الإنسانوية والأخلاق
من بين «الأسئلة الكبرى» التي تتناولها الإنسانوية الأسئلة الأخلاقية؛ أسئلة حول ما «يجب» علينا وما «يجب علينا ألَّا» نفعله. والإنسانويون مؤمنون بالصواب والخطأ. وفي الواقع، كثير منهم لديهم التزام أخلاقي شديد.
إلا أن كثيرًا من الدينيين يتشككون في الزعم القائل بأن الأخلاقَ شيءٌ يمكن لمن يرفضون الإيمان بالإله أن يستخدموه في حججهم المعارضة لوجود الإله. وثمة ثلاثة تحديات عادةً ما تظهر في هذا الشأن؛ وهي كالتالي:
أولًا: «كيف يمكن أن يوجد خير دون وجود الإله؟» بالتأكيد في معرض حديثنا عن الأشياء سواء «الصحيحة» أو «الخاطئة» أخلاقيًّا، فنحن بذلك يكون لدينا معيار موضوعي من صنع الإله يمكن أن نقيس عليه مثل هذه القيم. فإن لم يوجد الإله، فلا وجود لمثل هذا المعيار؛ ومن ثَمَّ لن يعدو مثل هذا الحديث سوى تعبير عن تفضيلات شخصية. وعلى المستوى الأخلاقي، يمكننا جميعًا أن نفعل ما يحلو لنا.
ثانيًا: «كيف يتأتى لنا أن نعرف الخير من دون الإله والدين ليرشدانا إليه؟» بالتأكيد، دون البوصلة الأخلاقية التي يوفرها لنا الدين، لن نعرف أين نحن ولا وجهتنا الأخلاقية.
ثالثًا: «هل سنكون أخيارًا من دون الإيمان بالإله؟» بالتأكيد نحن نُحْسن التصرف فقط لإيماننا بوجود إلهٍ مطَّلع على ما نحن بصدده، سيَحْكم على أفعالنا ويعاقبنا إن أخطأنا ويكافئنا إن أصبنا. من المهم أن يؤمن الناس بوجود الإله، حتى يظلوا على الطريق القويم.
سيبدأ هذا الفصل بإلقاء نظرة أكثر عمقًا على هذه التحديات الثلاثة.
(١) هل يمكن أن يوجد خير من دون وجود الإله؟
إحدى أشهَر الحجج أنه من دون وجود الإله، فإن منظومة الأخلاق مستحيلة، وهي تسير على النحو التالي:
لا يمكن أن تنبع منظومة الأخلاق منَّا، ولا يمكن أن تكون من صنيعنا؛ فلو كانت من صنيعنا، لكانت اعتباطية ونسبية؛ وهذا ما ليست عليه.
لِم اعتباطية؟ لأنه إن كان لا يوجد صحة أو خطأ قبل إصدارنا حكمًا على شيء بأنه صحيح أو خاطئ، فلن يستند حكمنا إلى أسباب أخلاقية. ومن وجهة النظر الأخلاقية، أيُّ حكم نصدره يجب أن يكون حتمًا اعتباطيًّا بالكامل.
ولِم نسبية؟ إذا كان الصحيح أو الخاطئ أخلاقيًّا يتحدد بما نقول، إذن، لو قلنا إن تعذيب الأبرياء صحيح، لكان صحيحًا. وفي الواقع، بالنسبة إلى من يقولون إنه صحيح، هو صحيح بالنسبة إليهم. الصحيح أو الخاطئ يعتمد تمامًا على ما نحكم به أيًّا كان.
لكن منظومة الأخلاق بالتأكيد ليست اعتباطية أو نسبية على هذا النحو، فلا يمكننا أن نجعل تعذيب الأبرياء أمرًا صحيحًا بمجرد قولنا ذلك. مثلُ هذا التعذيب خاطئ من دون تبرير، وليس خاطئًا لأننا نقول عليه إنه خاطئ.
ختامًا، وبحسب الحجة، إن لم تكن الأشياء صحيحة أو خاطئة لأننا نقول ذلك عنها، إذن يجب أن تكون صحيحةً أو خاطئة لأن الإله هو الذي يقول ذلك بشأنها. لِم تعذيب الأبرياء خاطئ مهما كان ما يمكن أن نقوله عنه أو نفكر فيه بشأنه؟ لأن الإله يقول إنه خاطئ.
والنظريةُ القائلةُ بأن الأشياء تكون صحيحة أو خاطئة أخلاقيًّا، طيبة أو خبيثة أخلاقيًّا، فقط لأن الإله يقول ذلك عنها؛ معروفةٌ باسم «نظرية الأمر الإلهي». وحسب هذه النظرية، يكمن خطأ جريمة القتل ببساطة في أن الإله يأمرنا بألا نقتل.
(٢) معضلة يوثيفرو
الحجة أعلاه المؤيدة لنظرية الأمر الإلهي جذابة وذات قبول واسع، لكن بنظرة عن كثب، نجدها حجة ضعيفة؛ فثمة خلل كبير بها، أولُ مَن كشف عنه كان الفيلسوف أفلاطون في حواره «يوثيفرو».
هل الأشياء صحيحة/خاطئة، طيبة/خبيثة أخلاقيًّا لأن الإله يقول ذلك، أم أن الإله يقول عنها ذلك لأنه يدرك أنها كذلك؟
أيًّا من هاتين الإجابتين سيكون ردُّ التأليهي؟ إن قال التأليهي إن الأشياء صحيحة أو خاطئة أخلاقيًّا لا لسبب إلا لأن الإله يقول بذلك، إذن يتضح أن منظومة الأخلاق لا تزال اعتباطية ونسبية؛ فقبل إصدار الإله لأي أوامر، لا يوجد صواب أو خطأ؛ ومن ثَمَّ، أيًّا كانت الأوامر التي يصدرها، يجب أن تكون اعتباطية أخلاقيًّا. علاوة على ذلك، إن قال الإله إن تعذيب الأبرياء أمر صحيح، فإنه سيكون كذلك. لكن بالطبع هذا الزعم غير منطقي بالقدر نفسه الذي عليه الزعم القائل بأننا إن قلنا إن تعذيب الأبرياء صحيح، فإنه سيكون كذلك. وهكذا فإننا نواجه المشكلات نفسها مرة أخرى، إلا أنها الآن في جانب الإله.
