بعد وفاة النبي
مات النبي ولم يترك ولدًا له، ولم يعين خليفة يخلفه، فكانت الساعة غاية في الحرج، وأصبح كيان الإسلام نفسه مهددًا نهب الحوادث والظروف، وقد انتشر خبر وفاته بسرعة لا مثيل لها، وكان له وقع شديد على أصدقائه المخلصين، وكأنما أصابتهم صاعقة حين بلغهم هذا النبأ المروع، وكان الناس قسمين: قسمًا يحسبه خالدًا لن يموت، وقسمًا لا يتوقع موته بهذه السرعة، بل يؤمل له حياة طويلة وعمرًا مديدًا، وكان عمر — خاصة — ممن يؤمل هذا الأمل.
وبعد أن مات النبي، وأسلم آخر أنفاسه بزمن يسير، دخل عمر مخدع عائشة فرفع الغطاء — الذي كانت جثة النبي مسجاة به — وتأمل محيَّا سيده مليًّا — وهو في نومته الأبدية — فرأى كل شيء هادئًا، ونظر إلى ما حوله فرأى سكونًا طبيعيًّا، فلم يعد يصدق ذلك النبأ المروع، وصاح: «كلا لم يمت النبي، بل هو في غيبوبة!»
وكان المغيرة حاضرًا، فحاول عبثًا أن يرشده إلى خطئه، فقد صرخ فيه عمر: «كلا، بل تكذب، إن رسول الله لم يمت، ولكن خبث طويتك وفساد نفسك الشريرة قد أدخلا في روعك هذا الوهم الخاطئ، ولن يموت النبي قبل أن يقضي على المنافقين، ويبيد أهل الشرك.»
ثم ذهب عمر من توِّه إلى المسجد، فصاح فيمن تجمهر من الناس: «لقد زعم الزاعمون، وأرجف المرجفون، أن محمدًا قد مات، وبئس ما يتقوَّلون، ألا إن محمدًا لم يمت وإنما ذهب للقاء ربه، كما فعل موسى إذ غاب عن قومه أربعين يومًا، ثم رجع إلى أصحابه بعد أن يئسوا من عودته، وواللهِ ليعودن النبي كذلك، ثم ليعاقبن كل من اجترأ على قول هذا القول!»
ولم يكد يسمع الحاضرون قوله حتى أمَّنوا عليه، ولا غرو في ذلك، فقد كانوا — إلى زمن يسير جدًّا — يرون محمدًا في نفس المكان الذي يخطبهم فيه عمر فلم يكن أحب من تصديق ما يقوله عمر.
وجاء أبو بكر في هذه اللحظة فاخترق المسجد، وأصغى هنيهة قصيرة إلى كلام عمر المتأجج عاطفة وحماسة، ثم أسرع إلى مخدع عائشة ووقف أمام جثة النبي أيضًا، فرفع الغطاء عنها، وقبَّل وجه صاحبه — وهو مستغرق في نومته الأبدية — ثم صاح قائلًا: «طبت حيًّا وميتًا.»
ورفع رأس النبي بتؤدة وأناة، وتأمل أسارير ذلك الوجه الذي طالما تملَّى به من قبل، ثم قال: «نعم، لقد مت، فوا أسفاه عليك أيها الصديق المحبوب، بأبي أنت وأمي، فقد قاسيت من غمرات الحِمام ما قاسيت، وتجرعت من غصص الموت ما تجرعت، وإنك لأكرم على الله من أن تتجرع هذه الكأس مرة أخرى!»
ثم وضع رأس النبي برفق — على وسادته — وقبل رفيقه مرة أخرى، ثم سجاه بغطائه ورجع — أدراجه — إلى المسجد، فوجد عمر لا يزال يتأجج حماسة، وهو يخطب الناس ليقنعهم أن الرسول لم يمت، فصاح فيه: «حسبك يا عمر! هدئ من ثائرتك واجلس حيث أنت!» فلم يصغ إليه عمر وطفق يخطب الناس، فولَّى أبو بكر وجهه شطر الناس، فأقبلوا عليه، وتركوا عمر فقال لهم أبو بكر: «أما قال (تعالى) — في محكم آياته — لنبيه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ؟
أما قال (تعالى) في آية أخرى — بعد موقعة أحد وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ؟
ألا إن من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت!»
•••
وكأنما كان الناس في حلم، أفاقوا منه بعد ما سمعوه من قول أبي بكر، فقد ذهل الناس من فداحة الخطب عن هذه الآيات القرآنية حتى إذا ذكرهم بها أبو بكر الرزين أيقنوا جميعًا أنهم لن يروا النبي بعد.
