كيف يُعالَج السرطان؟
علاج السرطان أمر بالغ التعقيد، ويتطلب عادةً مشاركة من عدة جماعات متنوعة تتراوح ما بين أطباء من جميع التخصصات، من بينها الممارسون العموميون (أطباء الأسرة)، والجراحون، وإخصائيو الأورام، وإخصائيو علم الأمراض، وإخصائيو الأشعة، وإخصائيو رعاية تسكين الألم، إضافة إلى عدد هائل من الفنيين المدربين الآخرين كالممرضات، وفنيي الأشعة والعلاج الطبيعي والمعامل وأقسام العلاج الإشعاعي، ومساعدي التمريض، والقائمة طويلة وممتدة. تتباين التفاصيل التنظيمية لهذه الجماعات المختلفة تباينًا هائلًا من بلد لآخر، وهي نتاج كل من سياسات الرعاية الصحية واقتصادياتها معًا.
في محاولة للالتفاف على هذه المشكلة، سوف أقدم منظومة علاج السرطان كرحلة تبدأ من الأعراض مرورًا بتشخيص المرض وعلاجه ومتابعة العلاج وصولًا إلى رعاية تسكين الألم لمن يعانون انتكاسات غير قابلة للشفاء. وتعالج نظم الرعاية الصحية المختلفة هذه الوقائع بسبل شتى، لكن المبادئ الأساسية بصفة عامة، واحدة إلى حد بعيد. ويقدم القسم الأخير من هذا الفصل استعراضًا شاملًا للفئات الرئيسية المختلفة للعلاج، مثل الجراحة والعلاج الكيماوي والعلاج الإشعاعي.
(١) التشخيص المبدئي والأبحاث
لا يزال معظم المرضى يذهبون إلى الأطباء وهم يعانون أعراضًا كالسعال المستمر أو مشكلات كظهور دم في البول. وهناك أعداد كبيرة أيضًا تكتشفها برامج الفحص، التي تُجرَى سواء على أساس رسمي نظامي (مثل سرطان الثدي وعنق الرحم) أو غير رسمي (مثل اختبار المستضد البروستاتي النوعي لاكتشاف سرطان البروستاتا). وبعض الحالات تُكتشَف بالمصادفة أثناء إجراء أبحاث لمشكلات أخرى. ومن أمثلة ذلك الأشعة التي تُجرَى على البطن يمكن أن يُكتشَف من خلالها ورم كلوي عديم الأعراض. وسوف أعود إلى هذه الفئات من المرضى.
يذهب معظم المرضى إلى أطبائهم وهم يشكون من عارض ما لاحظوه وأحسوا بالقلق تجاهه. ومع أن الأعراض — مثلها مثل البشر أنفسهم — تتنوع تنوعًا لا حدود له، فيمكن في أغلب الحالات تقسيمها إلى مجموعات، فنجد تلك التي تتسبب في خلل بالوظائف الطبيعية، مثل ورم المخ الذي يسفر عن خلل في الحركة الطبيعية للجسم، أو الأعراض الشاذة الناجمة عن تلف تسبب فيه الورم، كالنزيف، أو الألم، أو السعال. وقد تكون الفترة التي تمر بين ظهور الأعراض الأولية وتشخيص المرض بالغة القصر، وقد تطول في بعض الأحيان فتمتد سنوات. في بعض الأحيان، يكون التأخير في التشخيص مرده إلى سوء تأويل الأطباء للأعراض، وفي أحيان أخرى نتيجة لإهمال ذاتي متعمد أو خداع المرضى لأنفسهم، وفي أحيان أيضًا يكون مزيجًا من الاثنين.
ومن الطبيعي أن إدراك ضياع فرصة التوصل إلى تشخيص مبكر يمكن أن يسبب لاحقًا مشاكل خطيرة في العلاقة بين المريض والطبيب، وغالبًا ما يكون هذا في وقت يكون فيه المريض في أمسِّ الحاجة إلى الطبيب. ويمر أطباء الأسرة بأوقات عصيبة في هذا الصدد؛ على سبيل المثال: الصداع وآلام الظهر من الأعراض الشائعة بين الناس، وفي الغالبية العظمى من الحالات تكون أسبابها حميدة، وربما لا تحتاج إلا لمداواة الأعراض فقط، دون الحاجة لإجراء أبحاث مستفيضة. غير أنه في بعض الأحيان — بالطبع — ربما تشير هذه الأعراض إلى ورم كامن بالمخ أو الحبل الشوكي. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك وجود دم في البراز. وجميع طلبة الطب يعلمون أن هذا الأمر قد يدل على أن المريض مصاب بسرطان الأمعاء. ويعلم جميع أطباء الأسرة أن حالات كالبواسير (حالة مسببة للألم بالشرج قد تسبب به نزيفًا) شائعة حقًّا لدى المرضى الواقعين ضمن النطاق العمري المعرض لخطر الإصابة بسرطان الأمعاء. فكيف يمكنهم التمييز إذًا بين الحالة الحميدة والخطيرة (وإن كانت نادرة) دون أن يبالغوا في إجراء الأبحاث على مرضاهم؟ غالبًا ما تكمن الإجابة عن هذا السؤال في مهارة أساسية أخرى يتعلمها طلبة الطب، وهي فن الحصول على تاريخ دقيق للحالة الصحية. ومن هنا، فإن التغير المباغت وغير المتوقع — مثل النزيف المختلط بالبراز — يكون على الأرجح نتيجة للسرطان، مقارنةً ببقع الدم الأحمر الفاقع الصغيرة التي قد نجدها على ورق التواليت كل بضع سنين.
(٢) الفحص للكشف عن السرطان
لو كنَّا نحيا في عالم مثالي، لتمكنَّا من إجراء اختبارات تكشف عن مرض السرطان قبل بلوغه أخطر المراحل؛ مما يسمح بالتدخل المبكر وأمل أكبر في الشفاء. ويُطلَق على هذه العملية «الفحص»، وهي متاحة الآن لعدد من أنواع السرطان: الثدي، والرحم، وعنق الرحم، والأمعاء. بالإضافة لذلك، يمكن لاختبار المستضد البروستاتي النوعي أن يكون اختبار فحص لسرطان البروستاتا، غير أن استخدامه لا يزال محل جدل. ومن المفيد وصف سمات اختبار الفحص النموذجي، ثم بحث كيفية تطبيق هذه الاختبارات عمليًّا.
سمات اختبار الفحص النموذجي (المصدر: منظمة الصحة العالمية)
-
يجب أن يكون المرض المستهدف نوعًا شائعًا من السرطان ومرتبطًا بمعدل وفيات مرتفع.
-
يجب أن يتوافر لهذا المرض علاج فعال قادر على تقليص حجم خطر الوفاة لو طُبِّق في مرحلة مبكرة بقدرٍ كافٍ.
-
يجب أن تكون إجراءات الاختبار مقبولة وآمنة وغير باهظة التكلفة نسبيًّا.
-
معدلات إيجابية صحيحة: تشخيص المرضى تشخيصًا صحيحًا بأنهم مرضى.
-
معدلات إيجابية خاطئة: تشخيص الأصحاء خطأً بأنهم مرضى.
-
معدلات سلبية صحيحة: تشخيص صحيح للأصحاء.
-
معدلات سلبية خاطئة: تشخيص المرضى خطأً بأنهم أصحاء.
