مجال الخيال العلمي
في هذا الفصل الأخير، لن أقدِّم تعريفًا للخيال العلمي، لكن سأزعم أن سعيه المتكرر لإعادة تعريف ذاته أو إعادة وصفها هو جزءٌ لا يتجزأ منه أثناء محاولاته التدريجية لإيجاد موطئ قدم في السوق الأدبية. يعالج جوستافوس دبليو بوب في مقدمة روايته «رحلة إلى المريخ» (١٨٩٤) مشكلة تصنيف عمله الأدبي ويُرجِع هذه الصعوبة إلى التغيُّر السريع في عصره. من الممكن تصنيف روايته على أنها «قصة رومانسية علمية»، وهو تعبير استُخدِم سابقًا لوصف روايات جول فيرن، لكن بوب يذكر أن هذا التصنيف هُوجِم؛ لأنه لا ينطبق على الموضوعات المتعلقة بالسفر بين الكواكب، والتي اعتبر النقَّاد أنها تنتمي إلى مستوى الحكايات السحرية أو الأسطورية. وعلى الرغم من رفض بوب لهذه التهمة على الفور، فإنها علامة على اكتساب الخيال العلمي لهوية خاصة به دفعت الكاتِب إلى بدء روايته الأولى بمناقشة حول التسمية. كان مصطلح «رواية رومانسية» مصطلحًا جامعًا ضمن مفردات النقد في القرن التاسع عشر، ويشير إلى أي سرد غير واقعي. وهكذا نلاحظ الشد والجذب بين العناصر التجريبية القائمة على الملاحظة والتجربة والعناصر الخارقة للعادة في «الرواية الرومانسية العلمية». يعود ويلز إلى هذه المسألة في مقدمة مجموعة قصص الخيال العلمي التي نشرها عام ١٩٣٣؛ إذ يَعقد مقارنة بين أعماله وأعمال فيرن؛ فالتفاصيل الممتدة التي يوردها الأخير ليست لها أدنى علاقة بما يطلق عليه ويلز حكاياته «الخيالية»، التي تركز على اختراع واحد يكمن في «العالم المألوف» وتتبع الآثار الناجمة عنه. يعبِّر ويلز عن تأييده لتعبير «الرواية الرومانسية العلمية» من خلال عرض مكثَّف للاتجاه الأدبي الذي يهدف في رأيه إلى تناول التجربة البشرية من وجهات نظر جديدة، وهكذا يَستَبِق من جديدٍ المناقشات اللاحقة حول الخيال العلمي.
الإعلام والتداخل بين النصوص
إنَّ الرغبة في فرض تصنيف موحَّد على الخيال العلمي تتجاهل التداخل النوعي المميِّز لكثير من الروايات، كما يتضح من خلال استخدام عناصر الأدب القوطي في رواية «جزيرة الدكتور مورو» أو استخدام مسرحية شكسبير «العاصفة» في رواية «الكوكب المحظور»، وغيرهما. تَزامَن ازدهار صناعة السينما مع بزوغ الخيال العلمي؛ ومن ثمَّ انطوت العلاقة بين أدب الخيال العلمي والسينما على افتنان مستمر بالمشاهد المبهرة والمؤثرات الخاصة العجيبة التي ابتدعها جورج ميلييس في فيلميه «رحلة إلى القمر» (١٩٠٢) و«الرحلة المستحيلة» (إمبوسيبل فوياج) ١٩٠٤. وتعتبر «القصة السينمائية» التي قدَّمها إتش جي ويلر بعنوان «الأحداث القادمة» (١٩٣٥) من أوائل أعمال السيناريو المنشورة في صورة كتاب، كما كانت دليلًا مباشرًا على مشاركته في صناعة «فيلم مُبهِر» ينبع من أحد أعماله. وفي الفترة اللاحقة لسبعينيات القرن العشرين عززت هوليوود هيمنتها على سينما الخيال العلمي عن طريق الاستخدام المتزايد للمؤثرات الخاصة المتطوِّرة.
