الخيال العلمي والتكنولوجيا
يرتبط الخيال العلمي لدى العامة بتطور التكنولوجيا، التي يُقصَد بها عادةً الأدوات أو الأجهزة، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أسباب تاريخية تتعلق بسياسة الترويج لِلذَّات السائدة في أوائل القرن العشرين. رغم ذلك، يقدم مفهوم المؤرِّخ الثقافي الأمريكي لويس مامفورد عن «الأساليب الفنية» عونًا أكبر؛ لأنه أوسع نطاقًا ويتضمن انتقالًا للمعلومات. وإحدى الفِكَر الأكثر تكررًا في الخيال العلمي هي استعراض علاقة البشرية بمنشآتها المادية الخاصة احتفاءً بالتقدُّم في بعض الأحيان. لكن في أحيان أخرى يسود تلك الموضوعات انطباعٌ أكثر سلبية يرتبط بما وصفه إسحاق أزيموف مرارًا بفوبيا التكنولوجيا وتنعكس في الأدب الذي يعبِّر عن مخاوف الاستبدال البشري. وكما سنرى لاحقًا في هذا الفصل، أصبحت المدينة تجسيدًا محوريًّا لتكنولوجيا مستقبلية، وتحوَّلت إلى متاهة أو فضاءٍ مفكَّك — حسب وصف عالِم الاجتماع الألماني فالتر بنيامين — مما شجَّع على تنفيذ عملياتٍ إدراكية حضرية متميِّزة لسكانها.
تعتبر التكنولوجيا مؤشِّرًا مركزيًّا على التغيُّر الذي يشهده مجال الخيال العلمي. وفي الواقع يُعرِّف روجر لاكهيرست الخيال العلمي — أثناء عرضه لتاريخ هذا النوع الأدبي — بأنه «أدب المجتمعات المُشبعة تكنولوجيًّا» ويبادر إلى تتبع أثر هذا الاتجاه منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى الآن. إن الجهود الرائدة لكاتِب ومحرِّر الخيال العلمي هوجو جيرنسباك — المولود في لوكسمبورج — التي هدفت إلى وضع التكنولوجيا في قلب هذا النوع الأدبي، ساهمت جزئيًّا في تنظيم العدد الضخم من الإشارات إلى الابتكارات التكنولوجية التي امتلأ بها أدب الخيال العلمي مع بداية القرن؛ مثل الإشارة إلى التلغراف والوسائل المرئية لنقل المعلومات، والتطبيقات الأولى للكهرباء، والآلات الطائرة، والأسلحة العسكرية الجديدة، والأجهزة المضادة للجاذبية. وقد بدأت الأخيرة تَظهَر في قصص رحلات الفضاء متخذةً شكلًا تعوزه الحماسة في المعتاد، لكن على الأقل أدرك الكُتَّاب الحاجة إلى تقديم تفسير رمزيٍّ لإمكانية السفر عبر الفضاء.
جيرنسباك، وكامبل، والخيال العلمي «الصارم»
يشير تعبير «الخيال العلمي» في حد ذاته إلى مزيج بين ما هو خيالي وما هو واقعي، كما نرى في كتابات هوجو جيرنسباك، الذي تُعبِّر أشهر روايته «رالف ١٢٤سي ٤١+» — التي نُشِرت متسلسلة عام ١٩١١، ثم مُجمَّعة في كتابٍ عامَ ١٩٢٥ — عن قناعته بضرورة أن يتضمن الأدب الجديد تثقيفًا علميًّا بجانب العناصر الترفيهية. يقدم رالف نفسَه للقارئ عبر معمله — مكان الاختراع — بينما يظهر عالَم عام ٢٦٦٠ في صورة عالَم يتميِّز بعجائبه التكنولوجية الجديدة التي تنعكس في أجهزة مثل «التليفوت» (وهو شكل من أشكال التليفزيون)، وموجات الراديو البالغة القصر، و«الهيبنوبيوسكوب» وهو جهاز ينقل المعلومات مباشرةً إلى الدماغ؛ سخرت منه فيما بعد رواية «عالم جديد رائع». وكما أوضح جاري ويستفال، افتقر جيرنسباك إلى مهارة الجمع بين العلم والخيال؛ ومن ثمَّ نجده يعرض هذين العنصرين عرضًا متسلسلًا، ويصف رالف مستخدِمًا مصطلحات مزدوجة مرة باعتباره عالِمًا مخترعًا ومرة باعتباره بطلًا ميلودراميًّا قادرًا على حماية البطلة من الشرير عديم الضمير. رغم ذلك، ما زال جيرنسباك صاحب الريادة في عرض البيئة الحديثة ذات الطابع التكنولوجي. فبينما يتزلَّج رالف والبطلة في شارع برودواي في إحدى الأمسيات على «جهاز التزلج المتحرك عن بُعد»، تبدو نيويورك مدينة الأضواء الأولى التي لا تضاهيها مدينة أخرى في استخدام الكهرباء؛ إذ تحتفي الرواية بالكهرباء طوال الوقت، مثلما حدث في معرض شيكاجو العالمي عام ١٨٩٣؛ ومن ثم، فليس من قَبِيل المصادفة أن جيرنسباك أسَّس عام ١٩٠٨ مجلة «مودرن إليكتريكس»، وهي المجلة الأولى من نوعها.
أسَّس استخدام جيرنسباك للتعبيرات الجديدة اتجاهًا تطوَّر في كتابات الخيال العلمي اللاحقة، ومن أشهَر تلك التعبيرات تعبير «روبوت» — الذي صاغه الكاتِب التشيكي كاريل تشابِك عام ١٩٢٠ — وتعبير «الفضاء السايبري»، الذي ابتكره الكاتِب الأمريكي ويليام جيبسون عام ١٩٨٢ واستُخدِم لوصف الفضاء الافتراضي لشبكات الكمبيوتر المتنامية. في تلك الحالات، لاقى هذان المصطلحان رواجًا كبيرًا يتجاوز نطاق الأدب، لكن الناقِد مارك أنجينوت قدَّم تفسيرًا لاستخدام التعبيرات الجديدة؛ إذ وضَّح أن تلك التعبيرات تدفع إلى قراءة تخمينية لنصوص الخيال العلمي؛ حيث يخلق القارئ سياقًا لتلك المصطلحات؛ ومن ثَمَّ للعالم الافتراضي لتلك القصص.
تصدَّر الابتكار التكنولوجي رواية جيرنسباك؛ لأنه ربط بين التكنولوجيا والتقدُّم العام للبشرية ربطًا وثيقًا؛ لذا كان يفضِّل في مجلات الخيال العلمي التي ينشرها تلك القصص التي تحتفي بالعلم. وفي افتتاحية كَتَبها عام ١٩٣١ تحت عنوان «عجائب عصر الآلة»، صرَّح بسياسته المعلَنة الرافضة للقصص التي تعزو شرور العصر إلى التكنولوجيا، والتي تتنبَّأ بتركُّز عظيم للثروة يؤدي إلى استخدام قلة حاكمة لقوتها الصناعية كي تَستعبد البشر. فتعهَّد برفض «الدعاية الإعلامية لهذا النوع الذي يميل إلى إثارة مشاعر العامة اللاعقلانيين ضد التقدُّم العلمي، والآلات المفيدة، وضد الاختراعات عامةً.» وعن طريق التهوين من دور المؤسسات الصناعية اللازمة لإنتاج الاختراعات التي يصفها وتوزيعها، يصرُّ جيرنسباك ها هنا على معارضة تيار الشك المتزايد تجاه التكنولوجيا، والذي بدأ يتشكَّل في ثلاثينيات القرن العشرين. وفي فترة لاحقة من القرن العشرين — عام ١٩٧٨ — ظهر كاتِب خيال علمي آخر كرَّس جُلَّ مجهوداته لخدمة قضية تعليم العلم، وهو إسحاق أزيموف، الذي استعرض معالجة التكنولوجيا في الخيال العلمي، محدِّدًا اتجاهَي تطور رئيسيَّين؛ أحدهما تفاؤلي (وهو الاتجاه الذي توحَّد معه)، والآخر يعبِّر عن الخوف من احتمال خروج الآلات عن السيطرة. إن «خرافة الآلة» — على حد وصفه — هي مفهوم ذو حدين ينعكس في الشكوك المتكررة حول تطبيقات التكنولوجيا في العديد من أعمال الخيال العلمي اللاحقة.
