لقاء الكائنات الفضائية
يستكشف الخيال العلمي دومًا حدود الهوية وطبيعة الاختلاف، ويقدَّم المفهوم الأخير مرارًا وتكرارًا عن طريق نقلٍ شبهِ مجازيٍّ للكائن الفضائي إلى بلاد وكواكب أخرى، حسب استراتيجية مواجهة تشجِّع القُرَّاء على إعادة النظر في تصوراتهم عن ذواتهم إثر مواجهتهم مع الآخر؛ أي مع كائنات نادرًا ما تَعْرض ثقافتهم بدافع من الاهتمام الخالص بها، بل من أجل تسليط الضوء على علامات الاختلاف.
يمكن تفسير مفهوم الكائن الفضائي في الخيال العلمي عن طريق ثلاثة معانٍ متداخلة؛ فقد يُشير إلى مخلوقات مختلفة اختلافًا مذهلًا، تنتمي في بعض الأحيان إلى كواكب أخرى، وقد يُشير إلى الاغتراب الاجتماعي مثل التناقض الطبقي الكامل بين العمال الذين يعيشون في أدنى المستويات وبين طالبي المتعة الغارقين في البذخ في رواية إتش جي ويلز «آلة الزمن» (١٨٩٥)، أو بين النخبة الإدارية والعمال المستنزَفين تمامًا في فيلم «المدينة الكبرى» (مِتروبوليس). أو قد يشير كذلك إلى نوع السرد ذاته، الذي كان غالبًا ما يُقدَّم إلى القارئ حتى بداية القرن العشرين في إطار شبه تحريري. وقد يحتوي كتاب واحد على جميع تلك الخصائص، كما في رواية الكاتب الأمريكي بيرتون دبليو دونر «آخر أيام الجمهورية» (١٨٨٠)، التي تحوِّل استخدام العمالة الصينية المهاجرة إلى مؤامرة. وعن طريق عكس الثقة في «المصير الجلي» المُستمَد من العناية الإلهية، يُسقِط دونر دافع السيطرة على الصينيين، الذين يستولون تدريجيًّا على الولايات المتحدة الأمريكية؛ مما يؤدي في النهاية إلى محو اسمها من الخريطة.
يوحي مصطلح «كائن فضائي» في حد ذاته بالغيرية والاختلاف؛ فدائمًا ما تُصوَّر الكائنات الفضائية في الخيال العلمي بطبيعة الحال عن طريق الإشارة إلى مجموعات بشرية، أو أنواع حيوانية، أو آلات مألوفة. وتقدِّم رواية إدجار رايس بوروز «أميرة المريخ» (١٩١٢) استخدامَين مبكِّرين لمصطلح «كائن فضائي»؛ فعندما يهرب بطل الرواية — كابتن جون كارتر — الذي يُحارب مع الجيش الكونفدرالي من هجوم قبائل الأباتشي في أريزونا، ينتقل على نحو غامض إلى المريخ. وعلى الكوكب الأحمر، يلاحظ عادات عِرْق أخضر من أشباه البشر، ويحدِّق في «حضانة الأطفال الخاصة بالكائنات الفضائية» لديهم؛ وهي نوع من الأعشاش ينمو داخلها الرُّضَّع المريخيون. فيُشير مصطلح «كائن فضائي» ها هنا إلى اختلاف هذه الممارسة عن الممارسة البشرية؛ إذ لا وجود للوالِدَيْن لدى العِرْق الأخضر. أما الاستخدام الثاني للمصطلح فيختلف إلى حدٍّ ما؛ إذ يحظى كارتر باستحسان إحدى الأعراق المريخية، رغم أن أحد قادتهم يُعبِّر له عن دهشته قائلًا: «أنت كائن فضائي» لكن في الوقت نفسه زعيم. إن قدرة المريخيين على التحدث — بل واستخدام المصطلح لوصف كارتر — يعكس معناه ليشير إلى المصدر البشري؛ بعبارة أخرى، قد يعبِّر مفهوم «الكائنات الفضائية» عن علاقة تبديلية تعتمد على السياق والمنظور؛ فخلال الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين، أصبح مصطلح «كائن فضائي» يرتبط أكثر فأكثر بالمخلوقات التي لا تعيش على كوكب الأرض، لكن يجب علينا تذكُّر أن لذلك جذورًا سابقة في النظرية العرقية وسياسات القرن التاسع عشر؛ فقد مَنَحَتِ الولايات المتحدة الأمريكية للعدائية نحو الآخَر شكلًا رسميًّا عبر قانون إبعاد الصينيين (١٨٨٢) وقانون إبعاد الأناركيين (١٩٠١).
في هذه الفترة نفسها، كان أشباه البشر على المريخ — الاحتمالية المفضَّلة مع بداية القرن التاسع عشر — يُوصَفون عادةً بعبارات تتفق مع الترتيب الهرمي العرقي في هذه الفترة؛ ففي رواية بيرسي جريج «عبر دائرة البروج» (١٨٨٠)، تدور الأحداث حول اكتشاف بشر قصيري القامة على كوكب المريخ يُشبِهون العِرْق الآري مثل السويديين أو الألمان. أما جوستافوس دبليو بوب، فيضع نظامًا لونيًّا مناسبًا لسكان المريخ في روايته «رحلة إلى المريخ» (١٨٩٤)؛ إذ ينقسمون إلى أعراق حمراء وصفراء وزرقاء. وإذا عدنا إلى بوروز، فسنجد أن سلسلة قصص بارسوم التي ألَّفها تُقدِّم على الأرجح أشهَر وصف مبكر للحياة على المريخ. إن أول ما يراه جون كارتر في رواية «أميرة المريخ» هي مخلوقات غريبة الشكل تخرج من بيض، لها رءوس كبيرة وأطراف ضامرة، وبينما يحدِّق في تلك المخلوقات، تندفع مجموعة من المحاربين ويحملونه معهم. وبذلك يتحرك مقياس الكائنات الفضائية المتدرج ناحية البشر؛ لأنه على الرغم من امتلاك الرجال الخضر لطرفَيْن زائدين فإن حضارتهم تُشبه من بعيدٍ حضارةَ الأمريكيين الأصليين وفقًا للتصورات السائدة في هذا الزمن. أعدَّ بوروز أول رواياته عن المريخ كي تُصوِّر «جنسًا علميًّا مريخيًّا مسيطرًا» يشبه البشر، مستخدمًا المريخ كموقع خيالي حيث يستطيع حشد مخلوقات قريبة من البشر أو بعيدة عنهم. أما المخلوقات التي رآها كارتر أولًا، فهي جزء من الخلفية العجيبة للكوكب، في حين تشبه الصراعات بين الشعب الأخضر والأحمر الصراعات الأرضية بين الشعوب «المتقدمة» و«البدائية» حسب مصطلحات عصره.
