كيف ينشأ السرطان؟
تبدأ حياة كل منا ببويضة واحدة مخصبة تتحول في بادئ الأمر إلى مضغة من الخلايا المتطابقة، وبعد ذلك تنمو نموًّا مطردًا وتنتظم وتتطور إلى أن تصبح كائنًا مكتملًا معقد التركيب. وتعد العملية التي تتطور بها الخلايا من هذه المجموعة الأولية إلى أنواع فرعية عالية التخصص واحدةً من أكثر العمليات تعقيدًا في الطبيعة، ومع ذلك فإنها تحدث باستمرار في كل مكان حولنا وفي داخلنا. ومن الواضح أن هذا الأمر يحتاج إلى شبكة معقدة من الضوابط والموازين. إنها تحتاج من الخلايا إلى التواصل مع جاراتها حتى تتأكد من اتباع مسار النمو الصحيح في الوقت المناسب. وهي تحتاج إلى حذف الخلايا التي لم تعد مطلوبة وإزالتها مع أقل قدر ممكن من التعطل (وهي عملية يطلق عليها اسم الموت الخلوي المبرمج). وأثناء تكون الأعضاء المختلفة، ينبغي عليها أيضًا أن تنمي مواردها الدموية الخاصة بها وأن تحافظ عليها من التلف. ويحتاج ذلك إلى أن تتواصل أنظمة الأعضاء بعضها مع بعض، فمثلًا تتصل الأعصاب بالعضلات التي تتحكم فيها. ويجري التنسيق بين الغدد الصماء (التي تفرز الهرمونات) لتنتج منتجاتها في دورات (مثال على ذلك المبيضان) أو استجابة للتوتر (الغدتان الكظريتان). ويتحقق ذلك من خلال الجينات التي تنشط تارةً وتخمد تارة على نحو منسق أثناء نمو الأجهزة العضوية وتطورها. وباكتمال عملية النمو والتكون، يجب صيانة الأنسجة، وإصلاح ما تلف منها، واستمرار الإشراف العام على عموم الجسم، من الإمداد بالعناصر الغذائية ومعالجتها، والتخلص من النفايات، وما إلى ذلك. وكلما فكر المرء في التعقيد المذهل الذي يكتنف كل هذه المهام، لفت نظره أن هذه العمليات تجري على نحو موثوق به للغاية على مدى الكثير من السنوات لدى معظم الناس، وأن السرطان — وهو أساسًا انقسام خلوي غير منتظم — لا يظهر بمعدل أكبر من المعدل الذي يحدث بالفعل.
(١) تركيب الدي إن إيه ووظيفته
كما ذكرت من قبل، تختزن الشفرة الوراثية في الخلايا البشرية داخل ٢٣ زوجًا من الكروموسومات. ويتكون كل كروموسوم من جزيء طويل للغاية من الدي إن إيه يحتوي على الجينات المرصعة بتسلسلات متباعدة. كل جين تحيط به مناطق من الدي إن إيه التي تتحكم في توقيت عمل كل جين وخموله؛ على سبيل المثال: شفرة الجين لبروتين «الميوزين»، وهو أحد المكونات الرئيسية للخلايا العضلية، تتحول إلى وضع النشاط حيث تكون هناك حاجة إليه — في العضلات — لكنها تتوقف عن العمل في الأنسجة الأخرى التي لا تحتاج إليه، مثل الخلايا العصبية. من الواضح إذًا أن شبكة مفاتيح التشغيل والإيقاف ذات أهمية محورية في تنظيم سلوك الخلايا، وتعد دراسة هذه المفاتيح من السمات الرئيسية للأبحاث التي تجرى على السرطان. فإذا لم تعمل هذه المفاتيح، فإن الخلايا قد تنمو على نحو غير منتظم، وهو ما يحدث في السرطانات.
