الفصل الأول
(١) بعد إلغاء الخلافة
منذ سنين عدة تقلص ظل السلطة العامة عن الولايات الإسلامية في بلاد الأندلس وأصبح أمر كل منها بيدها، ولم يكن تفكك السلطة مما يرغب فيه أهل تلك الولايات عامة أو يتفق ومصالحهم وآمالهم.
وقد انتهى ذلك كله بأن تكون من المدينتين الكبيرتين قرطبة وإشبيلية حكومتان شوريتان.
(٢) قرطبة
فأجابه أصحابه إلى ما طلب، ولكن على شرط ألا يكون لهذين الزميلين إلا صوت استشاري فقط.
وقد حكم السفير الأول ابن جهور تلك الحكومة الشورية الجديدة متوخيًا في أحكامه العدل والسداد، وكان مخلصًا رشيدًا، وإليه يرجع الفضل في استتباب الأمن ورفع المظالم، فلم يكد يتولى الحكم حتى أمن أهل قرطبة وأصبحوا لا يشكون شيئًا من الإِعنات والمظالم التي كانت تترى عليهم من قساة البربر الجائرين.
وكان أول ما عُني به أن صرفهم عن الخدمة واحتفظ ببني يَفْرن وحدهم لأنه رأى أن من المستحيل عليه أن يعتمد على سواهم لما عرفه من ولائهم وطاعتهم له.
وقد استبدل بالآخرين الذين سرحهم من البربر حرسًا وطنيًّا، وكان يظهر بمظهر من يريد استقرار نظام الحكم الجمهوري، فإذا طلب إليه تنفيذ أمر بعينه قال لهم: «ليس من شأني أن أقرر أمرًا هو من اختصاص مجلس الشورى، وما أنا إلا منفذ لأمره وقراراته.»
وكان كلما وردت عليه قصة أو كتاب رسمي موجه إلى شخصه أبى أن يتسلمه، وأمر بتوجيهه إلى مستشاريه.
وكانت العقيدة في نزاهته ثابتة قوية لا تحوم حولها الشكوك والريب وقد رفض — مع هذا — أن يكون بيت المال في داره وتحت إمرته، فعهد بحراسته إلى أكبر الناس مقامًا وأكثرهم احترامًا في المدينة.
وكان — على حبه المال — يؤثر المصلحة العامة التي قضت عليه ألا يرتكب عملًا غير شريف. والحق أن ابن جهور كان مقتصدًا بل حريصًا حرصًا يكاد يصل به إلى درجة البخل، فقد أثرى حتى أصبح أغنى رجل في قرطبة ولكنه مع ذلك لم يأل جهدًا من جهوده المحمودة في توفير اليسر والرخاء على الناس كافة.
وكان يبذل كل ما في وسعه في تحسين العلاقات الودية وتوثيقها بينه وبين الممالك المجاورة، وقد كُتِبَ له النجاح في ذلك وحالفه التوفيق فلم يمض وقت طويل حتى استتب الأمن وانتشرت التجارة والصناعة وهبطت أسعار المواد الغذائية، وأمنت السبل، فأمَّ قرطبة طوائف كثيرة من السكان أعادوا بناء الأحياء التي دمرها البربر أو أحرقوها حينما أوقعوا النهب والسلب في المدينة.
(٣) إشبيلية
على أنه مع تلك الأعمال التي قام بها، فإن قرطبة عاصمة الخلافة القديمة لم تسترد مكانتها السياسية، ومنذ ذلك الحين أخذت إشبيلية — التي سنعنى بتاريخها عناية خاصة — تحرز الشأن الأول في المركز السياسي.
كانت إشبيلية — منذ أمد بعيد لا تزال — مرتبطة الحظ بقرطبة، متأثرة بما يجري من الحوادث فيها، متأسية بالعاصمة، خاضعة لملوك الدولة الأموية — على التعاقب — ثم لدولة بني حمود، ومن جراء ذلك كان للثورة التي وقعت في قرطبة أثرها السيِّئ في إشبيلية، فقد ثار القرطبيون على قاسم بن حمود وطردوه، فعول هذا الأمير على الالتجاء إلى إشبيلية حيث يقيم بها ولداه، ومعهما حامية من البربر تحت قيادة محمد بن زيري من قبيلة بني إيفورين.