أصبحت كتابات الخيال العلمي التي تتبع أسلوب جيرنسباك وجون دبليو كامبل — محرِّر مجلة «أستاوندينج ساينس فيكشن» من عام ١٩٣٧ فصاعدًا — معروفة منذ خمسينيات القرن العشرين بِاسْم الخيال العلمي «الصارم»، لتميُّزها عن الخيال العلمي «البسيط»، الذي يُعالج قضايا اجتماعية. عزَّزت سياسة كامبل التحريرية المحدَّدة المعالم دمج التكنولوجيا في قصص الكُتَّاب الذين اكتشفهم؛ مثل روبرت هاينلاين، وإيه إي فان فوجت، وإسحاق أزيموف، ممَّن يُشار أحيانًا إلى مجموعة كتاباتهم بالقرب من فترة الحرب العالمية الثانية على أنها العصر الذهبي للخيال العلمي. رغم ذلك، لا ينبغي اعتبار تأثير كامبل القوي ذا طبيعة توجيهية أو تقييدية أكثر من كونه ضغطًا مستمرًّا على كُتَّاب مجلته لكي يُنتجوا قصصًا احترافية، وهو ما يبدو جليًّا، لا سيما في الخيال العلمي الأمريكي منذ خمسينيات القرن العشرين فصاعدًا، بدءًا من الحقبة التي شهدت التطور السايبرنيتيكي على يد رائده نوربرت وينر. ومن النقاط الرئيسية في هذا الاتجاه الصاعد التشابه — لا التعارض — بين البشر والآلات.
يحدد ديفيد جي هارتويل بعضًا من خصائص تلك الروايات في مقدمة مجموعة المقتطفات الأدبية التي اختارها من أعمال الخيال العلمي الصارم عام ١٩٩٤، والتي يرى أنها تَمزِج بين الاهتمام بالحقيقة العلمية، وتقليدية الأسلوب، وحس الشك العام لدى الأدباء. رغم ذلك، تعاني تلك الكتابات من صراعات خاصة بها، لا سيما بين ابتعاد القصص عن عالم الواقع ومناشدتها في الوقت ذاته للمبادئ العلمية الواقعية. وعلى الرغم من تجنب هارتويل قول ذلك صراحةً، فإنه يلمح بين السطور إلى تمتع تلك الأعمال برؤية تفاؤلية معينة تجسِّد «عجائب تمكين الثقافة التكنولوجية والعلمية في الحقبة الحديثة». ومن أهم كُتَّاب الخيال العلمي الذين ارتبطوا ارتباطًا وثيقًا بالمفاهيم العلمية، الكاتِب الأسترالي جريج إيجان، والبريطاني ستيفن باكستر، والأمريكيان فيرنور فينجي ورودي رَكر، وكلاهما عالِم رياضيات أكاديمي.
غالبًا ما يُشار إلى رواية هال كليمنت «بعثة الجاذبية» (١٩٥٤) باعتبارها النموذج الأبرز لأعمال الخيال العلمي الصارم، وتدور أحداثها حول استكشاف كوكب مفلطح يُدعَى ميسكلين. تعرض الرواية مثالًا بديعًا على تصميم العوالم؛ حيث يُصوَّر كل جانب من جوانب الكوكب الجديد تصويرًا علميًّا متسقًا مع ذاته. وتقدم الرواية سلسلة من المشاكل العملية في الأساس، مثل مشاكل الملاحة وما يرتبط بها من حلول عملية أيضًا. ويبدو كليمنت أكثر حذرًا عندما يحوِّل انتباهه إلى سكان الكوكب، الذين يتسمون ببعض الاختلافات الجسدية، لكنهم يبدون رغم ذلك كأقران للبشر ذوي آراء مستقلة، وهو ما يتضح لا سيما من خلال تحدثهم مع الأرضيين بلغة إنجليزية سليمة.
وعلى النقيض من ذلك، تتشكك رواية جو هالدمان «الحرب الأبدية» (١٩٧٤) في طبيعة التمكين، وهي رواية عسكرية تدور حول «نضج الشخصية وتكوينها»، ينقل فيها الكاتِب تجاربه في فيتنام إلى الفضاء الخارجي. تقدم الرواية تصورًا دراميًّا مؤثرًا لتأرجح مشاعر الراوي — الذي يُدعَى مانديلا — تجاه الحرب بين النجمية ضد «التاوران»، وهي مخلوقات نادرًا ما نراها في الرواية، وتتمتع بمظهر محيِّر، حتى إنه في بعض الأحيان يُخلَط بينها وبين الحيوانات. يتلقَّى مانديلا تدريبًا على أسلحة معقدة تتضمن إيحاءً تنويميًّا قبل المعركة؛ ونتيجة لهذا الإعداد، ينتابه إحساس كابوسي بأنه آلة قتال مجرَّدة من الصفات الإنسانية. يَستحضر هالدمان شعورًا بالخطر، لكنه ينبع من خارج الأرض ومن معدات الجنود التي لا يعوِّل عليها أكثر من العدو المزعوم. تَستخدم الرواية تقاليد حروب النجوم استخدامًا ساخرًا كي تستدعي الطابعَ اللانهائيَّ لحرب دون أهداف واضحة والتناقضاتِ الذاتيةَ في التدريب العسكري، ولكي تَعْرض الأمرَ بأكمله كشكلٍ من أشكال الاستعمار المعاصر.
أحد أبرز كُتَّاب الخيال العلمي الصارم حاليًّا هو جيري بورنيل، الذي قدَّم عددًا من الروايات العسكرية، ويمكن اعتباره وريثًا للحِسِّ الوطني الذي يتَّسم به روبرت هاينلاين، لكن اختلافهما يكمن في ارتباط بورنيل الوثيق بالمؤسسة العسكرية الأمريكية على مدار سنوات. وعلى العكس من هالدمان، قدَّم بورنيل استعمار الفضاء باعتباره امتدادًا منطقيًّا للحدود الأمريكية، ويزعم في دراسته السياسية «استراتيجية التكنولوجيا» الصادرة عام ١٩٧٠ (التي كتبها بالتعاون مع ستيفان تي بوسوني) أنه منذ عام ١٩٤٥ على الأقل تخوض الولايات المتحدة حربًا تكنولوجية ضد الاتحاد السوفييتي. تُملِي هذه الحتمية السياسية معالجة بورنيل للفِكَر القصصية المتعلقة بالفضاء، وفي عام ١٩٨١ أصبح رئيس مجلس المواطنين الاستشاري لشئون سياسة الفضاء الوطنية، الذي ضمَّ بين أعضائه روبرت هاينلاين وجريجوري بينفورد. ساعد هذا المجلس في صياغة مبادرة الدفاع الاستراتيجي في عهد الرئيس ريجان، المعروفة باسم «حرب النجوم».
لكن حتى في هذا السياق، يظل التلميح إلى احتفاء بورنيل بالتقدم التكنولوجي تبسيطًا صارخًا. نرى ذلك في إحدى أقوى رواياته — التي كتبها بالاشتراك مع لاري نيفن وتُدعَى «قَسَمُ الولاء» (١٩٨٢) — التي تتناول آليات «العمارة البيئية»، وهو مصطلح ابتكره المعماري باولو سوليري عبر دمج كلمة «عمارة» مع «بيئة». ورغم أن المصطلح تعبير جديد، فإنه يلمح إلى المجمعات السكنية الضخمة التي نلاحظها في أعمال ويلز وغيره من الكُتَّاب. تدور أحداث «قَسَمُ الولاء» حول أحداث شغب عرقية تقع عند أطراف مدينة لوس أنجلوس في المستقبل القريب يعقبها بناء مجمع ضخم قائم بذاته يُدعَى تودوس سانتوس (أي «جميع القديسين»)، ويُؤوي رُبعَ مليون شخص. بُني المجمع برأس مال خاص ويبدو متمتعًا بالاكتفاء الذاتي في ظل نظام الأمن الخاص به، إلا أن مصرع شابَّين تمكَّنا من اختراق أحد المداخل يُثبت أن تودوس سانتوس يعتمد في الواقع على المدينة المجاورة له، ويتضح ها هنا موطن من مواطن قوة الرواية؛ إذ لا تكتفي بتصوير تصميم معماريٍّ بيئيٍّ، بل تتجادل شخصياتها حول القيمة الاجتماعية لهذا التصميم، فتشبهه مرة بهضبة النمل الأبيض في مقارنة سلبية. وعلى نحو مماثل، تشتمل الرواية على العديد من الإشارات إلى الخيال العلمي باعتباره تجسيدًا لمجموعة الفِكَر التي أنتجت المجمع؛ فعلى سبيل المثال يحتوي مركز التسوق على سلالم متحركة، يقرُّ النص بأن نموذجها الأولي يرجع إلى هاينلاين. جملة القول، تعرض رواية «قَسَمُ الولاء» الابتكار التكنولوجي وتطرحه للنقاش في الوقت نفسه على مدار الأحداث.
