معنى الحياة
يرى البعض أن الأسئلة المطروحة عن معنى الحياة هي أسئلة مرتبطة بشدة بالأسئلة المتعلقة بالإله والدين؛ فيعتقدون أنه من دون الإله، لا تعدو الإنسانية سوى بقعة قذرة على كرة من الحجارة ضائعة في كون شاسع جدًّا لن يحمل في النهاية أي أثر لوجودنا في يوم من الأيام، وسينهار في طيات العدم. إذن، لِمَ نزعج أنفسنا بالاستيقاظ في الصباح؟ لكن إن كان الإله موجودًا، فنحن نسكن كوكبًا مخلوقًا «لنا»، خَلَقَه الإله الذي «يحبنا»، والذي جعل لنا «غاية مقدسة»؛ فهذا يعطي حياتنا معنًى.
لكن هل الإله، أو المعتقد الديني، شرط أساسي كي نعيش حياةً ذات معنًى؟ كيف — تحديدًا — يجعل وجودُ الإله حياتَنا ذات معنًى؟ إن كان بلوغُ حياةٍ ذات معنًى ممكنًا سواء الإله موجود أو غير موجود، فما الذي يُقيم وجودًا ذا معنًى؟ يتناول هذا الفصل هذه الأسئلة وأسئلة أخرى مرتبطة بها.
(١) ما الذي نقصده ﺑ «حياة ذات معنًى»؟
إحدى الصعوبات التي نواجهها عند تفصيل كيف أن الإنسانوية — أو أي رؤية أخرى لتلك المسألة — يمكنها أن تتيح إمكانية وجود حياة ذات معنًى؛ هي في تعيينِ ما يشكِّل حياةً ذات معنًى من الأساس. وأتصور أن ثمة إجماعًا عامًّا على عدم وجود تصورات محددة لذلك.
بادئ ذي بَدء، إن عيش حياة ذات معنًى يتضمن بالتأكيد أكثر من مجرد الشعور بسعادة غامرة وبرضًا كبيرٍ مثلًا؛ فالشخص الذي يُحقن باستمرار بعقاقير باعثة على السعادة قد يحظى بوقت ممتع، إلا أن هذا ليس ضمانة لحياة ذات معنًى أو جديرة بالعناء.
ثانيًا، من المفترض وجود طرق لعيش حياة ذات معنًى أكثر من مجرد القيام بالأعمال الصحيحة أخلاقيًّا؛ ففي حين أن عَيْشَ حياة مستقيمة جدًّا دون زللٍ «أحدُ» السبل التي ربما يتسنى للمرء بها أن يتمتع بحياة ذات معنًى؛ لكنه ليس السبيل الوحيد. كثير من عظماء الفنانين والعلماء والمستكشفين والموسيقيين والكتَّاب والرياضيين عاشوا بالتأكيد حياةً ذات معنًى، رغم أنه لم يظهر عليهم أنهم أكثر فضيلة من بقيَّتنا (بل كان بعضهم غير ملتزم أخلاقيًّا في واقع الأمر).
يبدو أن قضاء العمر بأكمله في القيام بالأعمال الطيبة ليس ضروريًّا وحسب لعيش حياة ذات معنًى، وإنما هو غير كافٍ أيضًا. هبْ أن رجلًا يعيش في ظل نظام حكم شمولي يكرِّس حياته كلها لمساعدة المرضى من الأطفال لكن لا لسبب إلا لأنه يخشى العواقب الوخيمة التي ستترتب على مخالفته أوامرَ هذا النظام في هذا الشأن. هل عاش حياةً ذات معنًى؟ رغم أعماله الطيبة، لا يمكن القول بأي حال من الأحوال إنه عاش حياة ذات معنًى. ربما ما يوضحه هذا المثال الذي ضربناه هو أنه كي تكون حياتك ذات معنًى بحق، يجب أن تُبدي تمتعك بنوعٍ من «الاستقلالية»؛ فيجب أن تكون أنت مَن يوجِّه أفعالك، لا أن تتبع تعليمات غيرك وحسب.
وأظن أن كثيرًا منا سيضيف أن أحدهم قد «يعتقد» أن حياته كانت مَضيعةً للوقت بلا هدف لكنها كانت في الواقع ذات معنًى عظيم. وفي المقابل، أظن أن أغلبنا سيقرُّ بأن شخصًا قد «يعتقد» أن حياته ذات معنًى عظيم لكنها في الحقيقة لم تكن كذلك.
