان موجودًا فيما مضى»، قبل وجود أي شيء». لكن في الواقع العدمُ المطلقُ ليس ما كان موجودًا فيما مضى؛ فلم يأتِ زمن كان فيه العدم المطلق (لأنه إن كان هناك زمن كذلك، فلن يكون هناك عدم مطلق).
لكن دَعُونا نُقِرُّ، وإن كان لغرض المناقشة وحسب، أن فكرة العدم المطلق منطقية، وكذلك السؤال القائل: «لِم توجد أشياء بدلًا من العدم؟» برغم هذا، تظل الحجة الكونية تواجه مشاكل أخرى.
ثمة مشكلة واضحة في افتراض أن الإلهَ هو الإجابة على السؤال: «لِم توجد أشياء بدلًا من العدم؟» هي أنه بطرحنا الإله يبدو أننا طرحنا شيئًا آخر يجب تفسير وجوده هو الآخر، فيبدو أننا زدنا من اللغز فحسب بدلًا من أن نَحلَّه. وإذا تُرك وجود الإله دونَ تفسير، فما المسوِّغ لطرح الإله؟ لِم لا نتوقف عند الكون فحسب؟
ومن الردود التقليدية للتأليهيين على هذا الاعتراض الإصرار على أن الإله — بعكس الكون الطبيعي — كيان «ضروري»؛ شيءٌ لا بد بالضرورة من أن يوجد.
وكيف يمكن لشيء أن يوجد «بالضرورة»؟ ربما إن كانت فكرة هذا الشيء تنطوي في الواقع على فكرة الوجود. إننا يمكن أن نتصوَّر عدمَ وجود الكون. لكننا، كما يزعم بعض التأليهيين، لا نستطيع تصور عدم وجود الإله. فإذا تصوَّرت عدمَ وجود شيء، فلا يمكن أن يكون الإله هو ما تتصوره؛ لأن مفهوم الإله يكتنف مفهوم الوجود. وبذلك فإن الإله، إن اتفقتَ مع هذا الطرح، «يفسر وجوده»، وتفسير وجود الإله هو «أنه، بطبيعته، يجب أن يوجد.»
لكن إن كان الإله كيانًا ضروريًّا، فإن البحثَ عن تفسير نهائي لسبب وجود أشياء من الأساس يصل إلى غاية مُرضية: لا حاجة إلى البحث فيما وراء الإله عن شيء آخر لتعليل وجوده (ثم عن شيء آخر وراء ذلك الشيء يعلل وجوده، وهكذا إلى ما لا نهاية)؛ ففي ظل وجود الإله، نصل إلى نهاية الطريق.
إلا أن فكرة الوجود الضروري بالتأكيد فكرة خلافية. وفي واقع الأمر، فإن كثيرًا من الفلاسفة يتشككون في الزعم القائل بأن شيئًا قد يوجد بالضرورة.
لننظرْ، على سبيل المثال، إلى إحدى الرؤى الفلسفية الأساسية عن الضرورة: إن ما هو ضروري أو أساسي هو في النهاية نتاج لممارساتنا اللغوية و/أو السبل التي نكوِّن بها مفاهيمنا عن الأشياء. وهذا معقول للوهلة الأولى في كثير من الحالات؛ فعلى سبيل المثال، أليس السبب في أن من الضروري لكي يكون كائن من الكائنات فحلًا أن يكون ذكرًا وحصانًا في نفس الوقت الذي يكون فيه هذا هو «تعريف» الفحل؟ فأنْ يكون الكائن ذكرًا وحصانًا في نفس الوقت، إن اتفقتَ مع هذا الطرح، هما مكوِّنان أساسيَّان لمفهوم الفحل.
ولكن حسب رؤية الضرورة هذه، إن كان الإله، أو شيء آخر، يوجد بفعل الضرورة، فلا يمكن أن يتحقق ذلك إلا «بسبب أن الإله معرَّف أو متصوَّر بهذا الشكل؛ أي على أنه شيء موجود.»
والمشكلة هنا هي أنه «لا الوجود ولا الوجود الضروري يمكن الجزم بهما مفاهيميًّا على هذا النحو.» فإن عَرَّفتَ «ووزل» على أنه أول شخص سار على سطح المريخ في عام ٢٠٠٠، فأنا بذلك أعرف أنه إن كان أي شخص ووزل، فسيكون أول من سار على المريخ في عام ٢٠٠٠. لكن بالطبع لم يَسِرْ أحد على المريخ عام ٢٠٠٠. ولاحظ أنني لا أستطيع الجزم بأن مثل هذا الشخص موجود بمجرد إضافة الوجود إلى تعريفي له، مثل الآتي: «ووزل» هو أول شخص يسير على سطح المريخ في عام ٢٠٠٠ «وهو موجود».
