اقتصاديات رعاية مرضى السرطان
تناولت الفصول السابقة الطبيعة بالغة التعقيد التي تتصف بها رعاية مرضى السرطان حاليًّا، ومعدل التغير السريع في كل من التقنيات الطبية والعلاج بالعقاقير. والأساس الذي تقوم عليه هذه التغيرات هو الاستثمار الموسع في العلاجات الجديدة من جانب كل من الشركات المصنعة للعقاقير والأجهزة الطبية، حسبما أوضحنا في الفصل السابق. ومن الواضح أن العلاجات الجديدة يجب الدفع مقابلها، وتكلفتها بوجه عام أعلى من تكلفة التقنيات القديمة التي تحل محلها، غير أن لهذه القاعدة استثناءات؛ على سبيل المثال: العلاج الذي يحسِّن معدل الشفاء يمكنه تخفيض النفقات التالية في مسار العلاج التي تُنفَق على علاجات لاحقة، ومن ثم قد يؤدي إلى انخفاض نهائي في استخدام موارد الرعاية الصحية، ومن الواضح أن قياس هذه التغيرات المعتمد بعضها على بعض أمر معقد، ومن ثم تتركز الكثير من عمليات صنع القرار الاقتصادي في مجال الرعاية الصحية على التكلفة المباشرة لشراء التقنية الحديثة (وهي سهلة القياس) لا على التغيرات الثانوية التالية في مسار العلاج. وفي مجال رعاية مرضى السرطان، تكون هذه التكاليف مركزة على نحو أكبر قرب نهاية العمر، وتؤدي إلى معضلات محل نزاع في مسألة التمويل. ويتناول هذا الفصل في جزء منه كيفية تعامل نظم الرعاية الصحية المختلفة مع هذه المعضلات.
بالرغم من صحة كل ما سبق على مستوى التمويل الحكومي، تجتاح أخبار علاج السرطان الصحافة عندما يُحرَم شخص ما من الحصول على علاج جديد، ويُقدَّم الخبر عادةً تحت عنوان لا يختلف كثيرًا عن «بيروقراطي آخر يرفض تقديم علاج لمريض سينقذ حياته». هذا هو الدافع وراء ادعاءات الحزب الجمهوري الأمريكي بشأن لجان الموت التابعة لنظام الخدمات الصحية الوطنية (والحقيقة، بالطبع، هي أن المرضى الأمريكيين الذين لا يغطيهم أي برنامج رعاية صحية سوف يُحرَمون هم أيضًا من نفس العلاج على يد مجموعة أخرى من البيروقراطيين أو ربما مدير المصرف الذي يتعاملون معه). لماذا تقع هذه الأحداث في بعض أكثر الدول ثراءً في العالم؟ وما الاتجاهات المستقبلية المرجحة في التمويل والتكاليف؟
مثلما هو الحال مع معظم السلع، تتجه تكلفة الرعاية الطبية للارتفاع عامًا بعد عام، وهو ما يسمى بالتضخم. ويمكن قياس معدل التضخم الطبي، ويتبين بوجه عام أنه أعلى من معدل التضخم الاقتصادي الأساسي، وهذا مهم؛ لأن معناه أنه بدون خفض النفقات، ستستهلك الرعاية الصحية بمرور الوقت نسبة أكبر من الدخل القومي لتظل مواكبة للتقنيات الحديثة. ويتجلى ذلك بوضوح في الاقتصاد الأمريكي، حيث كان معدل التضخم الطبي عام ٢٠٠٨ ٦٫٩٪؛ أي ما يقرب من ضعف نسبة التضخم في باقي الاقتصاد. وتفيد التنبؤات الحالية أن هذا معناه أن يشهد الإنفاق الصحي الأمريكي ارتفاعًا من ١٧٪ من الدخل القومي عام ٢٠٠٨ إلى ٢٠٪ عام ٢٠١٧، وترجح بقوة التغيرات الهائلة التي طرأت على الاقتصاد العالمي منذ الأزمة المصرفية بقاء الحال على ما هو عليه، وتنطبق أرقام مشابهة على جميع الاقتصاديات الكبرى. لماذا إذًا ترتفع التكاليف على هذا النحو؟ عند تأسيس نظام الخدمات الصحية الوطنية بالمملكة المتحدة، تخيل «أنيورين بيفين» — أحد المؤسسين الرئيسيين له — أن التكاليف ستنخفض بمرور الوقت مع تحسن الأحوال الصحية، ويكمن السبب هنا في تكاليف ابتكار العلاجات الجديدة. فالتجربة اللازمة للحصول على ترخيص لأحد علاجات السرطان تتكلف عادةً حوالي ١٠٠ مليون جنيه استرليني. ومن ثم، تحتاج العقاقير الجديدة المُرخَّص باستخدامها لاستعادة ما تكلَّفته من مبالغ باهظة في تطويرها، علاوة على تكاليف جميع العقاقير التي فشلت التجارب عليها والتي لن تحقق أي عائدات. ويكون غالبًا عمر براءة الاختراع المتبقي عند حصول العقار على الترخيص عشر سنوات أو أقل؛ لأن العقاقير تتمتع بحماية براءات اختراعها قبل اكتمال عملية الترخيص بعدة سنوات؛ من هنا كان حجم تكلفة أي عقار جديد انعكاسًا للتكاليف التي تتحملها الشركات قبل حصولها على الترخيص، أما عملية التصنيع الفعلية، فمع أنها مكلفة، لا تمثل عادةً سوى نسبة ضئيلة من السعر لكل حبة من العقار. وعندما تنتهي مدة براءة اختراع العقار، تهبط عادةً تكلفته مع ظهور منافسة من العقاقير النوعية بنسبة تقترب من ٩٠ إلى ٩٥٪؛ مما يشكل انعكاسًا لهذا الأمر.
إذًا سعر أي عقار جديد يوضع ليسدد تكاليف التطوير الباهظة، ثم يدر ربحًا قبل انتهاء مدة ترخيص براءة الاختراع. وفي ظل العولمة، تتجه الأسعار نحو التماثل على مستوى العالم، وهذا يجعل من الصعب على الدول الفقيرة بوجه خاص تحمل هذه التكاليف، وسياسات التسعير التي تتبعها شركات الأدوية لا تُطرَح للمناقشة على المستوى العام، لكنها توضع بافتراض تحقيق أعلى دخل ممكن على مستوى العالم. في بعض الدول — مثل المملكة المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا — تكون هذه الأسعار أعلى مما يمكن لنظام الرعاية الصحية دفعه، ومن المفترض أن يعوض هذا الدخل الأعلى الذي يتحقق من خلال فرض سعر أعلى للدواء في النظم الصحية الأقل تقييدًا؛ على سبيل المثال: في فرنسا ما إن يُمنَح الترخيص لأحد العقاقير حتى يصبح في استطاعة الإخصائي المعني وصفه دون قيود مع عدم وجود حد أقصى مباشر للنفقات، ولهذا الأمر تأثير كبير على معدلات استهلاك الدواء والإنفاق الإجمالي، كما سنرى في هذا الفصل، لكن الاتجاهات المستمرة للتضخم الطبي وارتفاع تكاليف التطوير تمارس ضغطًا على الميزانيات في جميع الدول، وتجعل الحصول على العلاج مشكلة تتفاقم يومًا بعد يوم، وينطبق جدل مماثل على الأجهزة الطبية. انظر مثلًا تقنية الروبوت الجراحي الجديدة الموضحة في الفصل السابق.