انتخاب الخليفة
بقيت عقدة خطيرة لا بد من حلها، وهي أن محمدًا قد مات، ولم يعين من يخلفه، فلا مندوحة إذن عن انتخاب أمير لهم، ولكن من الذي يعين هذا الأمير؟
أيعيِّنه كل المسلمين؟ هذا حسن، فهل من سبيل إلى تحقيقه؟
لقد كان الوقت عصيبًا، وكان من السهل أن يرى الإنسان أمامه أزمة رهيبة وشيكة، وجمهرة من القبائل لن تلبث أن ترتد عن الإسلام؟ إذن يتعين أن يقتصر انتخاب الخليفة على القبيلة التي لها الصدارة والسلطان بين قبائل العرب قاطبة، وثَم اجتمع الأنصار «أهل المدينة» الذين عزَّ بهم الإسلام وانتصر، فمن يختارون؟
لا مجال للتردد والحيرة، فأمامهم الفارس النبيل سعد بن عبادة رئيس «الخزرج»، وقد كان من الطبيعي المألوف أن يختاروه — ولم يكن حينئذٍ قد تم شفاؤه من مرض خطير كان قد أَلَمَّ به — فحملوه مُدَثَّرًا مُدَوَّجا إلى جمهور المدنيين، وكان ضعيفًا من أثر المرض، فلم يستطع إبلاغهم صوته، فقام أحد أصحابه يردد ما يقول.
وقد ذكر سعد بن عبادة أصحابه بأنهم أول من دخل الإسلام من القبائل، وأن نصرته لم تتم إلا بهم بعد، وأنهم لذلك جديرون بالزعامة على العرب قاطبة.
فقابلوا كلامه بالاستحسان والتحبيذ، وأظهر جمهورهم له حماسة شديدة، ونادوا به — في الحال — خليفة لرسول الله، ولكن فئة قليلة منهم أبدت خوفها من رفض المهاجرين هذا الرأي، وعدم رضائهم عنه، فأجابهم أصحابهم: «لا علينا من ذلك، سنقول لهم حينئذٍ: لقد اخترنا لنا أميرًا، فاختاروا لكم أميرًا، وافترقوا عنَّا، فلن نذعن — بحال ما — لغير أميرنا الذي اخترناه.»
ولم يكد يبلغ أبا بكر هذا النبأ، حتى أقبل عليهم بأقصى ما في قدرته من سرعة — ومعه عمر وأبو عبيدة — وما كادوا يصلون، حتى انبرى عمر للكلام، فمنعه أبو بكر — وله كل الحق فيما فعل — خشية من تحمسه واندفاعه، وقال له: «تريث حتى أتكلم، ثم قل ما شئت بعدي؟»
•••
وبدأ أبو بكر يخطب الناس — بكل تواضع — فاعترف للمدنيين بما قاموا به من خدمات جليلة للإسلام، ثم أظهر لهم — إلى هذا — جدارة المهاجرين بالخلافة، لقرابتهم من الرسول وكونهم من أسرته، ثم لأنهم أول من دان بالإسلام، وقد لقوا في سبيله ألوانًا من العسف، وضروبًا من النكال، واحتملوا ذلك كله صابرين.
ثم قال: «فأنتم تلوننا في هذه المرتبة، فليكن الأمير منَّا، والوزراء منكم.»
فأجابوه: «بل منا أمير، ومنكم أمير!»
فصاح عمر: «كلا، ومحال أن نولي أميرين، ولن تعترف العرب بمن تختارون، فليس نبيهم من قبيلتكم، ولن يخضعوا لأحد إلا أن يكون قريبًا للنبي، ومن رفض ذلك، أرغمناه على قبوله إرغامًا.»
وحمي وطيس الكلام، وكاد اللجاج ينقلب خصومة، لو لم يقل لهم أبو عبيدة: «لقد كنتم أول ناشر للإسلام، وأول معين للنبي، فلا تكونوا الأن أول ساعٍ في التفرقة، وتشتيت الوحدة الإسلامية!»
وهنا قام «بشير» — قريب «سعد» ومنافسه — فقرر ما للمهاجرين المكيين من الحقوق في أعناق المسلمين، فأثر كلامه في نفوس فئة من «الخزرج»، ولكن الأثر لم يبلغ أشده، إلا في نفوس القبيلة المدنية الأخرى، وهي قبيلة «الأوس» بسبب ما كان بينها وبين قبيلة «الخزرج» من نفور قديم، جعلهم لا يرتاحون إلى «سعد»، ولا يرضون به أميرًا عليهم، وكانوا — منذ لحظة — يقررون حق المهاجرين وجدارتهم بالخلافة، فلما سمعوا كلام أبي عبيدة ثبتوا على رأيهم وظاهروا المهاجرين على الأنصار.
وبذلك سنحت فرصة ملائمة، فأسرع أبو بكر إلى انتهازها وأمسك بيده عمر وأبا عبيدة، داعيًا المدنيين إلى اختيار واحد منهما لمبايعته بالخلافة، فصاحا في نفس واحد: «بل أنت خير منَّا، فامدد يدك نبايعك، ونقسم لك على الخضوع والطاعة.»