هذه الخاصية المتأصلة في جزيء الدي إن إيه، التي من خلالها يمكنه أن يصنع نسخًا متطابقة من نفسه، هي إحدى الخصائص الرئيسية لكل أشكال الحياة على كوكب الأرض. وتركيب الدي إن إيه مُصان بمنتهى الصرامة في جميع الأحياء من أبسطها تركيبًا إلى أكثرها تعقيدًا. ودقة عملية الازدواج عالية للغاية أيضًا. ومعدل الخطأ منخفض للغاية حتى إن الأمر يحتاج إلى عدة أجيال لتتجمع اختلافات واضحة، وهو ما يسمى ﺑ «الانحراف» الجيني، وهو أحد أساسيات البيولوجيا التطورية. وإذا عدنا لتشبيه الكتب الوراثية في المكتبة: في كل مرة تنقسم فيها الخلية، يجب على الخلية أن «تنسخ» المجموعة الكاملة من اﻟ ٢٣ زوجًا من «الكتب» ومعها اﻟ ٢١ ألف جين («صفحات» المعلومات). ومن حين لآخر، قد يحدث خطأ في نسخ فاصلة، أو حرف، أو نقطة. في أغلب الحالات — مثلما يحدث في الكتب — لا يغير هذا الخطأ من المعنى، غير أنه في بعض الأحيان، تكون التغيرات حاسمة، مع تحول تالٍ في كيفية أداء الخلية الابنة الحاملة للتغير (المسمى بالطفرة) لوظيفتها. وبالمناسبة، يمكن تتبع عدد الاختلافات الطفيفة العشوائية عبر شجرة التطور للسماح بإجراء تقديرات للوقت الذي تباعد فيه زوج معين من الأنواع أحدهما عن الآخر.
(٢) الجينات والتحكم في التعبير الجيني
الجين هو الوحدة الأساسية التي ينتظم حولها جزيء الدي إن إيه. ويحوي كل جين شفرة خاصة ببروتين معين. ويمكن أن يكون للبروتينات العديد من الوظائف تتراوح من التركيبية — ومثال ذلك بروتين اسمه «توبيولين» يصنع «هيكل» الخلية الداخلي — إلى الوظيفية، مثل تكوين أجزاء العضلات المسئولة عن انقباضها. هذا التدفق للمعلومات، الذي تترجم بواسطته المعلومات الموجودة في الدي إن إيه إلى رسالة (في الآر إن إيه؛ أي الحمض النووي الريبي) ثم إلى بروتين ما، يعد أحد المفاهيم المحورية في علم الأحياء.
البروتينات لبنات البناء الأساسية للخلايا؛ فهي المسئولة عن جميع أنشطتها الرئيسية. أما مكونات الخلايا الأخرى — كالدهون والسكريات — فتُصنَع نتيجة لأنشطة البروتينات. من الواضح إذًا أن البروتينات ينبغي عليها أداء وظائف عديدة. ومن بين هذه الوظائف إرسال الإشارات، سواء داخل الخلية الواحدة أو بين الخلايا المختلفة، والتركيب (نوع من السقالات المجهرية)، والأهم هو البروتينات المسماة بالإنزيمات التي تعمل على جزيئات حيوية أخرى لتنفيذ عملية تكوين جزيئات جديدة. وقد تكون هذه العملية تدميرية، مثل الإنزيمات التي تحتوي عليها الإفرازات الهضمية التي تحلل الطعام (ومساحيق الغسيل أيضًا!) أو بنَّاءة، كالإنزيمات التي تشترك في تصنيع جزيئات جديدة للخلية.
(٣) السمات المميزة لمرض السرطان
-
اكتفاء ذاتي في إشارات النمو الإيجابية.
-
عدم الاستجابة للإشارات المثبطة.
-
عدم الخضوع لعملية «الموت الخلوي المبرمج» الذي يهدف إلى التخلص من الخلايا المعيبة.
-
تجنب التدمير الذي يقوم به جهاز المناعة.
-
القدرة على النمو في أنسجة أخرى وغزوها على نحو مدمر.
-
القدرة على المحافظة على النمو بتوليد أوعية دموية جديدة.