أضاف بوروز جنسًا آخر إلى هذا الكوكب في رواية «آلهة المريخ» (١٩١٨)، وهو «شعب النبات» الذي يضم أناسًا بعَيْن واحدة، وبدون شعر، يقع فَمُهُم في راحة يدهم، وعلاوة على ذلك تتدلَّى نسخة مصغَّرة من هذا الكائن من إبطه. وكما في الكتاب الأول، تأتي صورة المريخ الأبشع في البداية، بينما تبدو جميع المخلوقات التي تَظهَر لاحقًا غريبة نسبيًّا أكثر من كونها بشعة. فتُشِير القِرَدة البيضاء الضخمة إلى مرحلة تطورية سابقة، أما «الرجال الحمر» — الذين يتمتعون في الحقيقة ببشرة في لون النحاس — فيُشيرون إلى النظام اللوني التقليدي في القرن التاسع عشر الذي استخدمه الأمريكيون الأصليون. وأخيرًا، يأتي «القراصنة السود»، وهم عِرْق المريخ «النقي»، رغم كونه «بدائيًّا»، والأرستقراطي بين باقي الأعراق. يمثل القراصنة السود ظاهريًّا تجسيدًا جمعيًّا لشخصية الهمجي النبيل، ويختلفون في اللون فحسب عن الشعب الذي انضم كارتر إليه. وفي مشهد قد يبدو غريبًا على سكان الجنوب الأمريكي، يضطر كارتر إلى الاعتراف بأن لونهم يُضيف إلى جمالهم. وتوحي التلميحات النصية التي يقدِّمها لنا بوروز في روايته بأننا نكتشف أشياء ما بين التشابهات والاختلافات الأرضية، في خضم تفاعلنا مع كائناته الفضائية التي تؤسِّس أفعالها نمطًا متواترًا من الوقوع في الأسْر والهرب، وهو ما أصبح السمة المميزة لقصص بوروز.
تناولنا حتى الآن شخصيات شبيهة بالإنسان، لكن الكائنات الفضائية قد تنتمي إلى أنواع مختلفة تمامًا عن الإنسان، كما نجد في رواية إتش جي ويلز «أول رجال على سطح القمر» (١٩٠١). فأول مخلوق ينتمي إلى شعب سيلينايت يراه مسافرَا ويلز رجلًا على شكل نملة؛ «حشرة معقَّدة» داخل غلاف حامٍ للجسد مزوَّد ﺑ «عينين بارزتين» و«قرون» على رأسه. لم يستطع المسافران الاتفاق على ما إذا كان نوعًا من البشر أم لا؛ نظرًا لأنه مخلوق هجين، يُشبه جسديًّا نملة ضخمة، لكنه ذكي ومتقدِّم تكنولوجيًّا كما سيُدركان عندما يَقَعان في الأسْر. يتمكن بطلا الرواية من الهرب، لكن واحدًا منهما فحسب يستطيع العودة إلى الأرض، وبذلك يحقق ويلز توازنًا دقيقًا بين عدم الإفراط في التركيز على مظهر شعب سيلينايت وبين تصوير نظامهم الاجتماعي. وعادةً ما تُغفل قصص الخيال العلمي التي تنشرها المطبوعات الرخيصة هذه الدقةَ؛ حيث يشيع استخدام الوحوش التي لها عيون حشرات. وقد تحوَّل هذا التعبير إلى تعبير شائع، يشير عادةً إلى مخلوقات خطرة من أنواع أخرى أو أنواع غامضة تتصف بالعدائية أو تشتهي الشخصيات النسائية المنحوسة التي يدفعها سوء حظِّها إلى مقابلتها. وقد لعبت رسومات فرانك آر بول — رسَّام الخيال العلمي الغزير الإنتاج — دَوْرها على أغلفة تلك المجلات، التي نرى مثالًا واضحًا عليها في الشكل رقم ٤؛ حيث يفر بشر متقزِّمون أمام مخلوق متوحِّش متعدِّد الأطراف، لا يمكن التمييز بين رأسه وجذعه.
تَطرح رواية ستانلي واينباوم «أوديسا المريخ» (١٩٣٤) نمطًا جديدًا للكائنات الفضائية؛ حيث يبدو الكائن مختلفًا عن البشر وشبيهًا بهم في الوقت ذاته؛ ففي أول بعثة تُرسَل إلى المريخ، يقابل المسافرون كائنات شبيهة بالإنسان بالإضافة إلى «نعامة غريبة الخلقة». تقدِّم الرواية هذا الكائن (النعامة) عن طريق التأكيد على اختلافه ثم تُقلِّل غرابة مظهره تدريجيًّا حتى يصبح انتماؤه إلى النوع نفسه الذي ينتمي إليه البشر أمرًا ممكنًا. وفي النهاية، ندرك أنه ليس طائرًا فعليًّا بل مجرد مخلوق ذي جسم كروي وعنق طويل. وأهم من ذلك هي علامات الذكاء الواضحة التي يُبديها، فهو قادر على فهم الرسوم البيانية الرياضية ويتعلَّم الإنجليزية تدريجيًّا. وهكذا يُطلَق عليه اسم «تويل» ويصبح رفيقًا للبشر يستعرض معهم معالم المريخ، وكلما زاد إضفاء السمت البشري عليه، قلَّ التعليق على مظهره.
غزو الكائنات الفضائية
في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، تحوَّلت الوحوش البدائية في المطبوعات الرخيصة إلى مجموعة كاملة من المخلوقات التي يُعرَض نشاطها من منظور الغزو والتهديد. عادةً ما تَطرَح قصص غزو الكائنات الفضائية قضية واحدة بارزة؛ ألَا وهي تحقيق الانتصار أو الرضوخ للإخضاع. لكن براعتها تكمن غالبًا في الاستراتيجيات المستخدمة لتأجيل لحظة الكشف عن المخلوقات الفضائية؛ إذ لا بد من رؤيتها أولًا والتعرُّف عليها قبل محاولة مقاومتها. تتداخل تلك القصص دائمًا مع الأدب القوطي فيما يتعلق باستحضار تلك التهديدات المتنوعة التي تواجه البشر.