ويؤكد بعض التأليهيين في رَدِّهم أنه بسبب أن الإله نفسه خيِّرٌ أخلاقيًّا، فلن يأمرنا بتعذيب الأبرياء. إلا أنه بحسب نظرية الأمر الإلهي، أن تقول إن الإله خيِّر أخلاقيًّا كأنك تقول إنه يقول إنه خيِّر؛ الأمر الذي يمكنه أن يقوله أيًّا كانت الأوامر التي يصدرها بشأن تعذيب الأبرياء. من ثَمَّ، وحسب نظرية الأمر الإلهي، فإن خيرية الله لا تستتبع أنه لن يأمرنا بتعذيب الأبرياء.
يبدو إذن أن الإجابة الأولى — الأشياء صحيحة/خاطئة أخلاقيًّا لأن الإله يقول ذلك — غير مقبولة بالقدر نفسه الذي لا يُقبل به الزعم القائل إن الأشياء صحيحة/خاطئة أخلاقيًّا لأننا نقول ذلك، وللأسباب ذاتها تقريبًا.
ماذا إذن عن الإجابة الثانية: الإله يقول إن الأشياء صحيحة أو خاطئة أخلاقيًّا لأنه يدرك أنها كذلك؟ إن الإلهَ لا يجعل تعذيبَ الأبرياء خاطئًا بإصداره أمرًا بشأنه؛ فمثل هذا التعذيب سيكون خاطئًا أيًّا كان ما أمر به الإله. وأوامر الإله، على حالها، تَصدر لأغراض التبليغ وحسب.
بعض منظِّري نظرية الأمر الإلهي، بعد تعرفهم على الإشكاليات التي تعترض سبيل الإجابة الأولى، والتي يبدو أنه لا سبيل لتخطيها، يجنحون إلى الإجابة الثانية. لكن لاحِظ أنه إن اختار التأليهيُّ الإجابةَ الثانية، فستنهار «الحجة الأصلية القائلة بأن منظومة الأخلاق تقوم على أوامر الإله»؛ فالتأليهي الآن يقر بأن تعذيب الأبرياء خاطئ على أي حال — إنه خاطئ موضوعيًّا — سواء أكان يوجد إله يصدر أوامر أم لا. لكن حينها سيكون للملحدين واللاأدريين حرية استخدام هذا المعيار الأخلاقي الموضوعي نفسه؛ ومن ثَمَّ، فهما والتأليهيون الآن سواء في إرجاع منظومة الأخلاق إلى التفضيل الشخصي.
ولا ينكر أيٌّ مما سبق وجودَ معضلة بشأن موضوعية منظومة الأخلاق؛ حول الكيفية التي يمكن أن تكون بها الأشياء صحيحة أو خاطئة أخلاقيًّا بمعزل عن الكيفية التي قد نحكم بها، أو يحكم بها الإله، عليها. ومقصدي هنا هو أن نظرية الأمر الإلهي لا تقدم أيَّ حلٍّ حقيقي لهذه المعضلة.
(٣) ربط الخير بالإله
هذا الزعم لا يُنهي بأي حال من الأحوال جميعَ الحجج التي قد يسوقها التأليهي للنتيجة القائلة بأنه لا يمكن أن يوجد خير من دون الإله. وإليكم اقتراحًا مختلفًا تمامًا. هبْ أن القيمة الأخلاقية لا اعتباطية ولا نسبية، هب أنه يوجد معيار أو مقياس أخلاقي موضوعي، وهبْ أن «الإله» لا يشير فحسب إلى «خالق» هذا المعيار، بل إلى «المعيار ذاته» (أو — إن شئت — أحد طرفَي المعيار: الخير)، لكن حينها إن أقررت بوجود معيار مطلق للصواب والخطأ فهو بمنزلة إقرارك بوجود الإله.
هذا تلاعب ماهر بالكلمات. إن كان «كل» ما يعنيه التأليهي بالإله هو معيارًا أخلاقيًّا موضوعيًّا ما، وبالتأكيد مع الإقرار بوجود مثل هذا المعيار الأخلاقي؛ بهذه الطريقة يقر المرء بوجود الإله. إلا أن هذا فهم قاصر جدًّا للمقصود ﺑ «الإله». سيُسلِّم كثير من الملحدين عن طيب خاطر بأنه إن كان هذا هو جلَّ ما يقصده التأليهي بالإله، فإنهم إذن مؤمنون بالإله. إلا أنه بالطبع عادةً ما يؤمن التأليهيون بمفهوم أكثر ثراءً عن الإله؛ فيتميز فَهمهم للإله بأنه لا يشير فحسب إلى هذا المعيار الأخلاقي، بل أيضًا إلى أيٍّ مما يلي: خالق الكون، مصمم، كيان ذكي، فاعل على معرفة بالأشياء، يضمر نوايا، ولديه مشاعر مثل الغيرة والغضب والحب وما إلى ذلك، كيان خَلَقنا على صورته، صانع للمعجزات، إنسان كان له شأن في الماضي مات ثم عاد إلى الحياة مرة أخرى، مُنزل القرآن، عالم الغيب أو كاشف الحقائق، شخص يَعِدُنا بالخلود … وما إلى ذلك. وبزعمك وجود معيار أخلاقي مطلق فهذا لا يعني القبولَ بأيٍّ من هذه المزاعم الأخرى، كما هي مفهومة حرفيًّا أو حتى على سبيل القياس. لكن قبولك بوجود معيار أخلاقي مطلق لا يعني قبولَك بوجود «الإله»، وذلك على أيِّ مستوًى ثري مِن فَهْم هذا المصطلح.
(٤) كيف يتأتَّى لنا معرفة الصحيح والخاطئ؟
دعونا نلتفت الآن إلى التحدي الثاني: كيف يمكننا أن «نعرف» الصحيح والخاطئ أخلاقيًّا دون إرشاد الإله والدين لنا؟ هب أنه يوجد معيار أخلاقي موضوعي، فكيف يتأتى لنا معرفة الوجهة التي تشير إليها بُوصلة هذا المعيار؟ بالتأكيد، سواء كانت نظرية الأمر الإلهي صحيحة أم خاطئة، فإننا ما زلنا في حاجة إلى الإله والدين كي يرشدانا إلى ما هو صحيح وما هو خاطئ. أين يلتمس الإنسانويون الإرشادَ الأخلاقي؟
يمكن أن يقر الإنسانويون — وهم يفعلون ذلك — بأن بعض الأشخاص ربما يكونون أكثر خبرةً من الآخرين عندما يتعلق الأمر بمنظومة الأخلاق؛ من حيث إنهم قد يتمتعون بمعرفة أخلاقية أوسع، وقد يكونون حكَّامًا مؤتمنين أكثر من غيرهم على الحكم على الصواب والخطأ. وبالتأكيد قد يمتلك بعض الأفراد حكمةً أخلاقيةً مهمة أو تنطوي عليها بعض النصوص.
