الهوامش
الجزء الأول: ملوك الطوائف
الفصل الأول
(١)
نشأت ملوك الطوائف بعد أن اضمحل أمر الخلافة الأموية بالأندلس، فقد استبد
بالأمر المنصور بن أبي عامر وأعقابه، وأسسوا الدولة العامرية، وحالفوا
بربر صنهاجة واستعانوا بهم في مواقفهم من دون العرب، ثم ثارت الفتنة بعد
ذلك فانقرضت دولة العامريين وانتهب الثائرون دورهم وأديل لبني أمية ثانية،
ثم تدهور بنو حمود وثبَّ الأمراء والموالي والوزراء وكبار العرب وأعيان
البربر وقام كل واحد منهم بأمر في ناحية. وما زال حبل الأمن في اضطراب حتى
ولي الأمر أبو محمد جهور بن محمد بن جهور في قرطبة، وانطوى بساط الدولة
الأموية وصار الأمر إلى رؤساء البلاد، وولي بنو عباد إشبيلية وغرب
الأندلس.
وقد اشتغل ملوك الطوائف بتغلب بعضهم على بعض والتجئوا إلى ملوك الفرنجة
مستنصرين بهم حتى جاءهم يوسف بن تاشفين وأقام في بلاد الأندلس دولة
المرابطين.
وقد أصاب «نيكلسون» في تشبيه إسبانيا في القرن الحادي عشر الميلادي بتاريخ إيطاليا في القرن الخامس عشر، فقد كان وجه الشبه — كما يقول — كبيرًا جدًّا بينهما.
وكان هؤلاء القادة الذين اقتسموا بلاد الأندلس أشبه بأولئك القادة الذين كان يطلق عليهم في إيطاليا اسم “Condottieri” وكان من بينهم ملوك بني عباد الذين قطنوا إشبيلية. وهم أقوى الملوك الذين أطلق عليهم كتاب المسلمين اسم: «ملوك الطوائف».
وعلى أن ذلك العصر كان عصر تدهور سياسي، وعلى أن إسبانيا كانت تشكو عجز مواردها الاقتصادية، فقد وصل المجتمع في تلك الأيام إلى مستوى لم يصل إلى مثله من قبل.
وهنا يجدر بنا أن نقف لحظة علنا نستطيع أن نستعرض فيها أمامنا الشوط البعيد المدى الذي قطعته الآداب والعلوم في طريق النجاح في ذلك العصر الذي يعد أزهى عصور الاحتلال الإسلامي في أوروبا.
فبينما ترى العرب الفاتحين في آسيا قد سحرتهم حضارة قديمة تفوق حضارتهم بما لا نهاية له فأذعنوا لها وظهر أثرها فيهم، إذ تراهم لم يكادوا يعبرون مضيق جبل طارق — في الغرب — حتى انعكست الآية تمامًا.
ذلك أنهم بعد أن تغلبوا على شبه الجزيرة وقع في أيديهم آلاف من المسيحيين من كل جهة فتحوها، وقد عاش أولئك المسيحيون في كنف المسلمين، وأحسنت الحكومة معاملتهم، ومنحتهم الحرية الدينية، وكثيرًا ما رفعتهم إلى مناصب عالية في الجيش وفي بلاط الملك، فاعتنق كثير منهم الحضارة الإسلامية وافتتن بها افتتانًا.
حتى رأينا الفارو — كاهن قرطبة في أواسط القرن التاسع للميلاد — يولول في أوائل ذلك العصر، شاكيًا من أبناء دينه انصرافهم إلى مطالعة أشعار العرب وأساطيرهم وهيامهم بدراسة كتابات لاهوتي المسلمين وفلاسفتهم، وهم لا يقصدون بذلك إلى تفنيدها بل يقصدون إلى التعبير عن خوالجهم بأسلوب عربي رائع صحيح. وكان الفارو يتساءل قائلًا: «أنى يتاح لإنسان في هذه الأيام أن يقابل واحدًا من أبناء جنسنا يقرأ التفاسير اللاتينية للكتب المقدسة؟ ومن ذا الذي يدرس منهم فصول الأناجيل وسير الأنبياء والحواريين؟
وا حسرتاه: إن كل الشبان ذوي المواهب لا يعرفون إلا العربية وإلا كتابات العرب، فهم يقرءونها ويدرسونها بحماسة بالغة منتهاها، كما أنهم ينفقون المال الطائل لاقتنائها في مكاتبهم، وإنك لتراهم — حيثما وجدوا — يذيعون أن تلك الآداب جديرة بالإعجاب.
فإذا تجاوزت عن ذلك وأخذت تحدثهم عن الكتب المسيحية ازور جانبهم وأجابوك بازدراء: «إنها أسفار تافهة لا خطر لها ولا قيمة.»
وا حسرتاه عليهم! لقد نسي المسيحيون أنفسهم حتى ليندر العثور بين آلاف منهم على فرد واحد يستطيع أن يحرر إلى أحد أصدقائه رسالة لاتينية بأسلوب مقبول، على حين ترى جمهرتهم قادرة على الإبانة عما في نفوسهم بأسلوب عربي رائع، وعلى حين ترى حذقهم في قرض الشعر العربي قد وصل إلى حد فاقوا معه العرب أنفسهم.»
ومهما يكن في كلام هذا الكاهن من إغراق، فمما يترفع عن الجدل والتشكك أن الثقافة الإسلامية قد أخذت بألباب المسيحيين الإسبان، كما افتتن بها اليهود الذين خدموا الشعر والفلسفة بمساعداتهم العديدة وكتاباتهم التي أنشئوها بلغتهم وبلغة أبناء عمهم العرب.
أما المولدون والصابئون من الإسبانيين الذين دانوا بالإسلام فقد استعربوا تمامًا — بعد أجيال قليلة — ومن هؤلاء نبغ أشهر من ازدان بهم الأدب العربي.
•••
وقد كان للشعر العربي — في أوروبا — على الإجمال نفس الخصائص التي رأيناها في الشعر المعاصر له في الشرق.فإن الأوزان المصطلح عليها والقيود التي لم يستطع أساطين بغداد أن يحرروا أنفسهم من ربقتها ظلت — كما هي — في قرطبة وإشبيلية.
وكما تأثر الشعر العربي في الشرق بالآداب الفارسية، فقد تأثر في إسبانيا كذلك باتحاد الآريين والساميين واندماجهم شيئًا فشيئًا.
فكان ذلك سببًا في إدخال عناصر جديدة ظهرت في آدابهم بعد، ولعل أمتع ميزات الشعر الأندلسي هي ذلك الوجدان العاطفي الرقيق الذي يندر وجود مثله في النسيب، والذي ظهر كثيرًا في أغانيهم عن الحب، وهو وجدان لا يقتصر على تصوير فروسية القرون الوسطى، بل يتخطى ذلك إلى حد أن تحسبه إحساسًا جديدًا بمحاسن الطبيعة التي جملته.
ولهذه الميزة سهل فهم ذلك الشعر على الكثيرين من الآريين الذين قد لا يسهل عليهم تفهم روح المعلقات أو قصائد المتنبي. انظر كتاب «نظرات في تاريخ الأدب الأندلسي» للمترجم.
(٣)
استولى أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور على مقاليد الحكم، وكان رئيس
الجماعة بها أيام فتنة بني أمية.
قالوا: ولما خلع الجند آخر خلفاء بني أمية بالأندلس استبد جهور بالأمر
واستولى على المملكة بقرطبة سنة ٤٢٢ﻫ. وكان على سنن أهل الفضل، فأسندوا
إليه أمرهم إلى أن يوجد خليفة، ثم اقتصروا عليه، فدبر أمرهم إلى أن هلك
سنة ٤٣٥ﻫ.
وخلفه ابنه أبو الوليد محمد بن جهور وما زال على قرطبة، حتى خلعه أهلها
سنة ٤٦١ﻫ، فأعقبه ابنه عبد الملك بن الوليد فأساء السيرة، فأخرجوه عنها،
وزحف المعتمد بن عباد على قرطبة فملكها سنة ٤٨٤ﻫ.
ولما انقطعت دعوة بني أمية بالأندلس، ولم يبق من عقبهم من يصلح للإمارة، ولا من تليق به الرياسة، استولى على تدبير ملك قرطبة جهور ابن محمد بن جهور، ويكنى: أبا الحزم، وهو قديم الرياسة شريف البيت، كان آباؤه وزراء الدولة الحكمية والعامرية، وهو موصوف بالدهاء، وبعد الغور، وحصافة العقل، وحسن التدبير، ولم يدخل — من دهائه — في الفتن الكائنة قبل ذلك، وكان يتصاون عنها، ويظهر النزاهة والتدين والعفاف، فلما خلا له الجو وصفر الفناء، وأقفر النادي من الرؤساء، وأمكنته الفرصة وثب عليها فتولى أمرها، واضطلع بحمايتها. ولم ينتقل إلى رتبة الإمارة ظاهرًا جريًا على ما قدمنا من إظهار سنن العفاف بل دبرها تدبيرًا لم يسبق إليه، وذلك أنه جعل نفسه ممسكًا للموضع إلى أن يجيء من يتفق الناس على إمارته فيسلم إليه ذلك، ورتب البوابين والحشم على تلك القصور على ما كانت عليه أيام الدولة ولم يتحول عن داره إليها، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم لذلك وهو المشرف عليهم. وصير أهل الأسواق جندًا له، وجعل أرزاقهم رءوس أموال تكون بأيديهم محصاة عليهم يأخذون ربحها ورءوس الأموال باقية محفوظة يؤخذون بها ويراعون في كل وقت كيف حفظهم لها، وفرق السلاح عليهم، وأمرهم بتفرقته في الدكاكين والبيوت حتى إذا دهمهم أمر في ليل أو نهار كان سلاح كل واحد معه حيث كان من بيته أو دكانه. وكان أبو الحزم هذا يشهد الجنائز، ويعود المرضى جاريًا على طريقة الصالحين. وهو مع ذلك يدبر الأمور تدبير الملوك المتغلبين، وكان آمنًا وادعًا وقرطبة في أيامه حرمًا يأمن فيه كل خائف، واستمر أمره على ذلك إلى أن مات في غرة صفر سنة ٤٣٥، فكانت مدة تدبيره — منذ استولى إلى أن مات — أربع عشرة سنة وأشهرًا، ثم ولي ما كان يتولى من أمر قرطبة بعده ابنه أبو الوليد محمد بن جهور، فجرى في السياسة وحسن التدبير على سنن أبيه غير مخل بشيء من ذلك إلى أن مات أبو الوليد المذكور في سلخ شوال من سنة ٤٤٣، فغلب عليها — بعد أمور جرت — الأمير الملقب بالمأمون بن ذي النون صاحب طليطلة فدبرها مدة يسيرة إلى أن مات، وخلف فيها بعده من البربر رجلًا يعرف بابن عكاشة أظن اسمه موسى، فكان بها إلى أن غلبه عليها وأخرجه منها الأمير الظافر بحول الله أبو القاسم محمد بن عباد على ما يأتي بيانه إن شاء الله (تعالى)، فهذا آخر أخبار قرطبة وكونها دارًا للملك، وبعد غلبة المعتمد عليها صارت تبعًا لإشبيلية.
جهور بن محمد بن جهور بن عبد الله بن محمد بن الغمر بن يحيى بن عبد الغافر بن أبي عبيدة رئيس قرطبة، يكنى: أبا الحزم.
روى عن أبي بكر عباس بن الهمذاني، وأبي محمد الأصيلي، والقاضي أبي عبد الله بن مفرج، وأبي القاسم خلف بن القاسم، وأبي يحيى زكريا ابن الأشج وغيرهم، وسمع منهم وأخذ العلم عنهم، وقد أخذ عنه أبو عبد الله محمد بن عتاب الفقيه، فقال: حدثنا ثقة من الشيوخ الأكابر، وهو يعني أبا الحزم هذا. ثم صار تدبير أهل قرطبة إلى أبي الحزم هذا فألفها بالرياسة فيها، إلى أن توفي يوم الخميس لسبع بقين من المحرم من سنة ٤٣٥ ودفن بداره، وصلى عليه ابنه أبو الوليد محمد بن جهور متولي الأمر من بعده. وكانت سنه يوم وفاته إحدى وسبعين سنة. وكان مولده أول المحرم سنة ٣٦٤.
قالوا: «أما قرطبة فاستولى عليها أبو الحسن جهور بن محمد بن جهور وكان من وزراء الدولة العامرية، موصوفًا بالدهاء والعقل، ولم يدخل في شيء من الفتن قبل هذا بل كان يتصاون عنها، فلما خلا الجو وأمكنته الفرصة وثب عليها فتولى وقام بحمايتها، ولم ينتقل إلى رتبة الإمارة ظاهرًا بل رتبها ودبرها تدبيرًا لم يسبق إليه، وأظهر أنه حامٍ للبلد إلى أن يجيء من يستحقه ورتب البوابين والحشم على أبواب قصور الإمارة ولم يتحول عن داره إليها، ودعا ما يتحصل من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم له.
وكان جهور يشهد الجنازة، ويعود المرضى، ويحضر الأفراح على طريق الصالحين، وهو مع ذلك يدبر الأمور تدبير الملوك وكان مأمون الجانب. فأمن الناس في أيامه، وبقي كذلك إلى أن مات سنة خمس وثلاثين وأربع مئة، وقام بالأمر بعده أبو الوليد محمد بن جهور على هذا التدبير إلى أن مات.»