أحد النماذج البريطانية هو المسلسل التليفزيوني «تجربة كواترماس» (١٩٥٥)، الذي عَرَض التواصل مع الكائنات الفضائية في صورة عدوى. وتدور أحداثه حول تحطُّم صاروخ في منطقة ويمبلدون كومون يحمل رائد فضاء وحيدًا مُصابًا بعدوى فيروس امتصاصي. يُعاني كارون — رائد الفضاء — من صدمة عصبية ويواجه صعوبة كبيرة في تذكُّر ما حدث؛ الأمر الذي يَظَلُّ لغزًا. ثم تتوالى سلسلة من المشاهد، تبدأ بمشهد العثور على «نوع من الهلام» داخل الصاروخ، ثم مشهدِ يدٍ رمادية غير بشرية تعكس بداية تعرُّض كارون لطفرة؛ الأمر الذي يبلغ ذروته مع تحوُّله إلى كائن كامل يتجسَّد في كنيسة ويستمنستر التي تشهد تدميره في النهاية. يعكس المسلسل الثاني وكذلك فيلم «كواترماس ٢» (١٩٥٧) تركيزًا أكبر على فكرة الغزو مقارنةً بالمسلسل الأول؛ إذ تدور الأحداث حول الْتِقاط الرادار لأجسام غامضة تتساقط على الأرض، وعند فحص بعضها، يتضح أنها أوعية فارغة؛ على الأرجح حاملات من نوعٍ ما. وبينما يفحص كواترماس — العالِم المسئول — المنطقةَ التي سقطت فيها تلك الأجسام، يصادف منشأة صناعية غامضة، بَنَتْها الحكومة على ما يبدو، ولكنها محظورة على الزُّوَّار باعتبارها من الأسرار العُلْيا. يتذكر المؤلِّف نايجل نيل لاحقًا أنه كان يستهدف ها هنا المخاوف السائدة في منتصف عَقْد الخمسينيات من البيروقراطية الحكومية والمؤسسات السرية. وكما حدث في المسلسل الأول، يتزايد التشويق مع قدوم أخبار عن مرض غريب يصيب القاطنين بالقرب من المنشأة، التي يُلقِّب السكان المحليون حُرَّاسَها ﺑ «الموتى الأحياء» بسبب مَظهَرهم المُقنَّع الشبيه بالحشرات. ويتضح في النهاية أن هذه المنشأة تُنتِج طعامًا اصطناعيًّا للكائنات التي هبطت من السماء، والتي يُطاردها كواترماس وصولًا إلى الكويكب الذي جاءت منه ويدمِّرها. وقد حمل العنوان الأمريكي للفيلم اسمًا معبِّرًا وذا مغزًى، هو «عدوٌّ من الفضاء».
لكن أقوى قصص الغزو الفضائي البريطانية في الخمسينيات هي التي كتبها جون ويندام، الذي كان يتبع استراتيجية دمج مواضيع الخيال العلمي التي يؤلفها ضمن التفاصيل العرضية في الحياة اليومية؛ ففي رواية «يوم التريفيد» (١٩٥١) يتعرض الجنس البشري لخطرين متزامنين؛ أحدهما من الفضاء الخارجي، والآخر عضوي. نشأت نباتات التريفيد عبر تجربة بيولوجية أُجريَت في الاتحاد السوفييتي، ثم سقطت بذورها فوق بريطانيا في حادث طائرة على ما يبدو. وليس من قَبِيل المصادفة أن المخاوف السائدة في تلك الفترة قد انعكست في أخبار تتحدث عن إلْقاء أقمار صناعية لأسلحة بيولوجية على بريطانيا. أمَّا «الهجوم» الثاني؛ فيأتي من شُهُب خضراء تُطلِقها النجوم فتُصيب كلَّ مَنْ كانوا يُشاهِدونها بالعَمَى. وهكذا أُصيبتِ الأمة كلها بالعجز وأُزيحت من قمة هرم الأنواع؛ ومن ثمَّ أصبحت عُرْضة لهجوم نباتات التريفيد التي تتقدَّم جموعها في الجزء الثاني من الرواية.
كان الكاتب برايان ألديس قد اتهم ويندام برسم مَشاهد ﻟ «كوارث تبعث على الراحة»، لكن هذا الاتهام لا ينصف أسلوب ويندام المخفَّف، والذي يهدف قطعًا في جزء منه إلى تجنُّب الأحداث الميلودرامية المميِّزة لقصص أوبرا الفضاء؛ ففي رواية ويندام يفسِّر الراوي كِلَا الهجومين عن طريق الرجوع إلى أحداث سابقة ليكشف تواطؤ البريطانيين؛ مما يُضفي طابعًا قاتمًا على حكايته التي تعجُّ بإشارات متعددة إلى الموت والنهايات. وتتكرر فكرة الغزو في رواية «صحوة الكراكن» (١٩٥٣)، لكن هذه المرة على يد كائنات فضائية هبطت من السماء إلى المحيط. وفي محاولة لقتْل بعضها، يفجِّر البريطانيون قنبلة نووية تُحدِث تأثيرًا عكسيًّا يؤدي إلى إحياء تلك الكائنات؛ أي إن غزو الكائنات البحرية يرجع مباشرةً إلى فشل القنبلة النووية البريطانية.
تظل «عقلية» التريفيد أو الكائنات البحرية مجهولة لنا، إلا أنه في رواية «غرباء قرية ميدويتش» (١٩٥٧) نجد غزوًا شبه بشري لقرية تمثل وسط إنجلترا. تبدأ الرواية بأنباء عن جسم طائر غير معروف يحوم فوق القرية، تليها فترة من فقدان الذاكرة يمر بها السكان تُصبح أثناءها كل امرأة في سِنِّ الإنجاب حاملًا. يتشابه جميع المواليد تشابهًا غريبًا، ويحملون ملامح مركَّبة متطابقة، تدفع الراوي إلى وصفهم على نحو موجز ﺑ «الغرباء»، الذين لا يُشبِهون أيَّ عِرْق آخَر. تحتوي الرواية على لحظة فريدة في أسلوبها، عندما توضح إحدى الشخصيات النمط الأمريكي لقصص الغزو كي تحدد الاختلافات بينها وبين القصص البريطانية، مؤكِّدةً على سرعة الأحداث والنهاية المؤجَّلة التي تقع في اللحظة الأخيرة.