وأرسل إلى الإشبيليين يأمرهم بإخلاء مئة مسكن لجنوده القادمين معه، وقد ترك هذا الأمر أثرًا سيئًا في نفوس أهل إشبيلية. هذا إلى ما عُرِفَ عن جنود قاسم الذين هم أفقر أبناء جنسهم من أنهم من شرار اللصوص.
ولما حصلت المدينة على حريتها اجتمع كبارها ليختاروا حاكمًا يولونه عليهم، إلا أن الخواطر حينئذ لم تكن هادئة، والنفوس لم تكن مطمئنة، خشية أن تتمخض الحوادث عن ثورة، أو أن يعيد بنو حمود الكرة عليهم، وحينئذ لا يتوانون لحظة في معاقبة المجرمين الثائرين، ولهذا لم تبد من أحد منهم أية رغبة في أن يأخذ على عاتقه عبء المسئولية عما وقع.
(٤) بنو عباد
واتفق عامتهم على أن يلقوا عبء المسئولية على عاتق القاضي وحده الذي حسدوا ثروته واستشعروا سرورًا خفيًّا في أعماق نفوسهم بدنو الساعة التي تصادر فيها هذه الثروة الطائلة.
فعرضوا على القاضي أن يتولى حكم المملكة، وكان — مع ما يجيش بصدره من مطامع وآمال — حكيمًا حازمًا، فرفض في إباء أن يتولى الحكم في وقت غير مناسب. ولم يكن القاضي متصل النسب بالسلالات العريقة، إلا أنه امتاز بحيازته أكبر ثروة، فقد كان يملك ثلث أرض إشبيلية وكانت له فوق ذلك منزلة سامية من الاعتبار نظرًا لمواهبه العلمية، وكان يعوزه أن يضمن إلى هذه المؤهلات أن تندمج أسرته ضمن السلالات العريقة القديمة.
وقد تم له ذلك — فيما بعد — تدريجًا، وكان يدرك أنه في حاجة ماسة إلى وجود عدد من الجند تحت إمرته، وليس لهذا العدد وجود، ولم يشك في أن الأرستقراطية العظيمة المجيدة في إشبيلية لا بد أن تثور على صعلوك مثله غير معروف النسب، يسمو إلى تسنم ذروة الخلافة، ولم يكن ثمة شيء غير هذا في الواقع، وقد وقع هذا حقيقة عندما أوشك بنو عباد أن يؤسسوا الخلافة لأنفسهم.
وثمة زعم آل عباد أنهم من سلالة ملوك لخم الذين كانوا يحكمون الحيرة قديمًا قبل ظهور محمد ﷺ وكان الشعراء الذين يريدون إشباع بطونهم يتحينون الفرص للإشادة بهذا النسب العريق المزعوم، على أنه لم يوجد ما يبرر هذا الزعم، لأن بني عباد والمتزلفين إليهم ومن يتملقونهم لم يستطيعوا أن يقيموا الدليل على ذلك، وكل ما يربط هذه الأسرة بملوك الحيرة أنها تنتسب إلى قبيلة لخم اليمنية التي ينتسب إليها ملوك الحيرة. ولكن فرع أسرة آل عباد الذي تسلسل منه آباؤهم لم يقطن — على ما يظهر — الحيرة بتاتًا، بل كانوا يقيمون أخيرًا قرب العريش الواقعة على حدود مصر وسوريا في ناحية حمص.
ولا غرو فقد كان إسماعيل من حملة الأقلام والسيوف، وكان رجل فقه ودين كما كان رجل حرب وطعان، فقد تولى قيادة فرقة في حرس هشام الثاني، ثم صار — فيما بعد — إمامًا لمجلس قرطبة الكبير، ثم قاضيًا لإشبيلية، واشتهر بالفقه والذكاء والورع وإرشاد العامة، وإسداء النصح للكافة، وكانت شهرته في النزاهة تربو على شهرته في غير ذلك من الأمور، فهو — على الرغم من انتشار الفساد والرشوة — كان يتورع عن أن يقبل هبة من سلطان أو وزير، وكان كريمًا إلى أبعد غايات الكرم، وقد لقي القرطبيون منه كرم الضيافة، وحسن العشرة، فجعلته كل هذه المزايا والصفات جديرًا أن يحرز أكبر ألقاب النبل والسؤدد في الغرب.