كل النصوص نصوص متداخلة لأنها تولِّد معناها من خلال الإشارة إلى نصوص أخرى، لكن عنصر التداخل النصي في الخيال العلمي يحظى بتأثير أقوى من المعتاد، باعتباره نوعًا أدبيًّا غالبًا ما يَجِد منبرًا للتعبير عنه في وسائل الإعلام المختلفة، لا سيما السينما. تَظهَر أعمال الخيال العلمي في الأغلب في شكل سلاسل، وليس في شكل أعمال فردية. ولْنأخذْ مثالًا على ذلك سلسلة الأعمال المأخوذة عن رواية ويلز «حرب العوالم» (١٨٩٨)؛ ففي غضون أشهر من ظهور الرواية، ظهرت نسخة مسروقة منها تحت عنوان «محاربون من المريخ: حرب العوالم في بوسطن وقربها» في جريدة «بوسطن إيفننج بوست» (١٨٩٨)، والتي غيَّرت موقع الأحداث؛ ومن ثمَّ سهَّلت الاقتباسات التالية للرواية. وفي هذا العام نفسه، عوَّض جاريت بي سيرفيس هزيمةَ الأرض في روايته «غزو إديسون للمريخ»، وهي ردُّ فِعْل سريع على رواية ويلز، وتدور أحداثها حول قرار دول العالم تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية بنقل المعركة إلى المريخ وهزيمة المريخيين (الذين يُصوَّرون كأشباه بشر ضِخام الجسد) في عقر دارهم. كما يتضح من العنوان، تحتفي رواية سيرفيس بالخبرة العسكرية الأمريكية، في حين يعكس البرنامج الإذاعي الشهير، الذي قدَّمه أورسون ويلز بالتعاون مع شركة «ميركيري ثيتر» عام ١٩٣٨، تجربةً تمثيليةً بالغةَ الإقناع في تقنيات التحقيق الصحفي التوثيقي، حتى إن الكثير من المستمِعين ظنوا أنها حقيقية. وفي فترةِ ما بعد الحرب، قدَّم فيلم جورج بال الذي عُرِض عام ١٩٥٣ تغييرات إضافية على قصة، التي تَبدَّل موقعها مجددًا إلى كاليفورنيا وتعرض امتلاك المريخيين لآلات طائرة عصيَّة على التدمير حتى عن طريق القنابل الذرية. تتناول رواية جورج إتش سميث «الحرب الثانية بين العوالم» (١٩٧٦) خطرًا مماثلًا، وتقدِّم إعادة عرض للأحداث على أرض موازية بعدما حصَّن المريخيون أنفسهم ضد فيروسات الأرض، لكنهم هلكوا رغم ذلك أثناء محاولتهم تصميم قنبلة ذرية. وأخيرًا، ينقل فيلم المخرج ستيفن سبيلبِرج (٢٠٠٥) موقع الحدث إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية مستخدِمًا المزيد من المؤثرات الخاصة المبهرة، ويبدأ الفيلم باكتشاف أن مَركبات المريخيين موجودة بالفعل تحت الأرض لكنه يُعِيد استخدام نهاية ويلز الأصلية التي تعرض موت المريخيين جرَّاء عدوى مرضية. تُقدِّم تلك الأعمال كافةً تغييراتٍ مهمة على نص ويلز الأصلي؛ مما أدَّى إلى تعديله حسب الضرورات القومية المختلفة أو إمكانيات وسائل الإعلام المختلفة.
منذ سبعينيات القرن العشرين، أدت الأفلام التجارية الناجحة إلى ظهور فئات مختلفة من الأعمال ذات توجُّه تجاري أكبر. وأحد الأمثلة الشهيرة على ذلك هو عنوان فيلم ريدلي سكوت «الراكض على حدِّ النصل» (١٩٨٢) المستوحَى من سيناريو رواية لويليام بوروز الذي استعار التعبير بدوره من رواية ألان إي نورس «الراكض على حدِّ النصل» (١٩٧٤)، والتي تدور أحداثها عن تهريب معدات طبية محظورة. أما أحداث الفيلم، فهي مقتبسة من رواية فيليب كيه ديك «هل يحلم الأندرويد بخِراف إلكترونية؟» (١٩٦٨)، التي أُعيدت تسميتها لاحقًا على اسم الفيلم. يستوحي الفيلم مشاهده من فيلم «المدينة الكبرى» ومن الأفلام البوليسية الغامضة المعروفة بأفلام نوار، تتنوع النُّسخ المتوفرة منه، وأبرزها النسخة الدولية والنسخة الأمريكية. بعد عرض الفيلم، صدر عدد ضخم من الأفلام الوثائقية والدراسات التي تتناول كيفية تصويره، تلاها عدد من ألعاب الفيديو بينما نشر الروائي جيه دبليو جيتير ثلاثة أجزاء مكمِّلة له. وعند بلوغ تلك المرحلة، يتضح تحوُّل الفيلم الرئيسي إلى نقطة تقاطع بين أعمال متعددة شديدة التنوع صدرت قبل عرض الفيلم وبعده؛ مما أدَّى إلى تحول مفهوم العمل الواحد المتميِّز إلى مفارقة تاريخية، حلَّ محلها امتياز أو ملكية تجارية مرنة.
المجلات ومجتمع الخيال العلمي
لعبت مجلات الخيال العلمي دورًا فريدًا في تطور هذا النوع من الأدب؛ إذ كانت وسيلة للنشر بجانب دورها كساحة للنقاش المستمر عن طبيعة المجال. نُشِرت كتابات الخيال العلمي في مجموعة من المجلات الرائجة بحلول تسعينيات القرن التاسع عشر، لكن أول مجلة دورية متخصصة في الخيال العلمي كانت مجلة «أميزينج ستوريز» التي أسَّسها هوجو جيرنسباك عام ١٩٢٦. حدد العددُ الافتتاحي اتجاهَ المجلة من خلال نشر حكايات لكُتَّاب مثل بُو وفيرن وويلز التي صنَّفها جيرنسباك ضمن ما كان يُطلق عليه وقتها (ساينتيفكشن)؛ أي الحكايات التي تتضمن «قصة حب جذَّابة تتداخل مع الحقائق العلمية والرؤى التنبُّئِية». كان جيرنسباك يَعتبر نفسه معلِّمًا، يدعم العلم من خلال هذه المجلة، بالإضافة إلى إصداراته الأخرى التي من ضمنها مجلة «مودرن إلكترونيكس». وبناءً على ذلك، أصرَّ جيرنسباك في نفس الافتتاحية على أن هذه الحكايات «دائمًا ما تكون مفيدة علميًّا». حدد جيرنسباك الطابع المميِّز لمجلات الخيال العلمي اللاحقة من خلال التأكيد على حداثة النوع الأدبي الذي يروِّج له، وكذلك من خلال إتاحة صفحات مجلته لعرض الجدل المتواصل حول العلاقة بين العلم والمغامرة أو الاهتمامات الأدبية في ذلك النوع من الأدب. وخلال عقدَيِ الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، تزايد عدد المجلات المماثلة في الولايات المتحدة وبريطانيا. أما الدور المؤسِّس الذي لعبه جيرنسباك في مجال الخيال العلمي، فقد انتقل كما هو معروف إلى جون دبليو كامبل الابن.