وامتدت بين يديهما يد ثالثة إلى يد أبي بكر، وهي يد بشير الذي أسرع بمبايعته معهما، ثم نهج «الأوس» منهجه، وأقبل المسلمون يبايعونه أفواجًا، واشتد الزحام، وعلت صيحات الفرح، فاختلطت بأصوات الدهشة، وأراد حباب الخزرجي أن يناوئ الدعوة، فصرخ مهددًا بالحرب، واستل سيفه، فانتزعه عمر من يده.
ورأى سعدآماله في الخلافة تتبدد هباء، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فقد أصبح سعدنفسه في خطر حين تكأكأت عليه الجموع، فكادت تسحقه — وهو في محفته التي كان محمولًا عليها — وعبثًا حاول أصحابه أن يقنعوا جمهرة المسلمين بوجوب احترامه، فإن عمر نفسه لم يتورع عن إهانته، ووصفه بأقبح النعوت — على الرغم من أنه خصم أعزل جليل القدر — وقد تداركه أبو بكر فصد هذه الجموع عنه، وأنقذه من أذاهم وشرهم.
•••
وإذن فقد تم انتخاب الخليفة — خليفة النبي — وسط هذه الفوضى الشاملة كما اعترف بهذه الحقيقة عمر نفسه، على ملأ من الناس في المسجد المدني فيما بعد، وقد كسب المكيون بهذا الفوز أمرين: «زعامة العرب، وحسن اختيار الخليفة.»
فقد ولَّوا أمورهم رجلًا كان أخلص صديق لنبيهم، ولو ترك أمر اختيار الخليفة إلى الرسول، فقد لا يختار سواه؛ ذلك أنه جمع — إلى حبه الرسول — متانة الإيمان، وقوة اليقين، وصدق العزيمة في إعزاز الإسلام ونصرته، وبهذه الصفات نجح أبو بكر في التغلب على المصاعب والعقبات التي كانت تكتنفه، وفي الحق أن الوقت كان عصيبًا، وكانت الظروف غاية في الحرج، فقد كان موت النبي — الذي كانت تترقبه العرب منذ زمن طويل بفارغ الصبر — مؤذنًا بالثورة في كل مكان، ولقد كنت ترى الثائرين — حيثما ذهبت — رافعين علم الثورة والتمرد، وقد رجحت كفتهم أيما رجحان، حتى لقد طردوا ولاتهم من بلادهم، فلم يجد هؤلاء أمامهم ملجأ إلا المدينة، فتقاطروا عليها من كل فج يحتمون فيها من أذاهم.
وكان لا يمر يوم حتى يفد على المدينة بعض الولاة والعمال المطرودين، وأعدت القبائل المجاورة للمدينة عدتها لحصارها.
فكيف يقاومهم أبو بكر وليس لديه جيش يحاربهم به، بعد أن أرسل جيشه إلى سوريا ليفتحها تنفيذًا لأمر النبي برغم نصيحة المسلمين الذين رأوا خطورة الحال، ولقد ألحوا عليه أن يعدل عن تنفيذ فكرة الفتح حينئذٍ، فقال لهم: «لن أخالف ما أمر به النبي، ولو أصبحت المدينة نفسها نهبًا للثائرين والمتمردين، ولا بد لي من تحقيق مشيئته!»
ومن ثَمَّ ترى الخطر العظيم باديًا، على أنه — على الحقيقة — خطر أقل مما تدل عليه ظواهره، فإن قوة الخصم الحقيقية لا تقاس بما لديه من عدة ورجال، بل بما عنده من قوة معنوية، وبما يصبو إلى تحقيقه من غاية سامية يتطلع إليها ويخوض غمار الحرب من أجلها، باذلًا في سبيلها النفس والنفيس.
فما هي الغاية التي يسعى إليها الثائرون؟ وأي حافز يدفعهم إلى إضرام الحرب؟ أهو إيمان وثيق متوشج في أعماق قلوبهم، كإيمانهم القديم الذي كانوا عليه قبل البعثة؟ لو كان ذلك، لما كان ثمة شك في انتصارهم الحاسم!
ولكن شيئًا من ذلك لم يكن، فإنهم لا يحاربون الآن لينصروا دينهم القديم ويؤيدوه، بل هم يثورون على دينهم الجديد لأنهم لا يطيقون احتماله.
وليس هذا بالسبب القوي الذي يلهب حماستهم ويحفزهم إلى الإتيان بجلائل الأعمال، ولا هو بالسبب الذي يخلق البطولة والأبطال، فقد كان رؤساء القبائل المتمردة — أنفسهم — شاعرين كل الشعور بضعف المعنوية، فلجأ إلى فكرة سخيفة حسبوا أنها تعيد إليهم تلك القوة، فادَّعَوُا النبوة! وخيل إليهم أن محمدًا لم ينجح إلا بهذه الفكرة، فأرادوا تقليده.