وقبيل العهد الذي نحن بصدده توفي إلى رحمة الله في غضون سنة ١٠١٩م.
وربما كان ابنه أبو القاسم محمد يماثله علمًا وأدبًا، وإن كان لا يدانيه خلقًا وفضلًا، فقد كان أنانِيًّا ذا أثرة وطمع وصلف وتكبر وإنكار للجميل، وقد حدث على أثر وفاة أبيه أن طمع في أن يخلفه في منصب القضاء، ولكن القوم آثروا عليه غيره، فتقدم بالرجاء إلى قاسم بن حمود فنال — بفضل قاسم — منصب القضاء الذي كان يؤمله.
وقد يرى المتتبع للحوادث فيما بعد كيف كان نكرانه لهذا الجميل.
(٥) قاضي إشبيلية
وهذا ما وقع له سنة ١٠٢٧: ففي هذه السنة جاء الخليفة الحمودي يحيى بن علي وأمير بربر قرمونة محمد بن عبد الله وحاصرا إشبيلية، ولما كان في منتهى الضعف بحيث لا يستطيع المقاومة طويلًا أخذ الإشبيليون يفاوضون يحيى وأعلنوا أنهم مستعدون للاعتراف بسيادته عليهم، على شرط ألا يدخل البربر مدينتهم، فقبل يحيى هذا الشرط ولكنه شرط عليهم — ضمانًا لوفائهم وإخلاصهم — أن يرسل بعض أعيان ونبلاء إشبيلية أولادهم ليكونوا عنده رهائن يضمن بها ولاء الإشبيليين، فلم يستطع أحد منهم أن يقدم ابنه خشية من البربر الذين يقضون على حياته لأقل شبهة، والقاضي وحده هو الذي لم يتردد في إجابة الطلب إذ أرسل إلى يحيى بنجله عباد. وكان الخليفة يعلم ما للقاضي من الجاه والنفوذ فاكتفى بقبول ابنه رهينة لديه، وبفضل هذا العمل المجيد الدال على الإخلاص للبلاد ازدادت مكانة القاضي عند الإشبيليين عامة، وأصبح — منذ ذلك الحين — لا يخشى شيئًا لا من جانب الشعب، ولا من جانب الخليفة الذي اعترف بسيادته شكلًا، وخيل إليه أن الفرصة السانحة قد أمكنته من الانفراد بالحكم.
ولما كان قد أبعد من مجلس الحكم مثل ابن حجاج وغيره، ولم يبق معه سوى زميلين رأى أن يصرفهما عن خدمته ونفى «زبيدي» وعين رجلًا من خواص إشبيلية اسمه «حبيب» رئيسًا للوزارة، ولم يكن «حبيب» هذا من رجال المبادئ إلا أنه كان مع هذا ذكيًّا مخلصًا بكل معاني كلمة الإخلاص لمولاه، منصرفًا إلى مصلحته.
وعلى أثر ذلك أراد القاضي أن يزيد في رقعة المملكة بالاستيلاء على باجة، وقد حلت أخيرًا بهذه المدينة المصائب في غضون القرن التاسع عشر من جراء الحرب التي نشبت بين العرب والخائنين. إذ نهبت وخرب البربر جزءًا منها، وعاثوا فيها سلبًا، وأحرقوا ما صادفوه في طريقهم، وكان في نية القاضي أن يعيد تشييد ما خرب منها، ولكن لما اتصل بعبد الله بن الأفطس أمير بطليوس عزم القاضي، جرد جيوشه تحت إمرة ابنه محمد «الذي خلفه فيما بعد باسم المظفر» وتم استيلاء هذه الجيوش على باجة في الوقت الذي جاء فيه إسماعيل بن القاضي بجيش إشبيلية، وجيش حليف أبيه أمير قرمونة، فبدأ حصارها في الحال، وأمر فرسانه بالسلب والنهب في القرى الواقعة بين إيفرن والبحر، وعلى الرغم من المدد الذي جاء به ابن طيفور فإن محمدًا كان سيئ الحظ كثيرًا إذ بعد أن فقد نخبة فرسانه المحاربين وقع أسيرًا بين يدي أعدائه وأُرسِل إلى قرمونة.