على سبيل المثال، هبْ أن سيدة كرَّست حياتها بنجاح لقيادة حركة تنادي بسيادة البِيض، هل ستكون بذلك قد عاشت حياةً ذات معنًى؟ قد تظن هي وأتباعها ذلك، لكن هل يضمن ذلك أنها عاشت حياةً ذات معنًى؟ يبدو لي أن الإجابة هي «لا»! فكي تعيش حياةً ذات معنًى، أنت لست مضطرًّا لأن تكون أخلاقك سامية. لكن إن كان مشروع حياتك الأساسيُّ غيرَ أخلاقيٍّ تمامًا، فلا يمكن إذن أن يمنح حياتَك معنًى. وبسبب الطبيعة غير الأخلاقية لمشروع هذه السيدة العنصري، لا يمكن أن يجعل هذا حياتها ذات معنًى (رغم أن حياتها يمكن أن تكون ذات معنًى لأسباب أخرى بالتأكيد). هكذا يمتد حبل أفكاري البديهية (مع إقراري باختلافِ آخرين معي).
لاحِظ كذلك أن حياةً ذات معنًى يمكن أن تنتهي بفشل مشروعها الرئيسي. تأمل روبرت فالكون سكوت الذي ناضل ببسالة كي يكون أول من يصل إلى القطب الجنوبي، ورغم فشله في ذلك، يرى كثيرون أن حياة سكوت كانت مثالًا مشرقًا على حياة عاشها صاحبها كما ينبغي. والقول نفسه ينطبق على كثير من المحاولات البطولية الفاشلة، ومنها — مثلًا — الألمان الذين حاولوا، لكنهم فشلوا في اغتيال هتلر من أجل إنهاء الحرب العالمية الثانية نهاية سريعة.
لقد علمنا أن هناك سمات معينة ينبغي أن تتمتع بها الحياة كي تكون ذات معنًى. على سبيل المثال، مشروع أخلاقي أو هدف يسعى صاحبه وراءه بتوجيه ذاتي، لكن هل حتى هذا كافٍ؟ لا يبدو ذلك؛ فسعْي شخص غير كفء — وإن كان متحمسًا لهدفه — طيلة حياته وراء هدف جدير بالعناء غالبًا ما يكون هزليًّا أكثر من كونه ذا معنًى.
(٢) هل البحث عن معنى الحياة سعيٌ وراء سراب؟
الغرض من القسم السابق هو توضيح الصعوبة البالغة لوضع تعريف فلسفي محدد لما يجعل الحياة ذات معنًى.
لا تقل: «يجب وجود شيء مشترك بينها، وإلا فلن تكون «ألعابًا»»؛ لأنك إن تأملتها، فلن ترى شيئًا مشتركًا بينها جميعًا، لكن هناك تشابهات وعلاقات ومجموعة كاملة من الأنماط على ذاك النحو. مرة أخرى: لا تفكر، بل انظر! انظر على سبيل المثال إلى الألعاب اللوحية بعلاقاتها المتعددة، ثم انتقل إلى ألعاب الورق حيث ستجد الكثير من أوجه التشابه مع المجموعة الأولى، لكن ستسقط الكثير من السمات المتشابهة وستظهر سمات أخرى، وعندما ننتقل إلى ألعاب الكرة، ستظل كثير من السمات المشتركة، لكن سيزول الكثير منها أيضًا. هل الألعاب كلها «مسلية»؟ قارن الشطرنج بلعبة إكس-أو؛ هل يوجد دومًا فوز وخسارة، أم منافسة بين اللاعبين؟ تأملْ جانب الصبر. في ألعاب الكرة يوجد فوز وخسارة، لكن عندما يلقي طفل بِكُرته إلى الحائط ويلتقطها ثانية، تختفي تلك السمة … نتيجة هذا الاستعراض أننا نرى شبكة معقدة من أوجه التشابه المتداخلة والمتقاطعة؛ أحيانًا تشابهات عامة، وأحيانًا أخرى تشابهات في التفاصيل. لا يسعني التفكير في تعبير لوصف هذه التشابهات أفضل من «التشابهات العائلية»؛ لأن التشابهات المتنوعة بين أفراد الأسرة — البنية والملامح ولون العينين والمشية والمزاج وغيرها — تتداخل وتتقاطع على النحو نفسه. ويمكنني القول إن «الألعاب» تكون أسرة.
إن كان فتجنشتاين مصيبًا، فإن البحث عن السمة الوحيدة التي تتمتع بها الألعاب دون غيرها سعي وراء سراب؛ إذ لا وجود لها. لكن بالطبع لا يستتبع ذلك عدم وجود ما نطلق عليه اللعبة، أو أن السمة التي تجعل شيئًا لعبةً يجب أن تكون خصيصة غامضة ما لم نحددها بعد.