المرضى المصابون بمرض كبدي | المرضى غير المصابين بمرض كبدي | الإجمالي | |
---|---|---|---|
الإجمالي | ٢٥٨ | ٨٦ | ٣٤٤ |
مسح الكبد | |||
غير طبيعي (+) | ٢٣١ | ٣٢ | ٢٦٣ |
طبيعي (−) | ٢٧ | ٥٤ | ٨١ |
والنوعية (أي المرضى الذين جاءت نتيجة مسحهم طبيعية ولا يعانون أي مرض/إجمالي المرضى الذين جاءت نتيجة مسحهم طبيعية) = ٥٤/(٢٧ + ٥٤) = ٠٫٦٧.
وهناك قياس آخر وهو القيمة التنبُّئية الإيجابية (أي نسبة المرضى الذين جاءت نتيجة مسحهم غير طبيعية ويعانون مرضًا كبديًّا) = ٢٣١/(٢٣١ + ٢٧) = ٠٫٨٩.
والقيمة التنبُّئية السلبية للفحص السلبي (نسبة المرضى الذين جاءت نتيجة مسحهم سلبية، ولا يعانون مرضًا كبديًّا) = ٥٤/(٣٢ + ٨٦) = ٠٫٤٥.
وهذا أمر جيد للغاية لاختبار يُجرَى في الطب السريري؛ فنتيجة إيجابية للمسح الخاص بشخص ما مشتبه في إصابته بمرض كبدي تعد مؤشرًا قويًّا على إصابة هذا الشخص بالمرض. كيف يكون هذا إذًا اختبار فحص؟
لتوضيح الفارق بين استخدام اختبار ما لتشخيص حالة شخص معلوم بالفعل أنه مريض، وبين فحص المرض لدى أفراد لا يشكون من أي أعراض، يمكننا النظر في الأرقام المتعلقة بسرطان الثدي. لنفترض مثلًا أن معدل الحالات الفائتة (النوعية) في من خضعنَ للاختبار ١٠٪، وأن مستوى المرض الذي لم يُكشَف عنه بعد في مرحلته المبكرة يبلغ واحدًا من بين كل ٥٠٠ فرد. إذا اختبرنا ١٠٠ ألف امرأة، فإن الاختبار النموذجي سيؤدي إلى ٢٠٠ اختبار ذي نتيجة إيجابية لدى من يعانين السرطان فعلًا، و٩٩٨٠٠ اختبار ذي نتيجة سلبية لدى من لا يعانين المرض. لكن اختبارنا، بالرغم من جودته، ليس مثاليًّا ولن يكتشف سوى ١٨٠ حالة من بين كل ٢٠٠، تاركًا ٢٠ شخصًا وقد اطمأنوا خطأً لعدم إصابتهم بالمرض. وبالعكس، فإن الاختبار أيضًا ليس دقيقًا تمامًا. لنفترض مثلًا أن ٩٥٪ ممن لم يصبهن المرض ظهرت نتيجة اختبارهن سلبية، لكن ٥٪ منهن ظهرت نتيجة اختبارهن إيجابية خطأً. عند تطبيق هذا على عينتنا في التحري، نجد معناه أن ٥٪ من ٩٩٨٠٠ حالة غير مصابة بالمرض ستظهر نتيجة اختبارهن إيجابية خطأً. وتكون محصلة هذا ٤٩٩٩ اختبارًا ذا نتيجة إيجابية خطأً لدى سيدات غير مصابات بالمرض. ومعنى هذا أن أقلية فقط (١٨٠ / ٤٩٩٩ = ٤٪) من اللاتي ظهرت نتيجة اختبارهن إيجابية مصابات بالفعل بالمرض، لكن ٤٩٩٩ − ١٨٠ = ٤٨١٩ امرأة أصبن بهلع شديد. علاوة على ذلك، اطمأنت عشرون امرأة بطريق الخطأ إلى أنهن غير مصابات بالمرض، وستواصل كل منهن حياتها إلى أن يُكتشف في نهاية الأمر أنها مريضة بالسرطان، وربما تكتشف حالاتهن في مرحلة متأخرة من المرض؛ إذ إنهن قد يتجاهلن ما يشعرن به من أعراض، معتقدات أنهن لسن مريضات. مع ذلك، فإن الغالبية العظمى من اللاتي ظهرت نتائجهن سلبية (٩٩٨٠٠ امرأة؛ أي أكثر من ٩٩٪) كُنَّ بالفعل غير مصابات بالمرض، إذًا نتيجة الاختبار السلبية مطمئنة بنسبة كبيرة.
تتسم هذه الأمثلة العملية بالأهمية؛ إذ إنها تصور عيوب اختبارات الفحص التي ربما تبدو رائعة لأول وهلة. ففي الواقع، الأرقام التي ذكرناها فيما سبق هي أفضل الأرقام المتاحة — فالحساسية والنوعية تهبطان لدى النساء الأصغر سنًّا (ربما لأن أنسجة الثدي لديهن أكثر كثافة، وهذا يجعل رؤية الكتل غير الطبيعية أكثر صعوبة)، ويؤدي إلى حالات أكثر غير مصنفة تصنيفًا صحيحًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن تكلفة تعقب الحالات الإيجابية خطأً تكون أكبر بكثير مع أن تكلفة إجراء الاختبار في حد ذاتها ضئيلة، ويجب إضافتها كعامل في تكاليف برنامج الفحص.
توجد مشكلة أخرى تظهر عند قياس حجم فائدة عمليات الفحص. ففي المثال الذي ذكرناه منذ قليل، نتعرف على حالات سرطان في وقت مبكر عما يمكن أن يحدث دون إجراء الفحص، وهذا يحسن من احتمالات تحسن العلاج على الأرجح. لكن في حالة سرطان الثدي، تكون نسب الشفاء جيدة؛ إذ إن ثلاثة أرباع النساء اللاتي يُشَخَّص لديهن المرض يبقين فترات طويلة على قيد الحياة. وتتبقى بذلك نسبة الربع التي يقدر لها أن تسوء حالتها، وهن من يُنتَظَر أن يكنَّ المستفيدات الرئيسيات من عملية الفحص. ويعد هذا رقمًا صغيرًا نسبيًّا مقارنةً بعدد الاختبارات التي أجريت، والعيب هنا يكمن في المبالغة في فحص نساء سليمات دون أن يكنَّ مصابات بسرطان الثدي.
(٣) تقصي الحالات المشتبه في أنها سرطان
(٤) دور إخصائي علم الأمراض في تشخيص حالات السرطان
يُقيِّم إخصائي علم الأمراض عينات أنسجة صغيرة مأخوذة — مثلًا — باستخدام إبرة، أي خزعات. في بعض الحالات — على سبيل المثال في حالة سرطان الكلى — قد تكون المادة الأولية مأخوذة من عضو استؤصل جراحيًّا، مثل الكلية المريضة. وفي أغلب الأحيان، يجري هذا عن طريق وضع شرائح بالغة الرقة من الورم المُستأصَل على شرائح زجاجية، ثم معالجتها بمجموعة من الصبغات المتنوعة التي تظهر بوضوح خصائص معينة محل اهتمام الفاحص. تُفحَص بعد ذلك الشرائح ذات الصبغات على يد إخصائي علم الأمراض مستعينًا بالمجهر. والصبغة الشائع استخدامها هي الهيماتوكسيلين والإيوسين (تسمى عادةً إتش أند إي) التي تظهر المكونات المختلفة للخلية بوضوح كالنواة مثلًا. وتُستخدَم أنواع الصبغات، التي يتزايد تخصصها، في المعاونة على مزيد من إيضاح خصائص الورم. ومن أمثلة ذلك صبغ مستقبِل الإستروجين في حالة سرطان الثدي الذي يساعد في التنبؤ بمدى استجابة السرطان لكلٍّ من العلاج الكيماوي والهرموني. ويوجد عدد آخذ في الازدياد سريعًا من الاختبارات المتاحة التي تقوم في الغالب على الأجسام المضادة وحيدة النسيلة (التي تتزايد أيضًا سريعًا كشكل من أشكال العلاج؛ انظر ما يأتي). بالإضافة إلى ذلك، يمكن أيضًا إجراء الاختبارات للبحث عن التغيرات التي تطرأ على تعبير جينات معينة أو للبحث عن طفرات معينة أو إعادة ترتيبات داخل الكروموسومات.