ويكمن موضع الاختلاف بين الإنسانويين وكثير من الدينيين في الموقف الذي يتخذه الأخيرون والذي يشجعون الآخرين على تبنِّيه، فيما يتعلق بمثل هذه المصادر؛ فبعضهم يُصِرُّ على أفضلية مجموعة مصادر بعينها، وأن منظومة الأخلاق الأساسية التي تعززها تلك المجموعة ينبغي القبول بها بنحوٍ أو بآخر دون شك. أما الإنسانويون في المقابل، فيؤكدون على أهمية «الاستقلال الأخلاقي الفردي».
وبالطبع، لا يفترض الإنسانويون أننا يجب أن نكون أحرارًا نفعل ما نشاء؛ فهم يُقرُّون بأن مجتمعنا يحتاج لقوانين وقوة شرطة وسلطة قضائية، لكنهم يفترضون أننا يجب أن نكون أحرارًا في «التفكير» لأنفسنا، في إصدار أحكامنا الأخلاقية الخاصة بنا والتعبير عن آرائنا (باستثناء التحريض على العنف أو ما شابه)، وينكرون أنه يجب علينا كلنا أن نعهد بمسئولية إصدار الأحكام الأخلاقية إلى سلطةٍ خارجيةٍ ما، مثل قائد سياسي أو ديني.
قد تتساءل حول ذلك. بالتأكيد كثيرًا ما توجد مسوِّغات لعهدنا بمسئولية إصدار الأحكام إلى شخص خبير؛ لا شك أننا نتوجَّه إلى طبيب من أجل الحصول على استشارة طبية، وإلى فنيٍّ من أجل رأيه بشأن نظام التدفئة المركزية، وما إلى ذلك. فمن العقلاني غالبًا أن تأخذ برأي أصحاب الخبرة في مثل تلك الحالات.
لِم إذن لا نقبل، مثلًا، بحكم سلطةٍ دينيةٍ ما بخصوص المسائل الأخلاقية؟ إن كانت تلك السلطة قد كرَّست حياتها للتفكير بعمق في القضايا الأخلاقية، فلِم لا نُذعن لرأيها الخبير؟
بالتأكيد سيكون ذلك ملائمًا، لكن للأسف ليست منظومة الأخلاق مثل الطب أو الكيمياء. إنْ نَصَحَ أستاذُ كيمياء طالبًا حديثَ السنِّ بالتخلص من كتلة بوتاسيوم في الحوض، وقُتل طالب آخر نتيجةً للانفجار المترتب على ذلك، فلن يتحمَّل الطالب الأول المسئولية؛ بل يتحملها الخبير. لكن إنْ نَصَحَ معلِّمُ الدينِ طالبَه الحديثَ السنِّ بقتل أيِّ شخص يرفض دينَه، وأطاعه؛ فإن الطالب يستحق تحمل الوزر. وبافتراض أنه لم يُجبر على ذلك ولم يتعرض لعملية غسيل مخ، فهو مسئول عن الشخص الذي قتله. وبديهيًّا، لا يمكنه التنصل من المسئولية بقوله: «لكن مرشدي الديني قال لي إنه يجب عليَّ أن أفعل ذلك»، بنفس الطريقة التي يمكن لطالب الكيمياء أن يتنصل من المسئولية بقوله: «أستاذ الكيمياء قال لي إنه يجب أن أفعل ذلك.» لمسئولية إصدار الأحكام الأخلاقية طابع ارتدادي يشبه حركة البومرانج؛ جرِّب أن تعهد بها لأحد الخبراء، وستجدها دائمًا ما ترتد إليك.
بالتأكيد سيَعتبر كثيرون الاقتراحَ القائلَ بأنه يجب علينا أن نقرر بأنفسنا الصحيح والخاطئ، لا أن نعهد بهذا الأمر إلى سلطة دينية، اقتراحًا صادمًا. وقد يقولون لك: «يا للغرور! أتريد أن تؤدي دور الإله؟! عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع المسائل الأخلاقية، يجب أن نعتمد على الدين.»
لكن، شئتُ أم أَبَيْتُ، لا مفر من أداء دور الإله، حتى إن قررتُ أن أتبع ما يُقال في كتاب مقدس من الكتب المقدسة أو ما يقوله أحد رجال الدين، ما زلتُ مع ذلك أُصدر أحكامي الخاصة؛ لأني ما زلتُ مضطرًّا أن أقرر أيَّ كتابِ دينٍ سأختار، وأيَّ أجزاء من هذا الكتاب سأقرأ، ورأيَ أيِّ مفسِّر لهذا الكتاب سأتبع، وما إلى ذلك. لا مهرب من تلك الأحكام. حتى مجرد الالتزام بالتعاليم الدينية التي تربيتُ عليها يقتضي أن أُصدر تلك الأحكام، وهي نفسها أحكام أخلاقية؛ فهي تتضمن السؤال: «هل يجب عليَّ أن أتبع النصيحة الأخلاقية التي قيلت لي أم لا؟»
على كل فرد في النهاية أن يعتمد على بُوصلته الأخلاقية — إدراكِه الخاص للصواب والخطأ — في اتخاذ القرار بشأن الجهة التي سيستمع إليها، وإن كان سيقبل بالنصيحة الأخلاقية التي أعطته إياها أم لا، ويؤيد هذا التأليهيون كما يؤيده الإنسانويون.
(٥) هل سنكون أخيارًا من دون الإله؟
سأتحول الآن إلى التحدي الثالث من تحدياتنا الثلاثة: هل سنكون أخيارًا من دون الإيمان بالإله؟ يعتقد كثيرون أنه إن تمَّ تقويض الدين، فستنهار منظومة الأخلاق وسيتمزق النسيج المجتمعي؛ ومن ثَمَّ، فالإنسانوية فكرة خَطِرة.