المدينة
إنَّ المدينة هي التجسيد الأعظم للبنية التكنولوجية؛ ولهذا السبب ظل الخيال العلمي نوعًا أدبيًّا يرتبط ارتباطًا شديدًا بالحَضر. وحتى رواية ريتشارد جيفريس «بعد لندن» (١٨٨٥) — وهي رواية تصف استعادة الطبيعة في فترةِ ما بعد الحضر، بعدما غرقت لندن في ضباب الفساد — يمكن قراءتها كاحتجاج ضد تطورات المدينة في القرن التاسع عشر. تظهر المدينة من خلال صورها المختلفة في الخيال العلمي في صورة معمل للتغيُّر التكنولوجي؛ على سبيل المثال، تصف رواية ألبير روبيدا «القرن العشرين»، الصادرة عام ١٨٩٠، تبدُّل حال باريس في المستقبل القريب، وهي رؤية كوميدية للروح التجارية حال خروجها عن السيطرة. فتعرض إحدى الرسومات التوضيحية قوس النصر بعدما ابتاعه المضاربون التجاريون؛ حيث يبدو متقزِّمًا تحت ثقل قاعدة حديدية ضخمة تحمل الفندق العالمي الجديد، الذي بُني بأسلوب معماري مختلط كي يتمتَّع بأقصى قدر من الفخامة. يطرح هذا الاختلال البصري تعليقًا ساخرًا على الأولويات الجديدة في القرن العشرين، والتي تنعكس كذلك في انتشار اللوحات الإعلانية والانشغال بوسائل النقل السريعة، إلى حد إنشاء خط ترام كهربائي داخل متحف اللوفر من أجل تسريع مرور الزوار على المعروضات دون الشعور بالتعب. بينما يعكس «البيت الهوائي الدوَّار» المكانة المرتفعة التي تحتلها الاختراعات الجديدة فوق المدينة التقليدية. إن مدينة روبيدا مدينة معدنية تغلب عليها الأشغال الفنية الحديدية.
أمَّا فيلم فريتس لانج «المدينة الكبرى» (الذي عُرِضَ عام ١٩٢٧، وأُعِيدَ إصداره عام ٢٠٠٢) فيقدم صورة أولية للمدينة في فيلم الخيال العلمي. عَرَض الفيلم تحديدًا صورتين؛ الأولى للمدينة الكبرى فوق الأرض؛ أي مستوى النخبة الحاكمة وعائلاتها، ومدينة العمال تحت الأرض. يُعطي تتر البداية أولوية كاملة لمكان الأحداث؛ أي مجمع الحاكِم المدرج، والمستوحَى تصميمه جزئيًّا من لوحة الرسَّام بيتر بروجل «برج بابل» وانطباعات لانج عن مانهاتن، التي تنعكس في لقطات لماكينات ضخمة أثناء عملها.
إنَّ تلك الماكينات هي ما تقدِّم تعريفًا للمدينة الكبرى كمجمع مبانٍ صناعية حضرية يسودها نمط حياة وحشي خاص بها. في الرواية الأصلية الصادرة عام ١٩٢٧، تصف الكاتبة تيا فون هاربو زيَّ العمال المُوحَّد وحركتهم المنتظمة في «برج بابل الجديد»، وهو تأثير يُعاد تقديمه في الفيلم عبر التسلسل الهرمي البِنَوي للمدينة الكبرى الذي يضع العمال أسفل الماكينات. وقد حدَّد فيلم «المدينة الكبرى» نمطًا من الصور المجازية اتبعتْه تصورات لاحقة للمدينة في الخيال العلمي، وهو نمط يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتخطيط الحضري في حقبة العشرينيات، كما يتضح في كتاب المعماري هيو فيريس «مدينة الغد» (١٩٢٩) الذي يستخدم الأشكال الهندسية الحديثة في تخطيط المدن.
في نهاية رواية «مدينة فاضلة حديثة» (١٩٠٥)، يصف إتش جي ويلز صدمة بطله عندما رجع إلى مدينة لندن تاركًا النظافة والأماكن الصحية خلفه في المدينة الفاضلة ذات الطابع السويسري التي جاء منها؛ ففجأة أصبح محيطه يعجُّ بسكان المدينة المتدافعين، مشوَّهي الخِلْقة غالبًا؛ ومن ثمَّ يُعاني اضطرابًا حسيًّا نتيجة لما يتلقَّاه من حواس البصر والسمع والشَّم. إن هذا الاضطراب تحديدًا هو ما يحاول ويلز تجنُّبه في مدنه المستقبلية، لأغراض قد لا تكون إيجابية على الدوام؛ ففي رواية «استيقاظ النائم» (١٨٩٩)، يجد البطل — جراهام — نفسَه غريبًا تمامًا عن لندن المستقبلية بعد انقضاء قرنين من الزمان، ويخبره أحدهم أن «هذا العصر هو عصر الثروة»، التي تتجسَّد في «المباني العملاقة» بالمدينة. وعلى الرغم من أن المدينة التي يجد نفسه بها ما زالت لندن، فإنها تبدَّلت تبدلًا جذريًّا حتى أصبح تمييزها مستحيلًا، ويزيد ويلز هذا التأثير الاغترابي الحَضري بذكر أقل عدد من أسماء الأماكن. وفي فيلم «الأحداث القادمة» (ثينجس تو كم) ١٩٣٦، من إنتاج ألكسندر كوردا بالتعاون مع ويلز، يحدث الانتقال من الحاضر القريب إلى القرن الحادي والعشرين عبر التغيرات التي تصيب «إفريتاون» — مدينة ويلز الرمزية — من الحرب إلى إعادة البناء. يتضح عبر افتتاحية الفيلم أن مدينة إفريتاون تحاكي مدينة لندن، مثلما يجسِّد فيلم «تخيُّل فحسب» (جَست إماجين) — الذي عُرِضَ عام ١٩٣٠ ويصوِّر مستقبلًا حضريًّا — مدينة نيويورك. في الفيلم الثاني أصبحت المدينة عام ١٩٨٠ مدينة كبرى مذهلة مكوَّنة من مبانٍ ضخمة عالية وتتمتع بوسائل نقل جوية وبرية على مختلف المستويات. وعلى نحو مماثل، يعرض فيلم «الأحداث القادمة» مدينة أنيقة تحت الأرض تتميز بخطوط معمارية «جريئة وضخمة»، حسبما أراد ويلز. يتحقق التأثير الكاسِح للحجم في الفيلم عن طريق تقزيم الشخصيات البشرية في أسفل اللقطات التي تهدف إلى إظهار معمار المدينة الصناعية المهيب الجديد؛ مما يجعلهم يَبدون مثل موظفين مجهولين. وبالفعل تعكس الأنشطة الصناعية أُولى علامات الحياة في المدينة.
إن المدينة في أعمال ويلز وفي فيلم «المدينة الكبرى» ترمز إلى النظام الصناعي. وفي سياق مماثل تصف رواية «مدينة الضوء الأبدي» (١٩٢٠) — لاختصاصي التغذية الأمريكي مايلو هاستنجز — عالَمًا مستقبليًّا تسيطر عليه ألمانيا بفضل اختراعها لسلاح شعاع الموت. أما مركز التحكم في نظام الحُكم فهو برلين جديدة تقبع تحت الأرض وتتكوَّن من مجمع صناعي حضري ضخم يُؤوي الملايين، ويمثل ذروة تطبيق العلم على المجتمع من منظور الراوي الأمريكي. وتؤدي قاعات الطعام الشاسعة والمصانع العملاقة في المدينة إلى إحاطة البطل ﺑ «جو من التنسيق، والنظام، والانضباط المثالي»، الذي يتسبب نظامه المبالَغ فيه في جعل المدينة غير إنسانية.
لقد استُخدِمت المدن عادةً من أجل تجسيد مستقبل ديستوبي؛ فعلى سبيل المثال، تضع رواية كليفورد دي سيماك «مدينة» (المكوَّنة من مجموعة قصص قصيرة يربطها تعقيب بقلم المحرِّر، نُشِرت عام ١٩٥٢) زمنها الحاضر في المستقبل عندما تفنى المدن والبشرية ذاتها على حدٍّ سواء. وتُروى الحكايات في صورة أساطير على لسان مجموعة من الكلاب تعرض وجهة نظر خارجية ساخرة وتتساءل عما إذا كانت المدن أو البشر قد وُجدوا في يوم من الأيام على الإطلاق. وتذكر مقدمة الرواية أن المدينة تبدو «بناءً مستحيلًا» يفرض قيودًا لا تُصدَّق على أي كائن عقلاني من المفترض أن يعيش فيها. كذلك تقدم مجموعة «المدن الطائرة» للكاتِب جيمس بليش واحدة من أكثر تنويعات هذه الفكرة تفرُّدًا عن طريق عرض المدن كسُفن فضاء. أما رواية «حياة من أجل النجوم» (١٩٦٢) فتصف موقفًا يجعل من تلك السفن الفضائية الحضرية ضرورة؛ فمع استهلاك المواد الخام، تحوَّل الناسُ إلى عمَّال مهاجرين (واستخدمت الرواية تعبير «أوكي» العامي الذي كان يُطلَق على المهاجرين في رواية «عناقيد الغضب»)، تاركين أراضيهم بحثًا عن عمل. ويصوِّر بليش كسادًا اقتصاديًّا معاصِرًا تجسِّد فيه مدن الفضاء احتمالات اجتماعية مختلفة. أما رواية جون برونر «ميادين المدينة» (١٩٦٥)، فتستكشف العلاقات بين التصميم المستطيل، والمساحات المفتوحة، والسيطرة السياسية في عاصمة بأمريكا الجنوبية تُدعَى فادوس. في حين تقع أحداث رواية هاري هاريسون «أفسِحِ المجال! أفسِحِ المجال!» (١٩٦٦) في مدينة نيويورك عام ١٩٩٩ وتعرض صورة ذات مغزًى للزيادة السكانية في العالم؛ حيث وصل مخزون الطعام إلى مستوًى حَرِج. قُدِّمت الرواية في فيلم عام ١٩٧٣ يحمل عنوان «سويلنت جرين»، وهو اسم رقائق من الطعام الصناعي. وأخيرًا، تصف رواية فيليب وايلي «لوس أنجلوس: ٢٠١٧ بعد الميلاد» (الصادرة عام ١٩٧١) مدينة مستقبلية تُعاني تلوثًا شديدًا تسبَّب في لجوء البشر إلى الحياة تحت الأرض. في تلك الروايات وغيرها من الروايات المشابِهة، تؤدي الكارثة إلى ظهور حكومة فاشية.