لكن نمط أفلام الغزو الخارجي الأمريكية في الخمسينيات يتضمن تعقيدًا يزيد بعض الشيء عما تشير إليه الشخصية التي قدَّمها ويندام؛ ففي المعتاد، يتحطم جسمٌ ما — يظنه البعض خطأً نيزكًا — بالقرب من مدينة صغيرة، وتَستخدم الكائنات القابعة داخله موقعَ التحطُّم (سواء كان منجمًا قديمًا، أو حفرة رمال، أو موقعًا آخَر) كقاعدة ينطلقون منها للسيطرة على البشر. قد يتحقق ذلك عبر الإحلال (كما في فيلم «تزوجتُ وحشًا من الفضاء الخارجي» (آي ماريد إيه مونستر فروم أوتر سبيس) ١٩٥٨)، أو العدوى (مثل فيلم «آكلو العقول» (ذا برين إيترز) ١٩٥٨) أو الإخضاع. وفي فيلم «غُزاة من المريخ» (إنفيدرز فروم مارس ١٩٥٣)، يُزرَع في أعناق الضحايا طُعمٌ صغير يستخدمه مَن يوجِّهونهم بهدف تخريب المنشآت العسكرية القريبة. وفي النهاية لا يدرك أحد ما يحدث سوى ولد صغير، ويسهب الفيلم في استخدام لقطات الأحداث المتصاعدة من منظوره. وقد يُعرَض الخطر عرضًا مباشرًا للغاية في فيلم «الكتلة اللزجة» (ذا بلوب) ١٩٥٨، الذي تدور أحداثه حول كائن حي متنامٍ يشبه الأميبا يمتص ضحاياه البشريين ببساطة، أو قد يُعرض على نحو مفاجئ كما في فيلم «أتى من الفضاء الخارجي» (إت كمز فروم أوتر سبيس) (الذي يعتمد على نصٍّ كَتَبَه راي برادبري، وعُرِض عام ١٩٥٣). يتبع الفيلم نمط أفلام الغزو؛ حيث تمتص فقاعة ضخمة متحركة السكَّانَ المحليين في مدينة بولاية أريزونا، ثم يتضح لاحقًا رغم ذلك أن الكائنات الفضائية غير خطرة، إنما أتَتْ لإصلاح سفينتها الفضائية. في معظم الحالات، تهبط المخلوقات الفضائية بالقرب من مدينة صغيرة، يعكس مصيرها ضمنًا مصير الأمة جمعاء.
في رواية روبرت هاينلاين «سادة الدُّمى» (١٩٥١)، يتجلَّى البُعْد القومي المؤثِّر في الأحداث منذ لحظة البداية؛ إذ تدور أحداث الرواية عام ٢٠٠٧ عندما تهبط سفينة فضاء غامضة بالقرب من مدينة جرينيل بولاية أيوا. حتى هذه اللحظةِ، لا تختلف الرواية عن قصص الأطباق الطائرة التقليدية، لكن هذا الرأي لا يُعير انتباهًا إلى دور الراوي: سام؛ فهو يعمل في هيئة حكومية سرية تحت إمرة شخص يُطلَق عليه ببساطة اسم «العجوز»، لكنه يتمتع بأهمية كبيرة ويستطيع الاتصال مباشرةً بالرئيس؛ ممَّا ينبِّهنا إلى أن ما يحدث ليس أمرًا عاديًّا. وكما يحدث في أفلام الغزو، تنقطع الاتصالات المحلية، ثم تتسرب أنباء عن تبدُّل في السلوك. وبالإضافة إلى ذلك، يقدم سام معلومات عن السياق التاريخي لمشاهدات الأطباق الطائرة التي ترجع إلى أربعينيات القرن العشرين — إذ حدثت أول مشاهدة معلنة لطبق طائر بالقرب من واشنطن عام ١٩٤٧ — وعن حرب نووية وقعت بالفعل بين الولايات المتحدة وروسيا. تُضخِّم فكرة الحرب وفكرة الخطر القومي المتلازمتان أحداث الرواية منذ اللحظة الأولى لبدايتها؛ إذ يتضح بعد ذلك أن الكائنات الفضائية عبارة عن مخلوقات متكاثرة تشبه البزاقات، تلصق نفسها في ظهور ضحاياها وتتحكم بهم منذ تلك اللحظة. يجمع هاينلاين مخاوف الاستحواذ القديمة مع مشاعر التقزُّز والخطر السياسي في تلك المخلوقات التي تسيطر كذلك على سام لفترة قصيرة، يُختزَل أثناءها إلى آلة، ويصبح أداة سلبية لمتحكم مجهول يرشده إلى كيفية تكوين معارف و«تأمين» أحد المباني. ينجح هذا المصطلح العسكري في التعبير عما يعتبر فعليًّا تدميرًا للولايات المتحدة الأمريكية من الداخل. يذكر سام الإيحاء التنويمي، مقارنًا إياه بما حدث له، وقد نُشِرت الرواية في الوقت نفسه لورود الأنباء الأولى عن حالات غسل الدماغ من الحرب الكورية. إذا كانت البزاقات قد بدأت تشبه المخاوف السائدة من الاختراق الشيوعي، فإن هاينلاين يُقيم مقارنات واضحة مع الاتحاد السوفييتي عندما يتسع نطاق الأحداث ليشمل شتَّى أنحاء الأمة، وعندما أطلق على البزاقات اسمًا غير ملائم وهو «الجبابرة» رغم حجمها. يُثبت القتالُ العسكري عدمَ جدواه مع تلك الكائنات؛ ومن ثمَّ يُنشَر فيروس عبر بزاقات مصابة به؛ مما يؤدي في النهاية إلى إنقاذ الأمة.
لكن أشهر فيلم غزو من الكائنات الفضائية في ذلك العقد — «غزو خاطفي الأجساد» (إنفيجن أوف ذا بادي سناتشرز) ١٩٥٦، المأخوذ عن رواية جاك فيني «خاطفو الأجساد» الصادرة عام ١٩٥٥ — لم يتبع هذا النمط على الإطلاق. ورغم أن للفيلم إنتاجًا منخفض الميزانية، فإنه يعرض تصويرًا مؤثرًا للتغيرات الحادثة في بلدة صغيرة بولاية كاليفورنيا بعدما بدأت قرون نباتات غامضة في إنتاج نُسَخ بشرية طبق الأصل من البشر الأصليين تحل محلهم. وكما هو الحال في الأفلام المتشابهة لهذه الحقبة، تقل أهمية وسيلة الغزو (وهي بذور تنساب عبر الفضاء) بمراحل عن نتيجتها؛ ألا وهي التباعد التدريجي بين الراوي — مايلز بينيل، طبيب البلدة — والأشخاص الذين يعرفهم منذ سنوات. وتُعَدُّ قرون النباتات عنصر الاضطراب والخلل؛ إذ تُنتج كائنات «فارغة» شبه بشرية تَتخذ فيما بعد شكل سكان المدينة بالضبط. وبمجرد أنْ تحدث عملية التبديل، يصبح من الصعب للغاية إدراك اختلافها عن الشخصية التي تحاكيها. في هذا السياق، يعكس الفيلم تناقضًا إيجابيًّا صارخًا مع غيره من قصص الغزو الأخرى في هذه الفترة؛ حيث عادةً ما تُلاحظ صفات الكائن الفضائي في تحويله لضحاياه إلى موتى أحياء. ويعرض الفيلم تحوُّل الشخصيات ذات الأدوار الرئيسية في إطار عملية تبثُّ في نفس مايلز خوفًا ارتيابيًّا من ألَّا يتمكَّن من التعرف على أي شخص بعد ذلك. وفي الرواية الأصلية التي كتبها جاك فيني، يتخذ إيقاع انكشاف هذه العملية شكلًا دراميًّا تصاعديًّا تدريجيًّا، بينما في الفيلم أضاف المخرج دون سيجل إطارًا يعكس خطورة الأوضاع منذ البداية عندما يُودَع مايلز في عنبر الطوارئ بالمستشفى المحلي. وبذلك يكمن الاختلاف في الاكتشاف التدريجي للأزمة في الرواية، وفي عرضها وإثباتها فورًا في الفيلم.