تولى كامبل منصب رئيس تحرير مجلة «أستاوندينج ساينس فيكشن» (التي أُطلِق عليها فيما بعد «أنالوج ساينس فيكشن آند فاكت») عام ١٩٣٧، وسرعان ما حوَّل المجلة إلى مساحة لنشر أعمال نجوم المجال الصاعدين أمثال إسحاق أزيموف وروبرت هاينلاين. كان كامبل يتمتع بخبرة في مجال التكنولوجيا، وفي افتتاحية أحد أعداد المجلة عام ١٩٤٦ صرَّح أن «الخيال العلمي يكتبه أشخاص ذوو عقليات تقنيَّة عن شخصيات ذات عقليات تقنيَّة من أجْل إرضاء أفراد ذوي عقليات تقنيَّة»؛ مما يُشير على ما يبدو إلى ميله لموضوعات جيرنسباك المفضَّلة نفسها. في الواقع، أبدى كامبل قدْرًا أكبر من التنوع والمرونة في نوع القصص التي يَقبَلها، وعلى حدِّ زعم الكُتَّاب الذين نشروا في مجلته، كانت سياسته أهم بمراحل نتيجةً لإصرارها على دقة الحبكة، وتماسك أسلوب التعبير، وغيرها من النقاط التي تشير إلى محاولته لإضفاء طابع احترافي جديد على كتابة الخيال العلمي، تجلَّت فائدته على مدار العقود اللاحقة.
حتى الآن لم نذكر سوى المجلات الأمريكية، لكن الوضع تغيَّر في ستينيات القرن العشرين مع ظهور مطبوعة جديدة؛ ففي عام ١٩٦٤، تولَّى مايكل موركوك رئاسة تحرير مجلة «نيو ورلدز» البريطانية، محولًا إياها إلى وسيط مهم للمحاولات التجريبية في مجال الخيال العلمي. في عدده الأول، وعد بتقديم «أدب جديد يناسب عصر الفضاء»، ودعا إلى ثورة على التقاليد المُمِلَّة نسبيًّا التي سادت حقبة الخمسينيات من القرن العشرين. تضمنت سياسته تنوعًا في الوسائط المستخدمة؛ ومن ثمَّ اكتسبت الرسومات أهمية جديدة غير مسبوقة، بينما أدَّى هجومه العام على ما كان يَعتبره «مؤامرة خداع الذات» إلى مساندة للشخصيات المثيرة للجدل أمثال ويليام بوروز، وإلى المشاركة خلال ستينيات القرن العشرين في سلسلة أكبر من التحديات الموجَّهة نحو التابوهات المفروضة على أسلوب التعبير والموضوع. تحت إدارة موركوك، لم تكتفِ مجلة «نيو ورلدز» بالنشر لجيل جديد من الكُتَّاب البريطانيين الصاعدين أمثال برايان ألديس وجيه جي بالارد، لكنها واجهت الهيمنة الأمريكية على مجلات الخيال العلمي عن طريق جذب مشاركات من توماس إم ديش، وتوماس بنشن، وغيرهما من الكُتَّاب.
إلى جانب إدراك دور مجلات الخيال العلمي في تطور هذا النوع الأدبي، حريٌ بنا كذلك ملاحظة السُّبل المختلفة التي مكَّنت مجتمع الخيال العلمي من تعزيز أنشطته؛ فبالإضافة إلى المجلات الأدبية، لعبت مجلات المعجبين (التي عُرِفت باسم «فانزين» ثم تحوَّلت لاحقًا إلى «زين») دورها كنشرات إخبارية غير احترافية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وغالبًا ما كانت تنقل الأخبار داخل مجتمع الخيال العلمي المحلي. وفي عام ١٩٣٤ أسَّس جيرنسباك «اتحاد الخيال العلمي»، الذي انتقلت أنشطته عام ١٩٤٠ إلى «جمعية الخيال العلمي في لوس أنجلوس»، وهي إحدى أقدم جمعيات الخيال العلمي، ومن أوائل أعضائها الكاتِب راي برادبوري. تقدِّم اتحادات الخيال العلمي المختلفة عددًا من الجوائز السنوية، أهمها جائزة «هوجو» (التي بدأت عام ١٩٥٥ وتحمل الاسم الأول لجيرنسباك) وجائزة «نيبولا» (بدأت عام ١٩٦٥ وتقدمها رابطة كُتَّاب الخيال العلمي والفانتازيا الأمريكيين)، بالإضافة إلى جوائز آرثر سي كلارك (التي بدأت منذ عام ١٩٨٧، وتقدمها في الأساس رابطة الخيال العلمي البريطانية ومؤسسة الخيال العلمي).