أحد أعقد توصيفات المدينة وأكثرها تميُّزًا بالطابع السريالي نجده في رواية صامويل ديلاني «دالجرين» (١٩٧٥)، التي تحكي عن كارثة تضرب مدينة بيلونا (المُسمَّاة تيمُّنًا بإلهة الحرب الرومانية). ينجرف البطل نحو المدينة، ويخوض عددًا من اللقاءات الجنسية الوجيزة، ويقابل عصابات، وناجين آخرين غيره، لكنه لا يكوِّن أبدًا أي إدراك كلي حول تصميم المدينة. يتمكَّن ديلاني من تحقيق هذا التأثير عن طريق إبقاء منظور السرد قريبًا من فِكَر البطل؛ لذا، بغضِّ النظر عن كم الأحياء السكنية التي يَعبُرها والمباني المهجورة التي يتسلَّقها، لا يتكون لديه أبدًا أيُّ إدراك للمسافة. يتغير الزمان والمكان باستمرار، مع تغيُّر إدراك البطل البصري للمدينة التي يحجبها دخان ناتج عن حرائق عشوائية. يحافظ ديلاني على منظور ثابت لا يتغير، ولا يُتيح للقارئ أبدًا إدراكًا يفوق إدراك بطل الرواية — الذي يُدعَى «كيد» — على الرغم من تحوُّل السرد بين الحين والآخر إلى ضمير الغائب. يُسفِر ذلك عن تدفُّق سريالي لأحداث محلية مفعمة بالحيوية داخل فضاء حضري ذي حدود ملتبسة. وفي النهاية، تبدو مدينة ديلاني مدينة مفكَّكة وعَصيَّة على الإدراك.
حسب زعم فيفيان سوبتشاك، تميل أفلام الخيال العلمي في فترةِ ما بعد الحرب إلى عرض صورة سلبية للمدينة، وتطرح سيناريوهات تركِّز على التدمير أو الإخلاء. إحدى العلامات الدالة على هذا التركيز هي تصوير المدينة كشبكة تحكم؛ ومن ثمَّ، يصف الفيلم التليفزيوني البريطاني «ماكس هيدروم» ارتقاء البرمجة اللاشعورية، بينما يعرض فيلم «البرازيل» (كلاهما من إنتاج عام ١٩٨٥) نظام حُكم على نمط جورج أورويل يعتمد على التنظيم البيروقراطي. أما فيلم جان لوك جودار «ألفافيل» (١٩٦٥) فيجمع بين ثلاثة أنواع سينمائية: الخيال العلمي، والجاسوسية التشويقية، وقصص المُحقِّق الأمريكي الخاص. تدور أحداث الفيلم حول قدوم العميل ليمي كوشن من مدينة «نويفا يورك» في مهمة للقبض على البروفيسور فون براون أو قتْله، وهو ليس اختصاصي الصواريخ المتوقَّع، بل مصمِّم مجموعة من أجهزة الكمبيوتر، من بينها جهاز ألفا ٦٠ الذي يقع في مركز المدينة في الفيلم، وهي نسخة مستقبلية من مدينة باريس. يُوصَف جهاز الكمبيوتر بأنه «عاصمة مَجرَّة بعيدة»، وهو (الكمبيوتر) مَنْ يستجوب ليمي بنفسه فور القبض عليه.
رغم ذلك يقدم فيلم ريدلي سكوت «الراكض على حدِّ النصل» (بليد رَنر) ١٩٨٢، أحد أعقد التصورات البصرية لمدينة المستقبل وأكثرها سردًا للتفاصيل. كان تغيير موقع الأحداث من مدينة سان فرانسيسكو كما في رواية فيليب كيه ديك الأصلية إلى لوس أنجلوس خطوة استراتيجية؛ فطالما مثَّلت لوس أنجلوس في المخيلة الأمريكية مدينة التغير المُثلَى. وعلى الرغم من وقوع أحداث الفيلم في مستقبل يبعد أربعين عامًا، فإن الديكور تضمَّن تفصيلاتٍ لا حصر لها من الولايات المتحدة قبل أربعين عامًا؛ أي من حقبة رايموند تشاندلر وأفلام الجريمة الغامضة. وقد أسفر استخدام سكوت المتكرر ﻟ «الإحالة التصويرية» عن مزيج فريد من التفاصيل المستقبلية والتاريخية؛ ففي لحظة نرى سيارات طائرة، وفي اللحظة التالية تمر مجموعة من الدراجات، وهكذا نشاهد على غير العادة مدينة مستقبلية لها تاريخ. ورغم أن فيليب ديك لم يمتدَّ به العمر ليرى النسخة النهائية من الفيلم، فإنه زار بالفعل استوديوهات التصوير وشاهد تقريرًا تلفزيونيًّا عن إحدى جلسات التصوير، وانبهر بالتفاصيل الملموسة لطريقة صنع الفيلم، وصرَّح قائلًا: «إنه عالَم يعيش الناس فيه بالفعل.» يجسِّد الفيلم القوة في صورة مبنى شركة تايريل الهرمي الضخم ويَستخدم في المَشَاهد الافتتاحية صورة مركزية لعَيْن متضخِّمة تشير في الوقت نفسه إلى المراقبة، وإلى أنشطة بطل الفيلم نفسه كمحقِّق خاص ينتمي للوقت الحاضر، وكذلك إلى عضو الجسد الوحيد القادر — حسب المفترض — على تمييز الإنسان من المُستنسَخ.
الروبوت والسايبورج
دخل مصطلح «روبوت» اللغة عام ١٩٢٠ عبر مسرحية الكاتب التشيكي كاريل تشابِك «آر يو آر: مصنع روسوم العالمي للروبوتات»، وكانت الكلمة توحي بالعمل الشاقِّ، بل وبالعبودية. ومع تطور استخدام المصطلح، أصبح يعني «جهازًا صناعيًّا يحاكي أفعال الإنسان، وأحيانًا شكله»، قد يعمل ذاتيًّا أو يخضع للتحكم عن بُعْد. ترجع الأجهزة الشبيهة بالروبوت التي وُجِدت قبل عام ١٩٢٠ إلى عصر قديم، وهي الأجهزة التي عُرِفت باسم الرجل الآلي أو الأندرويد (التي تعني حرفيًّا شبيه الإنسان). بدأت تلك الأجهزة في الظهور في أدب القرن التاسع عشر عبر شخصية الرجل الآلي الراقص في قصة إي تي إيه هوفمان «رجل الرمال»، وفي تعليقات إدجار ألان بُو — التي تعكس انبهاره — على آلة لعب الشِّطْرنج التي كان يملكها يوهان ميلتسل، وفي رواية إدوارد بولوير ليتن «العِرق القادم» (١٨٧١)؛ حيث تحتوي بيوت المستقبل على رجال آليين منزليين. أما رواية إدوارد إس إيلِس «الصيَّاد الضخم، أو رجل البراري البُخاري» (١٨٦٥) فتقدم أول وصف تفصيلي لتلك الأجهزة؛ حيث يبلغ طول الآلة في الرواية عشرة أقدام، وهي مصنوعة بالكامل من الحديد ومزوَّدة بمِرجل. وحسب المعايير الحديثة، يعكس هذا الشكل صورة بدائية حقًّا للروبوت، الذي يرتدي فوق ذلك «القبعة المَدْخَنة» المميِّزة لنبلاء العصر الفيكتوري. كانت آلة إيلِس تعمل بالبخار وتجمع بين عناصر الانتقال (القوة المحرِّكة)، والإنسانية (الشكْل)، ووظيفة الحصان (إذ كان يتحكم فيها بواسطة لجام).