وعلى نحو مشابه، حتى إن كان الوجود مشمولًا في فكرة الإله، فلن يستتبع ذلك وجود مثل ذلك الكيان، فضلًا عن وجوده بالضرورة (ولهذا السبب فإن الفشل مصير تلك الحجج «الوجودية» التي تحاول إثبات وجود الإله عن طريق الإشارة إلى أن مفهوم الإله ينطوي على مفهوم الوجود).
ولذا، إذا كان السبيل الوحيد لإلحاق صفة بشيءٍ على نحو ضروري هو عن طريق تعريفنا أو تصورنا له بطريقة معينة، وليس من الممكن إلحاق الوجود على هذا النحو؛ إذن «فالعدم يمكن أن يوجد بالضرورة.»
حتى إن أمكن التعامل مع جميع الاعتراضات المختلفة الموضحة أعلاه، فستبقى مشاكل أخرى أمام الحجة الكونية، وفيها المشكلة التالية: حتى إن لم تنجح الحجة في إثبات وجود شيءٍ ما موجود بالضرورة يُسيِّر الكون، فإنها، بشكلها الحالي، قفزة أخرى ضخمة غير مبررة إلى الخلوص بأن هذا الشيء أشبه بكيان ذكي، بَلْهَ كيان يتمتع بخصائص أخلاقية مثل الخيرية العليا، ويستجيب لدعواتنا، ويقوم بمعجزات، وما إلى ذلك.
إن الحجة الكونية على ذلك النحو لا تؤيد الإيمانَ بالإله كما هو في الديانتين اليهودية والمسيحية بالقدر نفسه الذي لا تؤيد به الإيمان بإله عظيمِ القوة ومتباين أخلاقيًّا، أو في الواقع بعدد لا يُحصى من الآلهة أو الأشياء الأخرى. وهو بالطبع ما تؤيده الحجة بالكاد، في كلِّ حالة، إن كانت تؤيده من الأساس.
(٣) برهان التصميم
دعونا نلتفت الآن إلى ما يُعرف ببرهان التصميم أو الحجج الغائية المؤيدة لوجود الإله. تبدأ هذه الحجج بملاحظة أن العالم الطبيعي — أو العناصر التي يضمها — يبدو أنه يتمتع بسمات مميزة معينة؛ مثل الترتيب والغاية. وتخلص هذه الحجج إلى أنه بما أن الإله هو التفسير الوحيد، أو أفضل تفسير متاح على الأقل، لتلك السمات؛ فالإله موجود إذن.
لعل أشهر حجة من حجج التصميم هي الحجة التي قدَّمها ويليام بايلي في كتابه «اللاهوت الطبيعي» المنشور عام ١٨٠٢. يقول بايلي إنْ رأى أحدُهم شيئًا معقَّدًا مثل ساعة يد ملقاة على الأرض، فمن غير المعقول افتراض أن تلك الساعة وُجدت هناك بالمصادفة، أو أنها وُجدت دائمًا في هذا الشكل. ومع العلم بالغرض الواضح من الساعة — معرفة الوقت — وتكوينها الشديد التعقيد المصمم للوفاء بهذا الغرض، فمن المنطقي افتراض أن الساعة صنعها كيان عاقل من أجل هذا الغرض. لكن إن كانت تلك نتيجة منطقية تَخلَصُ إليها في حالة الساعة، فبالتأكيد النتيجة نفسها التي تَخْلَص إليها في حالة العين البشرية، مثلًا، لا تقل منطقيةً عن سابقتها؛ إذ تتمتَّع العين البشرية بغرضٍ مصممة له هي الأخرى بإتقان. ويَفترض بايلي أن هذا المصمِّم الذكيَّ هو الإله.
وفكرة أن العضو البيولوجي مثل العين البشرية يجب أن يكون له مصمِّمٌ ما قام بتصميمه، فكرةٌ يقبل بها الكثيرون، وفيهم العالم تشارلز داروين، إلى أن وضع داروين تفسيره التطوري البديل للكيفية التي ظهرت بها العين.
والآلية التي كان داروين يرى أنها يمكن أن تفسِّر التطور التدريجي للعين هي «الانتخاب الطبيعي». عندما تتكاثر الكائنات الحية، قد تختلف ذُريتها قليلًا في مناحٍ وراثية. ويستغلُّ مُرَبُّو الحيوانات وزارعو المحاصيل تلك الطفراتِ التي تَحدث بالمصادفة لإنتاج سلالات جديدة. فعلى سبيل المثال، قد ينتقي مُربِّي كلابٍ من كلِّ جيلٍ من الكلابِ الكلابَ الأكبرَ حجمًا والأقل شَعْرًا، وفي النهاية يُنتج سلالةً جديدةً بالكامل من الكلاب الضخمة العديمة الشعر.