ولكنهم نسوا أمرًا واحدًا — هو سر نجاحه في بث دعوته — ذلك أنه كان مؤمنًا بما يدعو إليه إيمان المستيقن الجازم، وهذا هو الذي يعوزهم وبغيره لا يتم نجاح.
وكانت تلك الثورة الهائلة، وتلك الحرب الشعواء — على ما أريق فيهما من دماء غزيرة إذا قورنت بما أتاه المسلمون في غزواتهم التي عز بها الإسلام — ظاهرة سخيفة مضحكة، يتمثل فيها الإنسان — عن غير قصد — كيف قلبوا تمثيل هذه الرواية الجدية التي مثلها النبي وأصحابه مهزلة وعبثًا!
ألا ترى مسيلمة الذي مثل دور النبي في اليمامة؟
ألا ترى ذلك الدجال السوقي التعس، ذلك المشعوذ السمج الذي لا يصلح لغير التدجيل وإدخال بيضة في زجاجة ضيقة الفوهة؟ ألا تراه ينشئ قرآنًا سخيفًا يقلد به محمدًا، ثم يرخص لأتباعه في شرب الخمور أنى شاءوا، ولا يكاد ينشر دعوته حتى يصادفه سوء الحظ، فتحاصره «سجاح» وتنازعه النبوة؟
•••
أما «سجاح» هذه فقد كانت مسيحية نشأت في بلاد النهرين وجاءت تبث الدعوة لنفسها — على رأس جيش عظيم — فماذا يصنع مسيلمة؟
ولما عادت «سجاح» إلى قومها سألوها عن رأيها في مسيلمة فقالت لهم: «لقد رأيته نبيًّا حقًّا فتزوجت منه!»
فسألها التميميون: «وهل أهدى إلينا شيئًا من مهر الزواج؟»
فقالت: «لا». فقالوا لها: «عارٌ علينا أن نزوج نبيتنا بلا مهر! ولن نقبل ذلك بحال ما!»
فأرسلت إليه بذلك — وكان مسيلمة خائفًا متحصنًا — فلما جاءه الرسول لم يأذن له، حتى عرف الغرض الذي جاء من أجله، فاطمأن إليه، وقال له: «عد إلى قومك، فأخبرهم أن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد رفع عن التميميين — من الصلوات الخمس — صلاتي الصبح والعشاء.» ولقد فرح التميميون بذلك، وساروا عليه حتى بعد أن عادوا إلى الإسلام من جديد.
•••
وقد كان هذا الإصرار الحازم، وذلك الحقد الشديد على أهل الردة سببًا في منحه قوة أكبر ممَّا نتصور.
•••
ولم يكد ينتهي من إخضاع القبائل المجاورة له، حتى بدأ يهاجمه طلحة الذي كان بطلًا من قبل، وقد جاء يدعي النبوة كغيره، ثم يجبن عن دخول المعركة، فيرقب الحرب — وهو بعيد عن الميدان — مدثرًا في عباءته، كأنما يؤمل أن ينزل وحي من السماء، أو تحدث معجزة خارقة، وقد ترقب ذلك زمنًا طويلًا، ثم وقعت المعجزة؛ إذ بدأت تنهزم قبيلته أشنع انهزام، وحينئذٍ صاح في جنده: «احتذوا حذوي إن استطعتم.» ثم امتطى جواده، وأطلق له العنان، وأمعن في فراره.
•••
وكانت تلك المعركة التي اصطلاها المسلمون معركة مروعة هائلة، وفي الحق أن الدماء التي أريقت في هذه الحرب، كانت أكثر ممَّا أريق في تلك الحروب الطاحنة التي نشبت فيما بعد بين المسلمين والفرس ثم بين المسلمين والإمبراطورية الرومانية، وقد اقترف العرب من الفظائع في هذه الحرب «حرب الردة» شُنَعًا لم يعرفها الإسلام قط، فكانوا إذا انهزم العدو تعقبوه ونكلوا به، لأن الردة جزاؤها القتل، لا هوادة في ذلك ولا رحمة، وقد بعث أبو بكر إلى خالد يأمره بقوله: «عليك بإبادة الكفرة بالحديد والنار، ولا تأخذنك فيهم رحمة قط.»
•••
ولقد انهزم أصحاب مسيلمة — وكان عددهم زهاء عشرة آلاف مقاتل — ومزقهم المسلمون شر ممزق، وغرقت بلاد العرب كلها في الدماء!
ولكن الإسلام قد خرج من تلك المعارك — الناشبة في كل مكان — مؤيدًا منصورًا، ودان به العرب بعد ذلك — طوعًا أو كرهًا — فقد أقنعهم خذلانهم بوجوب الاعتراف بالدين الإسلامي، إن لم يكن اعتراف المستيقن المؤمن، فاعتراف الخائف الذي يعرف قوة هذا الدين العظيمة التي لا تجدي معها أي مقاومة.