كثيرًا ما يُساق هذا الزعم، لكن ما الدليلُ على صحته؟ تُركِّز إحدى أَشْهَرِ الحجج على وجود ارتباطٍ بين تراجع الدين، ولا سيما منذ منتصف القرن العشرين، وبين ارتفاع مفترض في مختلف الاعتلالات الاجتماعية على مدار الفترة نفسها، بما في ذلك تزايد معدل الجرائم وجنوح القصَّر والأمراض المنقولة جنسيًّا. وترى تلك الحجة أن هذا الارتباط ليس مصادفة؛ فمعدل الجرائم وجنوح القصَّر والأمراض المنقولة جنسيًّا يتزايد مع تراجع مكانة الدين؛ فتراجع الدين هو «السبب» الرئيسي لما سبق.
لكن هل صحيح أن مجتمعنا أقلُّ أخلاقًا بكثير مما كان عليه في خمسينيات القرن العشرين؟ بالتأكيد لدينا الآن مواقف أخلاقية مختلفة تمامًا، لكن ليس هذا بالشيء السيئ بالضرورة؛ ففي خمسينيات القرن العشرين، كان رُهاب المثلية والعنصرية منتشرَين، واعتبر كثيرون أن مكان المرأة هو المطبخ. لقد شهدنا بالفعل أوجُهَ تحسُّنٍ أخلاقيٍّ ضخمةً على مدار نِصفِ القرن الأخيرِ أو نحو ذلك.
إلا أنه توجد أدلة تشير، على بعض «الأصعدة» على الأقل، إلى أننا في حال أسوأ. على سبيل المثال، في المملكة المتحدة تُرتكب حوالي ٦ ملايين جريمة كلَّ عام، أما في عام ١٩٥٠ فكان الرقمُ نصفَ مليون، وفي الولايات المتحدة بين عامَي ١٩٦٠ و١٩٩٢ زاد معدل جرائم العنف المبلَّغ عنها (القتل، والاغتصاب، والسرقة، والاعتداء) التي يتعرض لها المواطنون بخمسة أضعاف. حتى مع اعتبار الاختلافات في طريقة التبليغ عن الجريمة، فمن الواضح أنه كانت هناك زيادة كبيرة في الجرائم؛ ألا يمكن أن يُعزى ذلك إلى تراجع الإيمان بالدين؟
ليس الأمر بهذه السهولة. رغم ارتفاع جرائم العنف منذ عام ١٩٥٠، فإنها في الواقع أقل كثيرًا (أقل بخمسين ضعفًا) مقارنةً بعددها منذ قرنين من الزمان، عندما كان مجتمعنا متدينًا جدًّا في الحقيقة؛ من ثَمَّ فإن ارتفاع معدلات الجريمة يمكن أن يكون له أسباب — وبالفعل له أسباب — غير انخفاض معدلات التدين (إن كان انخفاض التدين سببًا من الأساس).
وفي الواقع، ثمة تغيرات واضحة كثيرة جرت على مدار نِصفِ القرن الأخيرِ أو نحو ذلك، ربما تفسر جيدًا سبب حدوث ارتفاع في معدلات الجريمة. على سبيل المثال، أصبح الناس أكثر تنقلًا بكثير، وزادت احتمالات بقاء المنازل خالية أثناء ساعات النهار، وأصبح الناس أقل معرفة بِهُوية جيرانهم وما هم بصدد الإقدام عليه. والمجتمعات المحلية الشديدة الترابط فعَّالة في إيقاف الجريمة وجنوح القصَّر، لكن اختفاء هذه المجتمعات مرتبط بتغير الظروف الاقتصادية أكثر من حدوث انخفاض في الإيمان بالدين وعدم اتباع تعاليمه.
ومن ثَمَّ، لا يتضح بأي حالٍ من الأحوال أن تراجُع الإيمان بالدين هو السبب وراء ارتفاع معدلات الجرائم؛ فمجرد وقوع أمرين في الوقت نفسه لا يقيم علاقةً سببية بينهما (وبافتراضك غير ذلك سترتكب مغالطةَ «التعاقب الزمني»).
نظرةٌ عن كثب على الأدلة تشير بقوة إلى أن تراجع الإيمان بالدين «ليس» السبب الرئيسي في الزيادة في هذه الاعتلالات الاجتماعية. فعندما نلقي نظرةً على ديمقراطيات العالم المتقدم، نجد أن «أكثر» الديمقراطيات تديُّنًا — وفيها بالطبع الولايات المتحدة (حيث يقول ٤٣٪ من مواطنيها إنهم يرتادون الكنيسة أسبوعيًّا) — عادةً ما يكون لديها «أعلى» معدلات جرائم القتل والأمراض المنقولة جنسيًّا والإجهاض وغيرها من مقاييس الحكم على صحة المجتمع، في حين أن أقل البلدان تديُّنًا، مثل كندا واليابان والسويد، من بين البلدان التي تتمتع بانخفاض تلك المعدلات. إن كان انخفاض معدلات التدين هو السببَ الرئيسيَّ وراء تلك الاعتلالات الاجتماعية، فلنا أن نتوقَّع من البلدان الأقل تديُّنًا الآن أن تعاني من أشد المشاكل. إلا أن العكس هو الصحيح.
كانت القوة الثقافية المهيمنة على المجتمع الصيني التقليدي، بالتأكيد، هي الكونفوشيوسية، التي لا تُعتبر دينًا على الإطلاق، بل مذهب أخلاقي عقلاني علماني. وتاريخ الصين حافل بفترات الانحدار الأخلاقي والنهضة الأخلاقية، لكن لا يرتبط أيٌّ منها بوجه خاص بما يُطلِق عليه الغربي دينًا. ومن الصعب أن نُقِيم الحجة التي مفادها أن مستويات الأخلاق العادية في آسيا أقل من مثيلاتها في أجزاء العالم التي يسيطر عليها دين غيبي.
بالنسبة إلى الغرب، يبدو من الصعب تخيل أنه يمكن الحفاظ على العلاقة الطيبة بين الإنسان وأخيه الإنسان (منظومة الأخلاق) من دون الالتفات إلى كيان أعلى؛ في حين أن الصينيين يندهشون من الاعتقاد بأن الناس لا يجب أو لا يستطيعون التصرف باحترامٍ بعضهم تجاه البعض من دون التفكير في علاقاتهم غير المباشرة من خلال طرف ثالث.