تمثَّلت فطنة داروين في إدراك أن البيئة الطبيعية التي توجد بها الكائنات ستنتقي في الواقع من بين ذُرية تلك الكائنات؛ فالكائنات التي تمرُّ مصادفةً بطفرات تُعزِّز من قدرتها على البقاء والتناسل في تلك البيئة ستزيد احتمالات توريثها لتلك الطفرة، والكائنات التي تمرُّ بطفرات تقلل من فرص بقائها وتناسلها في تلك البيئة ستقلُّ احتمالات توريثها لتلك الطفرة. هكذا، وعلى مدار أجيال كثيرة، تتأقلم الكائنات تدريجيًّا مع بيئتها. بل وفي ظل ظروف معينة، قد ينشأ نوع جديد بالكامل.
أطلق داروين على هذه الآلية الانتخاب الطبيعي، لتمييزها عن الانتخاب الاصطناعي الذي يستخدمه مُربُّو الكلاب وزارعو المحاصيل. وعلى عكس الانتخاب الاصطناعي، لا يستلزم الانتخاب الطبيعي عقلًا ذكيًّا لتوجيه عملية الانتخاب نحو غاية بعينها؛ فالطبيعة العمياء غير المفكِّرة تتولَّى الآن عملية الانتخاب برمتها دون تخطيط.
وتوجد حفريات كثيرة وغيرها من الأدلة على أن العين البشرية تطوَّرت في الحقيقة تدريجيًّا على مدار ملايين السنين، وربما بدأت بظهور خلية واحدة حساسة للضوء من باب المصادفة لدى كائن كان يعيش منذ ملايين السنين؛ وعلى أن الانتخاب الطبيعي هو الآلية الرئيسية التي تقود هذه العلمية التطورية.
إن برهان التصميم القديم في الطبيعة، كما عرضه بايلي، وهو الذي بدا لي فيما مضى برهانًا قاطعًّا، أصبح لا أساسَ له، منذ أن اكتُشف قانون الانتخاب الطبيعي.
رغم أن ظهور نظرية داروين للانتخاب الطبيعي ومن بعدها نظرية الجينات أدى إلى انخفاضٍ في شعبية برهان التصميم، فإن حجج البرهان بصدد العودة إلى الأضواء مؤخرًا، وفيما يلي شكلان شهيران أكثر حداثة من تلك الحجج.
(٤) حُجَّة التعقيد غير القابل للاختزال
يذهب البعض، مثل أستاذ الكيمياء الحيوية مايكل بيهي، صاحب كتاب «صندوق داروين الأسود»، إلى أنه توجد سمات معينة للكائنات البيولوجية لا يمكن لنظرية داروين للانتخاب الطبيعي تفسيرها. وفي حين يقبل بيهي بأن الأنواع الجديدة تتطوَّر وبأن الانتخاب الطبيعي يلعب دورًا في ذلك، فإنه يؤكد أن «بعض» الأنظمة البيولوجية معقد تعقيدًا غير قابل للاختزال؛ ومن ثَمَّ لا يمكن أن تكون قد تطورت بالانتخاب الطبيعي.
نظام واحد يتألَّف من عدة أجزاء عديدة متفاعلة مُحكمة التوافق تساهم في القيام بالوظيفة الأساسية للنظام؛ بحيث تؤدي إزالة أي جزء من تلك الأجزاء إلى تعطُّل النظام بأكمله عن أداء وظيفته بفعالية.
النظام البيولوجي المعقَّد تعقيدًا غير قابل للاختزال، إن كان يوجد مثل هذا النظام، من شأنه أن يمثِّل تحديًا قويًّا للتطور الدارويني.
ويبدو أنه توجد أنظمة معقدة تعقيدًا غير قابل للاختزال في الطبيعة، ويقدِّم بيهي عددًا من الأمثلة التوضيحية، وفيها نوع من السياط لدى البكتيريا؛ زائدة شبيهة بالسياط تستخدمها البكتيريا لتحريك نفسها، ولكل سوط عند قاعدته محرك جزيئي من نوعٍ ما يضم مكونات عدة، كلٌّ منها ضروري من أجل حركة السوط.