السؤال الأول الذي يواجه إخصائي علم الأمراض: «هل هذا سرطان؟» إذا كانت الإجابة بنعم، فإن الأسئلة التالية ستشمل نوعه المحدد، أو بعبارة أخرى: في أي عضو بدأ المرض؟ وما نوعه الفرعي؟ بالإضافة لذلك، تُصنَّف حالات السرطان إلى درجات تتفاوت من حيث شراسة المرض، ويبدأ المقياس عادةً برقم ١ (منخفض) حتى ٣ (مرتفع). وبعض حالات السرطان — مثل سرطان البروستاتا، والليمفوما (سرطان الغدد اللمفاوية) والساركوما (سرطان الأنسجة الضامة والهيكلية، مثل العظام والعضلات والغضاريف) — لها أنظمة تدرج مختلفة، لكن نفس المبادئ تنطبق عليها. وجميع هذه الأنظمة مبنية على حجم الخلايا السرطانية وشكلها، إلى جانب مقارنتها بالخلايا السليمة في العضو الذي تكوَّنت فيه.
-
هل يقتصر الورم على العضو المُستأصَل أثناء الجراحة فقط؟
-
هل حواف الشقِّ الجراحي (حواف العينة) خالية من الورم؟
-
هل يوجد انتشار نحو بِنى أخرى مرتبطة بذلك العضو، مثل الغدد اللمفاوية؟
(٥) اتخاذ القرار العلاجي
بعد إجراء عملية الاختزاع والتصوير الملائم للحالة، يجب اتخاذ قرار بشأن أسلوب العلاج الذي سيُتبَع مع المريض. وثمة قرار مبدئي مهم، ألا وهو تحديد هل الشفاء محتمل أم لا. فإذا كان العلاج سيصبح في الأساس تخفيفًا للأعراض، ينبغي أن يكون هذا من بين العوامل التي تؤخذ في الحسبان عند اتخاذ القرار؛ إذ تصبح جودة الحياة هنا ذات أهمية فائقة. أما إن كان يُتوقَّع من العلاج أن يحقق الشفاء، فتوجد اعتبارات متنوعة تنطبق في هذه الحالة؛ فقد أوضحت الأبحاث أن المرضى يتحملون آثارًا جانبية شديدة الوطأة مقابل تمتعهم بفرصة للشفاء من المرض. وسواءٌ أكان الهدف هو الشفاء أم إطالة العمر المتوقع للمريض أم تخفيف آلامه، توجد مجموعة كبيرة من الأساليب المتاحة التي يمكن استخدام أي منها وحده أو الجمع بين عدة أساليب معًا. تحتاج القرارات إلى مراجعتها بانتظام، وأن يجري تعديل أسلوب العلاج بما يتفق والآثار الجانبية له ومدى استجابة الورم، بمعنى إن كانت الأمور تسير في طريق التحسن أم لا.
المبدأ الجوهري الذي يشكِّل أساسًا للتوزيع هو أن حوالي ٣٠٪ من الحالات ليست سوى حالات موضعية للغاية — مثل سرطانات الجلد القاعدية (تُسمَّى عادةً القرح القارضة) — ولا تحتاج إلا لعلاج موضعي محدود للغاية، ويكون عادةً جراحيًّا، لكنه في بعض الحالات يكون إشعاعيًّا. من بين الحالات المتبقية، ينتهي الأمر بحوالي ٤٠٪ من المرضى إلى سرطان واسع الانتشار، بينما يعاني ٣٠٪ سرطانًا متقدمًا موضعيًّا، وهو نوع يمكن القضاء عليه بعلاجات موضعية/نطاقية مثل الجراحة أو العلاج الإشعاعي. وكما أشرنا من قبل، يتباين التقسيم الدقيق بسبب الجغرافيا أحيانًا، لكنه يختلف أيضًا بسبب الموضع التشريحي. على سبيل المثال: أفضل علاج لسرطان القولون الجراحة لا العلاج الإشعاعي؛ إذ إن الأمعاء الغليظة السليمة تكون غير قادرة نسبيًّا على تحمل العلاج الإشعاعي، إلى جانب أنه من الواضح أن استهداف بناء متحرك أمر محفوف بالمشكلات. من ناحية أخرى، صارت أغلب حالات سرطان عنق الرحم الآن تعالج إشعاعيًّا، إلى جانب العلاج الكيماوي في آن واحد، مع اللجوء إلى الجراحة في الحالات المستعصية، علاوةً على دور محدود لها في تقييم المرض من حيث انتشاره الموضعي.
من بين المرضى الذين ينتهي بهم الحال إلى سرطان متقدم، يأتي نصفهم تقريبًا إلى الطبيب من البداية وهم مصابون به بالفعل، ويبدأ النصف الآخر بمرض يبدو في الظاهر موضعيًّا لكنه يعود فيما بعد مُصاحَبًا بمشكلات أكثر انتشارًا. ومن بين المرضى الذين يتطور لديهم السرطان إلى حالة متقدمة (تُسمَّى عادةً نقيليَّة)، تصاب الغالبية بصفة أساسية بمرض عضال لا شفاء منه. وتكون هذه الحالات المتقدمة على شاكلة سرطان الرئة أو القولون أو الثدي أو البروستاتا أو الكبد في مرحلته المتقدمة، وهي أخطر الأنواع المهلكة من السرطان. أما القلة، فيصابون بأمراض قابلة للشفاء بالعلاج الكيماوي، مثل سرطان الخصية، أو الليمفوما، أو اللوكيميا أو بعض سرطانات الأطفال.