أفضل مثال يصور لنا هذه العملية هو عقار هيرسيبتين (تراستوزوماب). تبين عام ٢٠٠٢ أن هذا الدواء يطيل فترة بقاء مريضات سرطان الثدي في مرحلته المتقدمة على قيد الحياة. ومنذ البداية، اكتسب هيرسيبتين شعبية هائلة، واشتهرت الطبيعة الحديثة التي اتصف بها العلاج سريعًا في أوساط مريضات سرطان الثدي، وهذا أدى إلى ارتفاع النداءات المطالبة بالاشتراك في التجارب، وبلغ الطلب على ذلك حدًّا جعل اشتراك المريضات المهتمات اللاتي تصلح حالاتهن للتجارب بالقرعة. وبعد حصول الدواء على ترخيص، أدى سعره المرتفع (حوالي ٣٠ ألف جنيه استرليني سنويًّا) إلى تقييد الحصول عليه في المملكة المتحدة، وبدأت قرعة من نوع آخر — وهي قرعة الرمز البريدي لتمويل السرطان في المملكة المتحدة — لفئة أخرى من السيدات، ونجحت حملة مدوية الأصداء شنتها النساء لاحقًا في إزالة القيود، غير أنها في الوقت نفسه شكلت سابقة استعانت بها الفئات الأخرى الساعية للحصول على العلاجات باهظة التكلفة التي لا تزال تقض مضاجع السلطات المسئولة عن الشراء، على الأخص في المملكة المتحدة.
أظهرت التجارب التي أجريت بعد ذلك عام ٢٠٠٦ على المرحلة المبكرة من المرض أن هذا العقار لو قُدِّم مبكرًا للسيدات المصابات بمرض عالي الخطورة بعد إجراء جراحة، فإنه يقلل من فرص عودة المرض بنسبة النصف تقريبًا مقارنةً بالعلاجات السابقة؛ ومن ثم مُدَّ ترخيص هيرسيبتين كي يشمل هذه الفئة المبكرة في العام ذاته، وللأسف لا يمكننا حاليًّا تحديد من سيصبن بانتكاسة بعد الجراحة أو العلاج الإشعاعي. ولما كانت معظم النساء في المرحلة المبكرة عالية الخطورة قد شفين بالفعل بالعلاج التقليدي، فقد ارتفعت بصورة هائلة الأعداد الصالحة لتلقي هذا العقار (صارت أربعة أمثال ما كانت عليه في المملكة المتحدة)، فكل المريضات المعرضات للخطر لا بد من علاجهن، وليس فقط المحتم إصابتهن بانتكاسة. وبعد حملة إعلامية شرسة شنتها السيدات المصابات بالمرض، تم توفير الدواء في هيئة الخدمات الصحية الوطنية لجميع المريضات المؤهلات لاستخدامه.
-
٣٠ ألف جنيه استرليني.
-
٣٠ ألف جنيه استرليني ناقص العلاج الذي يحل محله.
-
٣٠ ألف جنيه استرليني ناقص العلاج الذي يحل محله وأي مدخرات لاحقة في أي مجال آخر من مجالات الرعاية الداعمة.
لا توجد إجابة صحيحة عن هذا السؤال؛ فهي تعتمد على من سيسدد المال، ولأي غرض؛ الإجابة الأولى: هي التكلفة التي يتحملها المريض إذا لم يكن مؤمَّنًا عليه من نظام رعاية صحية، ويكون هذا هو الحال في بعض الأحيان في المملكة المتحدة، حيث تفرض هيئة الخدمات الصحية الوطنية قيودًا على العقاقير التي تشتريها. ويتمتع المعيار القديم للرعاية بالتغطية، لكن ليس العقار الجديد. يومًا بعد يوم، صارت هذه المشكلة تخص أيضًا المرضى المشتركين في نظم قائمة على التأمين حيث يقع العقار الزائد خارج نطاق الحزمة التعويضية التي يغطيها التأمين. والإجابة الثانية: هي السعر الذي تتحمله مستشفى تقدم الرعاية التخصصية حيث تكون ميزانية المستشفى المخصصة لكل مريض ثابتة (مثلما هو الحال في المستشفيات التابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية، وبعض نظم الرعاية المنظمة في الولايات المتحدة). أما الإجابة الثالثة: فهي السعر الذي تتحمله المنظمة الممولة لرعاية المريض في مجملها: وقد تتمثل في الدولة عبر كيانات مثل هيئة الخدمات الصحية الوطنية أو شركة تأمين. يطرح هذا إذًا تساؤلًا آخر عن ما يندرج تحديدًا ضمن التكاليف المصاحبة؛ على سبيل المثال: تكاليف الرعاية في أواخر أيام المريض ستكون متماثلة على الأرجح عندما يموت مريض. لكن إذا كانت مدة بقائه على قيد الحياة أطول، مثلما ورد في المثال، فإنها قد تقع ضمن عام مالي آخر فيما يتعلق بتكاليف الدواء، فإلى متى يلزم تأجيل احتساب التكاليف لتحتسب كمبالغ موفرة؟ ينطبق هذا بوجه خاص على العلاجات التي تزيد معدل الشفاء، التي قد تؤجل فيها هذه النفقات عدة سنوات. ومرة أخرى، لا توجد إجابة واحدة بسيطة عن هذه التساؤلات؛ فنظم الرعاية الصحية المختلفة تحل هذه المعضلات بأساليب متباينة. ويجدر بنا بحث المناهج التي يتبعها إخصائيو الصحة العامة وشركات التأمين عند اتخاذ هذه القرارات الخاصة بتمويل علاج ما من عدمه.