بعد النصر
ولم يكد يتم انتصار أبي بكر حتى وجَّه هؤلاء البدو الظامئين إلى الدماء، إلى مهاجمة فارس والإمبراطورية الرومانية، وهذا العمل عند من ينظر إلى ظواهر الأمور وحدها جرأة وتهور، ولكنه — على الحقيقة — رزانة وتعقل.
وإنما سار أبو بكر في هذا على خطة النبي التي كان يتبعها، وهي أن يشغل العرب عن التفكير في خضوعهم، ولا يدع لهم وقتًا كافيًا لذلك، وقد رأى أن خير ما يربطهم بالإسلام لا يكون إلا عن طريق الفتح والانتصارات الحربية، وما يجره ذلك من الغنائم.
•••
وهكذا انتهت حروب الردة، ولم تقم للمرتدين بعدها قائمة، فقد كان عقاب الردة القتل، وهنا تظاهر الناس بالإسلام ووقفوا عند هذا الحد، ونحن — إذا استثنينا صفوة المسلمين، ونواتهم المؤلفة من المهاجرين والأنصار وبعض من يمتون إليهم بسبب — لم نجد بعد ذلك من يعرف القرآن وتعاليمه إلا عددًا غاية في القلة، أما العرب الذين استوطنوا أفريقيا، فقد ظلوا — حتى بعد مضي قرن من الهجرة — لا يعرفون من الإسلام أكثر من أنه دين أتى بتحريم الخمر، أما أولئك الذين استوطنوا مصر، فإنهم ما تحدثوا عن الإسلام أو شغلوا به أنفسهم قط، وكانوا لا يذكرون إلا أيام الوثنية، وعهودها الطيبة بالثناء والحنين.
•••
ولما انتصر العرب على الفرس في موقعة القادسية (٦٣٥م) وأخذ كل واحد نصيبه من الغنائم، بقيت نفائس أخرى وافرة لم تقسم بعد، فكتب الخليفة عمر — أمير المؤمنين حينئذٍ — يأمر القائد بتوزيع باقي الغنائم على من يحفظ أوفر قسط من القرآن.
فالتفت القائد إلى بشر بن طائف يسأله، فكان جوابه: «ليس حظي من ذلك بأوفر من حظ عمرو: «بسم الله الرحمن الرحيم».»
وقد كان هذا هو كل ما يحفظه من القرآن!
•••
زد على ذلك، أن الإسلام — وإن لم يلقَ معارضة قوية في أثناء فتوحاته المتوالية المظفرة — فإن سراة مكة وطبقة الأرستقراطية العربية لم يغفروا لأصحاب هذا الدين الجديد ومؤسسيه هذا الفوز الذي أحرزوه، ولم يرضوا عن ذلك السلطان الذي أراد الموحدون أن يبسطوا ظله عليهم.
ولقد كانت تقوم المنازعات بين الشعب على مسألة من المسائل ظاهر أمرها أنها شخصية لا علاقة لها بمبدأ أو عقيدة، وهي — في حقيقتها وجوهرها — غير ذلك، فقد كان يتخذ النزاع غرضًا يحوم حوله ومبدأ يناضل عنه ليتخذ منه تكأة يبرر بها غايته من الشغب.
وقد بدأ ذلك بحادث عثمان — ثالث الخلفاء — حين تولى الخلافة بعد وفاة عمر (٦٤٤م) وكانت سن عثمان حينئذٍ سبعين عامًا، وكان حليمًا لين العريكة، ضعيف الإرادة أمام أسرته وأعيان مكة وسراتها ورجال بني أمية، أي إنه كان ضعيف الإرادة أمام كل من ناصبوا محمدًا العداء عشرين عامًا، ثم أسلموا، فكان في إسلامهم مجال واسع للظنون والحذر، ولقد نالوا بفضل عثمان أرفع المناصب وانتهت المأساة الكبرى بقتل خليفتهم الشيخ المسن عثمان.
ولكنَّ لكل شيء حدًّا، فقد صبر يزيد حتى عيل صبره، فلما لم يبقَ في قوس الصبر منزع، طلب إلى عبد الله بن الزبير — للمرة الأخيرة — أن يبايعه، فلما رفض امتزج الخليفة بالغضب وأقسم أنه لن يقبل من هذا الثائر طاعة حتى يُؤتَى به بين يديه مكبلًا بالأغلال، ولما هدأت ثائرة الخليفة ندم على قسمه — وكان طيب السريرة — ففكر في وسيلة يبر بها في قسمه دون أن يمس كبرياء عبد الله، ثم استقر على أن يرسل إليه غلًّا من الفضة ومعه حلة فاخرة ليخفيه تحتها — إذا شاء — وبعث إليه برسل يحملون معهم هدايا ثمينة، فساروا من مقر ملكه دمشق حتى بلغوا مكة ولكن عبد الله رفض — بطبعه — أن يقبل تلك الهدايا، وعبثًا حاول الرسل أن يتوصلوا إلى إقناعه وإنزاله عن رأيه، فقد أصر عبد الله على عناده، لأنه كان يعتقد أن كائنًا من كان لن يفكر — بحال ما — أن يلجأ إلى العنف والشدة معه وهو في تلك البقاع المقدسة، وكان هذا سر طمأنينته، وقد أكد له الرسل بصراحة أن الخليفة لن يعنُف معه ولن يقدم على مثل ذلك العمل.