زادت هذه الانتصارات في حماسة القاضي وحليفه الأمير، فلم يكتفيا بالإغارة على بطليوس وحدها بل أغارا على قرطبة أيضًا، فاضطرت حكومتها أن تستخدم للدفاع كثيرًا من بربر ولاية سيدونا.
وبعد فترة من الزمن أبرم القاضي وحليفه صلحًا أو سمِّه — إن شئت — هدنة مع بني الأفطس، وحينئذ أطلق محمد من الأسر برضى القاضي في (مارس ١٠٣٠) ولما أبلغه أمير قرمونة نبأ إطلاق سراحه عرض عليه أن يعرج في طريقه على إشبيلية ويبلغ القاضي شكره، ولكن محمدًا لفرط اشمئزازه من القاضي قال لأمير البربر: «إني أوثر أن أظل سجينك على أن أقوم بما أشرت به علي، فإذا كنت مدينًا لغيرك بإطلاق سراحي، وكان علي أن أشكر قاضي إشبيلية وفاءً لهذا الحق، فإني أفضِّل أن أبقى حيث أنا في سجني.»
فاحترم الأمير شعوره وأرسله إلى بطليوس مشيعًا بما يليق برجل عظيم مثله من واجب الإجلال والتكريم.
وبعد بضع سنين؛ أي في سنة ١٠٣٤، انتقم عبد الله بطريقة قد تعتبر غير شريفة، وثأر لنفسه من تلك الشدائد التي نالته، وذلك بأن أباح للقاضي أن تمر بأرضه جنوده بقيادة ابنه إسماعيل وهي ذاهبة في طريقها للإغارة على مملكة ليون، ولما كان إسماعيل وجنوده في مضيق لا يبعد كثيرًا عن حدود ليون باغته جيش بني الأفطس فقتل من جنود إشبيلية عددًا كبيرًا، وقتل فرسان ليون فلول الجيش عند لياذهم بالفرار، وأفلت إسماعيل من هذه المذبحة ومعه نفر يسير من رجاله، وفيما كان موليًا وجهه شطر مدينة لشبونة الواقعة على حدود مملكة أبيه — من الجهة الشمالية الغربية — تحمَّل هو ومن معه أشد آلام الحرمان من حاجات المعيشة الضرورية.
ومنذ هذه الآونة صار القاضي الخصم الألد لأمير بطليوس، وليس لدينا معلومات تفصيلية عن المعارك التي دارت بعد ذلك بين أمير بطليوس وخصمه.
ومما لا ريب فيه أن هذه الحروب لم يكن لها نتائج ذات خطر عظيم لإسبانيا المسلمة، ولم تترك فيها أثرًا يضارع ما تركه فيها حادث آخر سنتناوله فيما يلي.
قلنا إن القاضي اعترف بسيادة الخليفة الحمودي يحيى بن علي ولكن هذا الاعتراف كان تعهدًا غير مجد، وقد بقي كذلك مدة طويلة، فقد قام القاضي بحكم إشبيلية بلا سلطان عليه ولا رقابة، وكان يحيى من الضعف بحيث لا يستطيع أن يلزمه بالمحافظة على حقوقه، وقد تبدلت هذه الحال تدريجًا إذ وُفِّقَ يحيى لأن يضم حوله جميع أمراء البربر تقريبًا، فأصبح الآن بحق زعيم عامة الحزب الأفريقي بعد أن كانت هذه الزعامة اسمية فيما مضى، ولما كان معسكره العام في قرمونة التي طرد منها محمد بن عبد الله أصبحت جيوشه تهدد قرطبة وإشبيلية في آن واحد، وقد أوحى هذا الخطر المخيف المحدق إلى القاضي بفكرة وطنية لها خطرها وقيمتها لو لم يشبها الحرص والطمع والأنانية والجشع.
فقد رأى من الضروري أن يجتمع العرب والصقالبة تحت راية حاكم واحد حتى لا يغزو البلاد البربر الذين اتخذوا الأملاك التي سبق لهم غزوها.
وهذه هي الوسيلة التي تجعل البلاد بمنجاة من التعرض لمثل ما حل بها من المصائب من قبل، وكان القاضي يشعر من أعماق نفسه بهذه الضرورة، فقويت عنده الرغبة في أن يتألف حزب قوي كبير يندمج فيه جميع العناصر المعادية للحزب الأفريقي، وهو في الوقت ذاته يتمنى أن يكون رئيسه، ولم تكن العقبات التي يجب عليه أن يذللها لنيل تلك الغاية بخافية عليه.