وربما نقترف الخطأ نفسه عندما نفترض أنه إن كان بالإمكان أن نعيش حياة ذات معنًى؛ إذن يجب وجود سمة وحيدة تشترك فيها الحيوات ذات المعنى لا يتمتع بها غيرها. وعجْزنا عن تعيين تلك السمة من بين جملة السمات المادية في حياتنا قد يضللنا فنخلص إلى أن حياتنا تفتقر للمعنى، أو أن السمة المراوغة التي تمنح الحياة معناها لا بد أنها تنتمي لعالم آخر غير عالمنا.
عندما نتأمَّل الحيوات ذات المعنى ونقارنها بالحيوات الخالية من المعنى، قد لا نجد سمةً وحيدة تشترك فيها الأولى كلها وتفتقر إليها الثانية، لكننا سنجد الكثير جدًّا من العوامل التي لها تأثير على إكساب الحياة معنًى، من ذلك بعض العوامل التي ألمحنا إليها بالفعل: مشروع جرى اختياره بمحض إرادة الفرد، أو مشروع أخلاقي إلى حدٍّ كبير، أو مشروع يتم تنفيذه بتفانٍ ومهارة كبيرين، أو الاشتراك في أنشطة تساعد الآخرين أو تثري حياتهم … وما إلى ذلك. والفكرة القائلة بأنه لا تكفي أيٌّ من تلك السمات المادية — وأن مكونًا سحريًّا ما لا ينتمي إلى هذا العالم ضروري كي يكون لحياتنا معنًى فعليًّا — قد ترجع جزئيًّا إلى فشلنا في إدراك أن مفهوم الحياة ذات المعنى، مثل مفهوم اللعبة، هو مفهوم التشابه العائلي. والحديث عن معنى الحياة «الوحيد» قد يكون عرضًا لهذا الارتباك.
(٣) هل الإله ضروري من أجل الوصول لحياة ذات معنًى؟
في الوقت الذي نسعى فيه بصعوبة إلى وضع تعريف فلسفي محدد لِما يجعل الحياة ذات معنًى، عادة ما سيتفق أغلبنا على الحيوات ذات المعنى والحيوات المفتقدة للمعنى؛ فثمة إجماع واسع النطاق على أن ماري كوري، مثلًا، وسقراط وروبرت فالكون سكوت عاشوا حيوات عظيمة المعنى وبالغة الأهمية، في حين أن متبعي الأوامر دون تفكير أو شخصًا كرَّس حياته كلها لتعذيب الحيوانات الصغيرة لم يَعِشْ مثل هذا الحياة.
إلا أن بعض التوحيديين يقولون إن لم يكنِ الإله موجودًا، فلا توجد حياة ذات معنًى، حتى حياة ماري كوري أو سقراط أو روبرت فالكون سكوت. والآن دعونا نُلْقِ نظرةً على ثلاثٍ من تلك الحجج.
(٣-١) الحجة الأخلاقية
إحدى الحجج البسيطة التي قد تستهوي البعضَ هي أن الحياة ذات المعنى هي حياة مستقيمة أخلاقيًّا؛ لكن منظومة الأخلاق متوقفة على الإله؛ ومن ثَمَّ لا يمكن أن توجد حياة ذات معنًى من دون الإله.
سبق أن طالعنا سببين مُفضيين إلى عدم استقامة هذه الحجة.
أولًا: بالتأكيد كانت حياة كبار الفنانين والموسيقيين والمستكشفين والعلماء عظيمة المعنى، رغم أن هؤلاء الأفراد لم يكونوا ذوي أخلاق سامية على نحو خاص. وبينما يمكن أن تكون الحياةُ الأخلاقيةُ حياةً ذاتَ معنًى، لا توجد ضرورة كما يبدو كي تكون الحياة ذات المعنى حياةً أخلاقية على نحو خاص (رغم أنه كما رأينا ثمة خلاف حول أن مشروعاتهم الرئيسية يجب أن تكون أخلاقية إلى حدٍّ كبير). في هذه الحالة، حتى في حالة عدم وجود ما يُعرف بمنظومة الأخلاق، لا يزال بالإمكان وجود حياة ذات معنًى.
ثانيًا: «تَفترض» هذه الحجة في كل الأحوال أن منظومة الأخلاق متوقفة على الإله؛ وهو زعْم سَبَقَ وطالعنا أنه تكتنفه الشكوك (انظر الفصل الرابع).