أول سمتين من هذه السمات تفسران أنفسهما على نحو معقول، وتؤديان إلى النمو غير المنتظم. أما الثالثة فأقل وضوحًا وهي مرتبطة بعملية التكوين. ولو كانت جميع الخلايا تنمو وتنقسم ببساطة، فما كان من الممكن — على سبيل المثال — أن تتشكل تكوينات أنبوبية جوفاء كالأمعاء أو الأوعية الدموية. ولكي يحدث ذلك، يجب حذف بعض الخلايا من الكائن النامي حسبما تملي احتياجات التركيب النامي. وتسمى هذه العملية — كما ذكرنا من قبل — الموت الخلوي المبرمج، وهي وظيفة أساسية من وظائف الخلية. ويُعَد الموت الخلوي المبرمج أيضًا طريقة يستخدمها الكائن للتخلص من الخلايا المعيبة أو التي أصابها خلل وظيفي مثل تلك الخلايا التي شارفت على نهاية عمرها وتحتاج إلى استبدالها. خلايا السرطان حسبما ينص تعريفها خلايا شاذة، ومن ثم يجب أن تكون ذاتية الحذف. فعجزها عن المرور بعملية الموت الخلوي المبرمج إذًا هو مفتاح تحولها من خلية شاذة إلى خلية ذات قدرة تكاثرية لا حدود لها. وثمة سمة أخرى للموت الخلوي المبرمج، وهي أن الخلايا التي تتلف بفعل العلاج الكيماوي أو الإشعاعي لا تموت في الغالب كليةً، وإنما تتعرض فقط ﻟ «إصابة مميتة». ويأتي موت الخلية لاحقًا عن طريق الموت الخلوي المبرمج؛ مما يوضح أن آلية التجنب لم تتوقف توقفًا تامًّا، حتى في الخلية السرطانية. لكن تزايد المقاومة للموت الخلوي المبرمج هو وسيلة تتفادى بواسطتها الخلية السرطانية التدمير بفعل العلاج الكيماوي أو الإشعاعي (انظر الفصل الثالث). لهذا؛ فإنه ليس من المستغرب أن يكون فهم عملية الموت الخلوي المبرمج أحد المجالات الرئيسية في أبحاث السرطان.
من السمات الأخرى المميزة للسرطانات قدرتها على النمو وغزو أنسجة أخرى في الجسم مع تفاديها التدمير بواسطة جهاز المناعة. ويمكن النظر إلى جهاز المناعة كما لو كان شرطة خلوية تتعرف على هوية الدخلاء من أمثال البكتيريا وتقضي عليهم. ولما كانت الخلايا السرطانية شاذة، فينبغي أن يكون جهاز المناعة قادرًا على التعرف عليها وتدميرها. إذًا تفادي هذه العملية يعد أمرًا ضروريًّا للسرطان. وكما أشرنا من قبل، فإن نمو الخلايا والأنسجة والأعضاء وتكونها عمليتان تخضعان لنظام دقيق للغاية من أجل ضمان نمو النوع الصحيح من الخلايا في الموضع والتوقيت الصحيحين في الكائن. ومن السمات الرئيسية لنمو السرطان اكتسابه القدرة على النمو في الموضع الخطأ، وهذه سمة تميز الورم الخبيث عن الحميد، الذي يمكنه النمو لكنه لا ينتشر ولا يغزو. والجدير بالذكر أن الأورام الحميدة يمكن مع ذلك أن يكون لها عواقب وخيمة، ومثال على ذلك الورم العصبي السمعي، وهو ورم حميد يصيب العصب السمعي الذي ينقل الإشارات من الأذن الداخلية إلى المخ. وهذا الورم يتضخم باطراد، مسببًا الصمم ومشكلات الاتزان، دون أن ينتشر مطلقًا إلى أي مكان آخر.