فقد كان يدرك أن ملوك الصقالبة وأمراء العرب وشيوخ قرطبة يجرحون في كرامتهم متى رأوه يحاول أن يبسط سلطانه عليهم، على أن شيئًا من ذلك لم يثبط همته ولم يجعل اليأس يتسرب إلى نفسه.
على أن المصادفات ستخدمه، فهو سيتمكن إلى حد ما أن يصل إلى الغاية التي يرمي إليها، ويدرك المشروع الذي كان يعمل على تحقيقه. وسنرى — فيما بعد — على أي نحو يتم له ذلك.
(٦) هشام الثاني
أسلفنا أن الخليفة التعس هشام الثاني فر من القصر في عهد سليمان الثاني. وقلنا إن أكثر الظواهر تدلنا على أنه مات في آسيا مجهولًا لا يعرفه أحد.
ومع هذا فقد بقي الشعب غير مصدق أنه مات لشدة تعلقه بالدولة الأموية التي درت عليه أخلاف اليسر والرخاء، وكسته حلل الشرف والمجد، وكان عامة أفراد الشعب يتلقون الإشاعات التي كانت ترد إليهم من الخارج منبئة ببقائه على قيد الحياة باهتمام وشغف، وهناك أفراد كانوا يزعمون أنهم واقفون على تفاصيل حياته بآسيا، وقد أشاع بعض أولئك الزاعمين أنه رحل أولًا إلى مكة ومعه خريطة مملوءة بالنقود والنفائس، فسلبه الزنوج الذين كانوا يرافقونه كل ما معه، وزعموا أنه استمر يومين لا يتذوق طعامًا ولا شرابًا، إلى أن رآه صانع فخار فرق له ورثى لحاله، فعرض عليه أن يعجن له الصلصال على أن يعطيه في اليوم درهمًا ورغيفًا، فرجا صانع الفخار أن يعطيه الأجر سلفًا، إذ قد مضى عليه يومان لم يذق فيهما طعامًا، وبعد لأي ما استطاع هشام — على عجزه عن العمل — أن يكسب قوت يومه.
إلا أنه أنف هذه الحال فهرب، وسار مع قافلة ذاهبة إلى فلسطين، ووصل إلى بيت المقدس وهو في أشد حالات الإملاق، وإنه ليتنقل في بعض طرق المدينة، إذ وقف على دكان حصري، وأخذ ينظر إلى عمله بانتباه شديد، فسأله الحصري: «هل تعرف هذه الصناعة؟»
فأجابه محزونًا: «كلا، وأنا آسف لأنه لا سبيل إلى أن أعيش وأكسب ما أسد به الرمق.»
فقال الحصري: «إذن فابق معي لحاجتي إليك في إحضار الخيزران، ولك أجرك.» فقبل مسرورًا، وبقي عند الحصري حتى حذق هذه الصناعة.
وما زال على هذه الحال بضع سنين، وقد أذاعوا بعد ذلك أنه عاد إلى إسبانيا في سنة ١٠٣٣، ونزل مالقة ثم تحول عنها إلى المرية فوصل إليها سنة ١٠٣٥، فاضطر الأمير زهير إلى إبعاده خارج حدود مملكته، فرحل إلى قلعة رباح حيث ألقى بها عصا التسيار.
هذه الرواية التي صادفت رواجًا وقبولًا من الشعب لا تستحق — على ما يظهر — أن تنال شيئًا من الثقة، والذي وقع حقيقة هو أنه في العهد الذي كان فيه يحيى يهدد إشبيلية وقرطبة كان في قلعة رباح رجل حصري اسمه خلف يشبه الخليفة هشامًا الثاني تمام الشبه، ولكن لم يقم دليل على أنه هو بعينه، وقد نفى الأمويون شيعة هشام ومعهم ابن حيان وابن حزم المؤرخان ما دار حول هشام «المزعوم» من الروايات والأراجيف وعدوه ضربًا من الحيلة السياسية والخداع والقحة، وإن كان من مصلحتهم أن يهتدوا إلى مكان هشام إن استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
ولم يتردد خلف حين طرق سمعه كثيرًا أنه شبيه هشام في أن يدعي أنه هو نفسه الخليفة هشام الثاني، وقد جازت هذه الحيلة على أهالي قلعة رباح لأن خلفًا لم يكن معروف النسب عندهم، والأغرب من هذا أنهم دخلوا في طاعته، وثاروا على أميرهم إسماعيل بن دحمان ذي النون أمير طليطلة، فجاء هذا وحاصرهم ولم تطل مدة مقاومتهم، وأخرج هشامًا المزعوم من المدينة فهدأ ثائر الأهالي، وعادوا إلى السكينة والخضوع.