على أن عبد الله لم يكن أول من تعرض لغضب الخليفة ونقمته، فقد سبقه إلى ذلك ثوار المدينة، وكانت روح الشر مهيمنة عليهم في ذلك الحين، فقد وقعت بينهم وبين الوالي — حينئذٍ — خصومة بسبب النزاع على تملك بعض الأراضي، وأراد الوالي إزالة أسباب الخلاف — وكان ابن أخت الخليفة يزيد — فنصح سراة المدينة وأعيانها أن يذهبوا إلى بلاط الخليفة، فلما ذهبوا قابلهم الخليفة أحسن مقابلة وأكرم وفادتهم وتلطف معهم رغبة في أن يستميلهم إليه، ولكن يزيدًا كان — على أدبه ونبله — غير مشبع بروح احترام الدين الذي كان يمثله وهو خليفة المسلمين الأعظم، فبدرت منه آراء — عن غير قصد — صدمت بعض أصول الدين التي يقدسها أهل المدينة، فلما عادوا إلى بلادهم عادوا ساخطين وأخذوا يشهرون بالخليفة ويذمونه عند مواطنيهم متأثرين بعامل الغضب وقالوا لهم: «إنه يشرب الخمر، ويعزف على الأوتار، ويصرف نهاره بين كلاب الصيد — وقد كان محمد يمقت ذلك أشد المقت — فإذا جن الليل جلس بين اللصوص وقطاع الطرق.»
يعنون بذلك البدو والأعراب الذين نشأ بينهم يزيد وترعرع، فلما كبر أدناهم من مجلسه.
•••
وزادوا على ذلك أنه لا يصلي قط، وأنه جاحد، وعزوا إليه — فوق هذه التهم التي بنوها على أساس واهٍ أو متين — تهمًا أخرى لا أساس لها ولا وجود، وإن كان ذكرها ممَّا يثير في نفس خصومه من أهل المدينة حفائظ وأحقادًا بعيدة الأثر.
وقد كانوا يميلون إلى تصديق كل تهمة تُلصق بكل أموي، ومن ثم انقلب المسجد مسرحًا عجيبًا تصب فيه اللعنات على يزيد وأتباع يزيد واجتمع أهل المدينة قاطبة — وهم صاخبون — فشرع كل واحد منهم يتجرد من شيء من ملابسه فيلقي به صائحًا: «إني أخلع يزيد كما أخلع قبائي هذا»، أو «عمامتي»، أو «نعلي».
ثم طردوا كل من في المدينة من الأمويين وصدوا عن تعيين خليفة جديد لهم، فقد كان القرشيون الذين في المدينة لا يحبون أن يعترفوا بأهلها، كما كان أهلها كذلك لا يحبون أن يعترفوا بهم، فقر رأيهم على أن يتريثوا في تعيين الخليفة حتى يتم خلع يزيد!
واستحوذ عليهم عداء جنوني — لا يحدوه رشد — فلم يتبصروا عواقب هذا الاندفاع وكيف تقف مدينة واحدة أمام جيوش الإمبراطورية الإسلامية العظيمة كلها.
ولقد حاول عبثًا أحد المدنيين — وكان قد عاش في بلاط الخليفة، ثم أوفده سيده إلى المدينة — أن يبين حقيقة الخطر لمواطنيه ولكن الغضب أعماهم فأصبحوا لا يعيرون الناصحين التفاتًا ولا يصيخون إلى أية موعظة تقدم إليهم بحسن نية.
•••
وحينئذٍ رأى الخليفة أنه مضطر إلى الالتجاء إلى القوة، فأرسل إليهم جيشًا عهد بقيادته إلى «مسلم» — وكان «مسلم» أقرب إلى الوثنية منه إلى الإسلام — فأمره أن يترك لأهل المدينة ثلاثة أيام يفكرون فيها، فإذا أبوا أن يخضعوا — بعد ذلك — هاجمهم ودمر مدينتهم تدميرًا في ثلاثة أيام أخرى، ثم أخذ على من فيها المواثيق بأنهم عبيد يزيد وأمرهم أن يقسموا على ذلك فإذا رفض أحدهم أن يفعل قطعت رقبته.