ويمكننا أن نرى من واقع هذا التقسيم أن غالبية المرضى الذين تماثلوا للشفاء من السرطان في القرن الحادي والعشرين قد عولجوا بأسلوبين ابتكِرا أصلًا في القرن التاسع عشر، وهما الجراحة والعلاج الإشعاعي. وبدأت التطورات الرئيسية على مستوى العلاج بالعقاقير — التي صارت تحتل الكثير من العناوين الرئيسية للأخبار — في منتصف القرن العشرين، ومعظمها يعمل على إطالة العمر المتوقع في الحالات المتقدمة، ولا يحقق شفاءً فعليًّا للمرضى. وأطباء الصحة العامة يعون هذه الحقيقة، غير أن الجمهور لا يدركها إدراكًا كاملًا. ونتيجة لهذا فإنه في البلدان الأكثر فقرًا، نحصل على أقصى تأثير على السرطان من اتباع أساليب العلاج الإشعاعي والجراحة الأساسية الجيدة. وأفضل مثال يصور لنا هذا المعدلات العالمية للبقاء على قيد الحياة لمرضى سرطان المستقيم، التي حققت أفضل نتائجها في كوبا المشهورة بنظام رعاية صحية جيد التنظيم، لكن مع قدرة محدودة للغاية في الحصول على العقاقير الحديثة باهظة التكلفة. وعندما تكون الموارد محدودة، يُفضَّل أن يكون التركيز في العلاج الكيماوي على أنواع نادرة من السرطان قابلة للشفاء به، مثل اللوكيميا لدى الأطفال وسرطان الخصية. ولما كانت هذه السرطانات تصيب في الغالب أصغر الأفراد سنًّا، فإن تأثير الإنفاق على العقاقير في هذا المجال على مدى سنوات العمر المتبقية يكون مرتفعًا بدرجة كبيرة مقارنةً بالإنفاق على عقاقير السرطان التي يحصل عليها كبار السن الذين يعيشون أيامهم الأخيرة. والعلاج بالعقاقير في الحالات المتقدمة التي تحدث في سن متأخرة يكون له تأثير أقل بكثير على معدلات الشفاء. وحتى إن كانت حالات الشفاء شائعة، فإن المرضى أنفسهم يكونون أكبر سنًّا، ومن ثم فإنهم على أي حال لا يتوقع امتداد العمر بهم طويلًا. وسوف نتناول هذا الموضوع بمزيد من التفصيل في الفصل الخامس.
(٦) الجراحة
(٧) العلاج الإشعاعي
العلاج الإشعاعي تقنية يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، ولا تزال تمضي في طريقها بثبات في القرن الحادي والعشرين. وضع رونتجن المشاهدات الأساسية التي شكلت أساس العلاج الإشعاعي الحديث عام ١٨٩٥ عندما لاحظ أن أشعة غير مرئية (لهذا أطلق عليها اسم أشعة إكس) نتجت عند إطلاق الإلكترونات نحو هدف ما في الفراغ، وكُشِف عنها من خلال قدرتها على تسويد فيلم فوتوغرافي. وسرعان ما أُدرِك أن أشعة إكس تنقل طاقة ما، وأن هذه الطاقة يمكن تركيزها للأغراض العلاجية والتصوير. وخلال بضعة أشهر فحسب عولج أوائل المرضى المصابين بسرطان الجلد، على نحو يمثل معدلًا مذهلًا للابتكار. وطُوِّرت تدريجيًّا تقنيتا التصوير والعلاج، وجرى تحسينهما على مدار القرن الماضي أو نحوه، ليشكلا الآن المكونين الرئيسيين للعلاج الحديث للسرطان. والحقيقة — كما ذكرنا من قبل — أن أكثر أنواع العلاج الحديث للسرطان فعالية لا تزال هي الجراحة والعلاج الإشعاعي، مع بقاء المكسب الإضافي من العلاج بالعقاقير فيما يتعلق بمعدلات الشفاء هامشيًّا نسبيًّا. في بلدان العالم المتقدم التي تتمتع بالثراء، من الواضح أنه يمكن تمويل العلاج بالعقاقير علاوة على هذين الفرعين الرئيسيين للعلاج. غير أنه في البلدان الفقيرة — حيث لا بد من اتخاذ خيارات صعبة — عدد قليل للغاية من العقاقير يحقق قيمة جيدة مقابل ثمنه مقارنةً بالجراحة والعلاج الإشعاعي.
عقب المشاهدات الأولى لآثار أشعة إكس — سواء المُولَّدة كهربائيًّا أو الناتجة عن استخدام النظائر المشعة — جرى تنقيح متوالٍ للتقنية. كانت التقنية في بادئ الأمر تقوم على أنابيب مفرغة وصفها رونتجن في القرن التاسع عشر، وتطلق هذه الأنابيب شعاعًا يمكن أن يخترق الأعضاء الداخلية للجسم، لكنها في الوقت نفسه ترسب جزءًا أكبر من الجرعة بالقرب من الجلد. وفي الخمسينيات، صارت هناك آلات أقوى بكثير، أُطلِق عليها أجهزة ميجا فولت. كانت هذه الآلات مبنية على النظير المشع التخليقي كوبالت-٦٠، وتفوق عليها الآن جهاز قائم على استخدام الكهرباء يسمى المعجل الخطي. استعمل هذا الجهاز صمام الماجنترون الذي ابْتُكِر أثناء الحرب العالمية الثانية لأجهزة الرادار. ويمكن استخدام الطاقة التي تخرج منه على شكل نبضات في «دفع» الإلكترونات نحو الهدف بطاقة أعلى كثيرًا وخصائص أفضل كثيرًا لعلاج الأورام المتوغلة في الجسم، كما لو كان شفرة محراث إلكتروني عالية التقنية.
ويمكن توجيه العلاج الإشعاعي الحديث بمنتهى الدقة عن طريق الجمع بين تقديم العلاج والتصوير المُفصَّل. وتظهر الآثار الجانبية للعلاج بطريقتين: في تكوينات مثل الجلد وبطانة الأمعاء والفم، يمكن تشبيه الآثار باللفح الشمسي الذي تتوقف شدته على الجرعة المتلقاة. وتعتمد التأثيرات التي يواجهها المريض على الموقع المعالج، وربما يكون من بينها الإسهال في حالة علاج الأمعاء الغليظة، أو قرح الفم وسقوط الشعر واحمرار الجلد المعالج وما إلى ذلك. وتوجد فئة ثانية من الآثار الجانبية يشعر بها المريض في البِنى الصماء كالرئة والكلى. ففي هذه الأعضاء، يحدث تأثير فوري بسيط، غير أنه في حالة تجاوز حدود الجرعة الحرجة، يبدأ النسيج المعرض للإشعاع في المعاناة من العجز عن أداء وظيفته على نحو متزايد. ومن ثم، فإن الجرعة التي توجه إلى الأعضاء المهمة المجاورة للورم المستهدف تعد قيدًا رئيسيًّا على تقديم العلاج الإشعاعي، فمن المقبول حدوث قدر معين من السمية من أجل علاج السرطان، غير أنه من الواضح أنه توجد نقطة فاصلة يكون بعدها الضرر أكبر من النفع. هذا ويوجد علاج إشعاعي محسَّن، مثل «العلاج الإشعاعي متباين الشدة»، وتستخدم فيه توزيعات بالغة التعقيد للجرعات تبدو كما لو كانت «توجه» الجرعة حول البِنى المهمة، وقد صارت هذه التقنية متاحة أكثر يومًا بعد يوم، غير أنها تزيد من التكاليف وتعقيد عملية تقديم العلاج. وثمة تطوير مرتبط بها، ألا وهو التصوير المُتضَمن في أجهزة العلاج، ويمكن استخدامه في تقديم علاج إشعاعي موجه بالصورة يتتبع فيه العلاج الحركات داخل الورم يومًا بيوم. والجمع بين التقنيتين يمكنه تحقيق زيادة القدرة على السيطرة على الورم (بضمان توجيه العلاج نحو هدفه) والإقلال في الوقت نفسه من الآثار الجانبية بتحاشي الأنسجة غير المصابة على نحو أفضل.