لِمَ يفترض بيهي أن نظامًا معقدًا غير قابل للاختزال مثل هذا السوط لا يمكن أن يتطور تدريجيًّا عن طريق الانتخاب الطبيعي؟ لأن بيهي يظن أنه «لا يمكن أن يكون التمتع بجزء واحد فقط من هذا النظام مفيدًا للتناسل أو البقاء.» أَزِلْ أيَّ مكوِّن من المكونات وستكون النتيجة سقطًا لا طائل من ورائه؛ ولذا، لا يمكن أن يتطور النظام على مراحل. واحتمالية ظهور النظام بأسره تلقائيًّا في جيلٍ واحد نتيجةً لطفرة بالمصادفة منخفضةٌ جدًّا؛ ما يجعل افتراض وجود مصمم ذكي من نوعٍ ما خَلَقَ هذا النظام أكثر منطقية بكثير.
وحجة بيهي المؤيدة لوجود تصميم ذكي لها رواج في بعض الدوائر الدينية، والبعض يقول إنه بما أن المجتمع العلمي من المفترض أنه منقسم بشأن مسألة إن كان ذكاء ما قد لعب دورًا في ظهور الحياة، فإن نظرية التصميم الذكي ينبغي أن تُدرَّس بالمدارس إلى جانب نظريتَي التطور والانتخاب الطبيعي، وهذا الافتراض مُعَد ليداعب إحساسنا بالإنصاف. بالتأكيد لن يكون الوضع منصفًا إلا إذا حصل الطرفان في أي جدل علمي على فرصة للاستماع إلى آرائهما.
إلا أن الحقيقة هي أن «الجدل العلمي» حول التصميم الذكي خرافة. لا يوجد جدل علمي؛ فحجج بيهي سقطت علميًّا بالكامل.
يكتب [بيهي] إنه في غياب «أي جزء تقريبًا» من أجزاء سوط البكتيريا، فإن السوط «لن يؤدي وظيفته.» لكن مهلًا! إن مجموعة صغيرة من البروتينات في السوط تؤدي وظيفتها دون بقية أجزاء السوط؛ إذ تستخدمها أنواع كثيرة من البكتيريا كوسيلة لحقن السموم داخل خلايا أخرى. ورغم أن الوظيفة التي يؤديها هذا الجزء الصغير عندما يؤدي عمله بمفرده مختلفة، فإن الانتخاب الطبيعي مع ذلك يمكن أن يُفضلها.
في التحليل النهائي، فرضية الكيمياء البيولوجية الخاصة بالتصميم الذكي خاطئة، ليس لأن المجتمع العلمي منصرف عن مناقشتها، وإنما لأبسط الأسباب؛ أن الأدلة العلمية تناقضها تمام التناقض.
إن تضليل [التصميم الذكي] يكمن في إشارة مؤيديه إلى جدل دائر في حين أنه لا يوجد أي جدل في الواقع. قام صديق لي بإعداد مسح غير رسمي عبرَ أكثر من عشرة ملايين مقال نُشر في كبرى الدوريات العلمية خلال الاثني عشر عامًا الماضية. والبحث عن التطور ككلمة دليلية كانت نتيجته ١١٥ ألف مقال، معظمها عن التطور البيولوجي. والبحث عن التصميم الذكي خرج بثمانية وثمانين مقالًا، كلها باستثناء أحد عشر مقالًا منها كانت بدوريات هندسية؛ حيث لا أمل بالطبع أن تحتوي على نقاش حول التصميم الذكي! ومن بين الأحد عشر مقالًا المتبقية، ثمانية كانت تنتقد الأساس العلمي لنظرية التصميم الذكي، والثلاثة المتبقية اتضح أنها مقالات بمنشورات مؤتمرات، وليس بدوريات بحثية. وهذا هو نطاق «الجدل» في الأدبيات العلمية؛ أي إنه لا يوجد جدل.
إن تلقين الأطفال أنه يوجد «جدل علمي» حول التصميم الذكي هو بمنزلة تلقينهم أكذوبة. ربما يوجد جدل في الواقع، لكنه ليس جدلًا «علميًّا».
(٥) حجة التصميم الدقيق
الحقيقة المثيرة للانتباه هي أن قِيَم هذه الأرقام [الرئيسية] يبدو أنها مضبوطة على نحو بالغ الدقة كي تتيح نشوءَ الحياة؛ على سبيل المثال، لو اختلفت الشحنة الكهربية للإلكترون اختلافًا ضئيلًا فقط، لَمَا تمكَّنتِ النجوم من حرق الهيدروجين والهليوم، أو لكانت قد انفجرت.