ثمة أسلوب يُستخدَم كثيرًا، وهو حساب التكلفة لكل عام من العمر المضاف الذي حققه العلاج الجديد، وينطبق أيضًا في كثير من الأحيان تصحيحًا لإجمالي جودة الحياة، والهدف هو إنتاج مقياس يعرف باسم «مقياس جودة سنوات الحياة المعدلة»؛ على سبيل المثال: العلاج الذي يطيل عمرك بمقدار عام واحد، لكن مع انخفاض بنسبة ٥٠٪ في الجودة، يكون مقياس جودة سنوات الحياة المعدلة له ٠٫٥، وقد يبدو هذا مقياسًا بالغ الدقة، وهو يتيح لمشتري خدمات نظم الرعاية الصحية المقارنة بين علاج دوائي يطيل العمر بمقدار ٣ شهور وعملية استعاضة لورك مثلًا تحسن جودة الحياة دون أي تأثير على العمر المتوقع. وفيما يتعلق بالعلاجات الراسخة، مثل الجراحة والعلاج الإشعاعي، يشفى المرضى في كثير من الأحيان، ومن ثم تتوزع هذه التكلفة على عدد كبير من سنوات الحياة المكتسبة؛ ومن ثم بالرغم من التكلفة الباهظة للعمليات الجراحية الكبيرة، فإن تكلفتها متدنية للغاية وفقًا لمقياس جودة سنوات الحياة المعدلة في أغلب الحالات، وعلى النقيض فإن العقاقير الجديدة التي تطيل العمر المتوقع بمقادير متواضعة نسبيًّا في المراحل الأخيرة من المرض تكون غالبًا تكلفتها/درجتها على مقياس جودة سنوات الحياة المعدلة عالية، ومن هنا تبدأ المشكلة، كما سنوضحها فيما يأتي.
إحدى المشكلات المباشرة المتعلقة بتعديل جودة الحياة واضحة تمامًا، ألا وهي كيف يمكننا تحديد مدى تأثر جودة حياة شخص ما؟ على سبيل المثال: يحيا السيد «س» حياة خاملة، ومتعته الرئيسية مشاهدة التليفزيون للترفيه؛ ومن ثم فإن أي علَّة تعوقه عن الجري لن تؤثر عليه إلا بقدر ضئيل للغاية. أما السيد «ص» فهو ممارس مواظب لثلاث رياضات، ويعتبر القدر نفسه من فقدان القدرة على الحركة أمرًا مسببًا لضيق بالغ له؛ لذا من الواضح أن أي تعديل لجودة الحياة يكون غير موضوعي، ويعتمد على من يتأثرون به. وبشكل أو بآخر، يجب الوصول إلى قيمة متوسطة وإضافتها إلى المعادلة.
توجد مشكلة ثانية، وهي كيفية قياس المكسب في البقاء على قيد الحياة. قد يبدو هذا أمرًا واضحًا تمامًا، لكن تجارب منح التراخيص تركز غالبًا على الوقت المُستغرَق حتى يسوء المرض (وهو ما يُطلَق عليه الوقت المُستغرَق للاستفحال. انظر الفصل الرابع)، وليس فترة البقاء على قيد الحياة إجمالًا؛ ومن ثم فإن علاج الإنقاذ التالي ربما يحسن النتائج لدى المرضى المنتمين للفرع المرجعي المبدئي من التجربة. وتحدد نقاط النهاية لهذه التجارب السلطات التنظيمية، مثل هيئة الغذاء والدواء الأمريكية والوكالة الأوروبية للأدوية، وهي التي تحدد إن كانت شركة ما ستُمنَح ترخيصًا بتسويق منتجها أم لا. مع ذلك، فإن إمكانية تسويق عقار ما لا تعني بالضرورة أن نظام الرعاية الصحية سيشتريه.