السلاسة والتجديد في مجال الخيال العلمي
طالما ارتبط الخيال العلمي بنمطين أدبيين متقاربين؛ هما الرعب القوطي والفانتازيا. تَناوَل براين ألديس في كتابه الذي يؤرِّخ للخيال العلمي رواية «فرانكنشتاين» باعتبارها نصًّا بدائيًّا، تطوَّر من خلاله النمطان الأدبيان جنبًا إلى جنب. من ناحية أخرى، ميَّز عدد من النقاد الماركسيين تمييزًا قاطعًا بين الخيال العلمي والفانتازيا، باعتبار أن النوع الأخير يضم قصصًا خارج إطار التاريخ، رغم أن الكتابات النقدية التي تناولت الفانتازيا سجَّلت في كثير من الأحيان حالات يميل فيها الخيال العلمي إلى الفانتازيا والعكس كذلك داخل نص واحد. وقد تشكَّك الكاتِب البريطاني تشاينا مايفيل في هذا الفَصْل بين الأنماط في أعماله الأدبية والنقدية، لا سيما فيما يتعلق بمفهوم لا عقلانية الفانتازيا ومعالجتها لأحداث مستحيلة. فزعم أن الكثير مما يُصنَّف علمًا في أعمال الخيال العلمي لا يتخطَّى إطار المعالجة السطحية؛ إذ لا يقدم سوى قشرة ظاهرية من التفسير العلمي، في حين تتجاوب الفانتازيا في بعض الأحيان مع التحليل، معرِبًا عن أن «تأسيس عالم كامل مستحيل، يسوده الشك هو على الأقل عمل متطرف تخريبي، لكونه يحتفي بأكثر العناصر بشريةً وتفردًا في وعينا.»
إن إعلاء الخيال العلمي على حساب الفانتازيا يعكس أيديولوجية علمانية لم تكن قَط محورًا رئيسيًّا على الدوام في أعمال الخيال العلمي؛ على سبيل المثال، طالما ربطت روايات المريخ التي صدرت في مطلع القرن العشرين بين ذلك الكوكب وبين الروحانية؛ ففي عام ١٩٠٣، نشر الكاتِب الأمريكي — المؤمِن بالمذهب الطبيعي — لويس بوب جراتاكاب روايته «حتمية الحياة المستقبلية على كوكب المريخ»، التي عبَّرت عن إيمانٍ ﺑ «تيار الانتقال» الذي تنتقل عبره الحياة من مستوًى (ومن كوكب) إلى آخَر؛ ومن ثمَّ يصبح المريخ ها هنا نقطة راحة مثالية لأرواح الراحلين. لكن الرواية الأشهر ها هنا هي «ثلاثية الفضاء» للكاتِب سي إس لويس، التي نقل الكاتِب تركيزها على ما يبدو إلى الأساطير المسيحية أثناء تأليفها. يقدم الكاتِب الجزء الأول «خارج الكوكب الصامت» (١٩٣٨) على أنه «حكاية عن الزمن والفضاء» ويعترف علنًا بتأثره بويلز، بينما يقدم الجزءَ الثالث «تلك القوة البشعة» (١٩٤٥) على أنه «حكاية خرافية» مستوحاة من أولاف ستابلدون. من الواضح أن لويس لا يستخدم هذا التصنيف بأي معنًى سلبي، على الرغم من أن موضوع الدين برمته في الخيال العلمي كان يحظى عادةً بتجاهل النقاد على حساب الموضوعات الرئيسية الأكثر مادية.
رغم ذلك، ظلَّ الدين محورًا مهمًّا على مدار تطور الخيال العلمي؛ فعلى سبيل المثال، يستخدم والتر إم ميلر الابن في روايته «أنشودة لأجل ليبوفيتز» (نُشِرت لأول مرة عام ١٩٦٠) الدين المسيحي كي يشنُّ هجومًا على تراث الفِكر العلمي الغربي برمته، الذي بلغ ذروته مع إنتاج الأسلحة النووية. أما فيليب كيه ديك، فظلَّ طوال حياته المهنية يصوِّر محاولات أبطاله في تجاوز الحدود المادية التي تحيط بهم والوصول إلى الحقيقة المطلقة. في حين ترتكز رواية فرانك هربرت «الكُثبان» (١٩٦٥) حول رابط رمزي بين الصحراء والمذهب الصوفي في الشرق الأوسط، رغم أنه لا يألُو جهدًا كبيرًا كي يدمج ضمن قصته مجموعة المعتقدات الروحانية التي استمد منها المصطلحات العربية المستخدمة. كذلك تناول رائد الفضاء كارل ساجان إشكاليات إثبات وجود الإله في روايته الصادرة عام ١٩٨٥ «اتصال»، ومؤخرًا عالجت ماري دوريا راسل البُعد الديني لِلِقاء آخر مع الكائنات الفضائية في روايتها «عصفور الدورِي» (١٩٩٦) وجزئها الثاني «أطفال الله» (١٩٩٨). لا يفاجئنا حضور الدين في الخيال العلمي على الإطلاق بالنظر إلى نزوعه نحو تحدِّي الحدود والقيود، فهل يوجد ما هو أصعب من تحدي حدِّ الفناء ذاته؟
وبغضِّ النظر عن الشد والجذب المتكرر بين الموضوعات الروحية والمادية، فقد ازداد تحوُّل الخيال العلمي إلى كيان هجين؛ إذ شهدت ستينيات القرن العشرين بداية توجه كُتَّاب الخيال العلمي إلى التجريب في موضوعات لا تنتمي إلى النوع الأدبي. إن استخدام جون برونر لأسلوب الكاتِب دوس باسوس واستخدام توماس إم ديش لأسلوب دوستويفسكي ومان، واستخدام جون سلادك بعد ذلك لمغامرات الصعاليك التي ترجع إلى القرن الثامن عشر ليست سوى مؤشرات قليلة على الانفتاح العام لمجال الخيال العلمي خارج حدوده العامة التقليدية.