كانت خطةُ منتِج الفيلم والتر واجنر المبدئية هي بدءَ الفيلم على نحو يُعيد إلى الأذهان البرنامج الإذاعي «حرب العوالم» الذي أُذِيع عام ١٩٣٨؛ فكان مزمعًا أن يروي أورسون ويلز بصوته الأحداث التي وقعت في البلدة، مستخدمًا عبارات مثل «نحن لا نعيش في عالم طبيعي»، وكأنه يُهيِّئ الجمهور لتقبُّل الأحداث الخارقة للطبيعة. لكن عند تصوير الفيلم، أُلغيت هذه الخطة؛ ربما لأنها عرضت البُعد الخيالي العلمي للأحداث بوضوح زائد. بدلًا من ذلك، يعرض الفيلم الانعزال القاسي لمايلز وحبيبته بيكي بينما تسيطر الكائنات على الشرطة ومركز الهاتف المحلي، ويبلغ الانعزال ذروته عندما يبدأ باقي سكَّان المدينة في مطاردتهما بالقرب من نهاية الفيلم. يعكس الإطار المضاف للفيلم دور مايلز من طبيب إلى مريض؛ مما يوحي حتى المشهد الأخير باحتمال كون الأحداث هلوسة. وعندما يؤكِّد حادث سيارة رواية مايلز، ينتهي الفيلم باستدعاء المسئولين بالمستشفى للمثول أمام المباحث الفيدرالية. وفي كل إعادة إنتاج لاحقة للفيلم، يتغير موقع الأحداث؛ ففي نسخة عام ١٩٧٨ تدور الأحداث في سان فرانسيسكو، وتبدأ بحالة اغتراب عن المدينة حتى قبل بدء قرون النباتات في ممارسة تأثيرها، أما نسخة عام ١٩٩٣ «خاطفو الأجساد» (بادي سناتشرز) فتستخدم قاعدة عسكرية في ولاية ألاباما، بينما يعرض فيلم «الغزو» (ذا إنفيجن) ٢٠٠٧، وصولَ الكائنات الفضائية إلى الأرض على متن مكوك فضاء ثم نَشْرَها وباءً من تحولات الحمض النووي. وما زالت الآراء تتباين حول ما تمثله قرون النباتات الأصلية؛ فالبعض يرى أنها تعبير مشفَّر عن الخوف من الشيوعية، التي تكرر شيطنتها في هذه الفترة باعتبارها تولِّد طاعة عمياء للسلطة، بينما نظر آخرون إلى القصة على أنها حكاية رمزية تتناول الامتثال الاجتماعي عمومًا.
تتكرر مقارنة الغزو الفضائي بالمرض، وكأن شكل الحياة الجديد يفسد أو يصيب عائله البشري بالعدوى بطريقة أو بأخرى. قدَّم ويليام بوروز — الذي تَستخدم رواياتُه العديدَ من مجازات الخيال العلمي — روايةً عظيمةً تضيف أسطورة جديدة إلى عصر الفضاء؛ حيث تحمل اللغة ذاتها فيروسًا «يصيب جميع السكان بالعدوى ويحوِّلهم إلى نُسَخ طبق الأصل منَّا» على حدِّ وصف المتحدث بلسان هذه القوة غير البشرية. ووفقًا لهذا السيناريو، يصبح كل فرد حاملًا محتمَلًا لهذا الفيروس القادم من الفضاء الخارجي وتغدو وسيلة تفشِّي العدوى — الكلمات — هي في حد ذاتها حاملة للفيروس. ويعبر ذلك حتمًا عن أقصى درجات جنون الارتياب؛ حيث تصبح وسيلة فحص الفيروس ومواجهته في حد ذاتها مصابة بالفعل بالعدوى.
وعلى النقيض من كائنات بوروز الفضائية — غير المحسوسة، العديمة الشكل — يجمع فيلم «كائن فضائي» (إليان) للمخرج ريدلي سكوت (١٩٧٩) العديدَ من المواضيع المتكررة في هذا المجال، رغم إضافته تحولًا جديدًا عبر إسناد الدور الرئيسي الفعَّال إلى شخصية نسائية، تُدعَى ريبلي، لعبت دورها سيجوني ويفر. تدور أحداث الفيلم حول سفينة الفضاء التجارية «نوسترومو» التي تصادف مَركبة فضاء مهجورة تَهِيم شاردةً في الفضاء. وعندما يذهب أحد أفراد الطاقم لاستكشاف المَركبة، يجد حجرة مليئة بالبيض، تنفتح إحداها ويندفع منها كائن حي يلتصق بوجهه. وطوال أحداث الفيلم، يُعرَض شكل الحياة الفضائية في إطار أحشاءٍ داخلية، وكأن الكائن الفضائي كائنٌ حي ذو أحشاء، وفي أحد مشاهد الذروة يندفع مخلوق من صدر شخصية كين في محاكاة ساخرة لترتيب عملية الولادة، يُقتل فيها العائل البشري. فيهرب الكائن الفضائي بعد ذلك إلى سفينة «نوسترومو» وتتصاعد أحداث الفيلم لتخلق حالة قوية من رهاب الأماكن المغلقة مع محاولة الطاقم تتبع أثره. وقدَّم سكوت أيضًا فكرة حبكة فرعية للكائن الفضائي عندما كشف أن أحد أفراد الطاقم، وهو رجل آلي (أندرويد)، يحمل أوامر من «الشركة» (التي لا يذكر اسمها أبدًا) تقضي بإحضار الكائن إلى كوكبه الأصلي. كذلك يعرض سكوت الكائن في أغلب الأحيان عبر لقطات جزئية أو لمحات وجيزة، مبقيًا شكله الكامل لغزًا حتى مرحلة متأخرة من الفيلم. وكما هو الحال في قصص الكائنات الفضائية التقليدية، يصبح البقاء على قيد الحياة قضيةً قمَّةً في الأهمية؛ فبينما اعتزم سكوت في البداية قتل شخصية ريبلي، أصرت شركة الإنتاج على نجاتها وقتل الكائن. لاقى الفيلم استحسانًا كبيرًا عند عرضه وأُنتِج منه ثلاثة أجزاء: «كائنات فضائية» (إليانز) ١٩٨٣، وهو فيلم حركة ومغامرات تدور أحداثه على الكوكب الأصلي للكائنات الفضائية، و«كائن فضائي ٣» (إليان ثري) ١٩٩٢، الذي يحكي عن إحضار بيضة الكائن الفضائي دون قصد إلى كوكب الأرض في سفينة فضاء تتحطم، وعن اكتشاف ريبلي وجود كائن فضائي داخلها، و«انبعاث الكائنات الفضائية» (إليان ريزيرِّكشن) ١٩٩٧، الذي تدور أحداثه في المستقبل حيث يُعِدُّ الجيش الأمريكي برنامجًا للاستنساخ يبدأ بِريبلي.