لإيضاح كيفية سير هذه العملية، سأتناول سريعًا التجارب التي أجريت حديثًا على عقار جديد يعالج سرطان الكلى المتقدم. في إحدى هذه التجارب، كانت حالة المرضى الذين حصلوا على عقار وهمي تتدهور بسرعة تبلغ ضعف من حصلوا على عقار جديد اسمه سورافينيب، وقررت اللجنة المستقلة لمراقبة البيانات المُشَكَّلة لهذه التجربة ضرورة إيقاف الدراسة لأسباب أخلاقية، وأن يحصل جميع المرضى — الذين حصلوا على العقار الوهمي ولا يزالون أحياءً — على هذا العقار الجديد. وعندما أُجري بعد ذلك تحليل لإجمالي فترات البقاء على قيد الحياة، تبيَّن أن المرضى الذين حصلوا في البداية على العقار الجديد عاشوا فترات أطول من أولئك الذين حصلوا على العقار الوهمي، غير أنه نتيجة لتأثير الإنقاذ الناتج عن الانتقال من عقار وهمي إلى عقار فعال، كانت ميزة النجاة التي حققها العقار الجديد أقل كثيرًا مما كان يمكن توقعه من التأثير على الوقت المُستغرَق للاستفحال؛ من ثم فإنه من المستحيل حساب فائدة عقار سورافينيب فيما يتعلق بالبقاء على قيد الحياة في حالة سرطان الكلى المتقدم؛ فهذه التجربة لا يمكن مطلقًا تكرارها بفئة من المرضى لا يقدم لها علاج، وذلك لأسباب أخلاقية. وهكذا فإن أي تقديرات للتكلفة وفق مقياس جودة سنوات الحياة المعدلة لهذا المرض تكون معيبة على نحو مزدوج؛ فالتأثير على جودة الحياة أمر غير موضوعي، والمكسب الحقيقي للبقاء على قيد الحياة غير معلوم. هذا الغموض المزدوج أصاب عملية صنع القرار في المملكة المتحدة بالشلل فيما يتعلق بسرطان الكلى من عام ٢٠٠٦ إلى ٢٠٠٩.
كان أول من اتبع أسلوب صنع القرار بناءً على فترة البقاء على قيد الحياة المعدلة جودتها على نطاق واسع هيئة بالمملكة المتحدة تحمل اسم «المعهد القومي للصحة والتميز السريري»، ويشتهر عادةً باسم «نايس» (وهو اختصار الحروف الأولى لاسمه بالإنجليزية). يسعى هذا المعهد لتقديم المشورة لقطاع الخدمات الصحية بشأن أنواع العلاج التي عليه أن يشتريها نيابة عن المرضى وتلك التي لا تمثل قيمة جيدة مقابل ما يُدفَع فيها من مال ويجب عدم تمويل شرائها على نحو متكرر. ولا يضع المعهد في الحسبان العلاجات غير الحاصلة على ترخيص أو التي لا تزال في طور التجريب. وحذت بعض الدول الأوروبية حذو المملكة المتحدة باتباعها مناهج مماثلة، لكن حتى وقتنا هذا ينأى الأسلوب الأمريكي الأكثر اعتمادًا على السوق الحرة عن مثل هذا التوجه المركزي، ويستغرق المعهد غالبًا فترات تصل إلى شهور — وربما أعوام — من تاريخ الترخيص المبدئي لتقديم رأيه في عقار ما. في المملكة المتحدة، ينقسم تمويل الخدمات الصحية الوطنية بين المشترين ومقدمي الخدمة، وفي الوقت الحالي يُطلَق على المشترين اسم «أمانات الرعاية الأولية»، ومهمتها اتخاذ القرارات نفسها (إما بشراء علاج معين أو لا) على أساس محلي. وفي وقت كتابة هذه السطور — أي عام ٢٠١١ — بدأ الإعداد لنقل دور المشتري هذا إلى أطباء الأسرة (الممارسين العموميين) بموجب الإصلاحات المزمع إجراؤها بالخدمات الصحية الوطنية. وتؤدي أمانات الرعاية الأولية الحالية هذا الدور بدرجات متفاوتة من الكفاءة