وكثيرًا ما يُقال إن احتمالية أن يتوافر للكون مثل هذه التوليفة من السمات من قبيل المصادفة فقط في واقع الأمر ضئيلةٌ جدًّا. إنها احتمالية بالغة الضآلة في الواقع، لدرجة أن البعض يظن أن افتراضَ وجود عامل ذكيٍّ من نوعٍ ما «صَمَّمَ» عمدًا الكونَ على هذا النحو فرضٌ أكثر منطقية، وسيضيف كثيرون أن هذا الذكاء هو الإله؛ فالإله يقدِّم تفسيرًا مُرضيًا لما سيكون من دونه مجموعةً بعيدةَ الاحتمال جدًّا من المصادفات؛ ومن ثَمَّ فمن المعقول الإيمان بوجود الإله.
إلى أيِّ مدًى تدعم فعليًّا تلك الملاحظات وغيرها عن العالم الطبيعي الإيمانَ بوجود الإله؟ إنها بالكاد تدعمه، إن كانت تدعمه من الأساس.
بادئ ذي بَدء، لاحِظ أن المزاعم العلمية التي تستند إليها حجة التصميم الدقيق ليست بمنأًى تامٍّ عن الجدل.
يتشكَّك عدد من العلماء إن كان هناك نطاق محدود جدًّا فحسب من المعاملات الفيزيائية يمكن للحياة أن تنشأ في إطاره. وقد درس الفيزيائيون، وفيهم فيكتور شتينجر وأنتوني أجيري وكريج هوجان، تلك الأكوانَ التي تنتج عندما تتغير ستة معاملات كونية في نفس الوقت بعدة قِيَم أسيَّة، واكتشفوا أن النجوم والكواكب والحياة الذكية يمكن أن تنشأ على نحو يمكن تصوره في إطار كثير منها. وطبقًا لهؤلاء الفيزيائيين، بالتأكيد من غير المؤكد أنه لا توجد سوى مجموعة ضئيلة جدًّا من المعاملات الفيزيائية التي قد تنشأ الحياة في إطارها. فإن كانوا على حق، فالكون ليس مُصمَّمًا تصميمًا دقيقًا.
يرى علماء آخرون أنه إن كان الكون مُصمَّمًا تصميمًا دقيقًا فربما هناك أيضًا وجود متعدد الأكوان؛ أي عدد ضخم من الأكوان تحكمها مجموعة كبيرة من القوانين الفيزيائية المختلفة. فإن كان هناك وجود متعدد الأكوان، فلا يُستبعد أن يتصادف وجود كون مصمَّم تصميمًا دقيقًا؛ كون يتمتع بصفة مبدأ جولديلوكس — «مضبوط تمامًا» — للحياة.
لكن دعونا نسلم جدلًا أن الجوانب العلمية التي تستند إليها حجج التصميم الدقيق الكوني ثابتة على نحو لا يتطرق إليه الشك؛ لنفترض أن الكون مصمم تصميمًا دقيقًا، وأنه لا يوجد وجود متعدد الأكوان.
ثمة مشاكل أخرى كثيرة في حجة التصميم الدقيق، ثمة فكرة رئيسية تقوم عليها مثل هذه الحجج — وهي أننا يمكن أن نتكلم على نحو واضح عن الكون وسماته الرئيسية على أنها إما «محتملة» أو «مستبعدة» — قد اعترض عليها الفلاسفة مرارًا وتكرارًا (فبعضهم يقول، على سبيل المثال، إن فكرة الاحتمالية المستخدمة هنا لا يمكن تطبيقها إلا فيما يتعلق بمجموعة معينة من القوانين والحالات المادية، التي بالطبع لا يمكن أن تُتاح إلا في إطار كون مادي).
لكن دعونا نفترض جدلًا أن الكون مصمَّم تصميمًا دقيقًا من أجل الحياة، وأنه من المستبعد إلى حدٍّ كبير أن يتمتَّع بتلك السمات الداعمة للحياة من قبيل المصادفة وحسب. إلى أي مدًى ستدعم تلك الحقيقةُ الإيمانَ بوجود كيانٍ ذكيٍّ من نوعٍ ما يتجاوز الوجود الماديَّ قام بتصميم الكون عن عَمْدٍ على هذا النحو؟
ثمة اعتراض آخر على حجة التصميم الدقيق — طرحه ريتشارد دوكينز وآخرون — وهو أنه بالاحتكام إلى وجود مصمِّم ذكي للكون، فإننا نحتكم إلى كيان يجب ألا يقل تعقيدًا — وكذلك لا يقل استبعادًا في سماته — عن الكون الذي من المفترض أنه صممه؛ فإذا كان تعقُّد الكون سيقودنا إلى الافتراض بأنَّ له مُصممًا، ألا ينبغي أن يقودنا تعقُّد المُصمِّم إلى افتراض أنه كان هناك مُصمِّم للمصمم، وهكذا إلى ما لا نهاية؟
(٦) هل فرضية الذكاء المتجاوز للوجود المادي منطقية؟
لكن حتى إن نَحَّيْنا هذا الاعتراض جانبًا، تظل هناك مشكلتان أخريان، ربما أكثر عمقًا؛ مشكلتان تمثلان تهديدًا لجميع حجج التصميم.