(٣-٢) حجة الغاية الأساسية
حجة أخرى مؤيدة للنتيجة القائلة بأن الحياة ذات المعنى تقتضي وجود الإله، محور تركيزها «الغايات أو الأغراض الأساسية». بالطبع تكون الحجة كالتالي: تتمتع أي حياة بمعنًى بسبب تمتعها بمسعًى أو هدفٍ نهائيٍّ ما. لا بد من وجودنا في هذا العالم لغايةٍ ما، لكن الإله وحده هو الذي يمكنه تحديد مثل هذه الغاية.
بعض الدينيين، مثلًا، يعتقدون أن الغاية الأساسية هي محبة الإله وعبادته، ويفترضون أنه دون الإله، لا يمكن أن يوجد مثل هذه الغاية، التي من دونها تكون الحياة بلا معنًى.
لكن هل الإله ضروري من أجل أن تكون هناك غاية لوجودنا؟ لا يبدو الأمر كذلك. لكل كائن حي غاية يسعى وراءها؛ وهي التكاثر ونقل مادته الوراثية إلى الجيل التالي. كلٌّ منا موجود لغايةٍ ما، غايةٍ تحددها الطبيعة، سواء أكان الإله موجودًا أم لا.
ما يبرزه أيضًا هذا المثال هو أن مجرد امتلاك غاية لا يكفي وحده لتوفير معنًى للحياة؛ فاكتشاف أن الطبيعة صممتني ليس لغاية سوى نقل مادتي الوراثية للجيل التالي لا يجعل حياتي تبدو ذات مغزًى كبير. وقياسًا على ذلك، فحياتي لا تزيد أهمية عن حياة دودة تتمتع بالغاية نفسها تقريبًا التي هي لحياتي.
ردًّا على ما تقدم، يمكن القول إنني أغفل فارقًا جوهريًّا بين الغايات؛ تلك التي تطورنا من أجلها، وتلك التي وَهَبَنا إياها كيانٌ ذكي أعلى صمَّمَ الحياة. ويمكن التأكيد على أن النوع الثاني من الغايات هو الذي يوفِّر المعنى لحياتنا. لكن هل هذا صحيح؟ كلا! من السهل جدًّا أن نسوق أمثلة مُقابِلَةً عن كائنات فضائية خارقة الذكاء؛ وإليكم مثالًا من ابتكاري:
هبْ أن البشر تمَّت تربيتهم على هذا الكوكب لسببٍ ما، وهو غسل الملابس الداخلية القذرة لجنس فضائي بالغ التقدم؛ سيأتي الفضائيون لالتقاطنا وأخذنا إلى مغسلتهم الفضائية الضخمة. هل ستملأ هذه الحقيقة، أو اكتشافها، حياتنا بالمعنى؟ لا!
لعلنا سنسلم بأن مجرد تصميمنا من قِبل كيان ذكي أعلى لغايةٍ ما ليس كافيًا ليوفر معنًى لحياتنا، يجب أن تكون الغاية غايةً نسعى من أجل تحقيقها على نحو إيجابي وتجعلنا نشعر بالرضا. وغسل ملابس الفضائيين الداخلية لا يحقق أيًّا من هذين الأمرين.
هَبِ الآن أن الفضائيين صممونا بحيث نكتشف أننا نستمتع بغسل ملابسهم الداخلية استمتاعًا كبيرًا. في الحقيقة، بمجرد أن نبدأ بالعمل في مغسلتهم، نشعر في النهاية بالرضا على نحو لم نشعر به من قبل، ونسترخي كل أمسية ونحن نشعر بشعور جم بالرضا لأننا نقوم الآن بالهدف «المنوط» بنا دومًا. هل من شأن هذا أن يجعل حياتنا ذات معنًى؟ لا يتضح بأي حال أنها سيكون لها معنًى (أيًّا كان اعتقادنا).
ردًّا على ما تقدم، قد يُقال إنني أركز على غاية سخيفة، وبالتأكيد ليست كذلك الغاية التي من أجلها أوجدَنا الإله على هذه الأرض. لقد خلقَنا الإله لغاية معينة؛ ألا وهي: محبته. إنه هذا الغرض الذي يجعل حياتنا ذات معنًى.