ما إنْ بدأت الروبوتات في الظهور في كتابات القرن العشرين حتى ظهر عدد من القضايا المركزية؛ فعلى سبيل المثال، تستحضر قصة سيدني فاولر رايت «الرجال الآليون»، الصادرة عام ١٩٢٩، مستقبلًا قاتمًا حلَّ فيه الرجال الآليون محل البشر في «انتصار» لمسيرة التطور. وفي فيلم «المدينة الكبرى» يصمِّم المخترع روتوانج مُستنسَخًا من شخصية ماريا، أما مسرحية «آر يو آر» فتصوِّر سيطرة الروبوتات على الاقتصاد العالمي. لقد أصبح الاستبدال والاستنساخ عنصرين من عناصر الخوف الرئيسية في قصص الروبوتات، وهي مخاوف تتعلق بفقدان البشر لمركزيتهم. تتمحور رواية فيليب كيه ديك «هل يحلم الأندرويد بخِراف كهربية؟» (١٩٦٨) — المقتبَس عنها فيلم «الراكض على حدِّ النصل» — حول عنصر الخوف الثاني. وتدور أحداث الرواية حول أجهزة الأندرويد العضوية التي صُمِّمت للعمل في المستعمرات المريخية، لكنها هربت من العبودية لتأتي إلى كوكب الأرض الذي دُمِّر إثْر حرب عالمية نهائية. وأثناء سعْي المحقِّق ريك ديكارد خلف تلك الكائنات بتكليف من شرطة سان فرانسيسكو، يطرح باستمرار تساؤلات عن طبيعة الهوية. وتعرض الرواية منذ الصفحة الأولى عالمًا خضع بالفعل للماكينة في كثير من جوانبه، فحتى ديانة الدولة — المرسيرية — سُمِّيت على اسم طريقة صناعية لمعالجة الأقمشة. كيف نستطيع إذن تمييز المُستنسَخين عن البشر الأصليين؟ لا يملك ديكارد إجابة على ذلك، بل ويبدو متردِّدًا في الاعتقاد بأن جميع المُستنسَخين لا بشريون. وعلى نحو مماثل، في الفصل الثالث من مسرحية «آر يو آر»، يبدأ جهازا روبوت في إظهار مشاعر بشرية؛ ومن ثمَّ ربما ينبغي علينا إضافة عنصر خوف ثالث إلى قضية الروبوتات؛ وهو احتمال أن يتسبَّبوا في النهاية في جعل تمييز البشر أمرًا مستحيلًا.
- (١)
لا يجوز لروبوت إيذاء بشري أو السكوت عما قد يسبب أذًى له.
- (٢)
على الروبوت إطاعة أوامر البشر، إلا إذا تعارضت مع القانون الأول.
- (٣)
على الروبوت المحافظة على بقائه، ما دام لا يتعارض ذلك مع القانونين الأول والثاني.
إن الاستراتيجية البسيطة التي اتبعها أزيموف لوصف الروبوتات وصفًا عقلانيًّا «باعتبارها آلات لا استعارات مجازية» بدَّلت طريقة عرضها في الخيال العلمي. وبعيدًا عن الْتِزام أزيموف بتقديمها تكنولوجيًّا، فإنه تمكَّن كذلك من توسيع الاستخدام المجازي للروبوتات كعُمَّال. وتقدم قصة «رجل المائتي عام» (١٩٧٦) مثالًا شائقًا للغاية على ذلك؛ نظرًا لمعالجتها الضمنية لقضية العِرق؛ فعلى غرار الكثير من قصص أزيموف اللاحقة عن الروبوتات، تضفي افتتاحيةُ القصةِ الصفةَ البشريةَ على البطل عن طريق تقديمه باسم أندرو مارتن، مما يؤجِّل إدراك القارئ لكونه روبوتًا، ولا نستدل على ذلك إلا بعبارة «التبلُّد الهادئ» التي تصف وجهه. وعلى مدار القصة، تمتد المقارنة بين الروبوت والأمريكيين من أصل أفريقي؛ ولهذا فإن النهاية — عندما يسعى أندرو للاعتراف به كإنسان — تأتي مُحمَّلة بالمغزى العرقي والإنساني على حدٍّ سواء، لا سيما عند النظر إلى الظروف التي أحاطت بنشر القصة أثناء عام الاحتفال بمرور مائتي عام على تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية المستقلة.
وعلى الرغم من أن الخط الفاصل بين الروبوت والسايبورج ليس محددًا وفاصلًا، فإن السايبورج يختلف عن الروبوت في أنه تكوين هجين. ابتُكِر مصطلح السايبورج عام ١٩٦٠ في سياق يتعلق بالبقاء على قيد الحياة في الفضاء؛ فهو كائن سايبرنيتيكي، ببساطة مزيج بين الإنسان والآلة. تدور أحداث رواية مارتن كيدن «سايبورج»، الصادرة عام ١٩٧٢، حول طيَّار يُعاني من إصابات بشعة إثر حادث تحطم طائرة، ويتولَّى مكتب العمليات الاستراتيجية الحكومي السري مهمة إعادة بناء جسده شريطة أن يعمل لصالحهم. تستكشف القصة أحد أكثر تطبيقات الكائنات السايبرنيتيكية شيوعًا، مجال الطب تحديدًا، وتطبقه على هياكل القوة المعاصرة. إحدى المعالجات المماثلة والأكثر شهرة هي فيلم «الشرطي الآلي» (روبوكب) الذي عُرِضَ عام ١٩٨٧ ويحكي عن ضابط شرطة من مدينة ديترويت يخضع لعملية إعادة إنشاء على يد شركة أومني كونسيومر برودكتس، التي سيطرت على قوة الشرطة بالمدينة وأعادت البطل إلى الشارع بعدما تحوَّل إلى شرطي آلي؛ أي الضابط المطبِّق للقانون الذي لا يمكن مقاومته على الإطلاق والذي يشبه راعي بقرٍ مدرعًا.
لكن مسار التجربة ينحرف، ليعكس النموذج السردي المستخدم في رواية «فرانكنشتاين» رغم عدم تناولها لمفهوم السايبورج. فبما أن ذاكرة الشرطي الآلي الأصلية لم تُمحَ، يتتبع النصف الثاني من الفيلم محاولاته للانتقام من «قاتليه».
قدَّمت سلسلة أفلام «المُدمِّر» — التي قام ببطولتها أرنولد شوارزنيجر — أفضل معالجة سينمائية معروفة لفكرة السايبورج. في أول أفلام السلسلة، تقع الأحداث في الوقت الحاضر (عام ١٩٨٤) إلى أن تقتحمها شخصيتان من عام ٢٠٢٩ المستقبلي؛ وهما المُدمِّر وخصمه. إن المُدمِّر عبارة عن آلة قتْل مدرَّعة من الداخل تغطِّيها طبقة من الأنسجة البشرية الحية؛ أي إنه بعبارة أخرى قاتل سايبرنيتيكي. ونظرًا لقدرته على إصلاح نفسه، ترى دونا هاراواي — أستاذة تاريخ العلوم والبيولوجيا — أنه يمثل «الأداة ذات التحكم الذاتي والقدرة على التجدد بكل تنويعاتها اللانهائية ذات الهوية الذاتية.» وعلاوة على ذلك، خرج الفيلم عن إطار المألوف في أفلام الحركة عندما عَرَض هزيمة المُدمِّر على يد ضحيته الأنثوية التي كان يستهدفها.
قدَّمت دونا هاراواي العمل التنظيري الرئيسي لمفهوم السايبورج في مقالها «إعلان مبادئ السايبورج» الذي نشرتْه عام ١٩٨٥، وعرضت من خلاله المفهوم باعتباره أداة جدلية تُستخدَم لتحطيم الفروق ذات الوضوح الزائف، مثل تلك التي تفصل بين البشر والآلة. وتستخدم هاراواي كتابات الخيال العلمي النسوية لأديبات مثل جوانا روس وغيرها لإعطاء السايبورج مركزية ثقافية باعتبار أنه يمثل الطبيعة الهجينة التي تميز وجودنا المعاصر، وتزعم أن ريتشل — المرأة المُستنسَخة في فيلم «الراكض على حدِّ النصل» التي يشتهيها ريك ديكارد ويخشاها في الوقت ذاته — هي «صورة للحَيْرة، والحب، والخوف في ثقافة السايبورج.»
اتبعت مارج بيرسي خُطى هاراواي في استخدامها للسايبورج من أجل دراسة القضايا الاجتماعية والجنسية، وذلك في روايتها «هو، وهي، وهذا» التي صدرت عام ١٩٩١ (ونُشِرت بعنوان «جسد من زجاج» خارج الولايات المتحدة الأمريكية) وتقع أحداثها في منطقة خاصة باليهود داخل أمريكا عام ٢٠٥٩. تحكي الرواية عن سايبورج غير قانوني، يُدعَى يود (الحرف العاشر من الأبجدية العبرية)، صُمِّم ليَحمِيَ المستعمرة مثلما خُلِق جولم من الطين في القرن السادس عشر لحماية المجتمع اليهودي في براج حسبما تزعم الأسطورة. تمزج بيرسي بين الفصول التي تلخص قصة جولم وتلك التي تتبع تطور العلاقة بين يود والبطلة شيرا. تقل غرابة السايبورج جذريًّا باعتباره كائنًا غريبًا عبر قدرته على الانشغال بالتفكير، وإبداء السرور، بل وحتى وصف موروثه الثقافي ﺑ «الوحشي». إن إشارة يود الضمنية إلى رواية «فرانكنشتاين» توحي بأن عملية خلقه كانت شكلًا من أشكال الميلاد. في الواقع، لا يبدو يود كائنًا هجينًا إلى حدٍّ كبير، بما أن أجزاءه الآلية معظمها غير مرئي، بل يبدو كائنًا عقلانيًّا نموذجيًّا لا يؤمن بمُحرَّمات.