وفي سياق مشابه، يأتي الترحيب المتزايد بتبنِّي موضوعات الخيال العلمي وممارساته لدى مَن يُطلَق عليهم كُتَّاب الاتجاه السائد كأحد المؤشرات المهمة على التبدُّل في وضع المجال؛ ففي رواية كورت فونجيت «المذبح رقم ٥» (١٩٦٩)، يتحرَّر البطل — بيلي بيلجرِم — من قيود الزمان والمكان، وهو ما يتضح عبر انتقاله إلى كوكب ترالفامادور. يستخدم فونجيت تقليد الكائنات الفضائية المنتمي للخيال العلمي كي يوحي بنظام إدراكي يفترض وجودًا متزامنًا لكل الموجودات على كوكب آخَر نظرًا لأنها اختَفَتْ على الأرض. وبذلك، يجرِّد فونجيت أي نمط سردي في الرواية من مرجعيته الرئيسية؛ ومن ثم يمهِّد الطريق لرواية مارجريت أتوود «القاتل الأعمى» (٢٠٠٠)، التي يشير عنوانها في الواقع إلى قصة خيال علمي تحتل موضعًا وسط أنماط السرد الواقعية الأخرى بالرواية. على نحو مماثل، تقدم رواية توماس بنشن «إلى يوم الدين» (٢٠٠٦) حكاية عن أرض مجوَّفة من النوع الشائع في بداية القرن. إن ما نراه عبر تلك النماذج ليس مجرد تلميح عرضي إلى الخيال العلمي ضمن أعمال أدبية مستقلة أو تجربة فردية في هذا المجال كما في رواية جون أبديك «نحو نهاية الزمن»(١٩٩٧)، التي تتناول عالمَ ما بعد الحرب النووية، لكنه إعادة ترتيب للأنواع الروائية لم يَعُدِ الخيال العلمي بمقتضاها جنسًا أدبيًّا مهمَّشًا. وقد ذكرت دوريس ليسينج هذه النقطة صراحةً في مقدمة روايتها «شيكاستا»، وهي أول رواية خيال علمي تكتبها ضمن سلسلة «نجم السُّهَيْل في أراجوس» (١٩٧٩–١٩٨٣)، عندما أعلنت أن الخيال العلمي «يُعتبَر الفرع الأكثر إبداعًا في الأدب حاليًّا.» يمكن النظر إلى عملية التأثير المتبادل تلك على أنها حلقة من ردود الأفعال المتبادلة بين الخيال العلمي والأدب غير المصنَّف ضمن سياق أوسع في فترةِ ما بعد الحداثة يشهد تجاوزًا للحدود وهدمًا لأنظمة التعبير؛ فعلى سبيل المثال، كان لرواية بنشن «قوس قزح الجاذبية» تأثير واضح على كُتَّاب السايبربانك، بينما انتزعت كاثي أكير فقرات من رواية «نيورومانسر» كي تستخدمها في روايتها «إمبراطورية اللامعنى» (١٩٨٨).
يوحي هذا الاتجاه نحو الاستعارة المتبادلة باستعداد كُتَّاب الخيال العلمي الدائم لتجديد كتاباتهم عن طريق اللجوء إلى مصادر متنوعة. حتى إنَّ إل رون هوبارد — مؤسِّس مذهب الساينتولوجي، والذي لا يشتهر بميله للتجريب — أعلن في مقدمة روايته «الأرضُ ساحة المعركة» (١٩٨٠) أن «هذا العصر هو عصر تداخل الأنواع الأدبية.» يمكن ملاحظة أحد المؤشرات الدالة على هذه الرغبة في التنقيح والتجديد في البيانات الرسمية وحملات ترويج أعمال الخيال العلمي الحديثة؛ ففي عام ١٩٨٣، نشر عالِم الرياضيات الأمريكي والروائي رودي رَكر «بيانُ ما بعد الواقعية»؛ حيث زعم أن الخيال العلمي والفانتازيا ضخَّا دماءً جديدة في الحركة الواقعية. واقتداءً بالتراث السياسي للبيانات الرسمية، دعا البيان إلى ثورة في التصوير الأدبي تحطِّم الواقع المُتفَق عليه. ولاحقًا في العقد نفسه، استخدم رَكر — أثناء تجميع المقتطفات الأدبية لمجموعة «مختارات سيميوتيكست (إي) في الخيال العلمي» (١٩٨٩) — مع محررين آخرين «المجلات المستقلة» التي شهدت رواجًا في ذلك الوقت كي يجمعوا أمثلة توضح الهجوم على أصول الخيال العلمي المعاصر ومحاولات تحطيمه. تشتمل المجموعة على رسومات إلى جانب أشعار وقصص في شكل مذكرات، ودليل أسلوبي طريف، ونسخة معدَّلة بذيئة من رواية «فرانكنشتاين»، والعديد من الأعمال الأخرى التي توضح رغبة جماعية في الابتعاد عن الاتجاه الرئيسي للخيال العلمي التجاري. قدَّم المحررون محتوًى ممهدًا ﻟ «الخيال العلمي الفوضوي»، الذي يتجاوز الإطار السياسي إلى عوالم الفوضى.