لكن مرة أخرى تبدو الحجة مثيرة للشك. هَبْ أن امرأة تريد أن تحب شخصًا هو يحبها بشدة في المقابل، ويخطر لها أنها يمكنها أن تنجب طفلًا لهذا الغرض، وتنجبه بالفعل؛ هل الغرض الذي أنجبت من أجله هذا الشخص الجديد يمنح حياتهما معنًى على نحو تلقائي؟ لا يبدو أن الأمر كذلك! ربما أتى بعضنا إلى الدنيا لهذا الغرض. لكن القليل سيشير إلى هذه النقطة من أجل تفسير السبب وراء أن لحياته معنًى، ولا أستطيع رؤية السبب وراء أن خلق الإله لي كي أحبه سيمنح حياتي أي معنًى إضافي.
وفي الواقع، أليس خلْق البشر، لا لسبب سوى غايةٍ ما، أمرًا ينطوي على انتقاصٍ وحطٍّ من قدرهم، بوجهٍ عام؟ لكن إذن، لِم سيمثل هذا أي اختلاف إن كان من فعل الإله؟ ثمة جدل حول إن كان الإله يرغب حتى في خلق البشر من أجل غرض بعينه، إن كان إله المحبة موجودًا أصلًا.
من ثم، يبدو أنه لا توجد إجابة سهلة للسؤال عن كيف يمكن أن يوجد معنًى لحياتنا بالاحتكام إلى غرض إلهي. وعلى وجه التحديد، السؤال المتعلق بكيف أن هناك غرضًا من وجودنا في هذه الحياة حدده لنا الإله يجعل حياتنا ذات معنًى؛ لم يُجَبْ عنه جوابًا شافيًا، بحسب اعتقادي. وغالبًا ما يُقدَّم لنا تأكيد على نحو غامض يتعذر فهمه بأن وجود الإله يجعل حياتنا ذات معنًى، لكن لا يُقدَّم لنا تفسير واضح لكيفية حدوث ذلك.
(٣-٣) حجة الحكم الإلهي
إليكم حجة ثالثة. يبدو أن الحياة لا تكون ذات معنًى لمجرد أننا نحكم عليها بذلك؛ فالمفترض أن حياة مكرَّسة للإضرار بالناس وحسب في كل فرصة سانحة لن تُعتبر حياة ذات معنًى، حتى إن اعتقدنا جميعًا أنها كذلك.
إلا أن التوحيدي قد يضيف الآن: إن لم تكن الحياة ذات معنًى لمجرد «أننا» نصدر عليها الحكم بذلك، إذن فهي ذات معنًى لأن «الإله» يصدر عليها الحكم بذلك؛ ومن ثَمَّ فإن حياةً ذات معنًى تستلزم وجود الإله في نهاية المطاف.
هل تكون الحياة ذات معنًى لأن الإله يصدر عليها الحكم بذلك، أو أن الإله يصدر عليها الحكم بذلك لأنه يدرك أنها ذات معنًى؟
يبدو الافتراض الأول مضحكًا؛ بالتأكيد إن حكم الإله بأن الإضرار بالناس في كل فرصة سانحة هو ما يجعل الحياة ذات معنًى، فهذا لن يجعلها كذلك. إلا أن الافتراض الثاني — الإله يدرك وحسب ما من شأنه أن يشكِّل حياةً ذات معنًى — يسلِّم بوجود حقائق، تستقيم بكل الأحوال، بخصوص ما يشكِّل حياةً ذات معنًى، سواء أكان الإله موجودًا أم غير موجود ليصدر تلك الأحكام، لكنها حقائق يستطيع الإنسانويون الوصول إليها مثل التوحيديين بالضبط؛ فلا حاجة إذن للإله.
(٤) هل أن يكون للحياة معنًى يقتضي الخلود؟
لم نجد حتى الآن حجة جيدة تؤيد الافتراض بأن الحياة ذات المعنى تقتضي وجود الإله. دعونا الآن نطرح مثل هذه الحجج جانبًا، ونتأمل زعمًا مختلفًا بعض الشيء؛ ألا وهو: سواء كانت الحياة ذات المعنى تقتضي وجودَ الإله أم لا، فهي تقتضي على الأقل أن نكون خالدين. أحيانًا ما يطرح التوحيديون السؤال التالي: هل يمكن لحياة أن تكون ذات معنًى أو مغزًى إن انتهت بالموت؟ صحيح أننا قد نحقق إنجازات تعيش بعد مماتنا، مثل كتب نؤلفها وبنايات نشيدها وأطفال ننجبهم، لكن في النهاية هذه الكتب سيكون مصيرها النسيان، والمباني سيكون مآلها التداعي، وسريعًا ما ستخور قوى أطفالنا ويقضون نَحْبَهم. وفي الواقع، إن الجنس البشري كله سيختفي في النهاية تمامًا دون أن يترك أي أثر. لكن إذن، أليس وجودنا دون خلود بلا جدوى؛ مضيعة للوقت لا طائل من ورائها؟
يبدو لي أنه رغم أن طول العمر قد يكون مرغوبًا لكنه ليس بالضرورة ذا معنًى أكبر. صحيح أنك إن عشت لمدة أطول فقد تحقق إنجازات أكبر وتقوم بالمزيد من الأعمال الخيرة وما إلى ذلك، لكن هل تكون حياةٌ طويلة تقوم فيها بمثل هذه الفضائل ذاتَ معنًى أكبر من حياة أقصر منها؟ من المفترض أن الإجابة هي لا! ولا يوجد سبب يجعل إطالة مثل هذه الحياة إلى ما لا نهاية يضفي عليها أي قدر أكبر من المعنى.