كما يوجد كمٌّ كبير من الأدلة العلمية المتزايدة على أن منظومتنا الأخلاقية هي، إلى حدٍّ ما، نتاج تاريخنا الطبيعي التطوري؛ فهناك مواقف أخلاقية معينة موجودة في العالم بأسره، فعلى مستوى العالم، يمتلك الناس الأفكار البديهية الأخلاقية الأساسية ذاتها عن السرقة والكذب والقتل، بغضِّ النظر إن كانوا دينيين أم لا. وكل مجتمعٍ تقريبًا منجذب إلى شيء من قبيل القاعدة الذهبية: عاملِ الناسَ كما تحب أن يعاملوك! لِم؟
ثمة أدلة على أن أفكارنا البديهية الأخلاقية حول ما يجب علينا، أو ما لا يجب علينا، القيام به مكتوبة، جزئيًّا على الأقل، في جيناتنا قبل أن تُكتب في أي كتاب ديني بوقت طويل (من أجل الاطلاع على تلك الأدلة ونقاشات مفيدة لها، أنصح بكتاب «أصول الفضيلة» لصاحبه مات ريدلي، و«الحيوان الأخلاقي» لمؤلِّفه روبرت رايت، و«تطور منظومة الأخلاق» لريتشارد جويس). لم يَخلُقِ الدينُ منظومةَ الأخلاق، بل قامت الأديان فحسب بتقنين منظومة الأخلاق الأساسية المجبول عليها البشر من الأساس. فباعثنا الأول للتصرف على نحو أخلاقي يبدو طبيعيًّا وغريزيًّا، وليس مكتسَبًا عن طريق التعرض للدين.
(٦) الآثار الاجتماعية الإيجابية للدين
هناك قدر بسيط من الشك يعتري القول بأن الدين قد ساعد بعض الناس على تغيير حياتهم إلى الأفضل. لقد سمعت قصصًا عن سجناء «عرفوا الإله»؛ ونتيجةً لذلك توقفوا عن ارتكاب الجرائم وبدءوا في مساعدة الآخرين. ولا شك أن التعرض للدين له تأثيرات قوية على سلوك بعض الأشخاص، ولا سيما الأفراد الذين عاشوا حياةً بالغة الاضطراب والعبث.
إلا أنه ثمة خلاف على مقدار هذا التأثير الإصلاحي للدين في حد ذاته على السجناء، في مقابل مصادفتهم أشخاصًا يُبدون اهتمامًا صادقًا بهم (يجب علينا أن نتذكر أيضًا أن عددًا كبيرًا من السجناء وجدوا هذا النوع من الخلاص في الفلسفة والتعليم؛ وربما يتضح أن هذه البدائل أكثر فاعلية في الواقع في مساعدة المساجين لكي يسلكوا حياة أفضل).
علاوة على ذلك، الملاحظة القائلة بأن للدين تأثيرًا إيجابيًّا على سلوك بعض الأفراد ذوي الحياة المضطربة لا يقدم سوى القليل من الدعم لوجهة النظر التي نتدارسها هنا؛ وهي أنه من دون انتشار الدين، لن يكون الناس أخيارًا وسيتفسخ نسيج المجتمع. وفوق كل شيء، ربما سيكون للتعذيب وغسل المخ على غرار نموذج الأخ الأكبر تأثير على ضبط السلوك الإجرامي. ولا تدعم هذه الحقيقة الرأيَ القائل بأنه دون انتشار التعذيب وغسل المخ، لن يكون الناس أخيارًا وسيتفسخ نسيج المجتمع.
ماذا عن الأدلة المشيرة إلى أن الدينيين أكثر مشاركة في الأعمال الخيرية من اللادينيين، مثل الأدلة المساقة في كتاب «من يهتم حقًّا؟» لآرثر سي بروكس، الذي يشير إلى أنه تزيد احتمالات تبرُّع الدينيين للأعمال الخيرية عن اللادينيين بنحو ٢٥٪، ومن ذلك الأعمال الخيرية اللادينية؟ (لاحظ أنه رغم أن ٤٠٪ من المسيحيين الأمريكيين سيقولون إنهم ارتادوا الكنيسة الأحد الماضي، فقد تَوصَّل باحث مسيحي إلى أن ٢٠٪ فحسب منهم هم من ارتادوا الكنيسة؛ ومن ثَمَّ فالإحصائية السابقة الخاصة بالمساهمة في الأعمال الخيرية — التي تعتمد على ما «يقول» المسيحيون الأمريكيون إنهم يفعلونه — قد تكون غير جديرة بالثقة هي الأخرى.) أدَّت مثل هذه الإحصائيات بالبعض إلى الخلوص إلى أنه من دون الدين يستحيل إقامة مجتمع صحي. إلا أنه لا توجد علاقة بين الأمرين، وأكثر ما تكشف عنه الإحصائية السابقة الخاصة بالمشاركة في الأعمال الخيرية هو أنه — على مقياس واحد من مقاييس الصحة المجتمعية — ربما يكون أحد المجتمعات أفضل حالًا إن كان معتنقًا لدين عما سيكون عليه إن لم يكن معتنقًا لدين. ويجب علينا ألَّا نغفل عن أن — على مقاييس أخرى ربما أكثر أهمية لصحة المجتمع — أكثر الديمقراطيات الغربية تدينًا تعيش حياة أسوأ من تلك الأقل تدينًا.
لا شك أن الدين له بعض «المنافع» الاجتماعية، التي قد تكون من بينها وجود نزعة أقوى للقيام بأعمال الخير بين الدينيين، لكن من الممكن أن تتحقق هذه المنافع من دون الدين. ربما تكون زيادة الميل للقيام بالأعمال الخيرية نتيجة لإكساب ممارسة الدين الناسَ عادةَ التفكير في أحوال الآخرين ومساعدتهم؛ وهو شيء يمكن أن نغفله بسهولة في سياق آخر. قد تكون هناك طرق أخرى لاستمالة الناس إلى هذه العادات الطيبة. سأعرض في الفصل السادس لأدلة تشير إلى أن التعرض لصنوف معينة من البرامج الفلسفية يمكنها «أيضًا» أن تساعد على غرس سلوك أكثر اهتمامًا بالآخرين واحترامًا لهم لدى الشباب.