والدقة، وتقدم غالبًا ببساطة أرخص الخيارات إلى أن تضطر إلى تقديم خيار أكثر تكلفة بموجب توجيه لاحق من معهد نايس، ويؤدي هذا بدوره إلى قرعة الرمز البريدي بالمملكة المتحدة (سيئة السمعة)؛ فنظرًا لأن أمانات الرعاية الأولية موزعة جغرافيًّا، فإن الحصول على أي علاج من خلال الخدمات الصحية الوطنية يتحدد عن طريق عنوان المريض وعملية صنع القرار من جانب أمانات الرعاية الأولية المحلية. وفي عام ٢٠٠٨، أدى ذلك إلى الوصول إلى أعلى معدل إنفاق لأمانات الرعاية الأولية؛ فخصصت نحو ١٥ ألف جنيه استرليني للمريض الواحد المصاب بالسرطان ويلقى رعاية له مقارنةً بحوالي ٥ آلاف جنيه استرليني لأقل معدل إنفاق. في عيادتي الخاصة، يتمتع المرضى أصحاب رمز بيرمينجهام البريدي (وهي منطقة عالية الإنفاق) بسهولة الحصول على أحدث عقاقير سرطان الكلى مثلًا، وعلى العكس تنفق معظم المقاطعات المحيطة مبالغ منخفضة نسبيًّا لشراء عقاقير السرطان، والحصول على العقاقير نفسها مقيد بشدة. وعندما يتحدث المرضى بعضهم مع بعض بحرية في غرفة الانتظار، يمكن بسهولة تخيل ما يشعرون به من إحباط وغضب. وقد أجرينا مراجعة لفترات البقاء على قيد الحياة عن طريق الرمز البريدي لمرضانا المصابين بسرطان الكلى المتقدم، وتبين أن فترات بقاء المرضى المنتمين لمناطق الدخول المنخفضة على قيد الحياة بلغت في المتوسط نحو ٧ إلى ٨ شهور، مقارنةً بحوالي عامين لأولئك المنتمين إلى مناطق مرتفعة الدخل كمنطقة بيرمينجهام، وهذا اختلاف واضح للغاية وجدير بالاهتمام. بالإضافة إلى ذلك، فإن المرضى المحرومين من الحصول على العقاقير باهظة الثمن كانت معدلات زياراتهم للمستشفى نحو ثلاثة أضعاف غيرهم نتيجة لارتفاع معدلات مضاعفات المرض الناجمة عن سرطان لم يُعالَج لديهم. واستمر هذا الوضع ثلاث سنوات اعتبارًا من عام ٢٠٠٦ (عندما رُخِّصت لأول مرة عقاقير سرطان الكلى الحديثة) حتى أوائل عام ٢٠٠٩، عندما أوصى معهد نايس أخيرًا بتوفير واحد من تلك العقاقير، وهو سونيتينيب، لجميع مرضى سرطان الكلى (وإن ظل الحصول على غيره من عقاقير سرطان الكلى المرخص باستخدامها حديثًا مقيدًا بشدة). من الواضح أن أمانات الرعاية الأولية التي لا تمول هذه العقاقير ستجادل بأنها استخدمت المال لتحقيق فائدة أكبر لمجموعة مختلفة من المرضى. لكنني لا أعلم — مع ذلك — بوجود أي دليل قوي على وقوع نتائج أسوأ لدى الفئات الأخرى من مرضى بيرمينجهام مقارنةً بالمرضى في المقاطعة المجاورة نتيجة لنقص التمويل؛ لهذا فإن النظام المطبق حاليًّا في المملكة المتحدة يصدمني لما يتصف به من بيروقراطية بطيئة لا داعي لها، واعتماده على معلومات ناقصة في كثير من الأحيان. فمن يتخذون القرارات — زاعمين أنهم يتخذونها نيابة عن الجمهور — ليسوا بأي حال خاضعين لمحاسبة الجمهور على قراراتهم — فهم ليسوا منتخبين مثلًا — وفي الغالب لن يدافعوا عن هذه القرارات أمامهم. من ناحية أخرى، في عصر ترتفع فيه التكاليف، ويكبر السكان في العمر، وتقل الميزانيات، ينبغي اتخاذ قرار ما، ومن ثم ربما تصبح جهات مثل معهد نايس أكثر انتشارًا على مستوى العالم في المستقبل.