مع نشر رواية هاينلاين «سادة الدمى»، ترسَّخ الموضوعان الرئيسيان المتلازمان في الخيال العلمي، وهما الأطباق الطائرة والزوار غير الأرضيين، رغم أن تعبير «الطبق الطائر» لم يُبتدع إلَّا مع حلول عام ١٩٥٢. أصبح حادثُ التحطم المزعوم لطبق طائر عام ١٩٤٧ بالقرب من مدينة روزويل بولاية نيومكسيكو — الذي تلاه تشريح لكائن فضائي — خرافةً شعبية، وهو ما يرجع جزئيًّا إلى تستُّر الجيش الأمريكي سريعًا على الحادث. ولم تتمكن رواية وايتلي ستريبر «ماجيستك» (١٩٨٩) — التي تتخذ شكل التحقيق الصحفي — من إثبات الحدث في النهاية. وشهدت حقبة الخمسينيات انتشارًا لزيارات الكائنات الفضائية، التي تجيء عادةً على متن الأطباق الطائرة؛ ففي فيلم «يوم توقفت الأرض» (ذا داي ذي إيرث ستود ستيل) ١٩٥١، يزور كائنٌ فضائيٌّ — يتطابق من جميع النواحي مع الكائن البشري المعاصِر باستثناء ملابسه الغريبة وتطوره التكنولوجي — كوكبَ الأرض كي يحذِّر العلماء من توسيع نطاق العنف البشري إلى الفضاء؛ إذ سيُضطرون عندئذٍ إلى مواجهة روبوتات لا تقُهَر. تحذِّر هذه الحكاية ذات المغزى من التصعيد العسكري أثناء الحرب الباردة. وفي الواقع عَرَض فيلمُ «الأرض ضد الأطباق الطائرة» (إيرث فيرسيس فلاينج سوسرز) ١٩٥٦، ذلك التصعيدَ عند هبوط طبق طائر في موقع قاعدة عسكرية أمريكية، يليه تبادل لإطلاق النيران سرعان ما يتطور إلى غزو شامل من قِبَل الكائنات الفضائية. اعتمد هذا الفيلم على كتاب عن الأطباق الطائرة من تأليف دونالد كيهو، وهو ملَّاح بحري كان ينشر قصص خيال علمي في المطبوعات الرخيصة طوال سنوات.
أحيا ستيفن سبيلبيرج هذا الموضوع المتكرر في فيلمه «لقاءات قريبة من النوع الثالث» (كلوز إنكاونترز أوف ذا ثيرد كايند) ١٩٧٧، مستخدِمًا العديد من الأطباق الطائرة المذهلة وعارِضًا الكائنات الفضائية في هيئة أشباه بشر أقصر قامة. وهكذا، لا تبدو تلك الكائنات خطيرة، لا سيما بعد التواصل معها باستخدام المؤثرات الضوئية والجمل الموسيقية اللحنية وإشارات اليد. يضع عنوان الفيلم أحداثه في المرحلة الثالثة من مراحل لقاء الكائنات الفضائية؛ ألَا وهي: الرؤية البصرية، ثم تعقب الآثار، وأخيرًا التواصل. إن تقسيم هذه العملية إلى مراحل يوضح مدى تطور هذا الموضوع المتكرر منذ رواية موري لينستر القصيرة «الاتصال الأول»، الصادرة عام ١٩٤٥، والتي تدور أحداثها حول سفينتَي فضاء تلتقيان في الفضاء لكنهما تقعان في مأزق من الشك المتبادل، وهو رد فعل انتقده الروائي السوفييتي إيفان إفريموف المتخصص في قصص الخيال العلمي.
كائنات فضائية ودودة
يمكن ملاحظة علامات تحوُّل الكائن الفضائي بعيدًا عن نطاق الخطر في فيلم «يوم توقفت الأرض» (١٩٥١)، حيث يأتي كائن وحيد أشبه بالبشر برفقة روبوت في بعثة ودية؛ أو في رواية آرثر سي كلارك «نهاية الطفولة» (١٩٥٣)، حيث تتولى كائنات فضائية مسالِمة تُدعَى «الأسياد» أمر البشرية. وفي السياق نفسه تنبذ سلسلة قصص «الشعب» للكاتِبة زينا هيندرسون — التي بدأت نشرها في خمسينيات القرن العشرين — نمط الوحش ذي الأعين الحشرية صراحةً كي تستكشف صورًا أدق من الاختلاف وتَعرِض طريقة معاملة المجتمعات المحلية للوافدين الجُدد؛ ففي قصصها لا يتجلَّى كون المخلوقات غير أرضية جسديًّا، وهو ما نجده أيضًا في رواية والتر تيفيز «الرجل الذي هبط على الأرض» (١٩٦٣)؛ حيث يأتي الوافد الجديد من خارج الأرض، لكنه يشبه إنسانًا غريبًا أكثر مما يشبه كائنًا فضائيًّا، وبناءً على ذلك يخضع لتحقيقات المخابرات المركزية الأمريكية والمباحث الفيدرالية. ويُفسِّر غياب النوايا العدوانية لدى الكائن بحاجته إلى مساعدة أهل الأرض لشعبه الذي يستوطن كوكبًا آخر. وفي الفيلم المأخوذ عن الرواية (١٩٧٦) لعب ديفيد بُوي دور الكائن شبه البشري، لكن شعره البرتقالي اللون أضفى على الأحداث بُعدًا مسرحيًّا إلى حدٍّ كبير.