(٧) حركة «رأس المال الأخلاقي»
كي يتعامل المفكرون الدينيون مع الملاحظة المحرجة — بالنسبة إليهم — أنه في عموم الغرب يسلك الملحدون واللاأدريون بوجه عام سلوكًا راشدًا (في أغلب المقاييس، بالقدر نفسه على الأقل من الرشد كأقرانهم من الدينيين)، فإنهم يحتكمون إلى فكرة «رأس المال الأخلاقي»؛ فيقولون إن تراثنا الديني أفرز مخزونًا من رأس المال الأخلاقي يعوِّل عليه الآن إنسانَوِيُّو اليوم. في نهاية الأمر، سينفد رأس المال هذا وتتبع ذلك فوضى أخلاقية. نحن إذن في حاجة عاجلة إلى دعم رأس المال الديني هذا إن أردنا أن نتجنب التعرض لكارثة.
لِمَا يربو على ١٥٠ عامًا وحتى الآن، ما برح الناقدون الاجتماعيون يُحذِّروننا من أن المجتمع البرجوازي يقتات على رأس المال الأخلاقي المتراكم من الدين التقليدي والفلسفة الأخلاقية التقليدية.
نعتمد على رأس المال الديني لجيل سابق، وأن رأس المال هذا يُستنفد على نحو خطير.
نحن جميعًا نعرف أناسًا ليس لهم معتقد ديني يُبدون مع ذلك جميعَ الفضائل التي نربطها بالتعاليم الدينية … يعيش هؤلاء الأشخاص على رأس المال الأخلاقي للأجيال المتدينة السابقة … بحيث سينفد رأس المال الأخلاقي هذا في النهاية.
يقوم المجتمع البريطاني على رؤية مسيحية وقيم مسيحية … وما لم يعرف الناس المصادر التي تغذي قيمنا، فإن النبع كله سيجفُّ … إننا ربما في واقع الأمر نعيش اعتمادًا على رأس مال قديم.
… كثير من الذين لديهم التزام أخلاقي شديد دون أساس ديني تشكلوا على يد آبائهم أو أجدادهم الذين كانوا متمسكين على نحو أساسي بمبادئ الأخلاق والدين … إلى أي مدًى نعيش على رأس المال الأخلاقي؟
الاحتكام إلى رأس المال الأخلاقي يقدم للمتشائمين الدينيين تفسيرًا مؤاتيًا لحقيقة أن الملحدين واللاأدريين اليوم يسلكون مسلكًا رشيدًا على الأقل كأقرانهم من الدينيين؛ فاللادينيون يعيشون على رأس المال الأخلاقي الديني، الذي يتعرض للنفاد، لكنه لم ينفد كله «بعدُ».
ثمة مشكلتان خطيرتان على الأقل في هذا الاحتكام إلى رأس المال الأخلاقي.
الأولى: قد نسأل: «ما الأدلة التي تشير إلى أن تفسير «رأس المال الأخلاقي» صحيح بالفعل؟» لا أرى سوى القليل جدًّا منها. بينما يؤكد الدينيون كثيرًا على أننا نعتمد على رأس المال الأخلاقي الذي سينفد في النهاية، ومن المحتمل أن يصاحب ذلك تداعيات كارثية، فإنهم لا يقدمون عادة سوى أدلة أو حجج قليلة مؤيدة للتفسير، إن وُجدت.
الثانية: تفشل تمامًا حركة رأس المال الأخلاقي في التعامل مع كثير من الأدلة المخالفة للزعم القائل بأن الإيمان بالإله شرط أساسي لكوننا أخيارًا. على سبيل المثال، تفشل الحركة فشلًا ذريعًا في تفسير أسباب استمرار بلدان مثل الصين، وأحيانًا ازدهارها أخلاقيًّا، دون منظومة أخلاق أساسها الدين. كما تفشل في التعامل مع الأدلة العلمية المتنامية المشيرة إلى أن الباعث على التصرف على نحو أخلاقي هو على الأقل طبيعي وغريزي إلى حدٍّ ما، وليس معتمدًا على التعرض للدين.
وإجمالًا، في دوائر دينية معينة، أصبح الزعم القائل بأن الناس لن يصيروا أخيارًا دون الإله يتكرر كثيرًا، لدرجة أن الجميع يفترضون ضرورة صحته، إلا أنه غير مدعوم جيدًا بالأدلة، ويبدو جليًّا في الواقع أن كثيرًا من الأدلة تكذِّبه ببساطة.
(٨) بِمَ تتميز منظومة الأخلاق الإنسانوية؟
ألقينا نظرة على ثلاثة تحديات شائعة تواجه الإنسانوية بخصوص منظومة الأخلاق، وفي كل حالة واجهنا التحدي وكان لنا رد عليه. دعونا الآن نتأمل الصورة التي يمكن أن يكون عليها نهج إنسانوي متفرد لمنظومة الأخلاق.
فمثلًا، ما موقف الإنسانوي من زواج المثليين أو القتل الرحيم أو الإجهاض أو حقوق الإنسان؟ لا يوجد أي موقف إنسانوي من هذه القضايا يزيد عن موقف الدين منها. يختلف الإنسانويون حول تلك المسائل، كما يختلف الدينيون عليها.
فما يميز وجهة النظر الأخلاقية الإنسانوية إذن، إن لم تكن تلك المعتقدات الأخلاقية بعينها؟ هل يعتنق جميع الإنسانويين نظرية أخلاقية عامة معينة، على سبيل المثال؟
مرة أخرى، لا! لكن من الصحيح أن الإنسانويين كثيرًا ما يصفهم خصومهم بأنهم يعتنقون شكلًا بدائيًّا إلى حدٍّ ما من النفعية، وعلى أساسه لا يهمهم — من وجهة النظر الأخلاقية — سوى تعظيم المتعة التي يحصلون عليها وتقليص الألم والمعاناة اللذَين يتعرضون لهما للحد الأدنى.
تواجه النفعية، في أبسط أشكالها، بعض الاعتراضات المعروفة جيدًا؛ فيبدو مثلًا أن النفعية تقتضي أنه سيكون من الصواب قتل شخص لتوفير أعضاء بشرية يمكن أن تنقذ حياة عدة أشخاص آخرين؛ وهو الفعل الذي يعتبره الجميع، تقريبًا، خاطئًا أخلاقيًّا. من الممكن الرد على تلك الاعتراضات، لكن حتى إن لم يمكن الرد عليها، فهذا لا يستتبع تفنيد الإنسانوية؛ فالإنسانويون، حسب ظني، غير ملزمين بأن يكونوا نفعيين، وفي الواقع كثيرٌ منهم يرفض النفعية.