في واقع الأمر، أحيانًا ما تكتسب حياتُنا معنًى ومغزًى خاصَّيْن بسبب الطريقة التي نموت بها. فالشخص الذي يضحي بحياته من أجل إنقاذ الآخرين غالبًا ما يُحتفى به باعتباره مثالًا لشخص كانت حياته ذات معنًى متفرِّد. أرى أننا إذا قارنَّا تضحية شخص ديني اعتقد طوال حياته أنه سيُبعث مجددًا في الجنة، بشخص ملحد اعتقد طوال حياته أن الموت هو النهاية له، فالشخص الثاني بالتأكيد هو الذي يقدم التضحية الأكبر؛ ومن ثَمَّ، فإن فعله أكثر نبلًا وذو معنًى أكبر.
وحتى إن لم يضحِّ أحد بحياته من أجل الآخرين، فإن الطريقة التي ستنتهي بها يمكن في الغالب أن تكون هي ما يميزها عن غيرها. نحن نعجب، ولنا الحق في ذلك، بمن يواجهون الموت ببسالة وكرامة؛ فالموت غالبًا فصلٌ مُهم في قصة حياتنا، حَدَثٌ يختتم حكاية حياة على نحو مُرضٍ ويضفي معنًى عليها. وحقيقة أننا نموت وأن الموت هو النهاية الحقيقية لا تجعل حياتنا دون معنًى. بل إن نهائية الموت تقدم لنا فرصة لجعل حياتنا ذات معنًى أكبر مما ستكون عليه في حالٍ آخر.
(٥) الدين في مقابل الفردية السطحية الأنانية
والآن دعونا نلتفت إلى الممارسة الدينية. إذا طرحنا جانبًا مسألة هل الإله موجود أم لا، فربما سيستمر الجدل بأن التأمل الديني أو الشعائر الدينية ضرورية إن كنا نريد ألا تكون حياتنا سطحية وبلا معنًى. إليكم حجةً من هذا القبيل.
أحيانًا يوجد من يزعم، مع وجود تبريرات لهذا الزعم، أن الدين يشجع الناس على تأمل الصورة الكلية للأمور والتفكر في الأسئلة الكبرى. بل إن كثيرًا، حتى من اللادينيين، يفترضون أن حياةً عاشها صاحبها حتى نهايتها في غياب مثل هذا التأمل من المحتمل أن تكون حياة سطحية جدًّا. إن المجتمع الغربي المعاصر مهووس بأشياءَ هي في الحقيقة عديمة القيمة نسبيًّا: المال، والشهرة، والممتلكات المادية. إننا نعيش يومنا من بدايته حتى نهايته في دائرة مغلقة من الشواغل الأنانية على نحو أساسي، دون أن نولي أيَّ وقت أو نولي وقتًا قليلًا لتدبر الأسئلة الكبرى. وكانت التقاليد والممارسات الدينية هي التي وفَّرت الإطار الذي طرحت فيه هذه الأسئلة في السابق. لكن مع غياب الدين، انزلقنا إلى الفردية الأنانية السطحية. وإذا أردنا أن يتمتع الناس بحياة ذات معنًى أكبر، ينبغي أن نُحيي مجددًا التقاليد والممارسات الدينية (سيضيف البعض أننا في حاجة خاصة إلى التأكد من استغراق الصغار كما ينبغي في القيام بهذه الممارسات بالمدارس).
ثمة «قدر» من الحقيقة في الحجة السابقة. «يمكن» أن يشجع الدينُ الناسَ على تأمل الصورة الكلية للأمور والتفكر في القضايا الكبرى. كما يمكنه أن يساعد على فك التعويذة السحرية التي يمكن أن تفرضها الثقافة الفردية السطحية الأنانية على عقول الشباب.