المشكلة الأولى هي أنه من غير الواضح أن فكرة المصمِّم الذكي المتجاوز للوجود المادي منطقية.
يفسِّر البشر سمات العالم من حولهم بطريقتين أساسيتين؛ تتمثَّل الأولى في تقديم تفسيرات «خاصة بالمذهب الطبيعي» تحتكم إلى سمات العالم الطبيعي، مثل الأحداث والقوى والقوانين الطبيعية، وتقع تفسيرات الفيزياء والكيمياء في تلك الفئة. وتتمثَّل الأخرى في تقديم تفسيرات مقصودة؛ أي تفسيرات تحتكم إلى معتقدات ورغبات فاعلين عاقلين بنحوٍ أو بآخر. لِم توجد شجرة في بقعةٍ ما؟ لأن تيد أراد أن يرى وهو ينظر من نافذة حجرة نومه شجرة، فغرس فسيلة في تلك البقعة؛ ظنًّا منه أنها ستنمو وتصير شجرة بلوط عظيمة.
عندما نعجز عن تفسير شيء يتوافق مع المذهب الطبيعي، سيستميلنا بالتأكيد البحث عن تفسيرٍ مقصود. وعندما لا نستطيع تقديمَ تفسيرات تتوافق مع المذهب الطبيعي لسبب حركة الأجرام السماوية على النحو الذي تتحرك به، نفترض أنه لا بد أنها، أو لا بد أن مَن يحركها، آلهةٌ من نوعٍ ما. وعندما لم نستطع أن نقدِّم تفسيرًا للأمراض والكوارث الطبيعية، أرجعناها إلى أعمال فاعلين أشرار، مثل السحرة والشياطين. وعندما لم نتمكَّن من تقديم تفسيرات تتوافق مع المذهب الطبيعي لنموِّ النباتات وتعاقُب الفصول، استحضرنا مجددًا الفاعلين؛ العفاريت والجنيَّات والآلهة على مختلف الصور.
ومع نمو فهمنا العلمي للعالم، تقلَّصت الحاجةُ إلى استحضار الساحرات والجنيَّات والشياطين وغيرهم من الفاعلين فوق الطبيعيين لتفسير مظاهر العالم الطبيعي. إلا أننا عندما نسأل: «لِم يوجد العالم الطبيعي من الأساس؟ وما الذي يفسر سبب تمتعه بالقوانين الأساسية التي يتمتع بها؟» لا نجد تفسيرات تتوافق مع المذهب الطبيعي؛ ولذا، قد يبدو تفسيرٌ مِن منطلقِ نشاطٍ مِن نوعٍ ما لفاعلٍ يتجاوز الوجودَ الماديَّ وجيهًا، بل ولا مفرَّ منه.
لكن هل هذا التفسير منطقي؟ هبْ أنني أزعم وجودَ جبل لا يشغل حيزًا من الفراغ، فهو جبل له قمة مدببة وتحيط به وديان وأجراف منحدرة، لكن هذا الجبلَ غيرُ موجودٍ أو ممتدٍّ في الفراغ على الإطلاق، وليس لهذا الجبل أبعاد مكانية؛ فهذا الجبل يتجاوز عالمنا المكاني.
ربما تسأل عن سبب افتراضي وجودَ مثل هذا الجبل. وإن لم أقدِّم لك أسبابًا وجيهة، فستتشكك في كلامي، ومعك الحق في ذلك. لكن في الواقع، ألا توجد مشكلة أكثر جوهرية في زعمي بوجود مثل هذا الجبل؟ ألا يمكننا أن نعلم، حتى قبل أن نلتفت إلى مسألة إن كان يوجد «دليل» يؤيد وجود مثل هذا الجبل أو ينفيه، أنه لا يمكن أن يوجد مثل هذا الشيء؟ إذ إن فكرة الجبل الذي لا يشغل حيزًا من الفراغ في حدِّ ذاتها غير منطقية، ولِجَبَلي الافتراضي قمة وتَحُفُّه وديان ومنحدرات، لكنْ كلها مظاهر تستلزم امتدادًا مكانيًّا؛ فالقمة تستلزم أن يكون جزء من الجبل أعلى من جزء آخر، والوادي يجب أن يكون منخفضًا عن الأرض المحيطة به. فمفاهيم الجبل والقمة وغيرها لا تنطبق على نحو محسوس إلا في سياق مكاني. أَخْرِج هذا السياق من المسألة وستجد أننا في النهاية نتحدث عن هراء.