(٨) العلاج الهرموني
بالرغم من سيطرة العلاج الكيماوي في الوقت الراهن على علاج السرطان بالعقاقير، فإن العلاج بالعقاقير القائم على استخدام الهرمونات كان أول علاج دوائي ناجع للسرطان. ويعود تاريخ العلاج الهرموني للسرطان إلى أربعينيات القرن العشرين في أعقاب مشاهدات لتشارلز هوجنز — وهو إخصائي مسالك بولية أمريكي — على مرضى سرطان البروستاتا المتقدم.
كان المنطق الذي استند إليه رواد العلاج الهرموني أنه إذا كان النسيج «الأم» في حاجة إلى مستويات طبيعية من الهرمون، فإن الورم غير الطبيعي المشتق من هذا النسيج قد يحتفظ بهذه التبعية. وحققت تجارب الإخصاء في حالات سرطان البروستاتا المتقدم نتائج قوية؛ فحدث تحسن سريع وجوهري في الأعراض مثل الألم الناتج عن الترسبات السرطانية بالعظام. وتلت ذلك محاولة تقديم الهرمونات الأنثوية للمرضى، التي تكبت بالتأكيد الصفات الذكورية، وحقق ذلك أيضًا نتائج رائعة. لكن من المؤسف أن هذه الآثار على الغدد الصماء — بالرغم من كونها جوهرية — لا تدوم إلا لعام أو عامين، ثم يعود المرض من جديد. ولوحظت تأثيرات مشابهة على النساء المصابات بسرطان الثدي — قبل انقطاع الطمث — بعد استئصال المبيض لديهن. وشهدت العقود التالية ابتكار مجموعة متكاملة من العقاقير المعتمدة على الهرمونات لعلاج سرطاني البروستاتا والثدي تحديدًا. ومن بين هذه العقاقير، «التاموكسيفين» مضاد الإستروجين، ولعله المسئول عن إنقاذ حياة عدد أكبر من النساء مقارنةً بغيره من العقاقير الأخرى المقاومة للسرطان. ومنذ أكثر من نصف قرن وحتى وقتنا هذا، لا تزال تظهر في الطب السريري عقاقير جديدة تستهدف المسارات الهرمونية.
(٩) العلاج الكيماوي
إذا طُلِب من بعض الأفراد من عامة الناس ذكر اسم فئة العقاقير الأكثر ارتباطًا بعلاج السرطان، لأجابوا على الفور بأنه العلاج الكيماوي. ويغطي المصطلح نطاقًا واسعًا من المركبات المختلفة ذات الأصول المتنوعة، بدءًا من المضادات الحيوية مرورًا بالخلاصات النباتية وصولًا إلى المواد الكيميائية المُخلَّقة المعتمدة على الدي إن إيه. وجميعها تتدخل في آليات الانقسام الخلوي، ويؤدي هذا — نظرًا لأن كثيرًا من الأنسجة يكون بها خلايا في حالة انقسام — إلى آثار جانبية نمطية، مثل الشعور بالغثيان والقيء (من أسباب ذلك حدوث تلف ببطانة الأمعاء، وكذلك حدوث تأثير مباشر على المخ)، وسقوط الشعر (تلف جريبات الشعر)، وخطر التعرض للعدوى (تلف بعملية إنتاج كرات الدم البيضاء التي يحتاجها الجسم كوسيلة دفاعية ضد العدوى). وكلنا اعتدنا على صور المرضى ذوي الرءوس الصلعاء تمامًا الذين «يصارعون» مرض السرطان (إذا جاز لنا استخدام تعبيرات الصحافة الإثاريَّة). ومع أن هذا يحدث بالفعل أثناء العلاج الكيماوي، فالواقع أكثر تنوعًا من ذلك، فأنواع كثيرة من العلاج الكيماوي التي تُستخدَم مع المرضى الخارجيين (الذين لا يعالجون في المستشفيات) لا تحدث سوى قدر ضئيل من الغثيان أو سقوط الشعر. من الصعب الحيلولة دون سقوط الشعر، غير أنه ليس سمة موحدة تجمع بين كافة عقاقير العلاج الكيماوي. لقد صار في الإمكان إلى حد بعيد الحيلولة دون إصابة المريض بالغثيان والقيء، ما يسمح بتقديم عقاقير كانت تُعَد حتى الآن شديدة السمية، حتى للطاعنين في السن من المرضى. وهذا أمر مهم لأنه في كثير من الأحيان يُستخدَم العلاج الكيماوي من أجل تخفيف الأعراض، ومن ثم تكون جودة الحياة ذات أهمية قصوى. فلا تصبح إطالة عمر المريض ذات معنى لو لم يكن سيعيش حياة طيبة.
اعتمدت أولى عقاقير العلاج الكيماوي على مواد كيماوية مشتقة من غاز الخردل، الذي استخدم بكثرة في الحرب العالمية الأولى لإحداث تأثير بشع. فقد لوحظ أن الجنود الذين كانوا يتعرضون لتلك المركبات ممن نجوا من الموت أصيبوا بانخفاض في أعداد خلايا الدم البيضاء (وهي خلايا الدم المسئولة عن الدفاع عن الجسم أمام العدوى). ويوجد بالطبع سرطان خلايا الدم البيضاء، واسمه ابيضاض الدم (اللوكيميا). أجريت التجارب على مشتقات غاز الخردل — مثل الموستين — على مرضى كل من ابيضاض الدم وفئة أخرى مرتبطة به من السرطان تسمى ليمفوما. وتمتع المرضى الذين خضعوا لتلك التجارب لأول مرة بتخفيف حدة ما كانت فيما سبق تعد حالات ميئوسًا منها. ولما استخدمت هذه العقاقير كلٌّ على حدة، تبين للأسف أن هذا التخفيف كان مؤقتًا. لكن أعقبتها عقاقير أخرى، وتجارب أثبتت أن استعمال هذه العقاقير معًا يمكن أن يؤدي إلى شفاء مرضى اللوكيميا والليمفوما.
تبع ذلك موجة من عقاقير العلاج الكيماوي الجديدة، وفي السبعينيات والثمانينيات افتُرِض على نطاق واسع أن تلك العقاقير ستؤدي بدورها إلى ظهور علاجات شافية لمعظم حالات السرطان المتقدمة. وجاءت تلك العقاقير من مصادر مختلفة؛ فبرهنت الخلاصات النباتية (فينكريستين، ودوسيتاكسيل، وباكليتاكسيل)، والمعادن الثقيلة المركبة (سيسبلاتينيوم، وكاربوبلاتين)، والمضادات الحيوية (دوكسوروبيسين، وميتومايسين) على أنها مجالات استكشافية مثمرة تؤدي إلى برامج فحص معملية واسعة النطاق تسعى نحو اكتشاف كيماويات واعدة في نطاق شامل من المستخلصات النباتية والبكتيرية. وتمثلت منطقة استكشافية أخرى في المركبات المشتقة من مكونات الدي إن إيه أو غيره من لبنات بناء عملية الانقسام الخلوي، وأفضل مثال عليها «٥-فلورو-يوراسيل»، وهو أحد مكونات الآر إن إيه (انظر الفصل الثاني). فذرة الفلور الزائدة في الجزيء تسمح لهذا المركب بالتفاعل مع الدي إن إيه والآر إن إيه، لكن دون أن تُعالَج على نحو طبيعي؛ كما لو كانت مفتاح ربط جزيئي.