الوزير الأجل أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور وبنو جهور أهل بيت وزارة اشتهروا كاشتهار ابن هبيرة في فزارة وأبو الحزم هذا أمجدهم في المكرمات، وأنجدهم في الملمات؛ ركب متون الفنون فراضها، ووقع في بحور المحن فخاضها، وهو منبسط غير منكمش، لا طائش اللسان ولا رعش، وقد كان وزر في الدولة العامرية فشرفت بجلاله، واعترفت باستقلاله، فلما انقرضت وعاقت الفتن واعترضت تحيز من التدبير مدتها، وخلى لأخلافه تدبير الرياسة وشدتها، وجعل يقبل مع أولئك الوزراء ويدبر، غير مظهر للانفراد، ولا متصرف في ميدان ذلك الطراد، إلى أن بلغت الفتنة مداها، وسوغت ما شاءت رداها، وذهب من كان يجد في الرياسة ويخب ويسعى في الفتنة، ولما ارتفع الوبال، وأدبر ذلك الإقبال راسل مستمدًّا بهم ومعتمدًا على بعضهم تخييلًا منه وتمويهًا وتداهيًا على أهل الخلافة وذويها، وعرض عليهم تقديم المعتمد هشام، وأومض منه لأهل قرطبة برق خلبه يشام، ثقة بسرعة التياثها، وتعجيل انتكاثها، وأنابوا إلى دعائه، وأجابوا إلى استدعائه، وتوجهوا مع ذلك الإمام، وألموا بقرطبة أحسن إلمام، فدخلوها بعد فتن كثيرة، واضطرابات مستثيرة، والبلد مقفر، والجلد مسفر، فلم يبق غير يسير حتى نبذ واضطرب أمره فخلع، واختطف من الملك وانتزع، وانقضت الدولة الأموية، وارتفعت الدولة العلوية، واستولى على قرطبة عند ذلك أبو الحزم، ودبرها بالجد والعزم، وضبطها ضبطًا آمن خائفها، ورفع طارق تلك الفتنة وطائفها، وخلا له الجو فطار، واقتضى اللبانات والأوطار، فعادت له قرطبة على أكمل حالتها، وانجلى به نور جلالتها، ولم تزل به مشرقة، وغصون الآمال فيها مورقة، إلى أن توفي سنة ٤٣٥، فانتقل الأمر إلى ابنه أبي الوليد، واشتمل منه على طارف وتليد، وكان لأبي الحزم أدب ووقار وحلم سارت بها الأمثال وعلم نادر المثال. وقد أثبت من شعره ما هو لائق. وذلك قوله في تفضيل الورد:
(٥)
استبد القاضي أبو القاسم إسماعيل بإشبيلية بعد فرار القاسم بن حمود
عن قرطبة وقد استطاع القاضي أن ينتزع قرطبة من ابن زيري الذي ولاه عليها
القاسم بن حمود وما زال يعظم شأن القاضي حتى مات سنة ٤٣٣ﻫ فخلفه عليها
ابنه عباد ولقب نفسه بالمعتضد وطالت أيامه وعظم شأنه حتى تغلب على أكثر
الممالك بغرب الأندلس، ومات سنة ٤٦١ﻫ.
فخلفه ابنه المعتمد، وما زال يعظم شأنه حتى استولى على دار الخلافة
بقرطبة من يد ابن جهور وعظم أمر المعتمد بين ملوك الطوائف حتى غلبه يوسف
بن تاشفين على الأندلس سنة ٤٨٤ﻫ.
(٦)
القاسم بن حمود وعلي بن حمود كانا في جملة جماعة المستعين الأموي المسمى
سليمان بن الحكم، وبعد أن انقرضت دولة بني حمود من فاس عقد المستعين
للقاسم بن حمود على الجزيرة الخضراء من الأندلس وعقد لعلي بن حمود على
طنجة. وبعد قليل سمت نفس علي هذا إلى الخلافة وزعم أن هشامًا الأموي قد
كتب له بعهد، فبايعه ناس، وأجاز إلى مالقة فملكها، ثم دخل قرطبة سنة
٤٠٧ ولقب نفسه بالناصر لدين الله، وبقي كذلك حتى قتله صقالبته سنة ٤٠٨ في
الحمام.
فولي مكانه أخوه القاسم بن حمود — وكان حينئذ في طنجة — ولقب نفسه
بالمأمون، ثم غلبه يحيى — ابن أخيه علي — وزحف إلى قرطبة فملكها سنة ٤١٢
ولقب نفسه بالمعتلي، وما زال يعظم شأنه حتى حاصر ابن عباد بإشبيلية وكبا
به فرسه فقتل. وانتهت بقتله دولة بني حمود بقرطبة.
(٧) وكان عباد الجد الثالث لإسماعيل.
أما أحوال إشبيلية فإنها كانت في طاعة الفاطميين أعني علي بن حمود والقاسم بن حمود، ويحيى بن علي بن حمود، أيام كان الأمر دائرًا بينهم على ما تقدم ذكره.
فلما زحف يحيى بن علي بالبربر إلى قرطبة، وهرب القاسم بن حمود منها، وقصد إشبيلية، وقد كان ابناه محمد والحسن مقيمين بها أجمع أمر أهل إشبيلية، واتفق رأيهم على إخراج محمد والحسن عنها قبل وصول القاسم أبيهما فأخرجوهما، وجاء القاسم فمنعوه دخول البلد أيضًا، واتفقوا على تقديم رجل منهم يرجع إليه أمرهم، وتجتمع به كلمتهم فتوارد اختيارهم بعد محض الرأي وتنقيح التدبير على القاضي أبي القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي لما كانوا يعلمونه من حصافة عقله، وسعة صدره، وعلو همته، وحسن تدبيره، فعرضوا عليه ما رأوه من ذلك، فتهيب الاستبداد، وخاف عاقبة الانفراد أولًا، وأبى ذلك إلا على أن يختاروا له من أنفسهم رجالًا سماهم لهم يكونون له أعوانًا ووزراء وشركاء لا يقطع أمرًا دونهم، ولا يحدث حدثًا إلا بمشورتهم، وهؤلاء المسمون هم الوزير أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي، ومحمد بن يريم الألهاني، وأبو الأصبع عيسى الهوزني، ورجال آخرون ذهبت عني أسماؤهم ولا أعرف قبائلهم وبيوتهم، ففعلوا ذلك وأجابوه إلى ما أراد، ولم يزل يدبر أمر إشبيلية، وهؤلاء المذكورون من وزرائه، وكان له من الولد إسماعيل وهو الأكبر يكنى أبا الوليد، وعباد يكنى أبا عمرو، فأما إسماعيل فخرج إلى لقاء البربر، بعد أن حدث لأبيه أمل في التغلب على ما كان البربر يملكونه من الحصون القريبة من إشبيلية بعسكر من جند إشبيلية، فالتقى هو وصاحب صنهاجة فأسلمت إسماعيل عساكره. وكان أول قتيل، وقطع رأسه وسير به إلى مالقة إلى إدريس بن علي الفاطمي كما تقدم، وبقي الأمر كذلك، والقاضي أبو القاسم يدبر الأمور أحسن تدبير، وكان مصلحًا صالحًا إلى أن مات في شهور سنة ٤٣٩.
وأما إشبيلية فاستولى عليها قاضيها محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي، وهو من ولد النعمان بن المنذر، وفي هذا الوقت ظهر أمر المؤيد هشام بن الحكم، وكان قد اختفى وانقطع خبره، وكان ظهوره بمالقة ثم سار منها إلى المرية، فخافه صاحبها، زهير العامري وأخرجه منها، وقصد قلعة رباح فأطاعه أهلها، فسار إليهم صاحبها إسماعيل بن ذي النون، فحاربهم وضعفوا عن مقاومته فأخرجوه، فاستدعاه القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد إليه بإشبيلية، وأذاع أمره وقام بنصره، فسار إليه وقام بواجبه، وكتب بظهوره إلى ملوك الأندلس، فأجاب أكثرهم وخطبوا له، وجرت بيعته في المحرم سنة تسع وعشرين وأربع مئة، ثم إن عبادًا سير جيشًا إلى زهير العامري بأن يخطب للمؤيد، فاستنجد زهير حيوس الصنهاجي صاحب غرناطة، فسار إليه بجيشه فعادت عساكر ابن عباد، ولم يكن بين العسكرين قتال، وأقام زهير ببأسه، وجاء حيوس إلى مالقة فمات، وولي بعده ابنه باديس، واجتمع هو وزهير ليتفقا كما كان زهير وحيوس، فلم تستقر بينهما قاعدة، واقتتلا فقتل زهير، وجمع كثير من أصحابه، والتقى عسكر ابن عباد وابنه إسماعيل مع باديس بن حيوس، وعسكر إدريس الفلوي صاحب سبتة بطنجة واقتتلوا قتالًا شديدًا، فقتل إسماعيل، ثم مات بعده القاضي أبو القاسم بن عباد وولي بعده ابنه أبو عمرو، ولقب المعتضد بالله، فضبط ما ولي وأظهر وفاة المؤيد، واشتغل بأمر إشبيلية وبقي كذلك إلى أن مات وولي بعده ابنه أبو القاسم محمد ولقب بالمعتمد على الله، فاتسع في ملكه، وشمخ سلطانه، وملك كثيرًا من الأندلس، وملك قرطبة أيضًا، وولى عليها ابنه الظافر بالله، فبلغ خبر ملكه لها إلى يحيى بن ذي النون صاحب طليطلة، فحسده عليهما فضمن له جرير بن عكاشة، وسار إلى قرطبة فأقام يسعى في ذلك وهو ينتظر الفرصة، فاتفق أن في بعض الليالي جاء مطر عظيم ومعه ريح شديد ورعد وبرق فثار جرير فخرج الظافر فيمن معه من العبيد والحرس، وكان صغير السن، فحمل عليهم ودفعهم عن الباب، ثم عثر في بعض كراته فسقط، فوثب عليه شخص فقتله ولم يبلغ الخبر إلى الأجناد وأهل البلد إلا والقصر قد ملك وتلاحق بجرير أصحابه وأشياعه، وترك الظافر ملقى على الأرض، فمر عليه بعض أهل قرطبة، فأبصره على تلك الحالة، فنزع رداءه وألقاه عليه، وكان أبوه إذا ذكر يتمثل بهذا البيت:
ولم يزل المعتمد يسعى في أخذها حتى عاد ملكها إليه وترك ولده المأمون فيها، فأقام بها حتى أخذها يوسف بن تاشفين وقتل فيها بعد حروب كثيرة يأتي ذكرها إن شاء الله (تعالى).
وأخذت إشبيلية من أبيه المعتمد، وبقي مسجونًا في «أغمات» إلى أن مات بها وكان هذا وأولادهم جميعهم — الرشيد، والمأمون، والراضي، والمعتمد — وأبوه وجده علماء شعراء.
الفصل الثاني
(١) المجلة الآسيوية السلسلة الرابعة من الجزء ١٦ ص٢٠٣–٢٠٥ مقال م. مونك.
(٢) كرونيكادل مورو ورازيس ص٣٧ تاريخ الرازي.
(٣) ابن حيان — ابن بسام ج١ ص١٢٢.
(٤) المجلة الآسيوية ص٩٢.
(٥) موسى بن عزرا (في المجلة الآسيوية ص٢١٢ شرح) يسميه ابن أبي موسى وهذا في الحقيقة هو الاسم الذي أطلقه الحمودي على الوزير ابن بقية وقد أخطأ من نقل مخطوط «عبد الواحد» (انظر طبعتي هذا المؤلف ص٤٣) إذ محا كلمة «أبي» التي كتبها أولًا.
(٦) عباد ج٢٢ ص٣٤.