إن الترتيبات الجديدة المقترحة على مستوى المملكة المتحدة فيما يتعلق بالمشتريات ستعني أن فئة واحدة، وهم الممارسون العموميون، هي من ستؤدي دور المشتري ومزود الخدمة في آن واحد، وتوجد فئة أخرى، وهي قطاع الرعاية المتخصصة في المستشفيات، تكون معنية فقط بتقديم الخدمة. وستعني هذه الترتيبات أيضًا أن اتحادات من الممارسين العموميين سيكون لها مصلحة مالية مكتسبة في إبقاء المرضى خارج المستشفيات، وهو ما قد يكون — أو لا يكون — أمرًا جيدًا. على الجانب الآخر، سيكون عليهم أن يبرروا لمرضاهم — على نحو لا تتبعه الأمانات الحالية — سبب رفضهم لتمويل علاجات بعينها، حيث إنهم لا مناص سيفعلون. ولا يزال في علم الغيب إن كانت إمكانية خفض النفقات الإدارية سوف تترجم — حسبما تأمل الحكومة — إلى رعاية أفضل أم لا، فليس من الواضح لي مباشرةً سبب اعتبار الممارسين العموميين خير من يتخذ القرار بشأن خيارات رعاية الإخصائيين.
يبدو أن الاتجاهات المستقبلية في الإنفاق تنطوي على تحديات أيضًا. يوجد حاليًّا ٧٧ عقارًا حاصلًا على ترخيص باستخدامه في المملكة المتحدة لعلاج السرطان (هذا الرقم لا يشمل عقاقير الرعاية الداعمة)؛ حوالي ٢٥ عقارًا من هذه العقاقير حصلت على ترخيص في الفترة ما بين عامي ١٩٩٥ و٢٠٠٥، ويوجد ما يُقدَّر بخمسين عقارًا تسعى للحصول على الموافقة خلال الفترة بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠١٢. من الواضح أنه لن تنجح كل هذه العقاقير في تجاوز المرحلة الأخيرة. هذا فضلًا عن أن كثيرًا منها لن يحقق سوى مكاسب بسيطة للغاية مقارنةً بخيارات العلاج البديل، لكن بعض هذه العقاقير — وربما الكثير منها — سيحقق مكاسب إضافية كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، سيكون هناك اتجاه مستمر للعقاقير الحديثة باهظة التكلفة الموجودة بالفعل بأن تنتقل إلى الحالات المبكرة من المرض وأسواق أكبر حسبما وضح لنا مثال هيرسيبتين في سرطان الثدي. كل هذا دون شك سيفرض مزيدًا من الضغط المالي الشديد على جميع اقتصاديات الصحة، ويوجد اتجاه مثير في المؤتمرات الدولية التي أحضرها نحو مناقشة هذه النقاط. حتى عهد قريب، لم يحظَ هذا الموضوع بالاهتمام في المملكة المتحدة إلا للضعف النسبي الذي تتسم به في إمكانية الحصول على العقاقير الحديثة. ويومًا بعد يوم، بدأ الجميع — بما في ذلك المتحدثون الأمريكيون الذين كانوا فيما مضى على ما يبدو ليس لديهم ميزانيات صحية غير محدودة يستندون إليها — يناقشون مسألة القدرة على شراء العلاجات الجديدة. وقد طرحت الحزمة الإصلاحية للرعاية الصحية التي قدمها باراك أوباما أيضًا القضية نفسها بقوة على جدول العمل السياسي الرسمي في الولايات المتحدة.