يوافق بالطبع أغلب الإنسانويين على وجهة النظر النفعية القائلة بأن تبعات أفعالنا — وفي ذلك الألم أو المتعة الناتجَين عن تلك الأفعال — مهمة، على الصعيد الأخلاقي؛ فالإنسانوي يميل أكثر إلى إعطاء ثقل أخلاقي أكبر لتبعات الأفعال عما سيفعل، مثلًا، الديني الذي يعتقد أن الأمر الصحيح أخلاقيًّا هو أن تقوم بما يأمرك به الإله، بغض النظر عن التبعات، و/أو أن أي عاقبة سيئة تترتب على اتباع أوامر الإله في هذه الحياة ستُعوض بما يفوقها في الحياة الآخرة. ويعتقد الإنسانويون في الغالب أنه إن كان فعلٌ ما سيسبب قدرًا كبيرًا من المعاناة، فهذه حقيقة متعلقة بالمغزى الأخلاقي، وهي حقيقة ينبغي وضعها في الحسبان عند الحكم على مدى صحة الفعل من الناحية الأخلاقية.
لكن الإقرار بأن تبعات أفعالنا — وفي ذلك مدى تعظيمها للمتعة وتقليصها للألم إلى الحد الأدنى — مهمة أخلاقيًّا لا يعني القول بأنها هي «وحدها» الأشياء المهمة أخلاقيًّا. وكما قلت، الإنسانويون غير مضطرين لأن يكونوا نفعيين.
وكما طالعنا في الفصل الأول، ثمة إرث فكري طويل يمكن أن يعتمد عليه الإنسانويون — وهم يعتمدون عليه بالفعل — في صياغة التزاماتهم وحججهم، وفي ذلك التزاماتهم وحججهم الأخلاقية. فبعضهم يستقي أفكاره من أخلاقيات الفضيلة عند أرسطو، والبعض الآخر يستقيها من أخلاقيات الواجب عند كانط.
ينجذب كثير من الإنسانويين لفكرة مثل التبرير «البراجماتي» التالي لمبادئهم الأخلاقية الأساسية. تخدم المعايير الأخلاقيةُ مقاصدَ معينة، مثل السماح لنا بالحياة معًا في تناغم نسبي، وتسهيل النشاط التعاوني، والحد من الظروف التي تضر بنا. وبافتراض أننا نرغب في السعي وراء تلك الأهداف، فثمة معايير جوهرية معينة يجب الالتزام بها، تساعد في تفسير المعايير الأساسية الشائعة في كل ثقافة تقريبًا، مثل منع السرقة والكذب والحنث بالعهود. ومع وضع نقاط ضعف البشر في الاعتبار، وفي ذلك عدم استطاعتنا الاستمرار في الحياة بمفردنا، لا مفرَّ من وجود مجموعة أساسية من المعايير الأخلاقية.
لِم يجب عليَّ أن ألقي بالًا للآخرين؟ يمكن أن تكون تلك الأسئلةُ الأخلاقيةُ الأساسيةُ، مثلها مثل الأسئلة الأساسية كافة، عسيرةَ الإجابة للغاية، كما يعرف كلُّ من يدرس الفلسفة. أعتقد أن الإجابة الوحيدة الممكنة عن هذا السؤال هي الإجابة الإنسانوية؛ وهي: لأننا كائنات اجتماعية بالفطرة، ونحن نحيا في مجتمعات، والحياة في أي مجتمع، من الأسرة حتى الأطر الأكبر، تكون أسعد وأثرى وأخصب عندما يكون أفراد المجتمع متوادِّين ومتعاونين عما ستكون عليه إن كانت تسود بينهم العداوة والبغضاء.
فإن لم تكن هناك نظرية عامة لمنظومة الأخلاق يجب أن يتبعها الإنسانويون، أو يجب عليهم اتباعها، فماذا إذن يميز منظومة الأخلاق الإنسانوية؟ في حقيقة الأمر، ما يجعل وجهة نظر أخلاقية تتصف بأنها إنسانوية «ليس محتواها بقدرِ ما تكون الطريقة التي تم بها التوصل إليها.» وبشكل خاص، تَبرز أربع سمات للمنظور الأخلاقي الإنسانوي:
أولًا: كما رأينا بالفعل، يؤكِّد الإنسانويون على «استقلالنا الأخلاقي». سيرمي الإنسانوي إلى تبنِّي موقف أخلاقي، ليس لأنه لُقِّن ذلك، أو بسبب أن شخصًا آخر يتبنَّى هذا الموقف ويشعر الإنسانوي بالتزامه بالإذعان له، لكن لأنه هو الموقف الذي توصل إليه بنفسه بعد دراسة متأنية. ومن المرجح أن يكون هذا تحديًا أكثر استنزافًا بكثير من الالتزام الآلي بأمرٍ في كتابٍ مُقدَّسٍ أو توجيهٍ من قائدٍ دينيٍّ ما. يؤكد الإنسانويون على أهمية مساعدة المواطنين الجدد على الوصول للنضج الفكري والعاطفي الذي يحتاجونه من أجل مواجهة هذا التحدي.
ثانيًا: يرفض الإنسانويون «التبرير الأخلاقي المستند إلى مزاعم الحقيقة الموحى بها من السماء.» لن يحتكم الإنسانوي إلى المعتقدات التي تُرسيها الكتب المقدسة بخصوص الحياة الآخرة، مثلًا، والأرواح الخالدة، والثواب والعقاب الإلهي، والخطيئة، وما إلى ذلك في تبرير موقفه الأخلاقي. وقد يظل الإنسانوي على معارضته للإجهاض أخلاقيًّا، لكنه لن يعارضه لأنه يقبل، مثلًا، بالمعتقد الديني القائل بأن الإله ينفخ روحًا خالدة في خلية لحظة حمل الجنين.
ثالثًا: من وجهة نظر الإنسانوي، «منظومة الأخلاق مرتبطة على نحو أساسي برفاهية الإنسان» (لكنها ليست قاصرة عليه؛ فالأنواع الأخرى مهمة أيضًا). عند تفكيرنا فيما يجب أن نفعل وما يجب ألَّا نفعل، ينبغي إذن أن تكون أحكامنا مطلعة على الأدلة العلمية وغيرها من الأدلة بشأن ما سيساعد، أو يعوق، جهودَ الإنسان من أجل عيش حياة ثرية وسعيدة ومُرضية.