ومن أخباره في الجبرية والقسوة، قال ابن حيان عندما استوعب الفتكة بأبي نصر بن أبي نور اليفرني أمير رندة المنتزي بها وقتله، ورجوعها إلى ابن عباد، حكى أبو بكر الوسنشاني الفقيه عن ثقة عنده من أصادقه التجار: أنه حضر مدينة غرناطة حضرة باديس بن حبوس الجبار أيام حدث على أبي نصر صاحب تاكرنا ما حدث، وأن أميرها باديس قام بالحادثة وقعد وهاج من داء عصبيته ما قد سكن، وشق أثوابه، وأعلن إعواله، وهجر سراريه التي لا صبر له عنهن وجفا بلاده وأوهمته نفسه الجيشة تمالؤ رعيته من أهل الأندلس على مثل الذي دها أبا نصر، فسولت له نفسه حمل السيف على أهل حضرته جميعًا مستحضرًا لهم وكيما ينفدهم ويخلص برابرته وعبيده فيريح نفسه، ودبر أن يأتي ذلك إليهم عند اجتماعهم بمسجدهم الجامع لأقرب أيام الجمعة من قوة همومه، وشاور وزيره اليهودي إسماعيل مدبر دولته الذي لا يقطع أمرًا دونه مستخليًا مستكتمًا بسره مصممًا في عزمه إن هو لم يوافقه عليه، فنهاه عن ذلك وخطَّأ رأيه فيه وسأله الأناة ومحض الروية وقال له: هبك وصلت إلى إرادتك ممن بحضرتك على ما في استباحتهم من الخطر، فلن تقدر على الإحاطة بجميعهم من أهل حضرتك وبسائط أعمالك، أتراهم يطمئنون إلى الذهول عن مصابهم والاستقرار في موضعهم؟ ما أراهم والله إلا سوف ينتظمون عليك في جموع يغزونك في لججها أنت وجندك، فرد نصيحته وأخذ الكتمان عليه وتقدم إلى عارضه باعتراض الجند في السلاح والتعبئة لركوبه يوم الفتكة يوم تلك الجمعة فارتج البلد، وذكر أن اليهودي دس نسوان إلى معارف لهن من زعماء المسلمين بغرناطة ينهاهم عن حضور المسجد يومهم ويأمرهم بإخفاء أنفسهم، وفشا الخبر فتخلف الناس عن شهود الجمعة ولم يأته إلا نفر من عامتهم، وانفردوا بمن أتاهم من مشيخة البربر وأغفال القادمين، وجاء إلى باديس الخبر والجيش في السلاح حوالي قصره فساءه وفت في عضده ولم يشك في فشو سره، وأحضر وزيره وقلده البوح بسره فأنكر ما قرفه به وقال: «ومن أين ينكر على الناس الحذر وأنت قد استركبت جندك وجميع جيشك في التعبئة لا لسفر ذكرته ولا لعدو وثب إليك، فمن هناك حرس القوم على أنك تريدهم، وقد أجمل الله لك الصنع في نفارهم، ووقاك إثارهم، فأعد نظرك يا سيدي فسوف تحمد عاقبة رأيي وغبطة نصحي.» فنصح وزيره شيخ من موالي صنهاجة فانعطف لذلك بعد لأي وشرح الله صدره. ويجري التعريف بشيء من أمور وزيره قال ابن عذارى المراكشي في كتابه المسمى ﺑ «البيان المغرب»: «أمضى باديس كاتب أبيه ووزيره ابن نغذالة اليهودي عمالًا ومتصرفين من أهل ملته واكتسبوا الجاه في أيامه واستطالوا على المسلمين.» قال ابن حيان: «وكان هذا اللعين في ذلته على ما زوى الله عنه من هدايته من أكمل الرجال علمًا وحلمًا وفهمًا وذكاءً ودماثة وزكانة ودهاء ومكرًا وملكًا لنفسه وبسطًا من خلقه ومعرفة بزمانه ومداراة لعدوه واستسلالًا لحقودهم بحلمه من رجل كتب بالقلمين واعتنى بالعلمين وشغف باللسان العربي ونظر فيه وقرأ كتبه وطالع أصوله، فانطلقت يده ولسانه وصار يكتب عنه وعن صاحبه بالعربي فيما احتاج إليه من فصول التحميد لله (تعالى) والصلاة على رسوله محمد ﷺ والتزكية لدين الإسلام وذكر فضائله، ما يزيد ولا يقصر فيما ينشئه عن أوسط كتاب الإسلام، فجمع لذلك السجيح في علوم الأوائل الرياضية وتقدم منتحليها بالتدقيق للمعرفة النجومية، ويشارك في الهندسة والمنطق، ويفوق في الجدل كل مسئول منه على غاية، قليل الكلام مع ذكائه، نافيًا للسباب مع ذكائه، دائم التفكر، جمّاعة للكتب، هلك في العشر الثاني لمحرم سنة تسع وخمسين وأربع مئة، فحمل يهود نعشه على أعناقهم خاضعين وتفاقدوه جازعين وبكوه معولين، وكان قد حمل ولده يوسف المكنى بأبي حسين على مطالعة الكتب وجمع إليه المعلمين والأدباء من كل ناحية يعلمونه ويدارسونه، وأعلقه بصناعة الكتابة ورشحه لأول حركة لكتابة ابن مخدومه ابن باديس المترشح لمكانه، فمهد قواعد هلكته، فلما هلك إسماعيل في هذا الوقت أدناه باديس إليه وأظهر الاغتباط به والاستعاضة بخدمته عن أبيه.»
(ذكر مقتل اليهودي يوسف بن إسماعيل بن نغذالة الإسرائيلي) قال صاحب البيان: «وترك ابنًا له يسمى يوسف لم يعرف ذل اليهودية ولا قدر الذمة، وكان جميل الوجه حاد الذهن فأخذ في الاجتهاد في الأحوال وجمع المال واستخراج الأموال واستعمال اليهود على الأعمال، فزادت منزلته عند أميره، وكانت له عليه عيون في قصره من نساء وفتيان يشغلهم بالإحسان، فلا يكاد باديس يتنفس إلا وهو يعلم ذلك، ووقع ما تقدم ذكره في ذكر بلقين من اتهامه بسمه وتوليه (…) التهمة به عند أبيه الكثير من جواريه وخدامه، وفتك هذا بقريب له تلوله في الخدمة والوجاهة يدعى بالقائد شعر (…) منه بمزاحمته إياه فتكة شهيرة واستهدف للناس، فشغلت به ألسنتهم وذاعت قصيدة الزاهد أبي إسحاق الألبيري في الإغراء بهم، واتفق أن أغارت على غرناطة بعوث صمادحية تقول إنها باستدعائه ليعيد الأمر الصنهاجي إلى مجهزها الأمير بمدينة المرية، وباديس في هذا الحال منغمس في بطالته عاكف على شرابه. ونمى هذا الأمر إلى رهطه من صنهاجة فراحوا إلى دار اليهودي مع العامة فدخلوا عليه، فاختفى — زعموا — في بيت فحم وسود وجهه يروم التنكير، فقتلوه لما عرفوه، وصلبوه على باب مدينة غرناطة، وقتل من اليهود في يومه مقتلة عظيمة ونهبت دورهم، وذلك سنة تسع وخمسين وأربع مئة.»
وقبره اليوم وقبر أبيه يعرف أصلًا من اليهود ينقلونه بتواتر عندهم أمام باب البيرة على غلوة يعترض الطريق على الحدة حجار كدان جافية الجرم، ومكانه من الرقة والترف والظرف والأدب معروف، وإنما أتينا ببعض أخباره لكونه ممن لا يمنع من ذكره في أعلام الأدباء والأفراد الأجلة.
(٨) المجلة الآسيوية ص٢٠٦–٢٠٨.
(٩) في «البيان المغرب» في أخبار خيران الصقلبي العامري ما نصه: «فلما تخربت الخلافة وانشقت عصا الأمة، انتزى خيران هذا على مدينة المرية وأعمالها وانضوى إليه جميع فتيان محمد بن أبي عامر فحولهم وخصيانهم … إلى أن قال: فدبر أمر المرية إلى أن هلك سنة تسع عشرة وأربع مئة، وصار الأمر فيها إلى صاحبه زهير الفتى العامري فوليها من بعده نحو عشرة أعوام، وتحرك إلى مدينة غرناطة في جيش كثيف حتى وصل إلى بابها فخرج إليه جمع من صنهاجة مع أميرهم باديس بن حبوس، فوقعت بينهم حرب كان الظفر فيها لصنهاجة، وانهزم جيش الصقالبة، وقتل زهير أميرهم وكثير منهم.»
وأما زهير الفتى المتقدم الذكر، فكان قد امتدت أطناب مملكته من المرية إلى شاطبة وما يليها إلى «بياسة» وما وراءها إلى «الفج» من أول عمل طليطلة.
قال حيان بن خلف: «وكان سبب فساد باديس بن حبوس على جاره القديم الحلف زهير الفتى فتى المنصور بن أبي عامر موالاته لكاشحه محمد بن عبد الله الزناتي.
ومضى على ذلك حبوس من عداوته، وخلفها كلمة باقية في عقبه ضرم زهير نارها بعد. فتمادى تمسكه بالمذكور، فأرسل إليه باديس رسوله معاتبًا مستدعيًا تجديد المحالفة، فسارع زهير مقبلًا نحو باديس وضيع الحزم واغتر بالعجب، ووثق بالكثرة، وصار أشبه شيء بمجيء الأمير الضخم إلى العامل من عماله، قد ترك رسوم الالتقاء بالنظراء، وغير ذلك من وجوه الحزم، وأعرض زهير عن ذلك كله، وأقبل ضاربًا سوطه حتى تجاوز الحد الذي جرت عادته بالوقوف عنده من عمل باديس دون إذنه، وصير المضايق والأوعار خلف ظهره ولا يفكر فيها، واقتحم البلد حتى صار إلى باب غرناطة.
•••
ولما وصل زهير إلى غرناطة خرج إليه باديس بن حبوس في جمعه، وقد أنكر اقتحامه عليه، وعده حاصلًا في قبضته، فبدأه بالجميل والتكريم وأوسع عليه وعلى رجاله في القرى والقضيم، بما مكن اغترارهم وثبت طمأنينتهم، فوقعت المناظرة بين زهير وباديس ومن حضرهما من رجال دولتهما، فنشأ بينهما عارض خلاف لأول وهلة، وحمل زهير على التشطط، ووزيره أحمد بن عباس يفري الفرى في تصريح ما يعرض به زهير فعزم باديس عند ذلك على القتال ووافقه قومه صنهاجة، فأقام مراكبه، ونصب كتائبه، وقطع قنطرة لا محيد لزهير عنها، والخائن زهير لا يشعر، وبات تتمخض له ليلته عن راغية البكر، وغاداه باديس صبيحتها عن تعبئة محكمة، فلم يرعه إلا رجة القوم راجعين إليه بخفق طبولهم فدهش زهير وأصحابه، فيا لك من أمر شتيت، وهول مفاجئ، قسم بال المرء بين نفسه وماله ووزع همه بين روحه ورحاله! إلا أن أميرهم زهيرًا أحسن تدبير الثبات لو استتمه، وقام ينتصب للحرب، فثبت في قلب معسكره، وقدم خليفته هذيلًا الصقلبي في وجوه أصحابه من الموالي العامريين الفحول، وعشيرته الصقلب وغيرهم لاستقبال صنهاجة فلما رأوه علموا أنهم حماته وشوكته، وأنهم متى خضدوها لم يثبت لهم من وراءهم، فاختلف الفريقان واشتد بينهما القتال مليًّا، فلم يكن إلا قليلًا حتى حكم الله بالظهور لأقل الطائفتين عددًا ليري الله قدرته، ويجدد في قلوب عباده عبرته، فنكص في الصدمة قائدهم هذيل وانهزم أصحابه، وسيق هذيل لوقته إلى باديس أسيرًا فعجل بضرب عنقه، فما هو إلا أن نظر زهير لمصرعه ففر على وجهه فلم يستصحب ثقة ولا انحاز إلى فئة، ولج به الفرار وانهزم أصحابه خلفه لا يلوون على شيء، وركبت صنهاجة ولفها من زناتة أكتاف القوم باذلين السيف فيهم بصدق العصبية وإيثار الإفناء، فلم يبقوا على أحد قدروا عليه، فأساءوا الاعتداء، وأبادوا أمة أخذوا في شعاب وعرة، وأجبل شامخة، أجاءهم إليها السيف، فكانت حتف من فر، وتقطعوا على هذه السبيل وأودى أميرهم زهير وجهل مصرعه، وكان سودانه غدروه أول وهلة، وانقلبوا مع صنهاجة وكانوا يقاربون خمس مئة.
وغنم رجال باديس من المال والخزائن والأسلحة والحلية والعدة والغلمان والخيام وسائر أنواع الأموال ما لا يحيط به الوصف، فظفر باديس على قوم من وجوه رجال زهير فجعل على الفرسان والقواد بالقتل، وشمل الإسار حملة الأقلام وفيهم وزيره الكبير أحمد بن عباس الجار لحر لهذه الثائرة، فأمر بحبسه، وشفاؤه الولوغ في دمه، وعف باديس عن دماء حملة الأقلام دونه إلا من أصيب منهم في الحرب، وأطلق ابن حزم والباجي وغيرهما.
•••
وكان باديس قد أرجأ قتل ابن عباس مع جماعة من الأسرى إلى أن وجه إليه أبو الحزم بن جهور رسولًا شافعًا في جماعتهم مؤكدًا في شأن «ابن عباس» فكان أبعدهم من الخلاص، وآثر الشفاء في قتله على عظيم ما كان يعطى في فديته. فانصرف يومًا من بعض ركبانه مع أخيه بلقين فلما مر على الدار التي كان فيها ابن عباس أمر بإخراجه إليه فأقبل يرسف في قيوده حتى أقيم بين يديه، فأقبل على سبه وتبكيته بذنوبه، وأحمد يتلطف ويسأله راحته مما هو فيه، فقال له: «اليوم تستريح من هذا الألم، وتنتقل إلى ما هو أشد منه.» فبان لأحمد منه وجه الموت، فجعل يكثر الضراعة لباديس ويضعف له عدد المال، فآثر غضبه وهز مزراقه فوكزه فيه، وأمر بحز رأسه. فعلق، وووري جسده خارج القصر، فمضى زهير وابن عباس على هذه السبيل.
•••
وكان ابن عباس حسن الكتابة مليح الخط، غزير الأدب، قوي المعرفة، مشاركًا في العلوم، حاضر الجواب، ذكي الخاطر، جامعًا للأدوات. وبلغني أن عبد العزيز بن أبي عامر سعى على دمه لما حصل على المرية، وخاف أن يتخلص فيكدرها عليه، وكذلك أكد ابن صمادح صاحب المرية يومئذ في قتله، فقتله انصراف ابن صمادح عنه.»
الفصل الثالث
(١) هو عبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر المنصور المتوفى سنة ٤٥٢ﻫ.
(٢) هو مجاهد العامري صاحب داينة والجزائر الشرقية (ميورقة ومنورقة ويابسة).
(٣) هو محمد بن عبد الله بن برزال بويع بقرمونة سنة ٤٠٤ﻫ وتوفي سنة ٤٣٤ﻫ.