تلا ذلك نجاحات أخرى جديرة بالذكر في السبعينيات والثمانينيات، وخاصةً في حالات سرطان الخصية المتقدم الذي تحول من نوع مميت من السرطانات إلى حالة قابلة للشفاء إلى حد بعيد. وأفضل مثال يمكنه تصوير حجم ذلك النجاح حالة لانس أرمسترونج بطل سباق فرنسا للدراجات، الذي حاز على البطولة سبع مرات، وشُخِّصت حالته على أنها مرض شديد التوغل، شمل إصابة لحقت بالمخ. وبعد علاج كيماوي مكثف ناجح، فاز ببطولته الأولى، ثم أعقبها بستة انتصارات أخرى حطم بها الرقم القياسي. وشوهدت نجاحات مماثلة في مرض اللوكيميا ومجموعة متنوعة من سرطانات الأطفال. غير أنه للأسف برهنت السرطانات المميتة الرئيسية على أنها أكثر مقاومة للعلاج الكيماوي؛ فيتعذر الشفاء منها، مع أن معظم الأورام تستجيب بدرجة ما للعلاج الكيماوي. اقترح البعض أن المشكلة ربما تمثلت في تقديم جرعات كبيرة لكنها غير كافية من العلاج الكيماوي للمريض. لكن سلسلة من التجارب أجريت في التسعينيات أظهرت أنه حتى الجرعات المغالى فيها من العلاج الكيماوي بعدة مركبات مجتمعة معًا، بالإضافة إلى زرع نخاع العظام، عجزت عن تحقيق الشفاء من أنواع السرطان المميتة الرئيسية، مثل سرطان الثدي المتقدم.
أدى إدراك هذه الحقائق إلى تحول الاهتمام إلى جهة أخرى. فملحوظة أن المرض المتقدم — مع كونه غير قابل للشفاء — يستجيب لفترة ما للعلاج الكيماوي، دفعت الباحثين إلى اختبار العلاج الكيماوي في توقيت مبكر من المرض، مثلما فعلوا فيما مضى مع العلاج الهرموني. وكان من المعلوم أن كثيرًا من المرضى ممن لم يظهر عليهم مرض واضح أصيبوا مع ذلك بانتكاسات في أوقات لاحقة. وكان في ذلك إشارة إلى أنه لا بد من وجود مقادير بالغة الضآلة من السرطان تبقى دون أن تُكتشَف. وكان الفرض الجدلي أن استخدام العلاج الكيماوي مبكرًا ربما يحقق نجاحًا أفضل من الانتظار إلى أن تقع انتكاسة يمكن اكتشافها. وجاءت التجارب الأولى بنتائج مخيبة للآمال، غير أنه باسترجاع الأحداث نتبين أنها كانت شديدة الصغر على نحو يصعب معه اكتشاف فوائدها. وعندما جمعت نتائج التجارب معًا في حالة سرطان الثدي، تبين وجود فائدة من وراء إجراء العلاج الكيماوي المبكر؛ إذ إن النساء اللاتي تلقينه أصبن بانتكاسات في توقيت متأخر وعشن أعمارًا أطول مقارنة بمن تلقين العلاج الكيماوي متأخرًا كعلاج إنقاذي. ويطلق على هذا العلاج اسم العلاج المساعد، وهو يقوم على مبدأ أن المرض المسمى بالنقيليِّ المجهري ربما يكون قابلًا للقضاء عليه، في حين أنه ما إن يصبح المرض مرئيًّا في اختبار فحص حتى يصير غير قابل للشفاء. وتعجز أجهزة الفحص الحديثة، بصفة أساسية — بالرغم من شدة حساسيتها — عن اكتشاف الأورام التي يقل قطرها عن بضعة ملليمترات. ومن ثم، لا يمكننا التفرقة بين من شفوا بإجراء جراحة أو علاج إشعاعي ابتدائي ومن بدوا طبيعيين في عمليات الفحص، لكن في واقع الأمر كانت أجسادهم تحمل رواسب متبقية صغيرة من الأورام مقدرًا لها أن تحدث انتكاسة في المستقبل. وعملت الدراسات التي أجريت لاحقًا على تنقيح مجموعات العقاقير المستخدمة معًا، وأيضًا فئات السيدات اللاتي سيحصلن على أقصى فائدة ممكنة. وكانت المشكلة في العلاج المساعد أن كثيرًا من السيدات تتحسن حالاتهن كثيرًا بالخضوع للجراحة أو العلاج الإشعاعي فحسب، ومن ثم فإنهن لا يجنين أي نفع من وراء العلاج الكيماوي، سوى السمية والضرر المحتمل وقوعه. ويصبح هذا الخطر في أشد صوره عند اللاتي يحيط بهن أدنى خطر للانتكاسة المرضية، سواء نتيجة لأنهن يعانين حالة أقل شراسة، أو لوجود خطر كبير من أن يُتَوَفَّيْنَ لأسباب أخرى (مثل الطاعنات في السن).
انصب التركيز حديثًا أكثر على دور العلاج الكيماوي في التخفيف من حدة الأعراض. وربما بدا ذلك أشبه بالتناقض اللفظي؛ أي تقديم عقاقير سامة من أجل تخفيف المعاناة. لكن تحسين السيطرة على الأعراض، لا سيما باستخدام عقاقير تحول دون الشعور بالغثيان الشديد الذي كان يصاحب العلاج الكيماوي في الماضي، غيَّر قيمة هذه المركبات المستخدمة في تخفيف الأعراض. وتكون غالبًا المكاسب المتعلقة بالبقاء على قيد الحياة متواضعة نسبيًّا — عادةً بضعة أشهر — مما حدا بالباحثين إلى ابتكار وسائل لقياس جودة الحياة. ويتيح ذلك إجراء مقارنة بين العقاقير السامة التي تحقق منفعة، مثل تلك التي تخفف الآلام، والبدائل التي كثيرًا ما توصف بعبارة «أفضل رعاية داعمة»؛ أي المسكنات والعلاج الإشعاعي وما إلى ذلك.
زاد هذان الاتجاهان — أي الاستخدام المساعد والمخفف للأعراض — بشدة من تكاليف عقاقير السرطان في بلدان العالم المتقدم (انظر الفصل الخامس)؛ إذ إنه بالرغم من الضآلة النسبية للمكاسب التي تعود من ورائها، فأعداد المرضى الذين يمكنهم الاستفادة منها هائلة. وقد أدى ذلك إلى شيوع استخدام العلاج الكيماوي بصورة موسعة مع مرضى السرطان المسنين نسبيًّا.
(١٠) الأجسام المضادة وحيدة النسيلة
في السبعينيات من القرن العشرين ابتُكِرت تقنية تهدف إلى استغلال قدرة جهاز المناعة، وذلك بتصنيع أجسام مضادة تقاوم أهدافًا «اصطناعية» مثل الخلايا السرطانية. وأُطلِق على هذه الأجسام المضادة الموجهة والمصنعة اسم «الأجسام المضادة وحيدة النسيلة» — أي الأجسام المضادة المصنوعة من نسيلة واحدة من الخلايا — ويمكن جعلها تلتحم مع أي هدف نختاره تقريبًا. وعن طريق انتقاء الأهداف الموجودة على خلايا السرطان، يمكن استخدام هذه الجزيئات الطبيعية إما كوسيلة مساعدة للتصوير، وذلك بربطها بكيماويات ذات نشاط إشعاعي، أو استخدامها ببساطة كعلاج في حد ذاتها.