وآخر سمة مميزة للسرطان هي قدرته على تكوين مورد دموي جديدة له. فأي تجمع من الخلايا يزيد قطره عن قرابة عُشر الملليمتر يحتاج إلى إمداد بالدم. ومع نمو الورم الجديد، يجب عليه إذًا أن يكتسب القدرة على تنشيط نمو الأوعية الدموية. وغالبًا ما يكون نمو الأوعية الدموية للأورام عشوائيًّا، ويتحول إلى الاستعانة بجينات لا تشترك في صيانة الأوعية الدموية الطبيعية. وتُعرَف هذه العملية بتولد الأوعية الورمية، ونظرًا لاختلافها عن تولد الأوعية الطبيعي، صارت هدفًا مهمًّا لتطوير عقاقير السرطان. لو كان من الممكن إيقاف إمداد الدم للسرطان، لمُنِع بذلك من تحقيق المزيد من النمو. ومن أنجح عقاقير الجيل الجديد من العلاجات الجزيئية الموجهة «بيفاسيزوماب» («أفاستين»)، الذي يستهدف هذه العملية.
(٤) التسرطن: كيف يبدأ السرطان؟
ومن الطرق المثمرة لتحديد الجينات دراسة العائلات المصابة بما يسمى بالسرطان «الوراثي». وربما كانت هذه التسمية خاطئة قليلًا؛ فالسرطان لا يورث بنفس طريقة وراثة عقد من الماس مثلًا؛ أي شيء عيني سليم ومكتمل البناء. لكن ما يورث هنا هو احتمال مرتفع ارتفاعًا كبيرًا فيما يتعلق بالإصابة بالمرض مبكرًا، وغالبًا ما يكون ذلك في صورة مزدهرة وشرسة للغاية. وأحد هذه الأمراض داء السلائل القولوني الورمي الغدي، والمصابون بهذا المرض تتكون لديهم أورام غدِّية حميدة متعددة في سن مبكرة. وبمرور الوقت، تتحول بعض هذه الأورام إلى سرطان، وإذا لم يتلقَّ المرضى علاجًا، يتوفون عادةً في بدايات الأربعينيات من عمرهم نتيجة لسرطان الأمعاء. وأظهرت الدراسات التي أجريت على المصابين بهذا المرض أن لديهم شذوذًا في جين معين، أطلق عليه اسم «إيه بي سي». وأدى التعرف على هذا الجين لدى هؤلاء المرضى إلى مواصلة دراسة وظيفته، وتبين أنه يؤدي وظيفة «مفتاح الإيقاف». فإذا أصيب هذا الجين بعطل، يختفي بذلك عامل فحص مهم لنمو الخلية وتتكون الأورام الغددية. ومثلما هو الحال غالبًا في السرطانات الوراثية، تبين أن السرطانات غير الوراثية الأكثر شيوعًا تشترك في صفات شاذة مماثلة. وتؤكد الدراسات التي أجريت على سرطان الأمعاء غير الوراثي أن جين «إيه بي سي» يصاب بخلل وظيفي فيما يقرب من ٨٠٪ من هذه الحالات المتفرقة. من الواضح إذًا أن لهذا الجين وظيفة محورية في تنظيم النمو الطبيعي لبطانة الأمعاء.