إلا أن الدين نفسه يمكن أن يعزز أشكالًا من الأنانية؛ مثل الهاجس المتمحور حول الذات، الخاص بتحقيق المرء خلاصه أو تنويره الشخصي. وبالطبع، استُخدم الدين لتعظيم شأن الثروة المادية، بالإشارة إلى أن التمتع بثروة كبيرة هو علامة على اصطفاء الإله للشخص.
هل صحيح أن الدين «وحده» يشجعنا على التفكير في الأسئلة الكبرى؟ الإجابة هي لا! في الفصل الأول، طالعنا أن هناك تقليدًا فكريًّا طويل الأمد تعود أصوله إلى العالم القديم يتناول أيضًا الأسئلة الكبرى؛ وهو تقليد علماني «فلسفي». إن أردنا بالناس، لا سيما الأطفال، التفكير في مثل هذه الأسئلة، فلسنا مضطرين أن نسلك المسلك الديني، يمكننا أن نشجعهم على التفكير على نحو فلسفي.
وكما أوضحتُ في الفصل السادس، توجد أدلة على أن إدخال برامج فلسفة في المنهج الدراسي يمكن أن يكون له تأثير كبير جدًّا على سلوك التلاميذ وكذلك على روح مدارسهم والمستوى التعليمي بها.
يساور أغلب الإنسانويين المعاصرين القلقُ حيال الفردية السطحية الأنانية بالقدر نفسه الذي يساور الدينيين، ويعتقدون أيضًا أنه من المهم أن نتأمل أحيانًا الصورة الكلية للأمور ونتفكر في الأسئلة الكبرى. ويعترضون على أن السبيل الوحيد للتشجيع على تبني موقف أكثر مسئولية وتدبرًا من الحياة هو تشجيع الأطفال على أن يكونوا أكثر تدينًا.
إن كنا نريد حقًّا تشجيع الصغار على «التفكير» في الأسئلة الكبرى، فالفلسفة منهج واعد على نحو أكبر كثيرًا في هذا الشأن. تطرح كنيسة إنجلترا السؤال التالي: «هل الحياة مجرد هذا؟» على لوحات الإعلانات والحافلات، وتَعِد من يشتركون في الدورة الخاصة بالتعرف على أساسيات الدين المسيحي التي تقدمها ﺑ «فرصة لاستكشاف معنى الحياة». إلا أنه عندما يطرح الدينيون مثل هذه الأسئلة، فغالبًا ما تكون لغرض بلاغي ليس إلا. لا تُطرح هذه الأسئلة من منطلق الاستقصاء العقلاني المفتوح، لكن كمجرد مناورة في محاولة لاستقطاب مشتركين جدد. وعلى عكس الدين، لا تدنو الفلسفة من تلك الأسئلة وقد ألزمت نفسها مسبقًا بإجابات معينة (مع أنها لا تسقط الإجابات الدينية بالطبع)؛ فالفلسفة تشجعك فعليًّا على التفكير والشك وإصدار الأحكام؛ وهو منهج للإجابة عن الأسئلة الكبرى كان كثير من الدينيين حريصين عادة على قمعه.
والزعم بأن الدين «وحده» يشجعنا على التفكير في الأسئلة الكبرى ليس خاطئًا وحسب، بل مثير للسخرية عندما تطرحه أديان ذات تاريخ طويل وأحيانًا عنيف من حجب الفكر المستقل.
(٦) هل يغفل الإنسانويون شيئًا؟
قد يبدو أننا نغفل شيئًا إن تخلينا عن الدين. تأمَّل الاعتقاد في بابا نويل؛ فالطفل الذي يعتقد في وجود بابا نويل، يبدو العالمُ له وقد تحوَّل على نحو بديع. فمن منظورِ وهمِه الاعتقادي، يكتسب العالَم — بحلول ديسمبر — معنًى ومغزًى جديديْن، هالة وردية سحرية؛ إذ يوجد شيء يتعلق بهذا الوهم الاعتقادي بالنسبة إلى الطفل المؤمن الموقن به، شيء من العسير جدًّا فهمه إن لم تكن قد مررتَ به من قبلُ.
عندما يشب الطفل قليلًا ويزول وهْم بابا نويل، يمكن أن يكون هذا مؤلمًا له؛ فالهالة الوردية تتلاشى، وتترك العالم حزينًا وقاتمًا مقارنةً بما كان عليه.