عندما ظهرت الأجسام المضادة وحيدة النسيلة لأول مرة، كان من المعتقد أنها الحل السحري الذي سيستأصل شأفة السرطان المتقدم؛ نظرًا لأنها مصنوعة حسب الغرض طبقًا لمواصفات كل ورم على حدة. إلا أن الواقع برهن للأسف على أن الأمر ليس بهذه الروعة. بيد أنه بعد مرور ٣٠ عامًا، بدأت الأجسام المضادة وحيدة النسيلة الآن تغزو العيادات بأعداد آخذة في الازدياد.
ولعل أشهر جسم مضاد وحيد النسيلة هو عقار تراستوزوماب، الذي يُشار إليه عادةً باسمه التجاري؛ هيرسيبتين. ويستهدف العقار بروتينًا يوجد على أسطح الخلايا السرطانية يعرف باسم «مستقبل عامل نمو البشرة البشري ٢»، وهو فرع من عائلة ما يسمى بمستقبلات عامل النمو. وأفضل سبيل لتصور هذه البروتينات أن نعتبرها بمنزلة مفاتيح تشغيل/إيقاف تخضع للتنظيم من البروتينات التي تدور في مجرى الدم (وفي حالتنا هذه تسمى هيريجيولين). يوجد في ثلث حالات سرطان الثدي تقريبًا نوع غير طبيعي من هذا المستقبل فوق أسطح الخلايا، ودوره الأساسي أن يجعل المفتاح في وضع «تشغيل» دائم. أورام الثدي موجبة مستقبل عامل نمو البشرة البشري ٢ تنمو أسرع وبصورة أكثر شراسة من الأورام سالبة هذا المستقبل. إذًا، بدا استهداف هذا المستقبل على سطح الخلية استراتيجية منطقية، وبدت الأجسام المضادة وحيدة النسيلة وسيلة جيدة لتحقيق هذا الهدف. وأجريت الدراسات المبدئية على السيدات المصابات بالأورام موجبة مستقبل عامل نمو البشرة البشري ٢، وأكدت نجاح هذا الأسلوب، ورُخِّص باستعماله عام ٢٠٠٢. ومع أن النتائج جاءت إيجابية؛ إذ شوهدت الأورام تنكمش، فلم تكن مذهلة بالقدر الذي كان العلماء يطمحون إليه. ومع ذلك، فإن الأمر استحق إجراء المزيد من التجارب، لكن هذه المرة باستخدام هيرسيبتين بالاشتراك مع العلاج الكيماوي في الأمراض المتقدمة. وجاءت نتائج هذه التجارب أكثر إدهاشًا؛ فظلت النساء اللاتي يتلقين هيرسيبتين على قيد الحياة فترات أطول بنسبة تقترب من ٥٠٪ ممن تلقين العلاج الكيماوي وحده.
برهنت المرحلة التالية من التطوير على أنها أكثر إثارة. فبعد أن اتضحت فائدة العقار في علاج مرض استعصى على الشفاء، كانت الخطوة التالية اختباره مع مرضى في مرحلة مبكرة من المرض يكون الشفاء فيها أكثر ترجيحًا، وهي استراتيجية أثبتت نجاحها من قبل في العلاجين الهرموني والكيماوي. وكانت التجارب التي أجريت على هيرسيبتين كعلاج مساعد بمنزلة نصر في مجال طب الأورام؛ فقد خفض خطر الانتكاس إلى النصف، وجعل من الممكن تحقيق الشفاء فعلًا لبعض النساء اللاتي كانت حالاتهن تعد فيما مضى ميئوسًا من شفائها. غير أنه كان هناك فخ مع ذلك؛ فمعظم النساء اللاتي اكتشف لديهن مبكرًا سرطان ثدي موجب مستقبل عامل نمو البشرة البشري ٢ كان من المتوقع لهن بالفعل تحسن حالاتهن بالخضوع للجراحة أو العلاج الإشعاعي أو الكيماوي فحسب. وإن تماثلت امرأة بالفعل للشفاء باستخدام هذه الأساليب العلاجية، فمن الواضح أنها لن تجني فائدة تذكر من وراء أي علاج إضافي (بل على العكس قد يلحق بها ضرر منه بالفعل؛ فهيرسيبتين يحمل خطر التسبب في الإصابة بمرض القلب).
على النقيض من ذلك، لا تزال بعض النساء يتوفين بالرغم من كل العلاجات الحالية، ومن ثم فإن منفعتهن هن أيضًا تكون ضئيلة نسبيًّا. وبين هاتين الفئتين من النساء، توجد فئة الفائزات حقًّا، وهن المتحولات من فئة المحكوم عليهن بالانتكاس إلى فئة من يوجد أمل في شفائهن. ومعنى ذلك أنه في ظل العلاج المساعد (الوقائي)، يكون العدد المطلوب علاجه حتى تستفيد امرأة واحدة من الفائزات الحقيقيات كبيرًا، ربما يكون عشرين مثلًا. ولما كانت تكلفة هيرسيبتين باهظة (حوالي ٣٠ ألف جنيه استرليني في العام)، فإن التكلفة الفعلية لكل امرأة تُنقذ تقدر بما يقرب من ٢٠ × ٣٠٠٠٠ = ٦٠٠٠٠٠ جنيه استرليني. فلا غرابة إذًا أنه عندما رُخِّص لاستعمال هذا الدواء كعلاج مساعد، تبعته عاصفة أخرى من الجدل المحتدم تدور حول هذا السؤال: ما القدر المعقول الذي يمكن إنفاقه كي ننقذ حياة شخص واحد؟
(١١) العلاجات الجزيئية الموجهة
أما الأسلوب الثاني للعلاج الموجه فيستهدف المسار المرتبط بالاضطراب المركزي، وأفضل مثال على هذا التحولُ الذي شهده مؤخرًا علاج سرطان الكلى. حتى عهد قريب، كان سرطان الكلى المتقدم بلا استثناء حالة غير قابلة للعلاج، ولم يكن هناك سوى دواءين فقط مرخص باستخدامهما هما «الإنترفيرون» و«الإنترلوكين-٢»، وكلاهما ذو فعالية محدودة للغاية. معظم سرطانات الكلى تحدث تلقائيًّا، بمعنى أنه لا يصاب أشخاص آخرون في الأسرة بنفس السرطان. ولوحظ منذ سنوات عديدة أنه في حالات نادرة أصيبت عائلات بالأورام ذاتها، وكانت الإصابة تحدث غالبًا في سن مبكرة للغاية، انظر القسم الذي يتحدث عن السرطان الوراثي في الفصل الثاني. ثمة متلازمة وراثية كان أول من تعرض لها بالوصف فون هيبل ولينداو؛ ولذا تحمل اسميهما. مرضى متلازمة «فون هيبل لينداو» يصابون بسرطانات كلوية متعددة في سن مبكرة كجزء من المرض، وعند فحصها تحت المجهر، وُجِد أن سرطانات هذه المتلازمة تشبه السرطانات غير الوراثية الأكثر شيوعًا منها بكثير، لهذا كان من المشكوك فيه أن عناصر الاضطرابات في جين فون هيبل لينداو ربما كانت موجودة أيضًا في السرطانات التلقائية، وتبين فعلًا أن هذا الأمر صحيح. لكن المشكلة لدى مرضى متلازمة فون هيبل لينداو هي أن بروتين فون هيبل لينداو «يفقد» وظيفته الطبيعية؛ ومن ثم، فإن استهداف هذا البروتين في حد ذاته لن يزيد المشكلة إلا سوءًا. وكشفت دراسة أجريت على مسار المتلازمة أنه نتيجة لضعف نشاط بروتين فون هيبل لينداو، صارت البروتينات التي كانت في الأحوال الطبيعية مكبوحة بفعل نشاط هذا البروتين، مفرطة النشاط، ومن بينها تلك البروتينات التي تدفع الخلايا إلى الانقسام، وأيضًا عائلة أخرى من الجزيئات التي تحفز عملية إنتاج أوعية دموية جديدة. وابتُكِرت عقاقير كان دورها استهداف أعضاء في هذا المسار، سواءٌ أعلى مسار بروتين فون هيبل لينداو مختل الوظيفة أو أدناه، ومن بينها ثلاثة علاجات جزيئية صغيرة، وهي سونيتينيب وسورافينيب وتيمسيروليمس، وجسم مضاد وحيد النسيلة اسمه بيفاسيزوماب.