وهكذا كثيرًا ما تسلط الدراسات التي تجرى على السرطان الوراثي الضوء بشدة على السبب وراء نظيره غير الوراثي. وساعدت دراسة هذه «العائلات السرطانية» في تحديد الجينات الرئيسية المرتبطة بالسرطان، مثل جين «إيه بي سي»، وجين «آر بي» (المرتبط بالورم الأرومي الشبكي، وهو نوع نادر من الأورام يصيب شبكية الأطفال)، و«بي ٥٣» (المرتبط بمتلازمة لي فروميني التي يصاب فيها المرضى بعدة سرطانات متنوعة)، و«في إتش إل» (المرتبط بمتلازمة فون هيبل لينداو، وهو مرض مركب يشمل سرطان الكلى). بالإضافة إلى ذلك، يساعدنا فحص التاريخ الطبيعي المتنوع للمرض الوراثي في فهم ما يمكن أن تكون عليه الوظيفة الطبيعية لهذه الجينات. وجميع الجينات المذكورة فيما سبق يطلق عليها اسم الجينات «الكابحة للأورام»، غير أن هذه تسمية خاطئة؛ لأن هذا ليس دورها الرئيسي في الكائن الحي. ومثلما يمكن أن نخمن من معلوماتنا عن جين «إيه بي سي»، فإن هذه الجينات مُنظِّمات رئيسية لدورة حياة الخلية (النقطتان الأوليان من السمات الرئيسية التي ذكرناها فيما سبق)، ويؤدي الضرر أو الإبطال الذي يلحق بوظائفها إلى نمو غير خاضع للسيطرة. وسلطت عملية فحص الوظائف الطبيعية لهذه الجينات الضوء بشدة على الأسلوب الذي تُنظَّم به دورة حياة الخلية. ولما كان غياب السيطرة على دورة حياة الخلية سمة مميزة لمرض السرطان، فإن الكثير من أساليب علاج المرض تؤدي عملها عن طريق التدخل في عمل جينات دورة حياة الخلية التي تخفق داخل الخلية السرطانية. علاوة على ذلك، يغزو جيل جديد من عقاقير السرطان — وهي العلاجات الجزيئية الموجهة — كلًّا من العيادات والعناوين الرئيسية للأخبار في الوقت الراهن (انظر الفصل الثالث). وتؤدي هذه العقاقير عملها عن طريق استهداف جزيئات محددة معروف أن وظائفها تختل في حالات السرطان.
ومع ذلك، لا تشترك جميع جينات السرطان الوراثي مباشرةً في دورة حياة الخلية. ولعل من الأمثلة الجيدة على ذلك جين «في إتش إل»، الذي تم التعرف عليه في البداية لدى مرضى متلازمة «فون هيبل لينداو». ومن يعانون هذه الحالة يصابون باضطرابات متعددة في سن مبكرة، من بينها تكون الأكياس في الجهاز العصبي، وبالتحديد في المخيخ (أحد أجزاء المخ الضالعة في الاتزان والتنسيق)، والحبل الشوكي، والشبكية، بجانب الأورام الكلوية الحميدة والخبيثة. وعادةً ما تصيب الأورام الكلوية الكليتين معًا، وتكون متعددة، وتبدأ في سن مبكرة. أما فيما يتعلق بجين «إيه بي سي»، فيرث المريض جينًا واحدًا غير فعال، وإذا حدثت إصابة للجين الآخر لا يتبقى أي بروتين «في إتش إل» فعال في الخلية. ومع علمنا بأن الأورام الكلوية نادرة الحدوث نسبيًّا وإن كانت شائعة لدى مرضى «في إتش إل»، فإن هذا يُنبئنا بأن احتمالات معاناة جين معين من إصابة واحدة تكون مرتفعة نسبيًّا، لكن المعاناة من إصابتين تستغرق وقتًا أطول كثيرًا، ومن ثم تكون الأورام المتفرقة منفردة وتبدأ في سن متأخرة كثيرًا.