إن تصميم الروبوتات والسايبورج بالشكل البشري يشير إلى أن التكنولوجيا تعمل في كثير من الأحيان في الخيال العلمي على تجزئة الجسد وتفكيكه لأغراض إعادة البناء والتعديل. ويزعم ناقدون مثل جيه بي تيلوت أن تلك هي الفكرة التكنولوجية الرئيسية والأهم في الخيال العلمي، وترجع أصولها بالطبع إلى رواية «فرانكنشتاين»، التي اعتبرها برايان ألديس وآخرون نصًّا أوليًّا من نصوص الخيال العلمي. إن موقف النص المتردد حيال التجريب ينعكس عبر اختراق فرانكنشتاين لحُرمة الموت من أجل تصميم شخص من أجزاء الموتى وعبر حقيقة أن «الوحش» (أو «الشيطان» كما يُطلَق عليه) لا يملك اسمًا؛ ومن ثَمَّ لا يمكن إدراكه بمعزل عن فرانكنشتاين. ويدعم تبديل المنظور بين الخالق والمخلوق هذا التأثير ليس إلا. في قصص الخيال العلمي المبكرة التي تتناول الهندسة الحيوية، تتكرر هذه الازدواجية بين مَنْ يجري التجربة ومَنْ يخضع لها، وتسفر في النهاية عن نتائج مميتة تقع على رأس الشخص القائم بإجراء التجربة، كما يتضح في حالة جيكل وهايد، ودكتور مورو وشعبه المتوحش في قصة ويلز، والجرَّاحين وهاري بنسون في رواية مايكل كرايتون «رجل الأقطاب الكهربائية» (١٩٧٢). في المثال الأخير، يتحكم جهاز كمبيوتر قريب في الأقطاب الكهربائية المزروعة في الرجل؛ مما يشير ضمنًا إلى اضطرار بنسون للتضحية باستقلاله من أجل تلقِّي العلاج. ومع تزايد تعقيد ما يُزرَع داخل الجسد، زاد تعقد التصورات التي تتناول طرق تعديل الذات. أحد أشدِّ الاحتمالات تخوفًا هو ما يعرضه فيلم «الاستدعاء الكامل» (توتال ريكول) عام ١٩٩٠ (المأخوذ عن قصة بقلم فيليب كيه ديك)، والذي يحكي عن تحويل الذكريات المزروعة إلى سلعة في شكل من أشكال السياحة الافتراضية. لكن عندما يزور دوجلاس كويد شركة ريكول من أجل «العلاج»، يتضح أن ذاكرته قد انْمَحَتْ بالفعل. ومنذ تلك النقطة، تنقسم هويته إلى اثنتين؛ عندما يتلقَّى مقطع فيديو من هاوزر — شخصيته الثانية — وعندما يدخل كوكب المريخ متنكرًا في زي امرأة. وحتى لحظة النهاية، يتجلَّى عجزه عن إيجاد أي توثيق محدَّد لِذَاته.
أجهزة الكمبيوتر
يحمل مصطلح كمبيوتر في حد ذاته معنًى مزدوجًا ينعكس في طرق تناول الخيال العلمي له. قد تُشير الكلمة إلى شخص يُجري حسابات أو إلى آلة تؤدي عمليات مماثلة، وقد تكرَّر عبر كتابات الخيال العلمي في الفترة التالية للحرب السؤالُ التالي عن أجهزة الكمبيوتر: هل تسهِّل على البشر أم تُوقِعهم في شَرَك؟ هل تساعد النشاط البشري أم تحل محله؟ يبدو الإطار المهيمن على وجهات النظر الأدبية منبعثًا من الخيار الثاني من تلك الاحتمالات؛ فعلى سبيل المثال، تَصِف رواية كيرت فونيجِت الأولى «البيانولا» (١٩٥٢) استخدامَ حكومة الولايات المتحدة لجهاز كمبيوتر عملاق، يُدعَى إبيكاك ١٤، قادر على التنبُّؤ بكَمِّ البضائع التي سيحتاجها السكان. لكن التنبؤ يتحول إلى إلْزام، ويحدد الكمبيوتر أكفأ طُرُق أداء الأعمال بغضِّ النظر عن عدد مَنْ يفقدون وظائفهم نتيجةً لذلك. يرى فونيجِت أن الكمبيوتر يعكس مفهوم ميكنة السلوك، والحديث، بل وحتى التفكير، ويدعمه كذلك.
أما رواية فيليب كيه ديك «مطرقة فولكان»، الصادرة ١٩٦٠، فتطرح احتمالًا أشدَّ ارتيابًا يتعلق بالمراقبة من خلال جهاز كمبيوتر فائق القدرات يُدعَى فولكان. يتمركز الجهاز في جنوب مدينة جنيف — في قلب حكومة العالم — ويصدر وحدات إلكترونية متحرِّكة تتنقل جامعةً معلوماتٍ عن رعاياها. في حين تتوسع رواية إيرا ليفين «هذا اليوم الرائع» (١٩٧٠) في تناول تلك الموضوعات بأسلوب ينتمي بوضوح أكبر إلى نمط المدن الفاسدة. ومرةً أخرى تدور الأحداث في دولة عالمية يترأسها جهاز كمبيوتر يُدعَى يونيكومب، يتولَّى تسمية الأطفال ويُرسل «استشاريين» يُستدعَوْن كلما أبدى أحد الأفراد سلوكًا مبتدَعًا. وخلف الكمبيوتر تقبع نخبة خفية من المبرمِجين الذين يكرِّسون حياتهم — مثل الموظفين في رواية «١٩٨٤» — للحفاظ على الوضع القائم للأبد.
ارتبطت أجهزة الكمبيوتر بالجيش منذ رواية بيرنارد وُلف «ليمبو» (١٩٥٢)، التي تستعرض جذور العدوان الفاسِدة أثناء الحرب الباردة. في الرواية، أصبحت المؤسسات العسكرية في الشرق والغرب تُدار بواسطة أجهزة الكمبيوتر، وهكذا أصبح كِلَا الطرفين يمتلك الآن «جيشًا سايبرنيتيكيًّا». وتارة أخرى، يحدث تبادل للمواقع ويعكس كل جهاز صورة لنشاط الآخَر عبر إرسال الجنود إلى نقاط مواجهة مختلفة حول العالم. يحدث انعكاس مماثل في رواية موردخاي روشوالد «المستوى ٧» (١٩٥٩)؛ حيث يشغل الراوي وظيفة عامل تشغيل في خندق دفاعي مُمَيْكن تحت الأرض، وتُوجَّه إليه تعليمات آلية بالضغط على الزر الذي يؤدي إلى اندلاع الحرب النووية. تقدم رواية وُلف في الأساس معالجة مبكرة جدًّا للسيناريو نفسه الذي تناوله ماك رينولدز في روايته «حرب الكمبيوتر» (١٩٦٧)؛ حيث ينقسم العالَم إلى دولتين: ألفالاند وبيتاستان. تملك ألفالاند وحدها جهاز كمبيوتر يتنبَّأ بالتفوُّق الاقتصادي لذلك النوع من نظام الحُكم على منافسه وبحتمية حُكم العالم. لكن سلوك الدولة الثانية يتناقض مرارًا مع تلك التنبؤات التي تظل غير محققة. يتضح كذلك الوجود الرمزي لأجهزة الكمبيوتر في الكتابات السياسية المعارضة للحرب الباردة في رواية «جايلز الفتى العَنْزَة» (١٩٦٦) بقلم جون بارث، الذي لا تنبع شهرته الأساسية من كونه كاتب خيال علمي. في الرواية، يُقدَّم الغرب في صورة حرم جامعي شاسع يترأسه جهاز كمبيوتر يُدعَى ويسكاك، تمكَّن تدريجيًّا من الهيمنة على جميع مراكز صنع القرار، ويوضح أن العملة السياسية الجديدة هي المعلومات. يقابل جهاز ويسكاك في الحرم الجامعي الآخر (أي في الشرق) جهاز إيسكاك، ومن خلال مواجهة تطرح مجازًا رمزيًّا للمواجهة بين شرق وغرب برلين، تقترح الرواية نظريًّا أن الحدود التي ترسمها أجهزة الكمبيوتر هي حدود اعتباطية تمامًا.