رابعًا: الإنسانويون «يؤكدون على دور العقل في إصدار الأحكام الأخلاقية.» ويعتقدون أن علينا التزامًا باستخدام قوى عقلنا بأفضل ما يمكننا عند تناول المسائل الأخلاقية. وليس معنى هذا أن الإنسانويين يفترضون أن العقل وحدَه قادر على التعامل مع أي معضلة أخلاقية؛ لا شك في أن هذا سيكون ضربًا من السذاجة! لكنْ للعقل دور مهم يؤديه. على سبيل المثال، في الكشف عن التبعات غير الملحوظة وأوجُه عدم الاتساق المنطقي في موقف من المواقف الأخلاقية، وفي اكتشاف قيام موقف من المواقف الأخلاقية على استدلال خاطئ، وفي الكشف عن حقائق علمية وغيرها من الحقائق ذات الصلة بالنسبة إلى قضية من القضايا الأخلاقية (على سبيل المثال، الكشف عن أن النساء على القدر ذاته من الكفاءة العقلية كالرجال؛ ومن ثَمَّ دحض الحجة القائلة بأن النساء لَسْنَ متطورات عقليًّا بالدرجة الكافية التي تسمح لهنَّ بحق التصويت). تَحقَّق قدر كبير من التقدم الأخلاقي الذي أُحرز على مدار القرون القليلة الماضية؛ لأن الأفراد — الدينيين واللادينيين على حد سواء — تمتعوا بالشجاعة لاستخدام عقولهم والتشكيك في الحكمة الأخلاقية المقبولة في زمانهم. وبتشغيلهم قوى عقلهم، وصلوا إلى الإقرار بأن المعاملة المعاصرة للنساء أو أصحاب البشرة السوداء أو المثليين قائمة على استدلال خاطئ، أو غير متسقة مع بعض معتقداتهم الأخلاقية الأساسية. عندما يتعلق الأمر بإحراز تقدم أخلاقي، فالعقل أداة لا غنى عنها.
(٩) الإنسانوية ونسبوية «كل شيء ممكن»
ختامًا، أود الحديث عن أحد الاتهامات التي توجَّه عادةً إلى الإنسانوية — اتهام كَشَفْنا عنه النقاب في هذا الفصل — وهو ذلك الخاص بالنسبوية الأخلاقية. كثيرًا ما يُقال إن كان الإلهُ موجودًا، فيمكن أن تكون الأشياء صحيحة أو خاطئة أخلاقيًّا فحسب «لأننا نقول ذلك عنها»، إلا أن الإنسانوية هكذا تنطوي على توجُّهٍ لنسبوية أخلاقية فِجَّة؛ نسبوية «كل شيء ممكن»، بناءً عليها تكون حقيقة الصحة أو الخطأ هي أي شيء نقوله عنها.
لكن الحقيقة أن هذا ليس ما يعتقده الإنسانويون، وقد أصبحنا الآن في موقف أفضل كثيرًا لإدراك السبب إدراكًا كاملًا.
صحيح أن منظومة الأخلاق الإنسانوية تركِّز أكثر علينا نحن البشر (والأنواع الأخرى ذات القدرة على الإحساس)، لكن ليس معنى ذلك أن نقول إن الصواب والخطأ هما أي شيء يقوله الأفراد من البشر، أو حتى المجتمعات البشرية، عنهما. فيمكن أن يكون، وأحيانًا ما يكون، الأفراد — بل ومجتمعات بأسرها — مخطئين خطأً أخلاقيًّا بالغًا، والإنسانويون كلهم تقريبًا يقبلون بذلك.
وفي واقع الأمر، إن اعتقاد الإنسانوي بأهمية استخدام العقل للإجابة عن الأسئلة الأخلاقية ينطوي — على نحو واضح — على رفض وجهة النظر النسبوية القائلة بأن الحقيقة الأخلاقية هي أي شيء نقوله عنها. وإن كان هذا الضرب من النسبوية الأخلاقية صحيحًا، فلن يكون هناك طائل من استخدام ملكاتنا النقدية في التوصل إلى ما هو صحيح وما هو خاطئ؛ لأنه أيًّا كان الرأي الذي سنخلص إليه، فلن يكون أكثر صدقًا من الرأي الذي بدأنا به.
بالتأكيد سيصر البعض على أنه رغم أن الإنسانويين قد لا يعتنقون رسميًّا هذا الضرب من النسبوية الأخلاقية، فإن رؤيتهم الكونية تُلزمهم به مع ذلك. لكن مجددًا، هذا خطأ.
سأكرر نقطة ذكرتُها في موضع مبكر من هذا الفصل، وكذا في المقدمة: «الإنسانويون — بحسب وصف هذا الكتاب — لا حاجة بهم لاعتناق المذهب الطبيعي» (وإن كان بعضهم يعتنقونه بالتأكيد)؛ ومن ثَمَّ، رغم أن الإنسانويين لا يؤمنون بالآلهة وغيرها من الفاعلين فوق الطبيعيين، فقد لا يزالون يفترضون وجود حقائق أخرى غير الحقائق الطبيعية، وأن الحقائق الطبيعية تتضمن حقائق أخلاقية موضوعية.
لكن حتى إن لم يكن أحد الإنسانويين يعتنق المذهب الطبيعي، فلا يستتبع ذلك أنه سيُلزم نفسَه بالرأي القائل إن الحقيقة حول الصواب والخطأ هي أي شيء نقوله عنها؛ ومن ثَمَّ «كل شيء ممكن».
ذكرنا قبل ذلك أن الإنسانويين يرون أن «منظومة الأخلاق مرتبطة على نحو أساسي برفاهية الإنسان»، وكما رأينا، فإن رفاهية الإنسان تقتضي أن نعتنق جميعًا مبادئ أخلاقية أساسية معينة بخصوص السرقة والكذب والقتل وما إلى ذلك، لكن الفرد الأناني الذي يقول: «أقول إنه لا ضير بالنسبة إليَّ من السرقة والغش والقتل، إذن لا ضير منها؛ وليذهب الآخرون إلى الجحيم»، لا يمكن وصفه بأنه يعتنق منظومة أخلاق إنسانوية.