(٥) السرطان غير الوراثي
مع أن السرطانات الوراثية تسلط ضوءًا هامًّا على فئات الجينات المرتبطة بالسرطان، فإن أغلب حالات السرطان لا تنشأ عن نزعة وراثية واضحة. وكما رأينا في الفصل الأول، فإن الأسباب الرئيسية للوفيات الناجمة عن السرطان على مستوى العالم تنشأ من أورام في الرئة والمعدة والكبد والقولون والثدي. ومن بين هذه السرطانات، يرتبط سرطان الرئة ارتباطًا قويًّا بتدخين السجائر. ويرتبط سرطان الكبد بالعدوى بفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي ب، إلى جانب الدور البارز لمعاقرة الكحوليات في هذا الصدد. ومن المفترض أن سرطانات القناة الهضمية مرتبطة بالغذاء، لكن السبب لا يزال غير مفهوم تمامًا على وجه الدقة. وبالمثل، يتصل بوضوح سرطان الثدي (وسرطان البروستاتا لدى الرجال) بكل من العوامل الغذائية والهرمونية معًا. فكيف يمكن لهذه المؤثرات المتنوعة أن تعمل على إحداث التغيرات المؤدية للإصابة بالسرطان التي شرحناها فيما سبق؟
كما ذكرنا من قبل، من الواضح أن هناك حاجة لحدوث تلف لجزيء الدي إن إيه — وهو حدث استهلالي تعقبه بصفة عامة فترة مطولة من تراكم المزيد من التلف، يطلق عليه أحيانًا التنشيط — قبل وقوع حدث تحول نهائي يحول العلة محتملة التسرطن إلى سرطان مكتمل المعالم. وفي حالة التبغ، يبدو أن محفز العملية هو التعرض المستمر لدخان التبغ، الذي له خواص واضحة مدمرة للدي إن إيه. أما فيما يتعلق بالأمراض الأخرى، وبالتحديد سرطانَيِ الثدي والبروستاتا، فإن دور المنشط هنا تلعبه هرمونات الشخص ذاته. وكما أشرنا في الفصل الأول، يتأثر احتمال الإصابة بسرطان الثدي بفترة تعرض الثدي لهرمونات الأنوثة على نحو متكرر، ومن ثم يؤدي البلوغ المبكر وقلة عدد مرات الحمل مع عدم الرضاعة الطبيعية إلى ارتفاع نسبة احتمال الإصابة. وجاء الاستدلال على ذلك من أن الدورات المستمرة من التغيرات التي تطرأ على الثدي والمستحثة بالدورة الطمثية تضخِّم أي تلف مبدئي يحدث للدي إن إيه نتيجة لشكل ما من المسرطنات البيئية. وهناك تأثير مشابه لذلك يحدث في حالة سرطان البروستاتا، يتمثل في أن الرجال الذين يتعرضون للإخصاء في مرحلة مبكرة من العمر (مثل الخصيان) يكون احتمال تعرضهم للإصابة بسرطان البروستاتا منخفضًا للغاية مقارنةً بأقرانهم الذي من المفترض أنهم يتعرضون لنفس المواد المسرطنة البيئية. ويلعب الكحول دورًا مماثلًا في حالة مرض الكبد. فالكحول، كما سبق أن ذكرنا، ليس مادة مسرطنة مباشرة؛ فهو لا يدمر الدي إن إيه، غير أن الإفراط طويل المدى في معاقرة الكحوليات يستحث دورات التلف والترميم داخل الكبد، مع ارتفاع معدل إحلال الخلايا. وكما هو الحال في التغيرات الدورية في الثدي، يعمل هذا النشاط المتزايد باستمرار على تضخيم الضرر الذي تتسبب فيه المركبات المدمرة للدي إن إيه التي يجب أن تكون هي الأخرى موجودة، وهذا يزيد من فرصة تراكم المزيد من تلف الدي إن إيه ونشوء السرطان.
كما أوضحنا في الفصل الأول، في حالة سرطان الكبد، تتوافر أيضًا معرفة تفصيلية عن أكثر المواد المسرطنة شيوعًا، وهي العدوى بالالتهاب الكبدي الوبائي. يُعَد هذا المرض سببًا رئيسيًّا للمعاناة على مستوى العالم، ولكن بالأخص في الصين ومناطق أخرى من آسيا حيث نسبة تصل إلى ١٠٪ من السكان مصابون بعدوى مزمنة بهذا المرض، وتقل النسب في الهند والشرق الأوسط، في حين نجد معدلاته في أوروبا وأمريكا الشمالية أقل من ١٪، ويكون احتمال الإصابة بالعدوى المزمنة في أعلى صوره لدى من يصابون بالعدوى في مرحلة الرضاعة. ومنذ عام ١٩٨٢، توفر لقاح ضد فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي ب. ومع تطبيق برامج التلقيح في بلدان عديدة منذ عدة سنوات، تمكن العلماء من إتمام الاختبار النهائي للعلاقة بين الفيروس والسرطان. لو كانت هذه العلاقة سببية، فمن المفترض أن تحول الوقاية دون الإصابة بالعدوى، وهذا ما حققته فعلًا. أما الآلية الجزيئية الدقيقة التي يتسبب من خلالها الفيروس في الإصابة بالسرطان، فلا تزال محل دراسة، غير أنه في حالة التدخين، فالدليل مقنع الآن على وجود علاقة سببية.