قدَّم بروس ستيرلنج عام ١٩٨٦ مجموعة مختارات أدبية مختارة من أعمال السايبربانك تحت عنوان «نظارات شمسية عاكسة»، تعكس انتصارًا لفكرة تعريف المجال لِذاته عن طريق ابتكار اسم أدبي يجمع بدقة بين تكنولوجيا المعلومات والثقافة السائدة والانشقاق المُعادي للمؤسسة. وحتى بعد انتقال كُتَّاب السايبربانك إلى مجالات أخرى، ظلَّ هذا الاتجاه نقطة مرجعية هامة للأنواع الأدبية اللاحقة. حدد لورانس بيرسون في كتابه «بيانُ ما بعد السايبربانك» (١٩٩٩) نقلة تعكس على الأرجح عصر الكُتَّاب الذين يتناولهم، لم يَعُدِ الأبطال بمقتضاها غرباء مُنْزَوِين، ولم تَعُدِ المجتمعات المقدَّمة مجتمعات ديستوبية. وهكذا انبثقت مجموعة كاملة من الأجناس الأدبية الفرعية من نوع السايبربانك، من بينها البيوبانك الذي يضم قصصًا تصوِّر الآليات الشمولية لتحالفات الشركات التجارية ويتناول موضوع التعديل لا التحسين الجيني، والسبلاتيربانك وهو تعبير ابتُكر في ثمانينيات القرن العشرين ليعبِّر عن مزيج من الرعب الصادم والسايبربانك، والستريمبانك الذي يضم إسقاطات من السايبربانك تعكس مفارقات تاريخية متعمَّدة تركز على القرن الماضي. إن ابتكار تلك الأجناس الأدبية الفرعية يعكس مؤشرًا إيجابيًّا من مؤشرات النقد والمراجعة الذاتية الجماعية لمجال الخيال العلمي على يد ممارسيه. وفي عام ٢٠٠٢، نشر جيف رايمان «البيان الأرضي» الذي يقترح هجر موضوعات الفضاء واللااحتمالية الكامنة في السفر بين الكواكب لصالح نوع من الخيال العلمي يرتبط بالموضوعات الأرضية؛ أي شكل جديد من الخيال العلمي الاجتماعي التي ظهر لأول مرة في خمسينيات القرن العشرين.
في خضم كل هذا الجدال حول طبيعة الخيال العلمي، لم يبرز صوت موحَّد للأمريكيين من أصل أفريقي إلا في السنوات الأخيرة رغم الشهرة التي حققها كُتَّاب مثل أوكتافيا بتلر وصامويل ديلاني في مجال الخيال العلمي. في عام ١٩٩٨، تكوَّنت رابطة صامويل براندون — التي سُمِّيت على اسم كاتِب خيالي هاوٍ أسود البشرة — من أجل دعم الخيال العلمي العِرقي. وأحد مؤسِّسي الرابطة هو الروائي نالو هوبكنسون المولود في جزر الكاريبي، والذي خاض تجارب في مجال الكتابة باللغة الكريولية وفي دمج العادات الشعبية الكاريبية-الأفريقية في الخيال العلمي. وكذلك في تسعينيات القرن العشرين، ظهرت حركة أوسع نطاقًا عُرِفت باسم «المستقبلية الأفريقية»، التي استلهمت بعض عناصرها من اتجاه السايبربانك في الخيال العلمي. وعلى الرغم من اسم الحركة، ينكر المدافعون عنها كونها مرتبطة بالمستقبل، بل يزعمون أنها تتمحور حول التوفيق بين الهوية الأفريقية وتكنولوجيا الفضاء السايبري الحالية. وبما أن الاغتراب الاجتماعي يحتل مكانة محورية في كتابات الأمريكيين الأفارقة، وبما أن تلك الكتابات تميل إلى التعبير عن رغبة مثالية في التحرُّر، فإن الدفع بأن جميع كتاباتهم تنتمي للخيال العلمي لا يعتبر مبالغة على الإطلاق. إحدى الخطوات الترويجية المهمة كانت مجموعتَي المقتطفات الأدبية التي قدَّمتْها شيري آر توماس تحت عنوان «المادة السوداء» (في عامي ٢٠٠٠ و٢٠٠٤)، والتي تداركت عبرها الغياب الملموس للكُتَّاب الأمريكيين من أصل أفريقي في مجال الخيال العلمي من خلال تجميع أعمال أدبية ترجع إلى القرن التاسع عشر، ومن خلال الإشارة إلى وجود اتجاه فعلي مُهمَل؛ ففي مقال والتر موزلي — المنشور في الجزء الأول من المجموعة تحت عنوان «مسيرة السود نحو المستقبل» — يعود الكاتِب إلى موطن قوة الخيال العلمي الذي كثيرًا ما يُشار إليه وهو كونه «مجالًا أدبيًّا ابتُكِر لأجل التنديد بالوضع القائم»، وبذلك التصريح، ينضم موزلي فعليًّا إلى المجموعة الضخمة من كُتَّاب الخيال العلمي الذين رأَوْا هذا النوع من الأدب وسيطًا فريدًا للتحليل الاجتماعي ولتحدي المجتمع. تلعب هاتان المجموعتان في الولايات المتحدة الأمريكية دورًا مماثلًا للهدف الأشمل الذي قدَّم من أجله نالو هوبكنسون وأبيندر ماهان مجموعة «طالَ الحُلم» عام ٢٠٠٤، والتي يواجه فيها كُتَّاب المستعمرات السابقة تراثهم الثقافي عبر محاولتهم في مجال الخيال العلمي ﻟ «هدم اللغة والحبكة المتلقاة»، على حدِّ وصف ماهان في خاتمة الكتاب.