ينصبُّ التركيز الطاغي في تلك الروايات على عرض كيفية استخدام أجهزة الكمبيوتر من أجل دعم نظام سلطة فاسد. ومع بلوغ أجهزة الكمبيوتر مستوى الوعي، أو مع تجسدها في شكل بشري، يصبح هذا التطابق مع نظام الحكم الاستبدادي أسهل كثيرًا. تنتمي رواية روبرت هاينلاين «القمر عشيقة متقلبة» (١٩٦٦) على ما يبدو إلى هذا النمط، رغم أن بعض التطورات في أحداثها توحي بنشأة موقف أشد تعقيدًا. يقدم لنا هاينلاين حكاية رمزية أخلاقية عن الاستعمار؛ حيث أصبح القمر مكانًا ملائمًا للتخلص من المجرمين وغيرهم من «المنبوذين». تَستخدم السلطاتُ جهازَ كمبيوتر — يدعى هولمز ٤ — لإدارة تلك المستعمرات، وتبدأ حبكة الرواية بجهاز الكمبيوتر وقد بدأ يتصرف على نحو شاذٍّ. يروي القصة مانويل — ويُشار إليه بالاسم مان — مبرمِج الكمبيوتر الذي يدعو الجهاز باسم مايك، في خطوة لا تضفي الطابع البشري فحسب على الجهاز، بل تربطه كذلك بمفهوم التحليل المنطقي عبر الإشارة إلى شخصية مايكروفت، شقيق شرلوك هولمز. ومع تطور أحداث الرواية، يبدو أن الحياة قد دبت في مايك تدريجيًّا؛ إذ يبتكر اسمًا مستعارًا وتعبير وجه خاصًّا به، ويستخدم لهجة حديثة يتزايد مستوى تعقيدها. وفي خطوة أبعد ما تكون عن دعم النظام الاستعماري/التجاري، يصبح مايك لاعبًا محوريًّا في ثورة القمر ضد سادته المتوحشين.
حتى سبعينيات القرن العشرين، ظهرت أجهزة الكمبيوتر في صورة وحدات تحكُّم تخزينية ضخمة قائمة في موقع محدد. وعقب ظهور التصميمات المصغرة وانتشار الأنظمة الإلكترونية، تراجعت عادةً صورة أجهزة الكمبيوتر كأجسام مستقلَّة في الخيال العلمي وبدأ دمجها في أنظمة معقَّدة لتبادل المعلومات. ومع تزايد تعقيد أجهزة الكمبيوتر، أصبحت تُدمج عادةً في بيئة إلكترونية كلية. يجسِّد فيلم «المصفوفة» (ذا ماتريكس) ١٩٩٩، هذه النقلة عندما عرض الواقع في صورة محاكاة إلكترونية معقدة تهدف إلى إخفاء «الحقيقة» عن الأفراد. يصف الفيلم البطل توماس أندرسون بأنه يعمل رسميًّا مبرمج كمبيوتر لكنه يعمل في الخفاء قرصانًا إلكترونيًّا أيضًا، ويدرك أن صراعًا ممتدًّا يدور بين البشر والآلات في وقتٍ ما من المستقبل. وفي الواقع، ينبع الجزء الأكبر من تأثير الفيلم من الطرق التي يزعزع بها أقطاب الحقيقة والوهم، العام والخاص، البشري والآلي. إن تحطيم الأُطُر المتكرِّر في الفيلم يجعل من المستحيل على المُشاهد تحديد أي واقع غير خاضع لأي تأثير من أي نوع، وهكذا أصبحنا بالفعل على الطريق المؤدي إلى التصوير المعاصر لشبكة الإنترنت باعتبارها امتدادًا إلكترونيًّا شاسعًا بلا مركز ولا ذكاء متحكم. وعلاوةً على ذلك، يوضح فيلم «ذا ماتريكس» — بأجزائه — التداخل بين تكنولوجيا المعلومات والجسد، وهو ما يظهر في المعنى المزدوج لعنوان الفيلم؛ حيث يعني شبكة إلكترونية، ويستغل في الوقت نفسه معناه الاشتقاقي وهو «رحم». ومن ثمَّ، يتحرك جسد البطل حسب إملاءات الحبكة، وفي بعض الأحيان يصبح هو موقع تلك الحبكة؛ أي باختصار يصبح هو نفسه إلكترونيًّا.
مرحلة السايبربانك وما بعدها
نشأ أدب السايبربانك في ثمانينيات القرن العشرين، ويُعتبر في جزء منه ردًّا على «أدوات الاندماج العالمي»، كما زعم بروس ستيرلنج في مقدمته لكتاب «نظارات شمسية عاكسة: مقتطفات من أدب السايبربانك» (١٩٨٦). يرى ستيرلنج أنه أدب عصر العولمة، مصرحًا بأن «السايبربانك يَضِيق ذَرْعًا بالحدود.» وعلى القَدْر نفسه من الأهمية، يأتي الدمج المعقَّد للتكنولوجيا كإحدى السمات المميِّزة لهذا النوع من الأدب، كما يتضح في رواية ويليام جيبسون «نيورومانسر» (١٩٨٤)، التي ابتكرت مصطلح «الفضاء السايبري». وتفسر تطبيقات لاحقة هذا المصطلح باعتباره يشير إلى بيانات داخل شبكة تتخذ شكل نموذج ثلاثي الأبعاد، أو بوجه عام إلى بنية من المعلومات داخل مجموعة من النظم التي تُعْرض في صورة بيئة مفتوحة بلا حدود. ويتيح لنا التعريف الثاني مَدخلًا يساعدنا أكثر على فهم رواية «نيورومانسر»، التي تجمع بين عناصر أدب الجريمة الغامضة والصور الجديدة التي تصف أنشطة الحوسبة. تجمع الرواية حبكتين وهما العلاقة بين كايس — بطل الرواية — ومولي (التي يُشار إليها عبر تورية لفظية في عنوان الكتاب بمعنى «الرومانسية الجديدة»)، وبحث كايس عن وسيلة لطرد المواد السامة من منظومة جسده. يستخدم هذا المصطلح الأخير (منظومة) عن قصد؛ لأن ما يضفي تعقيدًا على حبكة الرواية هو الانتشار الكثيف للأنظمة على جميع المستويات؛ بدءًا من الجسد، ومرورًا بالشبكات الإجرامية، وانتهاءً بالمصفوفة. يقع المشهد الافتتاحي في حانة، حيث يملك الساقي ذراعًا اصطناعيَّة وأسنانًا فولاذية؛ مما يحدد إحدى السمات الرئيسية في الرواية؛ وهي أن جميع الشخصيات تبدو بطريقة أو بأخرى إما نوعًا من السايبورج أو ضحية إجراءات واسعة النطاق مثل إفساد جهاز كايس العصبي عبر المواد السامة، التي تؤدي إلى إصابته تقريبًا بالشلل، فيقتصر نشاطه على الحلم بالمصفوفة متذكرًا أيامَ كان قرصانًا إلكترونيًّا. يبدأ كايس علاقة مع مولي، وهي شخصية حسنة التصرف في المواقف الصعبة ترتدي نظارة مثبَّتة جراحيًّا بوجهها وتملك شفرات فتَّاكة قابلة للسَّحْب في نهايات أصابعها. تتحرك تلك الشخصيات وغيرها عبر «السبرول» — وهو مصطلح مركب يعني مجتمعًا حضريًّا — سواء كانوا في اليابان أم الولايات المتحدة الأمريكية أم تركيا. وعلى الرغم من الاختلافات الاسمية بين تلك المواقع، فإن توظيف جيبسون لمفهوم العولمة يبرز في استدعائه لنظام عالمي من نفوذ الشركات يمثل نشاط الرأسمالية الحديثة. ومثلما تعرضت الشخصيات للغزو من قِبَل الأطراف الصناعية أو المخدِّرات أو البيانات الإلكترونية فإنهم يتحركون داخل عالم تمرُّ فيه جميع عناصر البيئة — فيما يبدو — عبر المصفوفة أو الصور المجسَّمة أو الهندسة الجينية. وفي ذلك الإطار، يستحضر جيبسون عالمًا تكنولوجيًّا بالكامل يتضح من خلال مجازات مثل مجاز النظام الشبكي؛ حيث تتسطح جميع الأشياء لتتحول إلى بيانات جاهزة للمعالجة.
يلعب الدافع نفسه دورًا رئيسيًّا في رواية جيبسون «تمييز الأنماط» (٢٠٠٣)؛ حيث تقع الأحداث في الحاضر، وهو تغيير ليس بكبير بما أن الكاتب أصرَّ مرارًا على أن الخيال العلمي يُفسِّر الحاضر لا المستقبل. وكما يُشير العنوان، تصف الرواية محاولات كايسي (وهي نسخة أنثوية منقَّحة من كايس) لتحديد أصل مقاطع فيديو غامضة منشورة على الإنترنت؛ حيث يطرح مفهوم الأصل نفسه إشكالية في شبكة عالمية يمكن الدخول إليها من أي مكان، ويتعقد مفهوم التفسير في حد ذاته — وهو موضوع الرواية الرئيسي — نتيجةً لعمليات إخفاء البيانات والتشفير.