إذا انتقلنا إلى نوع آخر من السرطان يرتبط بالعدوى؛ ألا وهو سرطان عنق الرحم، يمكننا أن نرى قصة مماثلة. فقد لوحظ في عشرينيات القرن العشرين أن سرطان عنق الرحم أكثر انتشارًا لدى النساء متعددات العلاقات الجنسية، وتحديدًا الغواني، ويندر لدى الراهبات (ماعدا من سبق لهن ممارسة نشاط جنسي)، ما يشير إلى سبب متعلق بالعدوى المنتقلة عن طريق الجنس. وقد أوضح هارالد تسور هاوزن في عام ١٩٧٦ أن المرض يرتبط بعدوى فيروس الورم الحليمي البشري. فتوصل دكتور تسور هاوزن إلى وجود الدي إن إيه لفيروس الورم الحليمي البشري في كل من البثور التناسلية وسرطان عنق الرحم. ونال هذا العالم جائزة نوبل في الطب على هذا الاكتشاف وعلى أبحاثه اللاحقة في هذا المجال، التي شرحت الروابط الجزيئية الدقيقة بين الفيروس والسرطان. ينتج الفيروس بروتينات متنوعة تتفاعل مع جينين اسمهما «آر بي» و«بي ٥٣»، وكلاهما من العوامل المتحكمة في دورة حياة الخلية؛ ما يوفر مسارًا واضحًا لإحداث السرطان.
أثبت ابتكار أحد اللقاحات ضد فيروس الورم الحليمي البشري، ومن ثم ضد سرطان عنق الرحم أنه أكثر تحديًا من الناحية التقنية من لقاح الالتهاب الكبدي الوبائي ب. غير أن الرابطة بين العدوى الفيروسية المزمنة والسرطان أتاحت دراسة المراحل محتملة الخباثة لسرطان عنق الرحم. وأدى ذلك إلى اكتشاف أنه يمكن التعرف على هذه المراحل في بقع الخلايا التي تؤخذ من عنق الرحم بواسطة ملعقة خشبية ثم تُفحص تحت المجهر. وسمح التعرف على مرحلة ما قبل السرطان، المسماة بتكون الورم داخل ظهارة عنق الرحم، أو الورم السرطاني الموضعي بالتوصل إلى علاج وقائي. وتطبق معظم الدول الأوروبية والأمريكية الشمالية عمليات فحص شاملة مبنية على اختبار بقعة مأخوذة من عنق الرحم. ووفقًا للتقديرات، أنقذت هذه البرامج حياة آلاف النساء. وحديثًا، توفر لقاح ضد الأنواع المختلفة من فيروس الورم الحليمي البشري التي ترتبط بسرطان عنق الرحم في عام ٢٠٠٦، وبدأ في الظهور ضمن برامج التلقيح التابعة للصحة العامة للفتيات كوسيلة للوقاية من العدوى، وما يحمله من ثم من خفض لخطر الإصابة بالسرطان. أُثير بعض الجدل حول اللقاح؛ فيفسره البعض على أنه وسيلة للحماية من مخاطر تعدد العلاقات الجنسية. لكن الوقاية من أحد الأمراض التي تنتقل عن طريق الجنس لا تقلل من مخاطر الفيروسات الأخرى كفيروس نقص المناعة البشرية. وإضافة إلى ذلك، فإن هذا اللقاح سيقي النساء من مخاطر تعدد العلاقات الجنسية السابقة لأزواجهن، وهو أمر ليس لديهن أي سيطرة عليه بأي حال. لكن الأمر سيتطلب فترة تتراوح بين ١٠ و٢٠ عامًا حتى نشهد جدواه؛ فهذه هي الفترة الزمنية الفاصلة النموذجية بين الإصابة بعدوى فيروس الورم الحليمي البشري ونشوء السرطان.