نتج عن التجارب التي أجريت على هذه العقاقير ثورة في علاج سرطان الكلى المتقدم؛ فحصلت العقاقير الأربعة جمعيها على ترخيص باستخدامها منذ عام ٢٠٠٦، مع مجموعة أخرى كبيرة من العقاقير الإضافية في الطب السريري، غير أنه مثلما كان الحال مع اللوكيميا اللمفاوية المزمنة — مع أنه للمرة الأولى أمكن إحداث انكماش لأورام كبيرة الحجم حالتها مستفحلة — فالعقاقير لا تحقق الشفاء في معظم الحالات، ومقاومة العلاج تنشأ بمرور الوقت. وتركز التجارب الآن على العلاج المساعد، والتسلسل، والجمع بين أكثر من علاج، على أمل تحقيق مكاسب أكثر في إطالة فترة البقاء على قيد الحياة للمرضى.
وكما كان الحال مع الهيرسيبتين الذي أشرنا إليه من قبل، أثارت العقاقير جدلًا عنيفًا بسبب تكلفتها، فيحتاج المرضى إلى العلاج المتواصل، لا إلى فترة محدودة من العلاج، مثلما كان العرف المتبع في السابق مع علاجات أخرى كالعلاج الكيماوي. والعقاقير باهظة التكلفة، فهي تتكلف نحو ٢٥–٣٠ ألف جنيه استرليني سنويًّا، مع ما يستتبع ذلك من تباين في قدرة المرضى على الحصول عليها (انظر الفصل الخامس). لكن على عكس الهيرسيبتين وسرطان الثدي، كانت السلطات المختصة بالشراء في عدد من الدول — من بينها كندا وأستراليا واسكتلندا وإنجلترا — أكثر معارضة لتمويل العلاجات لمجموعة من المرضى الذكور معظمهم من المسنين مقارنةً برد فعلها في حالة سرطان الثدي تجاه جماعات الضغط النسائية صاحبة الصوت العالي.
(١٢) العقاقير المستخدمة في تخفيف الأعراض
أسهمت مجموعة من عقاقير الرعاية الداعمة — وإن كانت لا تعالج السرطان معالجة مباشرة — في حدوث تحسنات هائلة في علاج السرطان على مدى السنوات العشر إلى الخمس عشرة الأخيرة. وقد ذكرنا من قبل العقاقير المطورة المضادة للغثيان. ويرتبط أيضًا بأمان العلاج الكيماوي وتقديمه عوامل النمو، وتحديدًا، العامل المحفز لمستعمرات المحببات الذي يزيد أعداد كريات الدم البيضاء؛ مما يقلل من مخاطر الإصابة بالعدوى. ويوجد منتج ثانٍ مرتبط به اسمه العامل المحفز لمستعمرات المحببات (البلاعم)، الذي ابتُكِر أصلًا لذات الغرض، وتحول ليلعب دورًا مهمًّا للغاية في إطلاق الخلايا الجذعية التي تتكون منها خلايا الدم في الدورة الدموية. هذه الملحوظة، التي ربما تخفى على كثيرين، سمحت بحصاد الخلايا الجذعية قبل مباشرة العلاج الكيماوي عالي الجرعة المقصود منه تدمير نخاع العظم السليم. كان المرضى فيما مضى يحتاجون إلى زرع نخاع العظم لإنقاذهم من هذا العلاج، غير أنه تبين أن الخلايا الجذعية التي يجري جمعها تؤدي المهمة ذاتها، ولكن بسرعة أكبر وباستخدام إجراء حصاد أكثر سهولة قبل العلاج؛ ما يوسع من نطاق المرضى الملائمين لهذه العلاجات عالية الجرعة.
ثمة مجال آخر للبحوث الحديثة، وهو المركبات الواقية للعظام. كثير من السرطانات تنتشر في العظام ويكون لذلك عواقب مدمرة، من بينها الألم، والكسور، والشلل نتيجة لتلف العمود الفقري. وقد أوضحت الأبحاث أن مبالغة الجسم في رد الفعل تجاه السرطان أدى — فيما يعد تناقضًا — إلى ازدياد حجم الدمار به. والعقاقير التي ابتُكِرت في الأصل لعلاج هشاشة العظام تبين أنها تخفض من حجم هذا التلف الذاتي المصاحب، وكانت العقاقير المتاحة في البداية — مثل الكلودرونات — منخفضة القدرة نسبيًّا، غير أن العقاقير التي تلتها — مثل زوليدرونات وإيباندرونات — تفوقها فعالية بعدة مرات، ويمكنها التقليل جذريًّا من التلف الذي يلحق بعظام مرضى السرطان المتقدم. والأكثر عجبًا أنه في تجارب العلاج المساعد لدى المعرضات بدرجة كبيرة للإصابة بسرطان الثدي، ظهر أيضًا أن عقار زوليدرونات يقلص من المرض الذي يصيب الأنسجة الرخوة، وهذا يشير إلى أن هذه المركبات ربما تتصف أيضًا بخصائص مضادة مباشرة للسرطان.
(١٣) النتائج
إن التحسينات التي شهدها علاج السرطان خلال المائة عام الأخيرة هائلة، وأحدثت تحولًا في نتائج العلاج لملايين البشر في العالم. فعلاج السرطان في بدايات القرن الحادي والعشرين صار أكثر أمانًا وفعالية وأقل سمية مما كان الحال عليه منذ ٥٠ أو ١٠٠ عام مضت، ولا تزال الجراحة والعلاج الإشعاعي يخضعان لمزيد من التنقيح والتحسين، مع ابتكار تقنيات وصول للورم من أقل الفتحات مساحة وبدقة استهداف تتحسن يومًا بعد يوم، أيضًا لا تزال خدمات التحليل الباثولوجي والتصوير المساعدة تتحسن وتتيح باستمرار انتقاءً أفضل لخيارات العلاج في المستقبل. إن نطاق العقاقير في اتساع وفعاليتها آخذة في الازدياد سريعًا، وهذا من شأنه أن يحقق مزيدًا من التحسينات خلال الأعوام المقبلة، والمشكلة الرئيسية في كل هذا — كما سنرى في الفصل الخامس — هي التكلفة المتصاعدة، غير أن معالجة هذه القضية أفضل من ألا يكون أمامنا خيارات للعلاج على الإطلاق.