نقد الخيال العلمي
رأينا كيف نشأ نقد الخيال العلمي ضمن إطار المجال نفسه نتيجةً للنقاش الدائم بين الكُتَّاب حول طبيعة ما يُنتجونه من أدب، وبالفعل ظلَّ كُتَّاب الخيال العلمي ضمن أفضل نقاد المجال؛ لأنهم يختلفون حول كل عنصر من عناصره. وعلى الرغم من وجود محاولات سابقة منعزلة في هذا الصدد، فقد شهدت خمسينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية نشأةَ نَقْدِ الخيال العلمي الموجَّه إلى القطاع الأوسع من جمهور القُراء؛ على سبيل المثال، في ندوة عُقِدت عام ١٩٥٧ حول المدى الاجتماعي للخيال العلمي انتقد سيرل كورنبلوث — عضو مجموعة المستقبليين اليسارية التي يقع مقرها في نيويورك — إخفاق الخيال العلمي في تحقيق ما يُنتظَر منه في مجال النقد الاجتماعي «الفعَّال»، زاعِمًا أن المجال تأثر سلبًا بالرمزية الفرويدية. يبدو أن كلمة «فعَّال» تعني من منظور كورنبلوث تعديل السلوك الاجتماعي مباشرةً، وهو تصوُّر متحمِّس لتأثير الأدب. لكن ما يلفت النظر في نقده هو افتراضه أنه يتعيَّن على الخيال العلمي القيام بوظيفة النقد الاجتماعي. في الواقع، كان كورنبلوث قاسيًا جدًّا في حُكمه على أعمال الخيال العلمي في حقبة الخمسينيات، التي نجحت في الإفلات من اضطهاد المكارثية عن طريق ارتداء قناع الخيال أمام السلطات. في رواية تهكمية حول هذه الحقبة بعنوان «سوف نمنحهم نجومًا» (١٩٥٦) — الرواية الأولى في سلسلة «المُدن الطائِرة» — يحوِّل جيمس بليش الولايات المتحدة الأمريكية إلى دولة ديكتاتورية حقيقية. كان نشرُ أي رواية تعرض تصورًا ساخرًا للكاتِب جيه إدجار هوفر ومكارثي في خمسينيات القرن العشرين عملًا شجاعًا، وقد استمر بليش في نشر أعمال نقدية مهمة باسم ويليام أثلينج الابن.
شهدت سبعينيات القرن العشرين بزوغ النقد الأكاديمي للخيال العلمي وتزايد الهجوم على ضيق أفق المجال من قِبَل كُتَّاب مثل ستانيسواف لِمْ وتوماس إم ديش. بدأ داركو سوفين — الذي شارك في تأسيس مجلة «ساينس فيكشن ستاديز» — نقاشًا جديدًا عام ١٩٧٩ حول كون الخيال العلمي «أدب الاغتراب الإدراكي»، في محاولة رائدة لتحديد ممارسات الخيال العلمي المميَّزة. يُستخدَم مفهوم الاغتراب استخدامًا واسعًا في النقد الأدبي، لكن سوفين يُدخِل عليه تعديلًا خاصًّا عن طريق الإصرار على أن نصوص الخيال العلمي تخضع لهيمنةِ ما يطلق عليه «الجِدَّة» (اسم غريب على الأرجح فيما يتعلق بتجسيد مفهومٍ مجردٍ أو تشييئه)، وهو مصطلح يضم مجموعة من الابتكارات؛ بدءًا من الاختراعات ووصولًا إلى الأماكن أو العلاقات التي تبدو غريبة عن نظرة القارئ للعالم. وبعيدًا عن إصرار سوفين العام على الحاجة إلى التفكير في الخيال العلمي تفكيرًا نقديًّا دقيقًا، فإن وجهة نظر سوفين تشدِّد على أهمية المنظور والتفاعل بين إدراك القارئ للعالم وصور الواقع المختلفة المقدَّمة في أعمال الخيال العلمي.