لما قتل يحيى بن علي رجع أبو جعفر أحمد بن أبي موسى المعروف بابن بقية ونجا الخادم الصقلبي، وهما مدبرا دولة العلويين، فأتيا مالقة، وهي دار مملكتهم فخاطبا أخاه إدريس بن علي، وكان له سبته وطنجة، وطلباه فأتى إلى مالقة وبايعاه بالخلافة على أن يجعل حسن بن يحيى المقتول مكانه بسبتة، فأجابهما إلى ذلك فبايعاه، وسار حسن بن يحيى ونجا إلى سبتة وطنجة، وتلقب إدريس بالمتأيد بالله، فبقي كذلك إلى سنة ثلاثين أو إحدى وثلاثين وأربع مئة، فسير القاضي أبو القاسم بن عباد ولده إسماعيل في عسكر ليتغلب على تلك البلاد، فأخذ قرمونة وأخذ أيضًا «إشبونة» و«أستيجة» فأرسل صاحبها إلى إدريس وإلى باديس بن حبوس صاحب صنهاجة، فأتاه صاحب صنهاجة بنفسه، وأمده إدريس بعسكر يقوده ابن بقية مدبر دولته، فلم يجسروا على إسماعيل بن عباد، فعادوا عنه فسار إسماعيل مجدًّا ليأخذ على صنهاجة الطريق، فأدركهم وقد فارقهم عسكر إدريس قبل ذلك بساعة، فأرسلت صنهاجة من ردهم فعادوا وقاتلوا إسماعيل بن عباد، فلم يلبث أصحابه أن انهزموا وأسلموه فقتل وحمل رأسه إلى إدريس وكان إدريس قد يقن بالهلاك وانتقل عن مالقة إلى جبل يحتمي به وهو مريض، فلما أتاه الرسول عاش بعده يومين ومات. وترك من الولد يحيى ومحمدًا وحسنًا، وكان يحيى بن علي المقتول قد حبس ابن عمه محمدًا والحسن ابني القاسم بن حمود بالجزيرة، فلما مات إدريس أخرجهما الموكل بهما ودعا الناس إليهما فبايعهما السودان خاصة قبل الناس لميل أبيهما إليهم، فملك محمد الجزيرة ولم يتسم بالخلافة، وأما الحسن بن القاسم فإنه تنسك وترك الدنيا وحج. وكان ابن بقية قد أقام يحيى بن إدريس بعد موت والده بمالقة، فسار إليها نجا الصقلبي من سبتة هو والحسن بن يحيى. فهرب ابن بقية ودخلها الحسن ونجا، فاستمالا ابن بقية حتى حضر فقتله الحسن، وقتل ابن عمه يحيى بن إدريس، وبايعه الناس بالخلافة، ولقب بالمستنصر بالله، ورجع نجا إلى سبتة وترك مع الحسن المستنصر نائبًا له يعرف بالشطيفي، فبقي حسن كذلك نحوًا من سنتين، ثم مات سنة أربع وثلاثين وأربع مئة، فقيل إن زوجته ابنة عمه إدريس سمته أسفًا على أخيها يحيى. فلما مات المستنصر اعتقل الشطيفي إدريس بن يحيى، وسار نجا من سبتة إلى مالقة وعزم على محو أمر العلويين، وأن يضبط البلاد لنفسه، وأظهر البربر على ذلك فعظم عندهم فقتلوه وقتلوا الشطيفي وأخرجوا إدريس بن يحيى وبايعوه بالخلافة وتسمى «بالعالي»، وكان كثير الصدقة يتصدق كل جمعة بالخمس مئة دينار، ورد كل مطرود عن وطنه وأعاد عليهم أملاكهم. وكان متأدبًا حسن اللقاء له شعر جيد، إلا أنه كان يصحب الأرذال ولا يحجب نساءه عنهم، وكل من طلب منهم حصنًا من بلاده أعطاه. فأخذت منه صنهاجة عدة حصون وطلبوا وزيره ومدبر أمره صاحب أبيه موسى بن عفان ليقتلوه فسلمه إليهم فقتلوه، وكان قد اعتقل ابني عمه محمدًا والحسن ابني إدريس بن علي في حصن «إيرش»، فلما رأى ثقته بأبرش اضطراب آرائه خالف عليه، وبايع ابن عمه محمد بن إدريس بن علي. وثار باديس بن يحيى من عنده من السودان وطلبوا محمدًا فجاء إليهم وسلم إليه إدريس الأمر، وبايع له سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة، فاعتقله محمد وتلقب بالمهدي وولى أخاه الحسن عهده، ولقبه السامي، فظهرت من المهدي شجاعة وجرأة فهابه البربر وخافوه، فراسلوا الموكل بإدريس بن يحيى فأجابهم إلى إخراجه وأخرجه وبايع له وخطب له بسبتة وطنجة بالخلافة، وبقي إلى أن توفي سنة ست وأربعين. ثم إن المهدي رأى من أخيه السامي ما أنكره فنفاه عنه فسار إلى العدوة إلى جبال غمارة وأهلها ينقادون للعلويين ويعظمونهم فبايعوه. ثم إن البربر خاطبوا محمد بن القاسم بالجزيرة واجتمعوا إليه وبايعوه بالخلافة وتسمى بالمهدي أيضًا، فصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة، أربعة كلهم يسمى أمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخًا، فرجعت البرابر عنه، وعاد إلى الجزيرة فمات بعد أيام. فولى الجزيرة ابنه القاسم ولم يتسم بالخلافة، وبقي محمد بن إدريس بمالقة إلى أن مات سنة خمس وأربعين، وكان إدريس بن يحيى المعروف «بالعالي» عند بني يفرن بتاكرنا فلما توفي محمد بن إدريس بن علي قصد إدريس بن يحيى مالقة فملكها ثم انتقلت إلى صنهاجة.
الفصل الرابع
•••
وحزب آخر من ملوك الأندلس المسارعين إلى الانحياز والفرقة كمجاهد العامري صاحب دانية، وكابن الأفطس صاحب بطليوس، ومن يتصل بعمله من الرؤساء في غربي الأندلس، ويحيى بن ذي النون صاحب طليطلة، وإسحاق بن محمد البرزالي صاحب قرمونة ومن تبعه من صغار الرؤساء، وكل هؤلاء على غرار واحد ونمط واحد، يلتفون حول عباد المعتضد صاحب إشبيلية، ويدعون بدعوته للحصري المشبه بهشام المنصوب خليفة بإشبيلية. وكان كل حزب من الحزبين يتظاهر على ضده أتم مظاهرة، ويتعاون فيما بينه على مدافعة عدوه، والاستعداد للحوادث المفاجئة، هذه هي الجماعات والفرق التي كانت تنضم إلى كل من الحزبين: الحزب البربري، والحزب العربي الصقلبي.(٢) هذا التاريخ موجود في ابن بسام «ج١ ص٢٢٤».
(٤) بلدة مشهورة من قواعد بلاد البربر واقعة على طرف بحر الزقاق بين برها وبين جزيرة الأندلس أقرب مسافة في البحر، وهي داخلة فيه كدخول كف على زند. ينسب إليها جماعة من أهل العلم منهم ابن مرانة السبتي كان من أعلم الناس بالحساب والفرائض والهندسة، وكان المعتمد يقول: «اشتهيت أن يكون عندي من أهل سبتة ثلاثة نفر: ابن غازي الخطيب، وابن عطاء الكاتب، وابن مرانة الفرضي». وتقع طنجة في الجنوب منها على شاطئ المحيط الغربي.
(٥) هي معقل حصين في الجهة الغربية من الأندلس بين إشبيلية ومالقة.
(٦) هي مدينة بالأندلس من أعمال رية واقعة على ساحل بحر الزقاق، وهو المعروف قديمًا ببحر المجاز، والمعروف الآن بمضيق جبل طارق. وتقع قبالتها من العدوة الأخرى ببلاد المغرب مدينة سبتة.
(٧)
نحن هنا بمسيس الحاجة إلى اختصار طرف من أخبار الدولة الحسنية الحمودية يعرف
بها حالهم ونسبهم، ويتسق بها تسلسلهم وتعاقب ولاتهم:
فأول ملوك بني هاشم بالأندلس علي بن حمود بن ميمون بن حمود بن علي بن عبيد
الله بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه، خرج من سبتة إلى مالقة للأخذ بثأر هشام الخليفة الأموي فانحاز إليه
خيران الصقلبي، وزاوي بن زيري، وحبوس بن ماكسن وإخوته وبنو عمه من صنهاجة، ومن
انضم إلى هؤلاء من جماعة الناس، فحارب بهم سليمان قاتل هشام وهزمه ودخل القصر
بقرطبة، وتسمى بأمير المؤمنين، وبقي خليفة إلى أن قتله صقالبته بحمام قصره سنة
(٤٠٨). وولي الخلافة بعده بقرطبة أخوه القاسم بن حمود، ولي مرتين: المرة الأولى
سنة (٤١٢) وبقي بها إلى أن فر وخلعه ابن أخيه يحيى بن علي بن حمود، والثانية
بعد ابن أخيه يحيى، وتوفي محبوسًا عند ابن أخيه إدريس بن علي بن حمود، وبعد
هؤلاء انقرضت دولة بني حمود بقرطبة.
ولما خرج يحيى بن حمود من قرطبة في خلافته الأولى استوطن مالقة أما عمه
القاسم فخرج منها إلى إشبيلية فأوصد أهلها أبوابها في وجهه، فاستقر بشريش، فزحف
إليه ابن أخيه يحيى هذا، وأسره وأسر معه بنيه وسجنهم في مالقة، وبذلك صارت شريش
ومالقة، والمرية، وسبتة في طاعته، وخطبوا له بالخلافة، وبقي عمه القاسم سجينًا
عنده إلى أن قتله خنقًا، أما يحيى بن علي فبقي خليفة إلى أن قتل بقرمونة سنة
(٤٢٧) ولما وصل خبر مقتله إلى أخيه إدريس بن علي بن حمود دخل مالقة ودعا لنفسه،
فبايعه حبوس بن ماكسن وقبيلته صنهاجة، وتوفي إدريس هذا صاحب سبتة ومالقة
سنة (٤٣١) فبويع أخوه حسن بن علي بسبتة، ولما توفي قام بعده ولده يحيى بن حسن
بن علي، ثم قام عليه ابن عمه حسن بن يحيى بن علي فخلعه وقتله بسبتة ثم توفي حسن
بن يحيى هذا بمالقة مسمومًا، وترك ولدًا صغيرًا بسبتة، فقام به قائده «أبو
الفوز نجاء» فجاز البحر إلى الجزيرة الخضراء، ولما كان في بعض الطريق قتله
أخوال يحيى بن حسن ومواليه، ونهض قوم منهم إلى مالقة فقتلوا الوزير أبا جعفر بن
موسى، وأخرجوا إدريس بن يحيى بن علي بن حمود من سجنه، فبايعه أمراء البربر،
وخطبوا له باسم الخلافة وذلك سنة (٤٣٤) ثم قدم عليه بمالقة ابن عمه محمد بن
إدريس بن علي بن محمود، وخلعه سنة (٤٣٨) وبويع له بالخلافة، وكان سفاكًا للدماء
فوجه إليه باديس بن حبوس بكأس عراقي مسموم فمات في سنة (٤٤٤) فولي ولده محمد،
فخلعه البربر وأقاموا محمد بن القاسم بن محمود، ومات محمد بن القاسم، فبايعوا
ابنه القاسم ثم تغلب ابن عباد صاحب إشبيلية على الجزيرة الخضراء، وأخرج منها
القاسم بن محمد بن القاسم بن حمود، وبخروجه انقرضت ذريتهم من الأندلس، ودالت
دولة الحموديين بها، وكانت مدتهم ٥٨ سنة.
الفصل الخامس
ننقل هنا — بتصرف يسير — طرفًا من أخبار المعتضد عن كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب للمراكشي، ثم نتبع ذلك بنبذة من قصائده ومقطوعاته نقلًا عما أثبتناه من شعر الملكين «المعتضد والمعتمد» في شرح «ديوان ابن زيدون» (ص٢٧٠) تتميمًا للفائدة، وإثباتًا لما له مساس بالفصول (٥، ٦، ٧) من كلام «دوزي» حتى يكون القارئ على بينة مما يمر به فيها من الحوادث التاريخية، والعبارات التحليلية التي يحلل بها «دوزي» نفسية ملكين عظيمين من ملوك الطوائف هما المعتضد ومنافسه باديس وذلك ما نراه ضروريًّا ولازمًا لاتصاله بما نحن فيه اتصالًا وثيقًا.