لا شك في أن زوال وهم الاعتقاد الديني يمكن أن يكون مؤلمًا لصاحبه. قد يبدو أن السحر والمعنى يَنْفَدَان من العالم، تاركَين إياه على حالة باردة مجدبة؛ أليس من الأفضل أن نعيش داخل ذلك الوهم الديني إن أمكننا ذلك؟
لا أعتقد ذلك؛ إن لم يكن الإله موجودًا، فالهالة السحرية التي يكتسي بها العالم في أعين المؤمنين بالوهم كانت دومًا خدعة. وعندما يزول الوهم، قد يبدو العالم أكثر قتامة بعض الشيء لفترة من الزمن. لكني أُفضِّل أن أرى العالم على حقيقته على أن أراه على الحال التي أحب أن يكون عليها.
في الواقع، أليس من المحتمل أن يَحجب مثل هذا الوهم إدراك الأشياء المهمة حقًّا في الحياة؟ تأمَّل الاعتقاد في بابا نويل ومشغله في القطب الشمالي وحيوان الرنة الطائر وما إلى ذلك. عندما يزول الوهم، تتلاشى هذه الشخصيات البراقة جميعها، لكن كل ما كان مهمًّا دومًا بحلول ٢٥ ديسمبر — الحب والتجمع مع الأصدقاء وأفراد الأسرة وما إلى ذلك — يظل كما هو. وبالنسبة إلينا نحن البالغين، ألن يعتبر الاعتقاد في وجود بابا نويل — وما يصاحبه من أنشطة مثل إرسال الخطابات إلى القطب الشمالي ووضع فطيرة اللحم المفروم والفواكه، واللبن في الخارج له — نوعًا من الإلهاء المعجز يمنعنا من إدراك المسائل المهمة حقًّا؟
أعتقد أن الأمر نفسه ينطبق على الإيمان بالآلهة والملائكة والشياطين وبالحياة الآخرة وما إلى ذلك. والحقيقة أننا من دون المعتقد الديني قد نغفل شيئًا، مثل رؤية العالم باعتباره مملكة محكومة من السماء، والاطمئنان للوعد بأننا سيجتمع شملنا مع من نحب بعد الممات. إلا أننا يمكن أن نحصل على أكثر من ذلك، مع رؤية أنضج وأوضح لما هو مهم وقيِّم حقًّا في الحياة.
وكما قال الكاتب دوجلاس آدمز ذات مرة: «ألا يكفي أن نرى الحديقة بديعة دون الاضطرار إلى الاعتقاد بأن الجنيات هي السبب في وجودها؟»
(٧) الإنسانوية ومعنى الحياة
قد يشعر بعض القراء بخيبة الأمل لأنهم لم يعرفوا حتى الآن الإجابة الإنسانوية على السؤال الذي كان محور هذا الفصل، وهو: «ما الذي يجعل الحياة ذات معنًى؟» الحقيقة هي أنه لا توجد «إجابة إنسانوية» محددة.
الحقيقة هي أن أغلب الإنسانويين يتفقون مع الدينيين (مع بضعة استثناءات واضحة، مثل الحياة المكرَّسة للدين) حول أي الحيوات ذات معنًى وأيها خالية من المعنى. فمثل أغلب الدينيين، يرى الإنسانويون أن تربية أطفال صالحين والسعي الجاد وراء الاستقصاء الفكري وإنتاج فن أصلي وأخَّاذ وما إلى ذلك، كلها سبل يمكن أن نتمتع من خلالها بحياة ذات معنًى. وباستثناء الجوانب الدينية، يطبق الإنسانويون «المعايير» نفسها تقريبًا في الحكم على أيُّ الحيوات ذات معنًى وأيها خالية من المعنى.
الإنسانويون يختلفون فحسب عن بعض الدينيين في افتراضهم أن تلك الحيوات التي نتفق جميعًا على أنها ذات معنًى تظل كذلك حتى في حالة عدم وجود الإله، وأن الاعتقاد في وجود الإله يمكن أن يكون في واقع الأمر حائلًا دون أن نعيش حياة كاملة ذات معنًى؛ عن طريق إلهائنا عن التفكير في الأسئلة الكبرى — على سبيل المثال — أو إجبارنا على أن نعيش على نحو معين بدافع من الخوف من العقاب الإلهي، أو تبديد حياتنا في تأييد معتقدات زائفة بسبب الترقب الخاطئ لوجود حياة أخرى.
من وجهة النظر الإنسانوية، إن حياتنا الحالية وجملة ما فيها من ثراء هي المهم حقًّا.