ولم يكد يبلغ أهل المدينة رسالته حتى هبوا ثائرين أنفة من الخضوع وأعدوا عدتهم للقاء العدو، وجاهد الفريقان بشدة وصبر نادرين (وكانت موقعة الحرة سنة ٦٨٣م) وظهرت الخسائر من الفريقين متكافئة، وكان أهل المدينة متحمسين يذكي فيهم الحرارة والقوة تعصبهم الشديد واعتقادهم الثابت أنهم المختارون، وأن أعداءهم — من جيش سوريا — هم عند الله كالوثنيين سواء، وكانوا على يقين من أن خصومهم إذا ماتوا صبت عليهم اللعنات وباءوا بغضب من الله، أما هم فإنهم سالكون — بلا شك — مسالك الشهداء والأبرار.
وبقي مصير الحرب معلقًا في كف الأقدار زمنًا طويلًا، حتى كشفت الخيانة عنه، فقد ارتشت أسرة من المدنيين ففتحت أحد أبواب المدينة لفرقة من جيوش العدو، فدخل السوريون وسمع أهل المدينة من خلفهم — فجأة — صيحات النصر من أفواههم، فضاع كل أمل لديهم في الفوز والغلبة، وأصبحت المدينة في قبضة العدو، وصار كل هجوم عبثًا أو مستحيلًا، على أن جمهرتهم لم تفكر في الخطر المحدق بها، فهجم أهل المدينة على أعدائهم فرادى وباعوا حياتهم بأغلى ثمن استطاعوا أن يبيعوها به!
وكان من بين القتلى سبع مئة من حفظة القرآن وأربعة وعشرون من الصحابة، ولم يكن أحد من الصحابة الذين حاربوا مع النبي قد حارب بعد أن نصروه في حرب بدر على المكيين حتى شهدوا هذا اليوم المشئوم.
ودخل المدينة فرسان سوريا فلما لم يجدوا مكانًا يربطون فيه خيلهم ربطوها في مسجد المدينة — بين قبر النبي ومنبره — أي في نفس المكان الذي طالما سماه النبي نفسه: «جنة من جنان الفردوس».
•••
ثم نهبوا المدينة في ثلاثة أيام وسبَوْا كل من فيها من نساء وأطفال، ولم ينجُ أحد ممن بقيَ من أهلها — وقد فر أكثرهم — إلا بعد أن أقسم أن يكون عبدًا من عبيد يزيد. وهكذا أقسموا جميعًا على أن يكون الخليفة يزيد سيدهم ومولاهم، وأن يكون في حل من التصرف فيهم بما شاء، من عتق أو بيع، كما أقسموا أن يكون له الحق في كل ما تملك أيمانهم من نساء وأولاد وأزواج.
ولما رأى أبناء مؤسسي الإسلام أنهم مضطهدون معذبون وأن بني أمية قد أرهقوهم إرهاقًا، لم يجدوا أمامهم وسيلة إلا المهاجرة، فهاجر الكثيرون منهم إلى حيث انضموا إلى جيش إفريقية، ثم انضم أغلبهم — فيما بعد — إلى جيش العرب في إسبانيا.
وكان «مسلم» مكلفًا أيضًا بإخضاع مكة، ولكن الموت عاقه عن تحقيق إربته، فأخذ «الحصين» — وهو أحد رجال جيشه — على عاتقه أن يحقق ذلك، فتولى قيادة الجيش، وبدأ يحاصر مكة ويقذف الكعبة بالحجارة والصخور، حتى حطم عمدها وقواعدها، ثم نجح أخيرًا في إحراقها جملة، ولقي الحجر الأسود في هذه المرة أول نكبة حاقت به؛ لأنه لم يطق مقاومة النار، فتحطم أربعة أجزاء.
على أن مكة لم يتم إخضاعها، فقد حال دون ذلك موت يزيد وما أعقبه من الفوضى التي اضطرت الجيش إلى رفع الحصار والرجوع بالجيش توًّا إلى سوريا، وبهذا استعاد عبد الله بن الزبير قوته، واستتب له أمر الخلافة في مكة وخارجها أيضًا.
ولكن الأمويين ما لبثوا أن تم لهم الأمر من جديد بعد أن تولى الخلافة عبد الملك وخضعت البلاد كلها له، ولم يتبقَّ إلا مكة وحدها ثائرة، وفيها عبد الله بن الزبير فلما رأى عبد الملك ذلك وجَّه إليها جيشًا بقيادة الحجاج، فذهب إلى تلك البقاع المقدسة، وحاصر المدينة، وطفق يرمي الكعبة بالصخور والحجارة ليدكها دكًّا، وبينما كان يقذفها بالنار — ذات يوم — هبت عاصفة شديدة فأحرقت النار اثني عشر جنديًّا، فرأى الجيش في ذلك عقابًا من الله على انتهاك حرمة ذلك المكان المقدس، فأحجم رجال الحجاج وكفوا عن ذلك.