يتجلَّى عبر تلك الأمثلة استخدام الكُتَّاب لمفهوم الكائن الفضائي بهدف استكشاف السمات البشرية، كما فعلت الكاتِبة الأمريكية الأفريقية أوكتافيا بتلر في سلسلة روايات «باتيرنيست» التي بدأ نشرها عام ١٩٧٦. فتقع أحداث رواية «باتيرنماستر» في المستقبل؛ حيث يخضع البشر لشبكة تتكون من أفراد لديهم قدرة على التخاطر. تعرض السلسلة تاريخًا سريًّا يفسِّر كيفية تكوُّن هذه المجموعة من كائنين أوَّليين خالدين منذ أواخر القرن السابع عشر فصاعدًا. وتصوِّر رواية «البذرة البرية» (١٩٨٠) تلك البدايات في أفريقيا مع وجود العبودية في خلفية الأحداث، وتتعقَّب دورو (الكائن الذكري التخاطري) وأنيانووا (الكائن الأنثوي المتحوِّل الذي يجسِّد الخصوبة) إلى الولايات المتحدة، حيث يتعلَّمان أن الحضارة تتضمن قمعًا مؤسسيًّا للفروق والاختلافات. بينما تركز ثلاثية «إنجاب المغاير» لبتلر (١٩٨٧–١٩٨٩) على كائنات أُوانكالي الفضائية (وهي كائنات نُفِيتْ للأبد من وطنها، وتنقسم إلى ثلاثة أجناس) التي تحاول السيطرة على البشر عبر الإحلال الجيني. تستيقظ البطلة ليليث من غيبوبة اصطناعية طويلة كي تقابل أحد أفراد الأُوانكالي — وهو كائن رمادي اللون يخرج الشعر من أذنه وليس له أنف — الذي يتحدث بطلاقة إليها. تبدو بتلر دومًا واعية بالطبيعة الجسدية لشخصياتها، لكنها تراعي الدقة عند تحديد إيقاع السرد كي يظل إحساسنا بمَظهَر الكائن الفضائي؛ ومِن ثَمَّ باختلافه في تغيُّر مستمر. وقد صرَّحت بتلر نفسها أن كُتُبَها تحكي «قصصًا عن القوة وتضم مجموعات من أعراق متعددة من الرجال والنساء الذين يتحتم عليهم التعايش مع اختلافهم، وأيضًا مع قدرات جديدة داخل أنفسهم لا تخضع بالضرورة للسيطرة.»
بينما تستخدم بتلر الخيال العلمي لتتبُّع تاريخ بديل للعبودية، يقدِّم أورسون سكوت كارد إعادة تصوُّر لأحداث استعمار أمريكا الجنوبية في روايته «المتحدِّث باسم الموتى»، الصادرة عام ١٩٨٦، وتدور أحداثها في مستعمرة لوسيتانيا في المستقبل البعيد؛ حيث يحتجز الأسيادُ البشرُ أفرادًا من عِرْق «بيكوينينوس» الوطني (أي «الصغار» باللغة الإسبانية) داخل سياج ويدرسونهم، وتستعرض الرواية مشاكل التواصل المعقدة بين المجموعتين. وكما هو الحال في رواية أورسولا لي جوين «العالم يعني الغابة»، الصادرة عام ١٩٧٦، والتي تنتقد حرب فيتنام مستعينةً بوسائل الخيال العلمي، تصوِّر رواية كارد سوء الفهم الناشئ في علاقات القوة بين الحضارات الغربية والحضارات الأمية تصويرًا دراميًّا.
وعلى نحو مماثل، يعكس قرار جوينيث جونز الذكي بتسمية كائناتها الفضائية «أليوتيين» إحساسًا بالبُعد والتهميش البشري (فقد عانى الأليوتيون على يد كلٍّ من الروس والأمريكيين). وتذكر جونز أن فكرة روايتها «الثلاثية الأليوتية» (١٩٩١–١٩٩٧) تنبع من رفض النمط الدارويني الذي يقضي إما بتحقيق الانتصار أو الرضوخ للإخضاع. في الرواية يتواصل الأليوتيون مع البشر تدريجيًّا، ويجسِّدون في حد ذاتهم بعض سمات الثقافة الأفريقية والآسيوية، لكنهم أشباه بشر، عديمو الجنس في الوقت نفسه. وحسب وصف جونز، تُقدَّم شخصيات الأليوتيين في صورة «نساء» و«شعوب أصلية»، كما تُبدي هذه الشخصيات تشكُّكًا حيال اللغة المنطوقة، وهو ما يرجع إلى اعتقاد جونز بأن «الكلمات تفرِّق»، وقد اضطرت رغم ذلك إلى تصوير تواصُل الأليوتيين الصامت الودود على الورق على نحو يشبه الحديث البشري لكن داخل علامات تنصيص غير تقليدية؛ ونتيجة لذلك، أدركت جونز أنها «جعلت شعب الأليوتيين شديد الشبه بالنساء المدافعات عن حقوق المرأة من جميع النواحي؛ فهم مخلوقات تصِرُّ للغاية على الحصول على كل شيء، وعاقدة العزم على أن تصبح شخصيات عامة مفوَّهة تتمتع بوعي ذاتي، ولكن دون التخلِّي عن مكانها في العالم الطبيعي.»
يربط فيلم «أمَّة فضائية» (إليان نيشن) — الذي عُرِض عام ١٩٨٨ — فكرة الكائنات الفضائية بقضية العِرْق الأمريكية الداخلية. فبَعْد افتتاحيةٍ تُحاكي ما وَرَدَ في أعمال أخرى — تعرض هبوط طبق طائر ضخم في صحراء موهافي — يُخبرنا مذيع أخبار أنه يحمل آلافًا من أشباه البشر المُهيَّئين جينيًّا للعمل بنظام السُّخرة. يستقر الوافدون الجُدد — كما أُطلِق عليهم — في لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو. وعلى غير المعتاد في هذا النوع الأدبي الفرعي، يعرض الفيلم طريقة معاملة هؤلاء الوافدين الجُدد بعد ثلاث سنوات من وصولهم. ومن خلال نمط التحقيق الجنائي الذي يعتمد على شُرطي وزميله، تُعرض هذه الكائنات كطبقة دنيا جديدة في المجتمع، تَسْخر منها الشخصيات الأمريكية التي من أصل صيني أو أفريقي أو لاتيني على حدٍّ سواء، بل وتتحاشاها.