المعتضد
هو أبو عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد، ولي أمور إشبيلية وأعمالها بعد وفاة أبيه القاضي أبي القاسم محمد بن إسماعيل سنة (٤٣٩)ﻫ وجرى على سنن أبيه أولًا من جعل الحكم شورى بينه وبين مجلس منتخب من أعوان ووزراء وشركاء لا يقطع أمرًا دونهم، ولا يحدث حدثًا إلا بمشورتهم، ثم بدا له أن يستبد بالمملكة وحده، وكان شهمًا صارمًا حديد القلب شجاع النفس بعيد الهمة ذا دهاء، وواتته مع هذا المقادير، فلم يزل يعمل على إبعاد شركائه في الحكم واحدًا واحدًا فمنهم من قتله صبرًا، ومنهم من نفاه عن البلاد، ومنهم من أماته خمولًا وفقرًا، إلى أن تم له ما أراده من الاستبداد بالأمر، وتلقب بالمعتضد بالله، ومن حيله ودهائه في السياسة أنه ادعى أنه وقع إليه هشام المؤيد بالله بن الحكم المستنصر بالله، وكان الذي حمله على تدبير هذه الحيلة، ما رآه من اضطراب أهل إشبيلية وخاف قيام العامة عليه، لأنهم سمعوا بظهور من ظهر من أمراء بني أمية بقرطبة كالمستظهر، والمستكفي، والمعتد، فاستقبحوا بقاءهم بغير خليفة، وبلغه أنهم يطلبون من أولاد بني أمية من يقيمونه، فادعى ما ادعاه من ذلك، وذكر أن هشامًا عنده بقصره، وشهد له خواص من حشمه، وصور نفسه بصورة الحاجب لهشام، والمنفذ لأموره وأمر بالدعاء له على المنابر، فاستمر ذلك من أمره سنين إلى أن أظهر موته، ونعاه إلى رعيته في سنة (٤٥٥) واستظهر بعهدٍ عهده له هشام المذكور فيما زعم، وأنه الأمير بعده على جميع جزيرة الأندلس، ولم يزل المعتضد هذا يدوخ الممالك، وتدين له الملوك من جميع أقطار الأندلس، وكان قد اتخذ خشبًا في ساحة قصره جللها برءوس الملوك والرؤساء عوضًا عن الأشجار التي تكون في القصور، وكان يقول: في مثل هذا البستان فليتنزه المتنزهون!وجملة أمر هذا الرجل أنه كان أوحد عصره شهامة وصرامة وشجاعة قلب، وحدة نفس، كانوا يشبهونه بأبي جعفر المنصور من ملوك بني العباس، وكان قد استوى في مخافته القريب والبعيد، لا سيما منذ قتل ابنه وأكبر أولاده المرشح لولاية عهده صبرًا، وكان سبب ذلك أن ولده المذكور، واسمه إسماعيل، كان يبلغه عنه أخبار مضمونها استطالة حياته، وتمني وفاته، فيتغاضى المعتضد، ويتغافل تغافل الوالد إلى أن أدى ذلك التغافل إلى أن سكر إسماعيل المذكور ليلة وتسور سور القصر الذي فيه أبوه في عبداء وأراذل معه، ورام الفتك بأبيه، فانتبه البوابون والحرس، فهرب أصحاب إسماعيل، وأخذ بعضهم فأقر، وأخبر بالكائنة على وجهها، وقيل إن إسماعيل لم يكن معهم وإنما بعثهم على ذلك، وجعل لمن قتل أباه المعتضد جعلًا سنيًّا، فالله أعلم، فقبض المعتضد على ابنه إسماعيل هذا، واستصفى أمواله، وضرب عنقه فلم يبق أحد من خاصته إلا هابه حينئذ.
وبلغني أنه قتل رجلًا أعمى بمكة، كان يدعو عليه بها، وكان هذا الرجل من بادية إشبيلية، وكان المعتضد قد وضع يده على بعض مال لهذا الرجل الأعمى، وذهب باقي ماله حتى افتقر، ورحل إلى مكة، فلم يزل يدعو على المعتضد بها إلى أن بلغه عنه ذلك، فاستدعى بعض من يريد الحج وناوله حُقًّا فيه دنانير مطلية بالسم، وقال: «لا تفتح هذا حتى تدفعه إلى فلان الأعمى بمكة، وسلِّم عليه عنَّا.» فاتفق أن سافر الرجل ومعه الحُق، فحين وصل مكة لقي الأعمى ودفع إليه الحق وقال: هذا من عند المعتضد، فأنكر ذلك الأعمى. وقال: «كيف يظلمني بإشبيلية، ويتصدق علي بالحجاز!» فلم يزل الرجل يخفضه إلى أن سكن وأخذ الحق، فكان أول شيء فعله أن فتح الحق، وعمد إلى دينار من تلك الدنانير فوضعه في فمه وجعل يقلب سائرها بيده، إلى أن تمكن منه السم، فما جاء الليل حتى مات، فاعجب لرجل بقاصية المغرب، يعتني بقتل رجل بالحجاز، وقتل على هذه الصورة رجلًا من المؤذنين من أهل إشبيلية، فر منه إلى طليطلة، فكان يدعو عليه بها في الأسحار مقدرًا أنه قد أمن غائلته إذ صار في مملكة غيره، فلم يزل يعمل فيه الحيلة إلى أن بعث من قتله وجاءه برأسه. وكان أكبر من يناوئه من المتغلبين المجاورين له، وأشدهم عليه البربر: صنهاجة وبنو برزال الذين بقرمونة وأعمالها من نواحي إشبيلية، فلم يزل يصرف الحيلة تارة، ويجهز الجيوش أخرى إلى أن استزلهم، ففرق كلمتهم، وشتت منتظم أمرهم، ونفاهم عن جميع تلك البلاد وصفت له أمورها، كان له عين بقرمونة يكتب له بأخبار البربر، بلغ من لطف حيلة المعتضد — وقد أراد أن يكتب إلى ذلك الرجل الذي جعله عينًا له بقرمونة كتابًا في بعض أمره — أن استدعى رجلًا من بادية إشبيلية شديد البله كثير الغفلة وقال له: «اخلع ثيابك.» وألبسه جبة جعل في جيبها كتابًا وخاط عليه. وقال له: «اخرج إلى قرمونة فإذا وصلت بقربها فاجمع حزمة حطب وادخل بها البلد، وقف حيث يقف أصحاب الحطب، ولا تبعها إلا لمن يشتريها منك بخمسة دراهم.» وكان قد قرر هذا كله مع صاحبه الذي بقرمونة، فخرج البدوي كما أمره المعتضد، فلما قرب من قرمونة جمع حزمة من الحطب، ولم يكن قبل هذا يعاني جمعه، فجمع حزمة صغيرة، ودخل بها البلد ووقف في موقف الحطابين، فجعل الناس يمرون عليه، ويسومون منه حزمته. فإذا قال لا أبيعها إلا بخمسة دراهم ضحك من يسمع هذا القول منه ومر عنه، فلم يزل كذلك إلى أن أجنه الليل، والناس يسخرون منه، فبعضهم يقول: هذا آبنوس، ويقول الآخر: لا بل هو عود هندي، وما أشبه هذا حتى مر به صاحب المعتضد. فقال له: «بكم تبيع حزمتك هذه.» فقال: «بخمسة دراهم.» فقال: «قد اشتريتها، فاحملها إلى البيت.» فقام يحملها، والرجل بين يديه حتى بلغ بيته فوضع الحزمة، ودفع إليه الخمسة الدراهم، فلما أخذها وهمَّ بالانصراف، قال له: «أين تريد في هذا الوقت، وقد علمت خوف الطريق فبت الليلة عندي، فإذا أصبحت رجعت إلى منزلك.» فأجابه فأدخله إلى بيته وقدم له طعامًا وسأله كأنه لا يعرفه: «من أين أنت؟» فقال: «أنا من بادية إشبيلية.»
قال: «يا أخي ما الذي جاء بك إلى هذا الموضع وقد علمت نكد البربر وشئونهم، وهوان الدماء عليهم؟» فقال: «حملتني على هذا الحاجة.» ولم يظهر له أن المعتضد أرسله، فلم يزل الرجل يحادثه إلى أن أخذه النوم، فلما رأى غلبة النوم عليه قال له: «تجرد من ثوبك هذا فهو أهنأ لنومك، وأروح لجسمك.» فتجرد الرجل ونام، وأخذ صاحب المعتضد الجبة ففتق جيبها، واستخرج الكتاب فقرأه، وكتب جوابه وجعله في جيب الجبة، وخاط عليه كما كان، فلما أصبح الرجل لبس جبته، ورجع إلى إشبيلية وقصد باب دار الإمارة، واستأذن فأدخل على المعتضد. فقال له: «اخلع هذه الجبة.» وكساه ثيابًا حسانًا، فرح بها البدوي وخرج من عنده فرحًا يرى أنه قد خلع عليه، ولم يعلم فيم ذهب ولا بم جاء؟ وأخذ المعتضد الكتاب من جيب الجبة فقرأه، وتمم ما أراد من أمره. وله في تدبير ملكه، وإحكام أمره آراء عجيبة، وحيل غريبة، لم يسبق إلى أكثرها يطول تعدادها، ويخرج عن حد التلخيص بسطها.
ولما قتل ابنه إسماعيل كما تقدم، وكان قد لقبه المؤيد، عهد بعده إلى ابنه أبي القاسم محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد، ولقبه بالمعتمد على الله فحسنت سيرة أبي القاسم هذا في حياة أبيه وبعد وفاته.
وتوفي المعتضد بالله في شهر رجب من سنة (٤٦٤).
أشعاره
قال المعتضد بالله المنصور بفضل الله أبو عمرو عباد بن محمد بن عباد يصف شغفه بذكر المدامة وحبه لما يهوى النديم، ومناوأته للعدو المناوئ، وتقسيمه زمنه شطرين: شطر لتدبير الملك، وشطر للمرح واللهو وإدمان الخمر:ولما ثل عرش الخلافة وخوى نجمها، ووهى ركن الإمامة وطمس رسمها وصار الملك دعوى، وعادت العافية بلوى، استنسر البغاث، وصحت الأضغاث، واستأسد الظبي في كناسه، وثار كل أحد في ناسه، وخلت المنابر من رقاتها، وفقدت الجمع مقيمي أوقاتها، وكان باديس بن حبوس بغرناطة عاثيًا في فريقه، عادلًا عن سنن العدل وطريقه، يجترئ على الله غير مراقب، ويجري إلى ما شاء غير ملتفت للعواقب، قد حجب سنانه لسانه، وسبقت إساءته إحسانه، ناهيك من رجل لم يبت من ذنب على ندم، ولا شرب الماء إلا من قليب دم، أحزن من كاد ومكر، وأجرم من راح وابتكر، وما زال متقدًا في مناحيه، مفتقدًا لنواحيه، لا يرام بريث ولا عجل، ولا يبيت له جار إلا على وجل، إلى أن وكل أمره إلى أحد اليهود واستكفاه، وجرى في ميدان لهوه حتى استوفاه، وأمره أضيع من مصباح الصباح، وهمه في غبوق واصطباح، وبلاده مراد للفاتك، وستره في يد الهاتك. فسقط الخبر على المعتضد بالله ملقح الحرب، ومنتج الطعن والضرب، الذي صاد الطير تحت أجنحة العقبان، وأخذ الفريسة من فم الثعبان، فسدد إلى مالقة سهمه وسنانه، ورد إليها طرفه وبنانه، وصمم إليها تصميم سابور إلى الحضر، وعزم عليها عزيمة رسول الله ﷺ على النضر، ووجه إليها جيشه المتزاحم الأفواج، المتلاطم الأمواج، وعليه سيفه المستل، وحتفه المحتل، ابنه المعتمد سهام الأعادي، وحمام الأسد العادي، فلما أطل عليها أعطته صفقتها، وأمطته صهوتها، إلا قصبتها فإنها امتنعت بطائفة من السودان المغاربة لم يرضوا سفاحها، ولا أمضوا نكاحها، وفي أثناء امتناعهم، وخلال مجادلتهم ودفاعهم، طيروا إلى باديس من ذلك خبرًا أصحاه من نشوته، ولحاه عن صبوته، فأخرج من حينه كتيبته التي كانت ترمي بالزبد، ولا تنثني عن القنا القصد، وعليها ابن الناية قائد جنده، وموري زنده، وقد كان أشار على المعتمد برابره بتنفيس الممتنعين ولووه عن مساورتهم، وثنوه عن مراوحتهم ومباكرتهم، ومنعوه من نزالهم، وأطمعوه في استنزالهم، وإنما كان ذلك أبقى على الأقارب، وأتقى على أولئك المغارب. فعدل عن انتهاز فرصتهم، وإبراء غصتهم، إلى الاستراحة من تعبه، والإناخة على لهوه ولعبه، وتفرق أصحابه في ارتياد الفتيات، وطراد اللذات، فما أمسى إلا وقد غشيه ليلها، وسال عليه سيلها، وأصحابه بين صريع رحيق، ومُنادٍ من مكان سحيق، فخاب سعيه، وبال رأيه، ونجا برأس طمرة ولجام، وأوى إلى أحد المعاقل أعرى من الحسام، فحقد المعتضد عليه بتنفيسه لأهل القصبة، وإصاخته إلى تلك العصبة، وضربه بالعصي، ونكله تنكيل القصي، فكتب إليه:
فعفا عنه وصفح، وعبق له عرف رضاه ونفح، وقد كان قبل كتب إليه — حين أمره بالمقام بالموضع الذي نجا إليه مسجونًا — يسليه، ويعرض له بالبربر ويستعطفه مما حصل فيه:
(٣) هكذا يشبهه «دوزي» على حين يروي صاحب كتاب المعجب أن المعتضد كان الناس يشبهونه بأبي جعفر المنصور من ملوك بني العباس (ارجع إلى الهامش تحت عنوان «المعتضد أخباره وأشعاره» أول هذا الفصل).
الفصل السادس
(١) هو أمير «مرتولة» حليف محمد بن الأقطش، وقد هزما معًا في حرب إشبيلية حوالي عام ١٠٣٠م.
(٢) هي مدينة على نهر الوادي اليانع انتزعها المعتضد من ابن طيفور عام ١٠٤٤م.
(٣) هو أمير «نيبلا» وهو عربي الجنس، وقد حاربه المعتضد رغبة في الاستيلاء على مدينته فاستعان ابن يحيى بالبربر، فنصروه وردوا المعتضد عما أراد.
(٤) «لبلة»: مدينة في جنوب الأندلس تقع بين نهري الوادي الكبير والوادي اليانع.
(٥) «سالطس»: جزيرة صغيرة.
الفصل السابع
المعتضد بالله عباد بن ذي الوزارتين القاضي أبي القاسم محمد بن عباد، أفضى إليه الأمر بعد أبيه سنة (٤٣٣)ﻫ وتسمى بفخر الدولة، ثم بالمعتضد: قطب رحى الفتنة، ومنتهى غاية المحنة، من رجل لم يثبت له قائم ولا حصيد، ولا سلم عليه قريب ولا بعيد، جبار أبرم الأمور وهو متناقض، وأسد فرس الطلَى وهو رابض، ثار والناس حرب، وكل شيء عليه إلب، فكفى أقرانه، وهم غير واحد، وضبط شأنه، بين قائم وقاعد، حتى طالت يده، واتسع بلده، وكثر عديده وعدده، افتتح أمره بقتل وزير أبيه «حبيب» طعنة في ثغرة الأيام ملك بها كفه، وجبارًا من جبابرة شرد به من خلفه، استمر يفري ويخرق، وأخذ يجمع ويفرق، وهو في كل ناحية ميدان، وعلى كل رابية خوان، حربه سم لا يبطئ، وسهم لا يخطئ، وسلمه شر غير مأمون.