يتعيَّن علينا ها هنا ذكر نقطة أخيرة فيما يخص كتابات سوفين النقدية؛ إذ يزعم سوفين أن الخيال العلمي واليوتوبيا ظلَّا متربطين ارتباطًا وثيقًا على مدار تطورهما — مع مراعاة عدم الخلط بين المجالين — وأن المجال الأخير يختلف حسب الضرورات التاريخية في الحِقَب المختلفة. ونلاحظ ارتباطًا مماثلًا في كتابات فريدريك جيمسون، وهو ناقِد ماركسي آخر طالما ربط الخيال العلمي بالعمليات الاقتصادية الاجتماعية الجارية. يفسر جيمسون عصرَ ما بعد الحداثة الحالي على أنه عصرٌ تميِّزه جمالية اللاعمق والصور السطحية أو المحاكات التافهة، بينما يُشير إدراكه للطبيعة الغامرة للثقافة إلى أن القارئ الناقِد قد أصبح «عالِم آثار» ينقِّبُ في أعماق الحكاية سعيًا وراء حكايات كامنة، ومن هذا المنطلق يأتي عنوان عمله الضخم عن الخيال العلمي «علوم آثار المستقبل» (٢٠٠٥). يذكِّرنا جيمسون دومًا أن التوقُّعات تكون جزءًا من كل لحظة تاريخية، وأن الخيال العلمي يضطلع بدور خاص في التعبير عن تلك الآمال والمخاوف؛ على سبيل المثال عن طريق استخلاص اتجاه محدَّد بعينه وتحويله إلى مستقبل مخيف. استخدم تشاينا ميفيل الاتجاه الماركسي لدى سوفين وغيره لإعادة إضفاء الطابع الاشتراكي على مفهوم الخيال العلمي وما يرتبط به من نظم تَعبِير وتلقٍّ، بينما أضاف كارل فريدمان أبعادًا جديدة لتحليل سوفين عبر ما يُطلَق عليه «تأثير الإدراك»؛ فمن وجهة نظره إذا كان كلٌّ من الخيال العلمي والفانتازيا يحاولان إقناع القارئ، فإن الأسلوبين لا يمكن فصلهما أحدهما عن الآخر أو عن التاريخ.
أثبت الاتجاه الماركسي في نقد الخيال العلمي والآراء التي تبنَّتْه فائدة كبرى، لا سيما في تطبيقات مفهوم الاغتراب. لقد ساهم النقد النسوي، والنقد ما بعد البِنَوي، والنقد الشاذ للخيال العلمي مساهمة جماعية في هدْم طرق التعبير عن النوع الاجتماعي والهوية والجنس التي تشير ضمنًا إلى كون بِنًى بعينها «طبيعية»، لا سيما في أعمال الخيال العلمي التي كُتِبت قبل ستينيات القرن العشرين. وفي ذلك السياق، تضع المناهج النقدية الجديدة التراث الناتج عن فيض الحركات اليوتوبية والنسوية والمعادية للسلطة المنتمية لتلك الحقبة محل التنفيذ. أحد أفضل النقاد تعبيرًا عن الجنس في الخيال العلمي هو الروائي الأمريكي-الأفريقي صامويل ديلاني، الذي يُعالِج الخيال العلمي من خلال رموزه أو تلميحاته الموجَّهة إلى القارئ. أما تشديده الخاص على المنظور الدلالي لنصوص الخيال العلمي، فيمثل شكلًا من أشكال النقد المعتمِد على ردِّ فعل القارئ، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتفاصيل التعبير الشفهي. لقد شبَّه ديلاني انبهاره الدائم بالأحجار الكريمة بالقراءة النقدية، من حيث كونها أجسامًا جميلة، لكنها كذلك أدوات لانكسار الضوء. ومثلما تبدِّد الأحجار الكريمة الطَّيْف، يحاول ديلاني في كتاباته النقدية تفكيك نصوص الخيال العلمي.
ركَّزنا في هذه «المقدمة القصيرة جدًّا» على مدى التقارب بين سينما الخيال العلمي وأدبه، على الرغم من الزعم القائل بأن سينما الخيال العلمي هي في الأساس ظاهرة تَلَتْ إلْقاء القنبلة الذرية فوق هيروشيما. وهنا، نرى مجددًا أن تطبيق الماركسية قد أثبت فائدته في التعبير عن طبيعة التصوير السينمائي للخيال العلمي؛ ألَا وهي تفضيله للصورة على الحوار، وميله إلى معاداة الطابع الفاوستي، وتصويره المتغيِّر للكائن الغريب أو الفضائي، وربطه بين الفضاء العميق والظواهر المُذهِلة، وغيرها من الموضوعات التي استعرضتْها فيفيان سوبتشاك، المُنظِّرة البارزة في هذا المجال. ومنذ سبعينيات القرن العشرين، عبَّرت سينما الخيال العلمي من جديد عن انغماسنا في ثقافة إلكترونية ذات أغوار سحيقة. وبما أن الاغتراب بدأ يتحول إلى حالة من حالات الوجود، فإن مفهوم الغريب نفسه يكاد يتلاشى من الوجود، فأجسادنا ووعينا في حد ذاتها أصبحت متأثرة بالتكنولوجيا، بينما ضَعُف إدراكنا للتاريخ. وكانت نتيجة ذلك في مجالَيِ السينما والأدب على حدِّ زعم البعض هي المَيْلَ إلى المحاكاة (كما نرى في صورة المريخيين المُركَّبة في فيلم حرب العوالم ٢ (٢٠٠٨)؛ حيث يَبدون مثل سرطان بحر آلي) وإلى استغلال المؤثرات الخاصة على نحو أفضل وأضخم وأكثر إثارةً للمشاعر. وما زال الجدل مستمرًّا حول ما إذا كان انهيار الحدود النوعية في الخيال العلمي المعاصر يُشير ضمنًا إلى انهيار المعنى النصي مع فقدان المجازات لمعناها التقليدي. لكن بغضِّ النظر عن مستوى التجريبية في أي عمل مستقلٍّ، فإنه سيولِّد معنًى من خلال التفاعل مع «النص الأكبر» المتراكم الذي شيَّده الخيال العلمي على مرِّ العقود.