بعبارة أخرى، يُستخدَم الغزو الفضائي للتعليق على العنصرية والاندماج في المجتمع عن طريق تطوير علاقة بين الشرطي الأبيض الذي يشعر بالغربة، ويُدعى سايكس، وشريكه فرانسيسكو المنتمي إلى الوافدين الجُدد. يعالج الفيلم الفكرة الرئيسية بسهولة نسبية نظرًا لتمتع الوافدين الجُدد برءوس مُعدَّلة — تستدرج المُشاهِد إلى الظن بأنهم جميعًا متماثلون — لكنهم يُشبهون البشر في جميع النواحي الأخرى من الناحية المرئية. وقد استُخدِم عنوان الفيلم في كتابين لاحقين، كلاهما يُدعى «أمة فضائية»؛ الأول لبيتر برايملو الصادر عام ١٩٩٥، والذي يهاجم سياسة الهجرة الأمريكية التي تشجِّع الهجرة من العالم النامي؛ والثاني دراسة لكانون شميت صادرة عام ١٩٩٧، وتناقش الموضوع الضمني المتعلق بقضية العرق في الأدب القوطي في القرن التاسع عشر.
اللغة
إنَّ الصورة التقليدية للكائن الفضائي المنبعث من طبق طائر هاتفًا: «فلتأخذوني إلى قائدكم» تُسلِّط الضوء على إحدى المشكلات المصاحبة لقصص الكائنات الفضائية؛ فحالما تتحدث الكائنات الفضائية، تصبح فكرة اختلافها مهدَّدة؛ لأننا نربط اللغة بأسلوب الحياة، ونعتبرها واحدة من السمات التي تميِّز البشرية. وإحدى طرق الإفلات من هذا المأزق في الخيال العلمي المبكر كانت استخدام وسيلة ملائمة عبارة عن جهاز ترجمة فورية، أو استخدام التخاطر في بعض الأحيان؛ ففي رواية إدوين ليستر أرنولد «الملازم جاليفر جونز» (١٩٠٥)، يتعلم البطل اللغة المريخية عبر الإسقاط التخاطري.
عندما بدأ الروائيون في التعاطي مع مشكلة اللغات الأخرى، نزعوا إلى استغلال فرضية سابير-وُرف التي تزعم أن لغتنا تشكِّل رؤيتنا للعالم، بالإضافة إلى أنهم أظهروا إمكانية تورُّط اللغة في ألاعيب السلطة. فتقدم سلسلة روايات «اللغة الأم» (١٩٨٤) للكاتِبة سوزيت هادين إلجين عالمًا مستقبليًّا يسيطر فيه اللغويون (الذكور) على إمبراطورية متعددة الكواكب ويفرضون نظام حكم يختزل النساء في مرتبة التبعية التامة. يشير العنوان إلى اشتراك نساء أحد المنازل في صياغة جماعية لِلُغةٍ خاصة بهن، وبما أن ذلك فعل مُحرَّم، تتحول صياغة اللغة إلى فعل تمكين جماعي ومقاومة. وتعرض الرواية لغة لادان الناتجة — التي كانت إلجين تأمل في الترويج لها — في ملحق يجمع نماذج منها. وتصرُّ إلجين — وهي نفسها عالِمة لغويات محترفة — في كتاب «حتمية اللغة» (٢٠٠٠) على أن اللغة لا يمكن امتلاكها، بل إنها تُمارَس ببساطة.
ينتهج مايكل بيشوب منهجًا يَمِيل أكثر إلى الدراسة الأنثروبولوجية (علم الإنسان) في روايته «تحولات» (١٩٧٩)، التي تضم روايتين؛ هما «الموت والتنصيب لدى عرق الأسادي» و«ملاحظات متنوعة على دراسة إثنوجرافية فاشلة». تَعْرض الرواية تشابهًا قويًّا بين كينيا وكوكب بوسكفيلت (بوسكي فيلت)؛ حيث يذهب البطل لدراسة عرق الأسادي. يدوِّن البطل يومياته، لكنَّ المعلومات التي يصل إليها تتجاوز فرضياته دائمًا؛ ومن ثمَّ تصبح كتابة أي تقرير عقلاني في النهاية أمرًا مستحيلًا. وبهذا تعكس رواية بيشوب تناقضًا قويًّا مع رواية أورسولا لي جوين «العودة دائمًا إلى الوطن» (١٩٨٥)، التي تنبع بوضوح من المعرفة الأنثروبولوجية التي تميِّز النوع الروائي الذي تنتمي إليه الرواية. وبالفعل، تعتمد الرواية — جزئيًّا — على نموذج تقرير أنثروبولوجي، وتضم ملاحق وفهرسًا. وتبدأ باستكشاف الراوي ﻟ «علم آثار المستقبل»، بينما تحاول باندورا فتح «الصندوق» الخاص بحضارة الكيش في شمال كاليفورنيا. وعن طريق الرسومات والحكايات الشفهية المسجَّلة وما شَابَه ذلك، يذكِّر النصُّ القارئَ مرارًا بأنه وسيط لحضارة هجينة تَستمد أشكالًا وقِيَمًا من الطبيعة السابقة لعصر التصنيع، لكنها تستخدم كذلك وسائل اتصال إلكترونية مع العالم الخارجي تشكِّل إجمالًا «مدينة عقل» سايبرنيتيكية.
منذ سبعينيات القرن العشرين، اندمج مفهوم الكائن الفضائي أكثر فأكثر داخل النقاشات الثقافية حول النوع والانتماء العرقي، وترتَّب على ذلك انحسار النمط القديم للغازي القادم من الفضاء من الخيال العلمي، إلا في أعمال مثل حكايات وايتلي ستريبر الواقعية التي تحكي عن زيارات لكائنات فضائية شُوهِدت. وطالما تبدَّل أيضًا شكل الكائنات الفضائية حسب التصوُّرات المختلفة للعِرق والأنواع؛ فعلى سبيل المثال كانت كائنات الكلينجون الشهيرة في مسلسل «رحلة إلى النجوم» تتمتع في البداية ببشرة أغمق لونًا، لكنها شهدت بعد ذلك اختلافات جسدية أكثر تفصيلًا. وعلاوة على ذلك، ابتكر مارك أوكراند لغة كلينجونية كاملة جذبت فيما بعد جماعة من المعجبين بها. وقد يرجع اختزال مفهوم الكائن الفضائي كذلك إلى تزايد انشغال المعالجات الأدبية التي كانت تتناوله بالأنظمة التكنولوجية، وسنتناول هذا الجانب في الفصل التالي.