(٧) دهاء القاضي
ولم ينته دور خلف عند هذا الحد، بل رجع عودًا على بدء حين علم قاضي إشبيلية بخبره، وعلم الفائدة التي يجنيها من وراء ذلك الرجل إذا هو أحضره إلى إشبيلية، وكان الذي يهمه إنما هو استغلال الموقف بقطع النظر عن شخصية الرجل، كما كان يسره كثيرًا أن يرتضي الناس أنه هشام ليستطيع أن يكون باسمه حزبًا ضد البربر، ويكون وهو رئيس الوزراء روح هذا الحزب وزعيمه. ولهذا بادر إلى دعوة الخليفة المزعوم إلى إشبيلية ووعده بتعضيده إذا نجح في إثبات شخصيته، ولما حضر الحصري إلى إشبيلية قدمه القاضي إلى نساء هشام بالقصر، فصرحن جميعهن تقريبًا بأنه هو بعينه الخليفة السابق، وعول القاضي على قولهن، وبعث إلى شيوخ إشبيلية وأمراء العرب والصقالبة يعلنهم بأن هشامًا الثاني عنده، ويدعوهم إلى حمل السلاح معه دفاعًا عن حقوقه، ومؤازرة لقضية الخلافة.
وقد كلل الله هذا المسعى بالنجاح، واعترف بسيادة «هشام» محمد بن عبد الله أمير قرمونة المخلوع الذي لجأ إلى إشبيلية وعبد العزيز أمير بلنسية ومجاهد أمير دانية وأمير طرطوشة.
وعلم عامة الشعب في قرطبة علمًا مقرونًا بالسرور أنه لا يزال على قيد الحياة، إلا أن كبيرهم الحزم بن جهور كان أقلهم تصديقًا للخبر حرصًا على الحكم، فلم ينخدع، ولم تجد هذه الحيلة إلى نفسه مساغًا، ولكنه لم يجد سبيلًا إلى مقاومة إرادة الشعب، ومخالفة ميوله، ورأى ضرورة اتحاد العرب والصقالبة تحت راية حاكم واحد، لأنه كان يخشى في ذلك الحين أن يهاجم البربر قرطبة، فلهذه الأسباب لم يناقض أغراض مواطنيه، وسمحت نفسه بأن تتجدد البيعة لهشام الثاني من جديد.
وكان من نتيجة هذه الحوادث أنه بينما كان الحزب العربي الصقلبي يتسلح ضد يحيى، كان هذا محاصرًا إشبيلية، مجدًّا في تخريب ما يتصل بها من العمران، موطنًا النفس على الانتقام الهائل من القاضي الخائن، ولكن الملتفين حوله — من بربر قرمونة الذين أكرههم على الانضواء تحت رايته — كان هواهم مع هشام الثاني، خليفتهم السابق وكانت المخابرة بينهم وبينه سائرة.
وفي أكتوبر (سنة ١٠٣٥) ذهب فريق منهم خفية إلى إشبيلية، وأبلغوا القاضي ومحمد بن عبد الله، أن من السهل مباغتة يحيى لأنه لا يكاد يفيق من السكر، ولم يدع القاضي وحليفه هذه الفرصة تمر دون أن يستفيدا منها، وهنا وجَّه القاضي ابنه إسماعيل ومعه محمد بن عبد الله على رأس الجيش الإشبيلي، وعندما أرخى الليل سدوله كمن إسماعيل مع أكثر الجند في كمين، وأرسل كوكبة لمناوشة قرمونة ليغري يحيى بالخروج إلى ظاهرها، وقد نجح في خطته هذه، إذ كان يحيى — حين بلغه مجيء ابن عباد على رأس جيش — ثملًا، فنهض وكان متكئًا على سريره وصاح قائلًا: «يا لها من فرصة سعيدة، هذا ابن عباد مقبلًا لزيارتي، والآن أيها الجند، خذوا أسلحتكم وامتطوا جيادكم قبل ضياع الوقت.»