وعشي يوم الأربعاء لست خلت لجمادى الآخرة سنة إحدى وستين طرق قرطبة نعي المعتضد عباد زعيم جماعة أمراء الأندلس في وقته، أسد الملوك، وشهاب الفتنة، وداحض العار، ومدرك الأوتار، وذو الأنباء البديعة، والحوادث الشنيعة، والوقائع المبيرة، والهمم العلية، والسطوة الأبية، فرماه الله بسهم من مراميه المصمية أحمد ما كان في اعتلائه، وأرقى ما كان إلى سمائه، وأطمع ما كان في الاحتواء على الجزيرة، محتفزًا لها عند تشميره الذيل بفتنة لا كفاء لها، فتوفاه الله على فراشه من علة ذبحة قصيرة الأمد، وحية الإيجاز …
وكانت ولايته بعد موت أبيه القاضي يوم الاثنين غرة جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين، وقضى نحبه يوم السبت من جمادى الآخرة سنة إحدى وستين، ودفن عشية يوم الأحد بعده، تغمد الله خطاياه، فلقد حمل عليه — على مر الأيام في فرط القسوة، وتجاوز الحدود في المثلة، والأخذ بالظنة، والإخفار بالذمة — حكايات شنيعة، لم يبد في أكثرها للعالم بصدقها دليل يقوم عليها، فالقول ينساغ في ذكرها، ومهما برئ من معيبها فلم يبرأ من شدة القسوة، وسوء الاتهام على الطاعة، سجايا من جبلة لم يحاسن فيها ذوي رحم واشجة.
وقد كان تقيل سيرة أحمد بن أبي أحمد بن المتوكل أحد أشداء العباسيين، الذي ضم نشر المملكة بالمشرق وسطا بالمنتزين عليها، وبفقده انهدمت الدولة، فحمل عباد سمته المعتضدية، وطالع بفضل نظره أخباره السياسية، التي أضحت عند أهل النظر مثله هادية، إذ الاحتواء على أمد الرياسة في صلابة العصي، وصناعة الشظي، فجاء منها بمهولات تذعر من سمع بها، فضلًا عمن عاينها، نسبوا إلى هذا الأمير الشهم أمثالها من غير دلالة، وقد انطوى علم الله عليها، وتقرر إرصاده للمكافأة بها، ولم يقصر عباد في دولته التي مهدها فوق أطراف الأسنة، وصير أكثر شغله فيها شب الحروب، وكياد الملوك، وإهراج البلاد، وإحراز التلاد، من توافر حظه الأوفى من الأمور الملوكية، والعدد السلطانية، والآلات الرياسية، فابتنى القصور، واعتمر العمارات المغلة، واكتسى الملابس الفاخرة، وغالى في الأعلاق السنية، وارتبط الخيول السابحة، واقتنى الغلمان الروقة، واتخذ الرجال الذادة، تنقاهم من كل فرقة، فساس طبقاتهم ما بين إدرار الأعطية، وضمان الزيادة على صدق العمال، والوفاء بالوعيد على النكال من العدو، سياسة أعيت على أنداده من ملوك الأندلس، فخرج منهم رجالًا مساعير حروب أباد بهم أقتاله، من نادر أخباره المتناهية في الغرابة أن نال بغيته من أهل تلك الأمم العاتية، وإنه لغائب عن مشاهدتها، مترفه عن مكابدتها، مدبر فوق أريكته، منفذ لحيلها من جوف قصره، ما إن مشى إلى عدو أو مغلوب من أقتاله غير مرة أو اثنتين، ثم لزم عريسته يدبر داخلها أموره، جرد نهاره في الإبرام والتدبير، وأخلص ليله لتملي السرور، فلا يزال تدار عليه كئوس الراح، ويحيا عليها بقبض الأرواح، التي لأنابيبها من أعدائه بباب قصره حديقة تطلع كل وقت ثمرًا من رءوسهم المهداة إليه، مقرطة الآذان برقاع الأسماء المنوهة بحاملها، ترتاح نفسه لمعاينتها، والخلق يذعرون من التماحها، وهو واصل نعيم ليله بإجالة كيده، ومبتدع نشاط لهوه بقوة أيده، له في كل شأن شوين، وعلى كل قلب سمع وعين، ما إن سبر أحد من دهاة رجاله غوره، ولا أدرك قعره، ولا أمن مكره، لم يزل ذلك دأبه، منذ ابتدائه إلى انتهائه.
وكان محمد بن عبد الجبار الملقب بالمهتدي، مفرق الجماعة بقرطبة، ومبتعث تلك الفتنة المبيرة، قد سبق عبادًا إلى اتخاذ مثل هذه الحديقة المطلعة لرءوس أعدائه أيام أكثر له «واضح» الخصي العامري من إرسال رءوس الخارجين عليه لأول وقعة، وأصلح بهم باب مدينة سالم، فغرس منها فوق الخشب المعلية لها بشط النهر حذاء قصره حديقة هول عريضة، طويلة الخطة، جمة عدد الصفوف المسطورة، شغلًا للنظارة.
وذكرتها شعراؤه، مثل قول صاعد بن الحسين من قصيدة أولها:
وقد كان لعباد وراء هذه الحديقة المالئة قلوب البشر ذعرًا مباهاة بخزانة بلوى، أكرم لديه من خزانة جوهره، مكنونة (في) جوف قصره، أودعها هام الملوك الذين أبادهم بسيفه، منها رأس محمد بن عبد الله البرزيلي، شهاب الفتنة، ورءوس الحجاب، ابن خزرون بن نوح وغيرهم، الذين قرن رءوسهم برأس إمامهم الخليفة يحيى بن علي بن حمود، سابقهم إلى تلك الرفعة! فخص رءوسهم بالصون بعد إذالة جسومهم الممزقة، وبالغ في تطييبها، وتنظيفها للثواء لا للكرامة، وأودعها المصاون الحافظة لها، فبقيت عنده ثاوية تجيب سائلها اعتبارًا (انتهى كلام ابن حيان).
حروب عباد مع المظفر وغيره من أمراء العرب
قال ابن حيان: وأول ما ظهر من تفاسد عباد والمظفر: أن ابن يحيى صاحب «لبلة» عند هجوم عباد عليه استجار بالمظفر بن الأفطس فأجاره، وانزعج له، ووصل يده، وعطل ثغره، وجمع جيشه، وأقبل إلى «لبلة» ناصرًا لابن يحيى، مضيعًا لما خلفه، يوقد نار فتنة كان في غنى عنها، حتى نزل بنفسه على ابن يحيى، ودافع ابن عباد عنه، وحرك في ذلك من حلفائه البرابرة جماعة فسارعوا إليه غير ناظرين في عاقبة أمرهم، وتقدموا في تحريك يعسوبهم محمد بالقاسم (؟) فانتظم به أمرهم وتقدم إلى إشبيلية ورحاهم تدور على قريعهم باديس بن حبوس مدرههم في الجلى، ومفزعهم في النائبة، يسلمون لرأيه، ويزدحمون بركنه، فأشفق الوزير ابن جهور من حركتهم تلك على عادته في التقلقل لأمثالها، وجهد جهده في حربهم وأرسل ثقات رسله إلى عامتهم إلا ما كان من الدائلين منهم عباد داعية المروانية، ومحمد بن إدريس صاحب مالقة دائل عمورية، فإنه تنكبها بعادًا من الظنة، إذ كان هو وجماعة قرطبة متوقعين على كل دعوة، فلما وصلت رسله إليهم ما زادهم إلا لجاجًا، ولم يزل ابن جهور يضرب لهم الأمثال، ويخوفهم من سوء العاقبة حتى صار فيهم كمؤمن آل فرعون وعظًا وتذكرة، يحدو منهم الأطواد الراسية، ويرقي الحيات الضارية، واستن القوم في ميدان العناد، فلما أصبح عند ابن عباد خروجه ﻟ «لبلة» بجيشه دفع عن علي بن يحيى منتظرًا لخلطائه جرد جياد ضربت على بلد ابن الأفطس، وغارت وأنجدت، وفعلت فعلات نكأت القلوب، وقرفت الذنوب، ثم نهض ابن عباد بنفسه إلى «لبلة» للقائه، فجرت بينهما على بابها وقعة عظيمة صعبة استهما فيها النصر في مكان واحد شق الأبلمة، وكانت أولًا على ابن الأفطس فولى الدبر، وخاض واديها دون مخاضة […] كثير ثم رجعت له على ابن عباد فكشف رحاله وأصاب منهم نفرًا ثم افترقوا ولحق […] قرطبة وجاز إلى الشرق وتجمع بحلفائه، وعاثوا في نظر إشبيلية، وانقطعت […] وأمسى الناس في مثل عصر الجاهلية ثم والى ابن يحيى بعد ذلك كله، لضرورة دفعته إلى ذلك، فكاشفه المظفر، وخانه فيما كان ائتمنه عليه من ماله وأودعه عنده أيام تورطه في حرب المعتضد فانبتت بينهم العصمة، وضربت خيل المظفر على صاحب «لبلة» فاستغاث المعتضد فلحق به خيله، واقتتلت مع خيل المظفر وكان ابن جهور كثيرًا ما يوالي رسله إلى الاصطلاح بينهما، فتصدر عنها (أخبار) تخبر أن ابن الأفطس أقرب إلى الملام بامتطاء قعود اللجاج في القطيعة، ومن النوادر المحفوظة بينهما: أن المعتضد والى حربه في شهور سنة اثنتين وأربعين بغير بلده، وفتح عدة حصون ضمها إلى عمله، وشدها برحاله، ودمر عمارات واسعة أفسد غلاتها، وأوقع رعيته في المجاعة الطويلة، وعجز المظفر عن دفاعه شبرًا واحدًا فما دونه استكانة للحادثة التي هدت ركنه، وأفنت حماة رجاله، فاعتصم بحصنه بطليوس ولم يخرج من خيله فارسًا، وجعل يشكو به إلى حلفائه فلا يجد ظهيرًا ولا نصيرًا، فلما قضى المعتضد من تدويخ بلاده وطره وكَرَّ راجعًا إلى إشبيلية في شوال من العام، وردت علينا يومئذٍ بقرطبة غريبة: وذلك أن رسول المظفر في إثر هذه الوقائع عليه يلتمس وصائف ملهيات يأنس بهن نافيًا بذلك الشماتة عن نفسه، ولم تكن له عادة بمثله، فبعث له رسوله عن ذلك، وكن قد عدمن بقرطبة يومئذٍ، فوجد له صبيتين ملهيتين عند بعض التجار لا طائل فيهما، فاشتراهما له وأقام رسوله يلتمس الخروج بهما فلم يستطع، لقطع خيل المعتضد جميع الطرق، فأقام مدة بقرطبة إلى أن شيع بخيل كثيفة، ومضى بهما وأولو النُّهى يعجبون مما شهر به نفسه من البطالة أيام الحروب المحرمة لأطهار النساء على فحول الرجال العاقدة للأزرة، وعلى ما كان يدعيه لنفسه من الأدب والمعرفة، وبحثت على هذه الأعجوبة وما الذي حمله على هذا الإفك؟ فإذا به ناغى كاشحه المعتضد المرتاح بعد الظفر، لاجتلاب قينة عبد الرحيم الوزير من قرطبة إثر وفاته يومئذٍ، وقد اشتد لما وصفت له بالحذق في صنعتها، فوجهت نحوه فتقيله المظفر في إظهار الفراغ، وطلب الملهيات، وقد علم العالم أنه لفي شغل عنهن، فامتد شأو هذين الأميرين يومئذ في الغي، وتباريا في القطيعة حتى أفنيا العالمين، إلى أن سنى الله بينهما الصلح في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين بسعي من جهور أمير قرطبة كعادته بينهم بعد كتب ورسل في ذلك، والمظفر يمتطي اللجاجة هنالك، فلما سكنت الحال بينهما، فرغ المعتضد إلى حرب الأمراء الأصاغر بالغرب كابن يحيى وابن هارون وابن مرين والبكري، وأتيح له من الظفر (ما أتيح) فضبط أملاكهم وضمها جملة إلى عمله ثم مد يده إلى القاسم بن حمود صاحب الجزيرة الخضراء، فرضة المجاز الأدنى من الأندلس إلى أرض العدوة التي كان منها فتحها، ومن قبلها مأتاها على قدم الدهر، وذلك أنه لما وجد هذا الفتى على نباهته وجلالة عمله، أضعف الأمراء البرابرة شوكة، وأقلهم رجالًا صمد […] القاسم حلفاؤه بالأندلس، وصاحب سبتة «سقوت» البرغواطي مولى ابن حمود […] حتى سقط في يده، ونزل على أمان والي أمره، إلى أن لحق بقرطبة وسكنها تحت كنف ابن جهور […] المخلوعين، فلما كانت سنة إحدى وخمسين وقد أتيح له من الظفر ما أتيح، اتصلت الأنباء عندنا بقرطبة بصموت منابره في جميع أعماله عن ذكر إمامة هشام بن الحكم صاحب الرجعة الذي اتصل الدعاء له على منابره من عهد قيام والده إلى آخر هذه السنة، يومئ إليه بالحياة في غياهب الحجب من غير ظهور لخاصة ولا عامة، ودعوته على ذلك كله مرفوعة عند من ائتسى بالمعتضد من أمراء شرق الأندلس إلى أن قطعها قاطع الأعناق عليها ابن عباد، فذكر أنه دعا وجوه حضرته فنعى لهم إمامهم هشامًا، وكشف إليهم تقدم وفاته من علة زمانية، ووصف أن الحال التي كان بسبيلها من اشتداد الفتنة بينه وبين من تظاهر عليه من أمراء الأندلس الدانين منه، عاقته يومئذٍ عن البوح بوفاة هذا الإمام والشهرة لدفنه، إعطاء للحزم بقسطه، فلما سكنت الحال وجب التصريح بالحق، وعطف — زعموا — بكلامه على شحذ بصائرهم في التمسك بحبل الإمامة والفرار عن الميتة الجاهلية، وذكر أنه خاطب من كان تحت دعوة هذا المنعي هشام من أمراء الأندلس ناعيًا له، داعيًا إلى التعوض منه، فارتفعت الدعوة منذ ذلك الوقت، وصارت هذه الميتة لحامل هذا الاسم الميتة الثالثة، وعساها تكون — إن شاء الله — الصادقة. فكم قُتِلَ، وكم مات، ثم انتفض من التراب، ومزق الكفن قبل نفخة الصور ووقعة الواقعة، فقد كان مات في يد أول خالعيه محمد بن هشام بن عبد الجبار ودفن علانية، ثم نشر بيد واضح الصقلبي فتى بني عامر، ودال مديدة ثم قتله خالعه الثاني سليمان المستعين ودفنه خفية، ثم استمر راصده علي بن حمود الحسني المنتزي يذكي الطلب بثأره على الدولة، ودفنه الدفنة التي خلناها حقيقة، فلم يلبث أن نجم حيًّا بإشبيلية بعد حقب فبقي هنالك ملكًا، ودال قرنًا إلى أن وقعت عليه هذه الميتة الثالثة، فما نقول ونعتقد في الفرق بين هذه الميتات المتواليات إذا كان مائتها واحدًا؟ وليس إلا السيوف عليها أدلة غير إخلاص الدعاء لعامة المسلمين في الائتلاف لما فيه الصلاح (انتهى ما لخصه ابن بسام من كلام ابن حيان).(قال ابن بسام): ثم غمس المعتضد يده بعد فيمن كان يليه من البرازلة، فصدم شرهم بشرهم، وضرب زيدهم بعمرهم، وقد كان عندما تسعرت نار الحرب بينه وبين رؤساء الغرب، هادنهم على دخن، ومتح لهم حتى ضربوا حوله بعطن، ليقتلهم بسيوفهم […] إلى حتوفهم، فلما استقرت قدمه بشلب ناصية قواعد الغرب […] كان أول ما بدأ على الحاجب ابن نوح المنتزي كان بكورة مورور في غير كتيبة نظمها ولا مقدمة إليه […] ينهبان عليه، ويحملان الأموال بين يديه، تجاسرًا على ركوب الخطر، الذي يصرف القدر، وهو لا يدري أتخطئ أم تصيب؟ فخلص إلى ابن نوح هذا من رجل لا يبالي دم من تجرع، ولا يحفى بشيء صنع، فبالغ ابن نوح في بره، وتضاءل لأمره، وحمل على ذلك من فعله على […] وأتم وجوه الاستنامة، وفض المعتضد يومًا من صميم ماله في وجوه حماة ابن نوح ورءوس رجاله، ما استمال به قلوبهم، واستنصح به جيوبهم، ثم صار إلى ابن أبي قرة برندة فسامه مثلها، وحذا له نعلها، فتلك أعتد عليهم يدًا. وجعلها لما أراد من مكروههم أمدًا، وقد كان أحد أجنادهم أشار بالرأي في أمره، وأراد أن يطلع عليه من نية مكره، فراطنهم يومئذٍ بغدره، ورمز لهم بالاستراحة من شره، ففهمها المعتضد وجعل تلك الكلمة دبر أذنه، وأثبتها في ديوان إحنه، حتى حلى بطائلها، واستفاد بعد مديدة من قائلها، وجأجأ الحاجبين المذكورين لأول تمكنه من الغرة، وساعة صدره من مركزه، فتهافتا تهافت الفراش على الجمرة، وجاءا مجيء الحائن إلى الشفرة، وتطفل عليهما الحائن بن خزرون المنتزي، كان وقته بأركش، فلله أبوه وافدًا لم تحزه الوفادة، وواهًا له قتيلًا لم يحل بطائل الشهادة، فجرع الكل الحتوف، وحكم في عامتهم السيوف، واستمر بعد ذلك على حرب بقاياهم، وتتبع أخراهم، حتى تغلب على بلادهم، وألوى بطارفهم وتلادهم، في أخبار طويلة استوفاها ابن حيان، هي خارجة عن غرض هذا الديوان، وقد ألمعت منها بما فيه الكفاية، إذ لا يتسع هذا المجموع لاستقصاء الغاية، والسبب الذي كان يغريه بطلبهم، ويبعثه على التمرس بهم، أن بعض من نظر بمولده كان أخبره أن انقضاء دولته يكون على أيدي قوم يطرءون على الجزيرة من غير سكانها، فكان لا يشك أنهم تلك البرازلة الطارئون عليها في عهد ابن عامر، فأعمل في نكالهم وجوه سياسته، وشغل بقتالهم أيام رياسته، واتفق أن دخل عليه يومًا بعض وزرائه، وبين يديه كتاب قد أطال فيه النظر، فإذا كتاب «سقوت» المنتزي يومئذٍ بسبتة يذكر أن القوم المتلثمين المدعوين بالمرابطين، قد وصلت مقدمتهم رحبة مراكش فقال له ذلك الوزير المذكور: وأين رحبة مراكش؟ وحلوها فكان ماذا؟ ومات الحجاج فمه (؟) ودونهم اللجج الخضر، والمهامه الغبر، والليالي والأيام، والجماهير العظام، فقال له المعتضد: هو والله الذي أتوقعه وأخشاه، إن طالت بك حياة فستراه، اكتب إلى فلان — يعني عامله على الجزيرة — باحتراس جبل طارق حتى يأتيه أمري، وأخذ يريش في تحصينه، ووضع أرصاده هنالك وعيونه. ولله عزائم لا تقيها الحصون، ولا تهتدي إليها الأرصاد والعيون، ولكل شيء أمد مكتوب وميقات مضروب.
وكتب ابن بسام أيضًا في موضع آخر فصلًا عن ابن الأفطس يقول فيه: فرجع «ابن الأفطس» إلى مقاومة ابن عباد، فلما كان في سنة خمس وعشرين، وجَّه ابن عباد ابنه إسماعيل مع عسكر إلى أرض العدو تحت معاقدة بينه وبين ابن الأفطس، فلما أوغل إسماعيل ببلده يريد أرض «غاليسيا» وابن الأفطس يسر الغدر به، بادر بجميع رجال تعده ورصده (؟) شعب ضيق في طريق أفوله، ولم يعلم ابن عباد بشيء من تدبيره، حتى حصل في الأنشوطة، فبادر إسماعيل بالنجاة لنفسه. وأسلم جميع عسكره له، وجرت عليه في مهربه مع جملة من أصحابه شدة لجأ فيها إلى ذبح خيله والاغتذاء بلحومها، ونجا بذمائه إلى مدينة لشبونة آخر عمله من ساحل البحر المحيط، فاصطلم ابن الأفطس عسكره اصطلامًا لم يسمع بمثله، ووقع سرعان العدو من النصارى على كثير منهم فاقتنصوهم اقتناصًا، وقتلوا منهم أمة، وكانت حادثة شنيعة، بقيت بها عداوتهما إلى آخر وقتهما.
هذه فصول تخيرنا نقلها من القسم الثاني من كتاب الذخيرة في أخبار الجزيرة لابن بسام، لعلاقتها بما كتبه العلامة «دوزي» عن المعتضد في هذا الفصل، وهي كما يلوح عند المقارنة، كالأصل لما كتبه آثرنا نقلها زيادة في الإيضاح، وإتمامًا للفائدة.
(٢) في هذا البيت شيء كثير من الركاكة في قوله: «بالألى من القادة الخيرة المتقين»، ولكنها مغتفرة لما في تاليه من تتمة تلك الصورة الشعرية المنطقية البديعة.
(٣) الهمزة للنداء وباديس هو باديس بن حبوس، صاحب غرناطة، الذي يتحدث عنه «دوزي» في هذا الفصل، وكانت بينه وبين المعتضد حروب شديدة، قال ابن خلدون: «ولي باديس ملك غرناطة بعد أبيه واستولى على سلطانه إسماعيل بن نغذلة الذمي، ثم نكبه وقتل سنة تسع وخمسين وأربع مئة وقتل معه خلقًا من اليهود، وتوفي باديس سنة سبع وستين وأربع مئة.» (ارجع إلى ص٩٤).
(٤) يرى القارئ في هذا البيت أسلوبه الشيطاني في استفزاز العاطفة الدينية عن طريق التفجع على ما أصاب الدين من ضعف وأدَّى بذلك اليهودي إلى السخرية منه.
ذكرنا في كتابنا «نظرات في تاريخ الأدب الأندلسي» تعليقًا على القصيدة التي أنشأها أبو إسحاق الفقيه ما يأتي:
ولا يفوتنا بعد كل ما ذكرناه أن نبين أثرًا فعليًّا واضحًا من آثار تمكن العقيدة في نفوس أصحابها، متى وجدت محركًا قادرًا على تصريفها، واستفزاز العاطفة الدينية فيها؛ فإن إلقاء نظرة سريعة على قصيدة أبي إسحاق الفقيه ورؤية أثرها العظيم الذي أحدثته في نفوس الجمهور، ليكفي وحده في إثبات ذلك، وإنك لترى فيها مبلغ التحمس الديني العظيم، وكيف أنها كانت السبب في القضاء على ما يربي على أكثر من أربعة آلاف يهودي، ونهب أموالهم وتدمير منازلهم، وكانت السبب في حدوث تلك المذبحة الهائلة في القرن الخامس الهجري سنة ٤٥٩ﻫ.
وقد دعا صاحبها إلى قولها أن يوسف بن نغذلة اليهودي الوزير وشى بأبي إسحاق — قائل هذه القصيدة — فأقصاه السلطان عن بلاده، قالوا: وكان ذلك الوزير قد تعرض لتسفيه بعض الآراء الدينية الإسلامية، وكان عظيم الخطر واسع النفوذ، فوجد أبو إسحاق من ذلك دافعًا إلى إنشاء تلك القصيدة البليغة، وقد ملأها تحريضًا وأفعمها حججًا وبراهين، أفلح في التأثير بها على العامة وحملهم على إنفاذ رغباته، وما زال يتفنن في ضروب الاحتثاث والتهييج حتى اشتعل الجمهور الساذج حماسة، وهجم على ذلك الوزير فقتله في قصر السلطان نفسه، وليس من شك في أن أبا اسحق بذل كل مواهبه في الضرب على النغمة الدينية وإظهار التفجع الشديد على ما انتاب الدين من التهاون به، وعرف كيف يوالي فيها اطراد الأدلة واتساقها وتدفق المعاني وغزارتها مع دقة في التعبير عن أغراضه وخوالجه بكلام فخم يتطير حماسة ويتأجج نارًا، وشعر صارخ:
وبهذا استطاع قائله أن يوهم سامعيها أن قتل أولئك اليهود (خصومه) فرض لا مناص من أدائه، وواجب حتم لا يصح السكوت عنه، وأنهم إن كانوا غفلوا عن القيام به فيما مضى، فهم خليقون أن يتداركوه في الحال، حتى لا تصب عليهم لعنة الله، أو يحيق بهم غضبه، فيخسف بهم الأرض، أو تنقض عليهم السماء، وكذلك لم يترك ناظمها وسيلة من الوسائل التي تستفز أخفى العواطف الدينية الكامنة إلا استخدمها، ولا نغمة من نغمات التعصب للعقيدة الدينية إلا ضرب على وتيرتها، كل ذلك بأسلوب سهل رشيق كاد يصل لسهولته إلى حد الركاكة في بعض الأبيات، مع أنه من أجمل الشعر وأبدعه وإن شئت فقل: وأروعه.
•••
وهكذا استفزت الناس هذه القصيدة البليغة إلى الفتك باليهود وأخذ البريء منهم بذنب المسيء، وكان من نتائجها تلك المذبحة الكبيرة التي أشرنا إليها والتي لا يؤخذ بجريرتها إلا أبو إسحاق — ناظمها — الذي عرف كيف ينتقم لنفسه عن طريق التشيع للدين والتظاهر بمظهر المتفاني في الدفاع عنه.
الفصل الثامن
(١) هكذا يرى «دوزي».