لكن عندما ننتقل الآن إلى مفهوم المصمِّم المتجاوِز للوجود المادي، هل يبدو الأمر منطقيًّا أكثر بأي شكل من الأشكال؟ لمفهوم الفاعل أصله في إطار زماني؛ فمفهوم الفاعل هو مفهوم لشخص أو لشيء له «معتقدات» و«رغبات» قد «يتصرف» على أساسها على نحو عقلاني إلى حدٍّ ما. إلا أن التصرفات هي أحداث تحدث في لحظات معينة من الزمن، والمعتقدات والرغبات حالات نفسية لها مدة زمنية.
والآن عندما نفترض أن الكون الزمكاني من خَلْقِ الإله، فإننا نفترض أنه من خَلْقِ فاعلٍ لا زماني؛ أيْ فاعل لا يوجد في حيِّز الزمان (أو على الأقل لم يكن موجودًا حينها)؛ لأنه حينها لم يكن هناك بالطبع أيُّ زمن كي يوجد فيه الفاعل. لكن إن كانت الرغبات حالات نفسية ذات مدة زمنية، فكيف يمكن لهذا الفاعل أن يمتلك رغبةَ خلق الكون؟ وكيف أَقْدَمَ على فعل الخلق إن لم يكن هناك أيُّ زمنٍ تؤدَّى فيه الأفعال؟ من الصعب أن ترى الحديث عن فاعل لا زماني أكثر منطقية بأي صورة من الحديث عن جبل لا وجود له في حيز مكاني.
ربما تتفادى هذه الألغاز بافتراض أن الإله موجود، وطالما كان موجودًا، في الزمن؛ فهذا يوفر للإله الإطارَ الزمني الضروري الذي قد يمتلك من خلاله الرغبة في صنع الكون ووضع تصميم له والقيام بعملية الخلق. لكن هذا يطرح مجموعةً كبيرة من الأسئلة المحيِّرة الأخرى؛ مثل: «لِم استغرق الأمر من الإله طيلة هذه المدة كي يجد الوقت لخلق الكون (ومن المفترض أنها فترة طويلة جدًّا لا يمكن قياسها)؟ هل كان يمتلك دومًا الرغبة في خلق مثل هذا الكون؟» إن كانت الإجابة بنعم، فلِم انتظر طيلة هذه المدة قبل الشروع في الخلق (وماذا كان يفعل في تلك الفترة)؟ أو إن كانت تلك رغبة جديدة تولَّدت لديه، فَلِمَ تولَّدت تلك الرغبة تلقائيًّا لديه؟ (بل كيف يمكن أن تتولد رغبة جديدة إن كان من المفترض أن الإله «غير قابل للتغير»؛ «لأني أنا الرب لا أتغير» [ملاخي، ٣: ٦].)
ومن جانبنا ربما نُصِرُّ، مثلما يفعل كثير من التأليهيين، على أن الحديث عن وجود مصمِّم ذكي ينبغي ألَّا يُفهم «حرفيًّا»؛ فنحن لا نفترض وجود فاعل ذكي بالمعنى الحرفي، بل شيء «شبيه» بمثل هذا الفاعل.
هل ينجح هذا الاحتكام إلى التشابه في إنقاذ التفسير بالمعنى الوارد في التصميم الذكي؟ هبْ أنني أحاول تفسيرَ ظاهرةٍ طبيعيةٍ ما بالاحتكام إلى وجود جبل لا مكاني، فيشير منتقديَّ إلى أن فكرة مثل هذا الجبل غير منطقية، فترتسم على وجهي أمارات الضجر وأصرُّ على أنهم يُؤَوِّلون كلامي على نحو مبالغ جدًّا في الحرفية والتبسيط؛ فأنا لا أتحدث عن جبل بالمعنى «الحرفي»، بل عن شيء «شبيه» بالجبل؛ هل ينقذ هذا تفسيري؟
هب أن التشابه الذي أطرحه كالتالي: الشعور بالذنب الذي يشعر به بلد من البلدان حيال عمل فظيع أَقْدَمَ عليه هو مثل جبل شاهق يطأ بوزنه على النفس الجمعية لمواطني هذا البلد، وهذا بالتأكيد تشابه حسن قد نسوقه بمختلف الطرق. والآن هب أن البلد الذي نتحدث عنه ضَرَبه زلزال شديد. سأحاول تفسير الزلزال بالاحتكام إلى هذا الشيء الشبيه بالجبل، بالتأكيد لن يفسر هذا الزلزالَ؛ فشيء «شبيه» فحسب بالجبل لن يتمتع بالقوى السببية والتفسيرية نفسها التي يتمتع بها جبل حقيقي؛ فالشعور الجمعي بالذنب لا يسبب الزلازل.