وبينما يُلمح جيبسون في «تمييز الأنماط» إلى احتمالية تورط المافيا الروسية في مقاطع الفيديو تلك، فإن تركيزه ينصبُّ في المقام الأول على التأويل؛ على مشكلة تفسير البيانات. على النقيض من ذلك، يُبرِز أدب باتريشيا كاديجن إدراكًا أوضح لمفاهيم تملك التكنولوجيا السايبرية وتنظيمها؛ ففي روايتها الأولى «المتلاعبون بالعقول» (١٩٨٧) تخرق البطلة أَلي القانونَ عبر سرقة «مادكاب» (وهي خوذة واقع افتراضي)؛ مما يؤدي إلى خضوعها لتصوير شامل («لكل شيء من الداخل والخارج») على يد شرطة الأدمغة. تُضفي هذه المؤسسة الأورويلية الطابع على تعبير «التنظيف الجاف» الدلالات الخبيثة المرتبطة بغسل الدماغ، لكنها تعكس تطورًا يتجاوز رواية «١٩٨٤» يتبدَّى في تعقيد التكنولوجيا المستخدمة لتنفيذ ذلك. فالآن أصبحت الأفعال الجسدية مثل التفتيش الذاتي تنفَّذ داخليًّا؛ مما يوحي بأن العقول أصبحت من أملاك الدولة. أما رواية «ساينرز» (١٩٩١)، فتتناول مدينة لوس أنجلوس من خلال مؤسساتها الإعلامية، لا عبر أنظمة السينما والفيديو فحسب، بل أيضًا عبر شبكة أتوماتيكية لمراقبة حركة السير تُدعَى «جردليد». يطارد المدينة توقُّع مخيفٌ بحدوث كارثة، يُشار إليها ﺑ «الكارثة الكبرى» التي قد تكون زلزالًا، لكنه زلزال إلكتروني في الحقيقة، كما يتضح في الرواية. يؤدي انقطاع عام للكهرباء إلى شلِّ حركة المدينة في ازدحام مروري، يتحول — مثل أي شيء آخر — إلى مشهد إعلامي. تَعرض كاديجن رؤية مماثلة لرؤية فيلم «الراكض على حدِّ النصل» وغيره من الأعمال، وهو ما يتضح عن طريق خضوع المدينة لكيان ترفيهي ضخم يُدار بالكمبيوتر ويُدعَى شركة دايفرسيفيكاشنز. تصبح صورة توصيل الأسلاك تعبيرًا مؤثرًا لا عن تجارب الواقع الافتراضي لدى الأفراد فحسب، بل كذلك عن شبكة من الاتصالات الذاتية التوسع. ويُشير مقطع «ساين» في عنوان الرواية بالضبط إلى هذا الترابط، وإلى البُعْد الصناعي للخبرة الجماعية لدى سكان لوس أنجلوس. إن التوسع في «ساينرز» هو حقيقة تجارية من حقائق الحياة، بينما في رواية كاديجن «ديرفيش الرقمي» (٢٠٠٠) يتخذ التنظيم شكلًا مؤسسيًّا. في هذه الرواية، يعمل البطل ضابطًا كبيرًا في قسم الواقع الاصطناعي (الافتراضي) داخل إدارة مكافحة الجرائم الإلكترونية، ويتابع تحقيقًا في الواقع الافتراضي. لقد عدَّلت قصص كاديجن على نحو ملحوظ ما اعتبره بعض النقَّاد النسويين نقطة ضعف أدب السايبربانك؛ ألَا وهي عَرْضه الدرامي القوي للاختراق التكنولوجي للحياة اليومية مع ترك الافتراضات الذكورية للأحداث والأسلوب دون تغيير.
إحدى الشخصيات الأخرى التي لعبت دورًا مؤسِّسًا في اتجاه السايبربانك هو نيل ستيفنسون، الذي وضح أن عنوان روايته «الانهيار الثلجي»، الصادرة عام ١٩٩٢، يشير إلى انهيار الإلكترونات كما يحدث عند تبدُّد الصورة على شاشة التليفزيون، لكنه يحمل كذلك دلالات تراجع الإحساس بالنشوة بعد تعاطي الكوكايين؛ ومن ثمَّ، يجمع تعبير «انهيار ثلجي» في الرواية بين كونه استعارة، وفي الوقت نفسه مخدِّرًا وفيروس كمبيوتر. تقع الأحداث في حقبة مستقبلية بعد انتهاء عصر القوميات؛ حيث انهارت الولايات المتحدة إلى مناطق صغيرة معزولة ومكتفية ذاتيًّا تُدعَى «بيربكليفيز». أما بطل الرواية — هيرو — فهو قرصان إلكتروني وعامل توصيل بيتزا إلى المنازل؛ أي إنه ينقل نوعًا أو آخَر من البضائع مثل بطل رواية جيبسون «ضوء افتراضي» (١٩٩٣) الذي يعمل في خدمة التوصيل. يصوِّر ستيفنسون الأمريكيين في حالة هرب جماعي من أمريكا الحقيقية، باحثين عن ملجأ في تجمعات سكنية حضرية متطابقة. أما مَنْ يظلون متصلين بأمريكا على حالتها تلك، فهُم أهل الشارع الذين «يأكلون من الحُطام». يقدم هيرو نموذجًا لأولئك الأشخاص من خلال الاحتيال بالكسب غير المشروع وتجنب الفيروس، وهو مصطلح شامل في الرواية — كما في روايات ويليام بوروز — يغطي مجالات الحوسبة، والمرض، وحتى اللغة. على مدار الرواية، يميز ستيفنسون الواقع الافتراضي من الواقع المادي، مستخدِمًا كلمة الشارع — مثلما استخدم جيبسون إلى حدٍّ كبير كلمة المجتمع الحَضري (سبرول) — لتعبِّر تحديدًا عن طريقٍ سريعٍ افتراضيٍّ يعجُّ بعدد لا نهائي من الأفاتار، وهو مصطلح آخر اقتبسه ستيفنسون من الهندوسية لكي يشير إلى النسخة الإلكترونية من الذات. في الرواية تتجمع الأفاتارات في ملهًى ليلي افتراضي يُدعَى «بلاك صَن» (الشمس السوداء)، وهو اسم يوحي بمكان داخلي سري سحري، لكنه في الحقيقة مكان يضم خصائص أماكن التجمع في عالم الواقع.
زعم سكوت بيوكتمان أن أدب السايبربانك وغيره من «روايات هوية الوحدات الطرفية» يقدم وصفًا للثقافة المعاصرة يمكن الاعتماد عليه أكثر من غيره، وذلك عبر تجسيد حس الأنظمة الإلكترونية التي تهيمن على العالم الحديث. فهذه الأعمال تطرح رؤًى لعصرِ ما بعد الآلة، وهو بطبيعته أصعب شكل يمكن تخيله من أشكال التكنولوجيا، ومع ذلك فإن استراتيجيات التخيل التي تستخدمها هذه الروايات هي ما يربط بين الكثير من أفلام وأدب الخيال العلمي المعاصر. وفي الأعمال الأخيرة التي ناقشناها، يتضح أن الفكرة الرئيسية الوحيدة تتعلق بتواصل مختلف للغاية إلى حدٍّ يستحيل معه فصل الذات عن التكنولوجيا. وقد تناول كاتب الخيال العلمي الأسترالي، جريج إيجان، العلاقةَ بين التكنولوجيا الإلكترونية والهوية البشرية كإحدى القضايا الرئيسية في رواياته؛ فعلى سبيل المثال، تصوِّر رواية «مدينة الإحلال» (١٩٩٤) بِنَى واقعٍ افتراضي معقدة، وتصف عملية «النَّسخ» من العقول البشرية. كذلك تأثرت شيلي جاكسون برواية «فرانكنشتاين» وقصص أرض أوز في رواياتها الإلكترونية «الفتاة المرقعة» التي استخدمت فيها تكنولوجيا الكولاج، بينما ابتكر مارك أميركا «ماكينة كتابة افتراضية» في روايته «جراماترون» (١٩٩٧). وفي مثال أحدث، صدرت رواية الخيال العلمي المشوِّقة «الابن السابع» (٢٠٠٩) للكاتب جيه سي هاتشينز — وتحكي عن مشروع حكومي سري — في نسخة صوتية إلى جانب النسخة المطبوعة. وأخيرًا، قدَّم الكاتب جيف رايمن تصورًا مفعمًا بالحيوية لقدوم تكنولوجيا المعلومات إلى جمهورية بوسط آسيا في رواية «إير» (أيْ هواء) (٢٠٠٤)، التي يشير عنوانها إلى شكل من أشكال الإنترنت. وينعكس تحوُّل تلك الثقافة عبر «تحريك» النص وزيادة الإثارة فيه تدريجيًّا، ليضم على نحو تصاعدي كمًّا متزايدًا من رسائل البريد الإلكتروني ونُسخ ملفات صوتية.
لقد أدَّى التسارع الملموس في التغير التكنولوجي إلى صياغة مفهوم «التفرُّد»، لا سيما على يد عالِم المستقبليات رايموند كيرزوايل وكاتِب الخيال العلمي فيرنور فينج؛ فمن خلال تطبيق نموذج تغير تطوري، تنبآ بحقبة جديدة من الإنسانية الخارقة أو الذكاء البشري/الآلي، تَحْمل في تفاؤلها طابع العصر الألفي السعيد، وتحمل كذلك طابعًا روحانيًّا ينعكس في وعدها بالارتقاء، ونوعًا ما تشبه قصة من قصص الخيال العلمي في حد ذاتها. وتناولت أعمال الخيال العلمي بالفعل هذه الذروة التي شهدها التقدم التكنولوجي في روايات مثل «صحوة نيوتن» (٢٠٠٤) لِكين ماكلاود، و«أكسيليراندو» (٢٠٠٥) لتشارلز ستروس، إلى جانب عدد من الروايات الأخرى.