•••
فاغتاظ الحجاج وخلع بعض ملابسه، وتقدم إلى المنجنيق فأخذ بيده حجرًا ووضعه فيه، ثم حرك حباله بعد ذلك، وهو يقول: «لقد أخطأتم الفهم، فليس معنى ما حدث هو ما فهمتموه، ألا إنني لخبير بطبيعة هذه البلاد، ففيها ولدت، وكم رأيت لهذه العاصفة أشباهًا لا تحصى!»
وظل يشدد الحصار عليها بقوة عدة أشهر، ثم أخذت بعد أن مات عبد الله بن الزبير سنة ٦٩٢م.
وهكذا لم تهدأ هذه الفئة المناوئة للإسلام ولم تثلج صدورهم إلا بعد أن تمَّت لهم الغلَبة على أنصار هذا الدين وظفروا بتقويض معالمه وإذلال أهل المدينتين المقدستين وتحويل مسجد المدينة إصطبلًا لخيلهم وإحراق الكعبة، وتحقير سلالة المجاهدين الأولين الذين عَزَّ بهم الإسلام وانتصر.
•••
وقد عرفت تلك الأقلية العربية — التي اضْطُرَّت إلى الإسلام اضطرارًا وأكرهت على الدخول في هذا الدين إكراهًا — كيف تثأر لنفسها حين سنحت لها فرصة الانتقام فتقاضتهم ثمن الفوز مضاعفًا وشفت به غلة صدورها المكلومة.
أنصار الرجعية
وقد ساعد ذلك على انتشار الإسلام، وشجع الناس على الدخول في هذا الدين، وتغلبت المصلحة على العقيدة ودانَ بالإسلام ملايين من الناس الذين آثروا المال على كل شيء.
والحق أن انتشار الإسلام بين هذه الجماهير والشعوب قد أرهق بيت المال، فقل الإيراد حتى اضطر الخليفة إلى مضاعفة الجزية تقريبًا، فقد كان الخراج في مصر في عهد الخليفة عثمان أكثر من نصف ما وصل إليه بعد زمن قليل في خلافة معاوية وكان السبب في ذلك أن جمهرة كبيرة من الأقباط دخلوا في الإسلام، وكان فريق منهم يتظاهر بالإسلام من غير أن يعتقده، وفريق آخر ارتضاه دينًا له هربًا من دفع الجزية المفروضة عليه، وثمة رأى الخلفاء ألا يُعفوهم من تلك الضريبة متعللين بأنهم لم يدخلوا حظيرة هذا الدين إلا طمعًا في إعفائهم منها، وأنهم لا يقومون بتنفيذ أحكام الدين والأخذ بتعاليمه.
عمر بن عبد العزيز
ولم يشذ من بين هؤلاء الخلفاء إلا الخليفة عمر الثاني — عمر بن عبد العزيز — ذلك المسلم الورع التقي الذي آثر نصرة الإسلام على كل شيء، والذي احتقر المال، وزهد فيه كل الزهد، بعد أن امتلأ قلبه بالإيمان، فأصبح لا يهمه إلا أن ينتشر الإسلام ويدين به كل إنسان.
ولم يكن عماله يرتضون النزول على هذا المبدأ الجديد لأنه يهدم النظام الذي ألفوه، ويقوض صرح بيت المال.
وقد كتب إليه أحد عماله — في هذا المعنى — يقول: «لو دامت الحال على هذا المنوال لدان بالإسلام كل مسيحي، ولم يشذ منهم أحد، وبذلك تفقد الدولة كل دخلها.»
فأجابه عمر: «لو تم ذلك لتمت لي أسباب السعادة كلها، فليست لنا غاية نسعى إليها إلا نشر هذا الدين بين الناس كافة، وقد بعث الله نبيه مبشرًا بالإسلام وداعيًا إليه ولم يبعثه محصلًا للمال، ولا جابيًا للضرائب.»
وهكذا أجاب عامله كما أجاب عامل خراسان الذي شكا إليه إقبال الفرس على هذا الدين لا عن رغبة فيه، بل فرارًا من دفع الضرائب، وآية ذلك أنهم يدخلون الإسلام ولا يُخْتَنُون.
فأجابه عمر: «لقد أرسل الله نبيه ليهدي الناس إلى الدين الحق، ولم يرسله ليفرض عليهم الختان.»
وهو بهذا لم يكن صارمًا في تطبيق أصول الشريعة، ولم يكن يجهل أن أكثر من دانوا بالإسلام كان ينقصهم الإخلاص والصدق، ولكنه على ذلك كان يرى — وهو على حق فيما رآه — أن أبناء هؤلاء المتظاهرين بالإسلام وأحفادهم سينشئون في ظل الإسلام والمسلمين، ويشبون في أحضان هذا الدين، وتشربه دماؤهم فيصبحون مسلمين يخدمون الإسلام وينصرون كلمته، وربما ظهر منهم من هو خير من المسلمين أنفسهم.