ويمكنك الآن أن ترى لِم كان مَن يحاولون تفسيرَ سمات العالم بالاحتكام إلى شيء شبيه وحسب بفاعل ذكي يحملون على عاتقهم الكثير (على أقل القليل) من الأمور التي عليهم تفسيرها! فعليهم مهمة تفسير؛ أولًا: ما التشبيه المقصود تحديدًا؟ وثانيًا: كيف يُفترض بالتشبيه الذي يسوقونه أن يتجنب تهمة الهراء الموجهة إلى النسخة المفهومة حرفيًّا من الزعم؟ وثالثًا: كيف يفترض بهذا الشيء الشبيه وحسب بالفاعل الذكي أن تكون لديه القدرات التفسيرية المناسبة التي يتمتع بها الفاعل الذكي الحقيقي؟
هل يمكن لمن يحتكمون إلى شيء «شبيه» وحسب بفاعل ذكي أن يقدموا هذه التفسيرات؟ لا يتضح لي أن بإمكانهم ذلك (وغالبًا لا يكلفون أنفسهم عناء المحاولة). وهذه الاحتكامات إلى التشابه تبدو لكثير من المعلقين، وأنا من بينهم، أنها تسحب الجدل حول التصميم الذكي، لا إلى أعلى إلى مستوى التعقيد والعمق العظيم، بل إلى أدنى إلى مستوى المراوغة والإبهام.
(٧) لِم يوجد إله؟ ولِم هذا الإله بالتحديد؟
إن طرحنا جميع هذه الاعتراضات جانبًا، فيتبقى ما قد يكون أكثر الاعتراضات إسقاطًا للحجة على الإطلاق؛ وهو أنه ستكون قفزة ضخمة وغير مبررة، في هذه الحالة، أن نخلص من النتيجة القائلة بأن الكون صنيعة ذكاء إلى نتيجة أخرى تقول بأن هذا الذكاء هو إلهُ المحبةِ الكليُّ القدرةِ المنَّانُ بلا حدودٍ، الذي يعبده المسيحيون والمسلمون واليهود.
المشكلة الرئيسية الأخرى في التصميم الذكي هي أنه لا توجد ضرورة كي تكون هناك علاقة على الإطلاق بين هوية المصمِّم وبين الإله في المعتقد التوحيدي التقليدي. «القوة المعنية بالتصميم» يمكن أن تكون مجموعة من الآلهة، على سبيل المثال. يمكن أن يكون المصمِّم كيانًا طبيعيًّا أو كيانات طبيعية، مثل عقل فائق أو حضارة فائقة متطورة موجودة بكون سابق، أو في جزء آخر من كوننا، قام بصنع كوننا باستخدام تكنولوجيا فائقة، كما يمكن أن يكون المصمِّم كمبيوترًا خارقًا من نوعٍ ما يحاكي هذا الكون؛ ولذا، فإن استدعاء فكرة عقل فائق … محفوفة بالمشاكل.
ديفيز على حق بالطبع. حتى إن كانت هناك مظاهر معينة في الكون تشير إلى وجود مصمم، فهي لا تشير إلى وجود الإله المسيحي بالقدر نفسه الذي لا تشير به إلى أن الكون عبارة عن محاكاة من صنع كمبيوتر، أو صنيعة حضارة فائقة سابقة، أو بالطبع إله من نوعٍ مختلف.
لِم يوجد إله؟ ولِم هذا الإله بالتحديد؟ لم نحصل حتى اللحظة على إجابات عن هذين السؤالين.
خاتمة
استعرضنا في هذا الفصل أمثلةً على نوعين من الحجج التي يعتبر كثيرون أنها توفر درجة معقولة من الدعم المنطقي للإيمان بالإله: الحجج الكونية وحجج التصميم. وبتناول الموضوع عن كثب، اتَّضح أن الحجج، على أقصى تقدير، لا تدعم سوى الزعم القائل بأنه يوجد ذكاء من نوعٍ ما، أو ربما شيءٌ ما موجود بالضرورة، يقف خلف الكون (وأنا أعتقد أننا عرضنا لأسباب وجيهة لافتراضنا أنها فشلت حتى في إثبات هذا القدر). ففي كل حالة، وجدنا أن الأمر سيكون، على أساس الحجة المعروضة، قفزة أخرى ضخمة غير مبررة إلى النتيجة القائلة بأن هذا الذكاء هو الإله كما هو موجود في المعتقد التوحيدي التقليدي.