وخرج في ثلاثة آلاف فارس، وكان النبيذ قد لعب برأسه، فلم يتمهل ريثما يعبئ جنده وينظم خططه، يضاف إلى ذلك أن ظلام الليل الحالك كان يحجب عنه كل شيء. وفوجئ الإشبيليون منه بهذا الهجوم المباغت، فقابلوه بجلد وعنف، وأخذوا يتقهقرون بنظام نحو المكان الذي كمن فيه إسماعيل.
ومن هذه اللحظة سعى يحيى إلى حتفه بنفسه، فإن إسماعيل انقض عليه بكل قوات الجند، واضطره إلى التقهقر، وقتل يحيى نفسه في المعركة، وكاد يأتي القتل على أكثر رجاله لو لم يحل محمد بن عبد الله دون ذلك، وقال له: «إن أغلب هؤلاء المساكين من بربر قرمونة الذين أكرههم هذا الطاغية على الدخول في خدمته مع كراهتهم واحتقارهم إياه.»
فأبقى عليهم وأمر جنده بترك تعقبهم وخف محمد بن عبد الله إلى قرمونة على ظهر جواده ليسترد ملكه، وأراد زنوج يحيى الذين استولوا على أبواب المدينة أن يحولوا بينه وبين الدخول لولا أن ساعده الأهالي على دخولها من ثغرة، وسار إلى قصر الإمارة، وسلَّم نساء الأمير يحيى إلى بنيه، واستولى على ما في القصر من كنوز ونفائس في (نوفمبر سنة ١٠٣٥م).
وقد أحدث نبأ وفاة يحيى سرورًا عظيمًا في إشبيلية وقرطبة، وعندما وصل الخبر إلى مسامع القاضي خر ساجدًا شكرًا لله، وحذا حذوه جميع من كانوا حوله والآن أصبح القاضي لا يخشى شيئًا من جانب بني حمود.
وقد نودي بإدريس — أحد أشقاء يحيى — خليفة في مالقة، وقد كان يعوزه الوقت الكافي الذي يستطيع فيه أن يكسب بقوة نفوذه وما يقدمه من وعود، قلوب زعماء البربر، ليجعلهم في صفه، ولهذا لم يعد في استطاعته أن يخضع الجزيرة بعد أن نادى الزنوج فيها بابن عمه محمد خليفة.
ولما رأى القاضي أن الظروف خدمته، هَمَّ بأن يقيم هو وهشام الثاني المزعوم بقصر الخلافة في قرطبة، إلا أن يقظة ابن جهور، وتصميمه على عدم التخلي عن الحكم، وقفا حجر عثرة في طريقه، فقد نجح في إقناع أهل قرطبة أن الخليفة المزعوم لم يكن سوى رجل ماكر مخادع وأن اسم هشام قد ألغي من الإمامة، وعرف أن القاضي عند مجيئه بهشام إلى قرطبة سيلقى أبوابها مغلقة في وجهه، وثمة لا يستطيع التغلب على مدينة منيعة حصينة مثلها، فيضطر أن يعود من حيث أتى.
وعول — في بداية الأمر — على أن تعسكر جيوشه عند الأمير الصقلبي، وهو الأمير الوحيد الذي أبى الاعتراف بهشام الثاني، ذلك الأمير هو زهير أمير المرية، ومنذ أراد الخليفة قاسم أن يهون على الأمير، وأقطعه عدة أملاك، بدأ زهير يناصر الحموديين. ولما نودي بإدريس خليفة بادر بالاعتراف به.
ولما صار الآن مهددًا من القاضي عقد محالفة مع حَيُّوس الغرناطي ثم زحف جيش إشبيلية، وذهب لمقابلته بجنوده وجنود حليفه إذ اضطره إلى التقهقر.
ومن المحقق أن القاضي قد بالغ في الاعتداد بقوته، ولم يحسب حساب أعدائه، وكان عليه أن يخشى مجيء الوقت الذي تغزو فيه جيوش المرية وغرناطة — بدورها — إشبيلية.
وكثيرًا ما خدمته المصادفات الحسنة التي شاءت أن يخلصه أحد أعدائه من عدوه الآخر.