توجد بضعة اتجاهات في استطاعتها أن تخفف الضغط؛ أولها: أن العقاقير الأقدم عهدًا عندما تخرج من نطاق براءة اختراعها يهبط سعرها عادةً هبوطًا حادًّا، غالبًا بنسبة تصل إلى ٩٥٪. ثانيًا: إذا كان التحسن في النتيجة كبيرًا بما يكفي، فقد تحدث وفورات معوضة في تكاليف صحية أخرى، مع أن الإنفاق يأتي الآن، في حين تأتي الوفورات لاحقًا وربما يصعب اقتفاء أثرها (بل ربما تعود في النهاية لمصلحة مقدم آخر للخدمة). ثالثًا: ربما تسمح لنا مؤشرات تنبؤ أفضل بسلوك المرض بتوجيه علاجاتنا الباهظة نحو مَن يُرجَّح تحقيقهم أقصى استفادة من ورائها؛ على سبيل المثال: إذا علمنا مَن مِن مريضات سرطان الثدي يمكن أن يتحقق لهن الشفاء بالجراحة وحدها (وهن الأغلبية)، فسيمكننا أن نوفر نسبة هائلة من تكاليف عقاقير العلاج المساعد. والأبحاث التي تُجرَى على هذه المؤشرات الحيوية التنبئية واحدة من أكثر الجوانب إثارة في موضوع السرطان في الوقت الحالي لهذا السبب. يمكن أن تفيد أيضًا الأبحاث التي تُجرَى على مناهج التجارب السريرية الحديثة في خفض الفترات الزمنية اللازمة للتطوير، ومن ثم خفض تكلفة العقاقير.
(١) النتائج
لا تزال كيفية تطور هذه العوامل خلال السنوات القادمة في علم الغيب، ومن المحتمل أن تبرز حلول مختلفة بجميع أنحاء العالم. فمن المحتمل أن تشهد الدول في أوروبا مبدأ التغطية العامة للرعاية العصرية يتعثر يومًا بعد يوم، ومن المحتمل أن تنتشر الصورة الحالية السائدة في المملكة المتحدة على نطاق أوسع، حيث يتخذ معهد «نايس» القرار حول إمكانية شراء الدواء، باعتبارها نموذجًا لصنع القرار، بالرغم من المشكلات التي يواجهها المعهد على المستوى الإداري. يطرح إذًا هذا الأمر مسألة مرتبطة به، وهي مشكلة التمويل المتجدد، وهي بالفعل قضية سياسية ساخنة في المملكة المتحدة. وقد يصير التأمين الخاص الهادف لتجديد توفير الدولة للعلاج هو العرف المتبع أيضًا؛ إذ إن تكلفته أقل كثيرًا من السياسات التي تهدف إلى إيجاد بديل لتوفير الدولة للعلاج. وفي الولايات المتحدة لا تزال القضية الرئيسية للتغطية الجزئية تفرض نفسها، فحتى فيما يتعلق بمن لديهم تغطية تأمينية، أشك في أننا سوف نشهد بعض المساعي نحو الحد من الإنفاق على معظم علاجات السرطان الأكثر تكلفة. وخارج نطاق الاقتصاديات الغربية الكبرى، من المحتمل أن نرى ارتفاعًا في معدل الإصابة بالسرطان مع ارتفاع طول العمر المتوقع في مواكبة للنمو الاقتصادي. وكما رأينا في هذا الفصل والفصل السابق، فإن أفضل علاجين للسرطان من ناحية القيمة هما الجراحة والعلاج الإشعاعي، ومن المحتمل أن نشهد نموًّا في هاتين الخدمتين في الاقتصاديات النامية. فالمكسب الإضافي من العقاقير ضئيل نسبيًّا؛ لذا من المحتمل ألا يمكن الحصول إلا على العقاقير الأقدم عهدًا والأرخص سعرًا، مع اقتصار العلاجات الأغلى سعرًا على أقلية صغيرة من المرضى في هذه الدول.