الفصل التاسع
ولشعره ديوان يدور بين أهل الأندلس ولم أر أحدًا ممن أدركته سنّي من أهل الآداب الذين أخذت عنهم إلا رأيته مقدمًا له مؤثرًا لشعره، وربما تغالى بعضهم فشبهه بأبي الطيب وهيهات، فمن قصائده المشهورة التي أجاد فيها قصيدته التي كتب بها من سرقسطة حين فرق المعتضد بالله بينه وبين المعتمد لأنه شغله عن كثير من أمره فنفاه، وهي:
وقد فتشت خزانة حفظي فلم أُلْفِ فيها إلا نبذة يسيرة وأنا موردها إن شاء الله (عز وجل): فابن عمار هذا هو محمد بن عمار يكنى أبا بكر، أصله من «شلب» من قرية من أعمالها يقال لها «شنبوس» مولده ومولد آبائه بها، كان خامل البيت ليس له ولا لأسلافه في الرياسة — في قديم الدهر ولا حديثه — حظ، ولا زكا منهم بها أحد، ورد مدينة «شلب» طفلًا فنشأ بها وتعلم علم الآداب على جماعة منهم أبو الحجاج يوسف بن عيسى الأعلم ثم رحل إلى قرطبة فتأدب بها ومهر في صناعة الشعر فكان قصاراه التكسب به، فلم يزل يجول في الأندلس مسترفدًا لا يخص بمدحه الملوك دون غيرهم، بل لا يبالي ممن أخذ ولا من استعطف من ملك أو سوقة وله في ذلك خبر ظريف، وذلك أنَّه ورد في بعض سفراته «شلب» لا يملك إلا دابة لا يجد علفها، فكتب بشعر إلى رجل من وجوه أهل السوق، فكان قدره عند ذلك الرجل أن ملأ له المخلاة شعيرًا ووجَّه بها إليه، فرآها ابن عمار من أَجَلِّ الصلات وأسنى الجوائز، ثم اتفق على أن علت حال ابن عمار وساعده الجد، ونهض به البخت، وانتهى أمره إلى أن ولاه المعتمد على الله مدينة «شلب» وأعمالها أول ما أفضى الأمر إليه، فدخلها ابن عمار في موكب ضخم، وجملة عبيد وحشم، وأظهر نخوة لم يظهرها المعتمد على الله حين وليها أيام أبيه المعتضد بالله، فكان أول شيء سأله عنه الرجل صاحبه صاحب الشعير، فقال: «ما صنع فلان أهو حي؟»
قالوا: «نعم.»
فأرسل إليه بمخلاته بعينها بعد أن ملأها دراهم وقال لرسوله: «قل له لو ملأتها برًّا لملأناها تبرًا.» ولم يزل ابن عمار على الحال التي ذكرناها من التقلب في بلاد الأندلس للاستجداء والاستعطاف إلى أن ورد على المعتضد بالله أبي عمرو، فامتدحه بقصيدته المشهورة التي أولها:
ولما تغلب ابن عمار على مرسية — دار ملك بني طاهر كما ذكرنا — حدثته نفسه وسول له سوء رأيه أن يستبد بأمره وأن يضبط تلك البلاد لنفسه، فلم يزل يصرف الحيلة في ذلك إلى أن تم له بعضه، ودانت له مرسية وأعمالها، وطمع في ملك بلنسية إلى أن قام عليه رجل من أهل مرسية يقال له ابن رشيق كان أبوه من عرفاء الجند بها، وكان ابن عمار قد خرج لبعض أمره، فدعا ابن رشيق هذا إلى نفسه وقامت معه العامة وبعض الجند.
فجاء يركض حتى المدينة، وقد غلقت أبوابها دونه فحاصرها بمن معه أيامًا فامتنعت عليه، ولم يقدر على دخولها فبقي حائرًا لا يدري ما يصنع، ولا أين يتوجه، وقد كان بلغ المعتمد قيامه عليه وخلع يده من طاعته، فلم ير إلا الهروب ملجأ فهرب حتى لحق ببني هود بسرقسطة، فأقام عندهم حتى ثقل عليهم وخافوا غائلته.
وبغضه في عيونهم ما فعل مع صاحبه وولي نعمته، فأخرجوه عن بلادهم، ولم تزل البلاد تتقاذفه، وملوكها تشنؤه، إلى أن وقع في حصن من حصون الأندلس في غاية المنعة يدعى «شقورة» كان المتغلب عليه رجلًا يقال له ابن مبارك فأكرم وفادته وأحسن نزله، ثم بدا له بعد أيام رأي فقبض عليه وقيَّده وجعله في سجنه، فلما رأى ابن عمار ذلك منه قال له: «لا عليك أن تكتب إلى ملوك الأندلس بكوني عندك، وتعرضني عليهم، فما منهم إلا مَن يرغب فيَّ، فمن كان أشدهم رغبة جعل لك مالًا ووجهت بي إليه.»
ففعل ابن مبارك ذلك فما عرضه على أحد من ملوك الأندلس إلا رغب فيه، وكتب فيمن كتب إلى المعتمد، وفي ذلك يقول ابن عمار:
وقد كان المعتمد أمر بإخراج الناس خاصتهم وعامتهم حتى ينظروا إليه على تلك الحال، وقد كان قبل هذا إذا دخل قرطبة اهتزَّت له، وخرج إليه وجوه أهلها وأعيانهم ورؤساؤهم، فالسعيد من يصل إلى تقبيل يده، أو يرد عليه ابن عمار السلام، وغيرهم لا يصل إلى تقبيل ركابه أو طرف ثوبه، ومنهم من ينظر إليه على بُعد لا يستطيع الوصول إليه، فسبحان محيل الأحوال، ومديل الدول. فدخل ابن عمار قرطبة كما ذكرنا بعد العزة القعساء، والملك الشامخ، والرياسة الفارعة ذليلًا خائفًا فقيرًا لا يملك إلا ثوبه الذي عليه.
فسبحان من سلبه ما وهبه، ومنع ما كان به أمتعه، وأخبر بعض الموكلين به ما اتفق لهم معه من فرط ذكائه وسرعة فطنته قال: لما قربنا من قرطبة بحيث يرانا الناس خرج فارس من البلد يركض يقصدنا، فلما رآه ابن عمار وكان معتمًّا، أزال العمامة عن رأسه، فجاء الفارس، حتى وصل إلينا فنظر إلى ابن عمار ودخل معنا في الصف فمشى، فسألناه فيم جاء؟ فقال: «الذي جئت فيه صنعه هذا الرجل قبل أن أصل إليه»، فعلمنا أنه أرسل ليزيل عمامته، فأدخل على المعتمد على الله على الحالة التي ذكرت يرسف في قيوده، فجعل المعتمد يعدد عليه أياديه ونعمه وابن عمار — في ذلك كله — مطرق الرأس لا ينبس إلى أن انقضى كلام المعتمد، فكان من جواب ابن عمار أن قال: «ما أنكر شيئًا ممَّا يذكره مولانا — أبقاه الله — ولو أنكرته لشهدت عليَّ به الجمادات فضلًا عمَّن ينطق، ولكن عثرتُ فأقل، وزللتُ فاصفح.»
فقال المعتمد: «هيهات، إنها عثرة لا تقال.» وأمر به فأحضر في النهر إلى إشبيلية فدخل به إشبيلية على الحال التي دخل عليها قرطبة وجعل في غرفة على باب قصر المعتمد المعروف بالقصر المبارك وهو باقٍ إلى وقتنا هذا.
فطال سجنه هناك، كتبت عنه في هذا السجن قصائد لو تُوُسِّلَ بها إلى الدهر لنزع عن جوره، وإلى الفلك لكف عن دوره، فكانت رقى لم تنجح، ودعوات لم تسمع، وتمائم لم تنفع، فمنها قوله:
•••
لما بلغت المعتمد هذه القصيدة وأنشدت بين يديه كان بحضرته رجل من البغداديين، فجعل يزري على البيت: «وبين ضلوعي …» ويقول: «ماذا أراد بهذا المعنى؟»فكان من جواب المعتمد (رحمه الله) أن قال: «أما لئن سلبه الله المروءة والوفاء، لما أعدمه الفطنة والذكاء. إنما نظر إلى بيت «الهذلي» من طرف خفي وهو:
وتلخيص خبر قتله أنه لما طال سجنه كتب إليه بالقصيدة التي تقدم إنشادها فأدركت المعتمد بعض الرقة، فوجه إليه ليلًا وهو في بعض مجالس أنسه فأتي به يرسف في قيوده، فجعل المعتمد يعدد مننه عليه وأياديه قبله، فلم يكن لابن عمار جواب ولا عذر، غير أنه أخذ في البكاء وجعل يترقق للمعتمد ويمسح عطفيه ويستجلب من الألفاظ كل ما يقدر أنه يزرع له الرأفة في قلب المعتمد، فتم له بعض ما أراد من ذلك، وعطفت المعتمد عليه سابقته وقديم حرمته. فقال له قولًا يتضمن العفو عنه تعريضًا لا تصريحًا وأمر برده إلى محبسه، فكتب ابن عمار من فوره بما دار له مع المعتمد إلى ابنه الراضي بالله فوافاه الكتاب وبحضرته قوم كانت بينهم وبين ابن عمار إحن قديمة. فلما قرأ الراضي الكتاب قال لهم: «ما أرى ابن عمار إلا سيتخلص.» فقالوا له: «ومن أين علم مولانا بذلك؟» فقال: «هذا كتاب ابن عمار يخبرني فيه أن مولانا المعتمد قد وعده بالخلاص.» فأظهر القوم الفرح وهم يبطنون غيره، فلما قاموا من مجلس الراضي نشروا حديث ابن عمار أقبح نشر وزادوا فيه زيادات قبيحة صُنْتُ هذا الكتاب عن ذكرها، فبلغ المعتمد ذلك، فأرسل إلى ابن عمار وقال له: «هل أخبرت أحدًا بما كان بيني وبينك البارحة؟»
فأنكر ابن عمار كل الإنكار، فقال المعتمد للرسول: «قل له: الورقتان اللتان استدعيتهما كتبت في إحداهما القصيدة، فما فعلت بالأخرى؟» فادعى أنه بيَّض فيها القصيدة، فقال المعتمد: «هلم المسودة.» فلم يحر جوابًا، فخرج المعتمد حنقًا وبيده الطبرزين حتى صعد الغرفة التي فيها ابن عمار فلما رآه علم أنه قاتله، فجعل ابن عمار يزحف وقيوده تثقله حتى انكب على قدمي المعتمد يقبلهما، والمعتمد لا يثنيه شيء فعلاه بالطبرزين الذي في يده، ولم يزل يضربه حتى برد، ورجع المعتمد فأمر بغسله وتكفينه وصلى عليه ودفنه بالقصر المبارك.
فهذا ما انتهى إلينا من خبر ابن عمار ملخصًا حسب ما بقي على خاطري.
ومن مختار شعره قوله إلى المعتمد حين تقبض النصراني على الرشيد ابنه إذ حاول أمر مرسية:
(٢) لم نعثر على أصل هذين البيتين، فاضطررنا إلى ترجمتهما نظمًا.
(٣) لم نعثر على أصل هذين البيتين، فاضطررنا إلى نظمهما.
الفصل العاشر
قال الوزير أبو بكر ابن وزير أبي مروان عبد الملك: «بينما أنا قاعد في دهليز دارنا وعندي رجل ناسخ أمرته أن يكتب لي كتاب الأغاني فجاء الناسخ بالكراريس التي كتبها فقلت له: «أين الأصل الذي كتبت منه لأقابل معك به؟» قال: «ما أتيت به معي.» فبينما أنا معه في ذلك إذ دخل الدهليز علينا رجل بذ الهيئة عليه ثياب غليظة أكثرها صوف وعلى رأسه عمامة قد لاثها من غير إتقان لها، فحسبته لما رأيته من بعض سكان أهل البادية فسلم وقعد، وقال: «يا بني! استأذن لي على الوزير أبي مروان.» فقلت له: هو نائم، هذا بعد أن تكلفت جوابه غاية التكلف — حملتني على ذلك نزوة الصبا، وما رأيت من خشونة هيئة الرجل — ثم سكت عني ساعة وقال: «ما هذا الكتاب الذي بأيديكما؟» فقلت له: «ما سؤالك عنه؟» قال: «أحب أن أعرف اسمه فإني كنت أعرف أسماء الكتب.» فقلت: «هو كتاب الأغاني.» فقال: «إلى أين بلغ الكاتب منه؟» قلت: «موضع كذا» وجعلت أتحدث معه على طريق السخرية به والضحك على قالبه، فقال: «وما لكاتبك لا يكتب؟» فقلت: «طلبت منه الأصل الذي يكتب منه لأعارض هذه الأوراق، فقال لم أجئ به معي.» فقال: «يا بني خذ كراريسك وعارض.» فقلت: «بماذا وأين الأصل؟» فقال: «كنت أحفظ هذا الكتاب في مدة صباي.» فتبسمت من قوله فلما رأى تبسمي قال: «يا بني أمسك علي.» فأمسكت عليه وجعل يقرأ، فوالله إن أخطأ واوًا ولا فاءً هكذا نحو كراسين، ثم أخذت له في وسط الشعر وآخره فرأيت حفظه في ذلك كله سواء، فاشتد عجبي وقمت مسرعًا حتى دخلت على أبي فأخبرته الخبر، ووصفت له الرجل، فقام كما هو من فوره لا يرفق على نفسه وأنا بين يديه وهو يوسعني لومًا حتى ترامى على الرجل وعانقه وجعل يقبل رأسه ويديه ويقول: «يا مولاي اعذرني فوالله ما أعلمني هذا الخلف إلا الساعة.» وجعل يسبني والرجل يقول: «ما عرفني.» وأبي يقول: «هبه ما عرفك فما عذره في حسن الأدب.» ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه وخلا به، فتحدثَا طويلًا، ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافيًا حتى بلغ الباب، وأمر بدابته التي يركبها فأسرجت وحلت عليه ليركبها ثم لا ترجع إليه أبدًا، فلما انفصل قلت لأبي: «من هذا الرجل الذي عظمته هذا التعظيم؟» فقال لي: «اسكت! ويحك! هذا أديب الأندلس وسيدها في علم الأدب هذا «أبو محمد عبد المجيد بن عبدون» أيسر محفوظاته كتاب الأغاني، وما حفظه في ذكاء خاطره وجودة قريحته؟» ا.ﻫ.
في سنة ستٍّ وخمسين وأربع مئة كثر خوض أهل قرطبة في الذي رأوه من تنافس ولدي أبي الوليد بن جهور في الانتصاف بالإمارة: ابنه عبد الرحمن كبير جماعتهم، وأخوه عبد الملك أشهمهم فؤادًا، وأصلبهم عودًا، الذي كشف عن وجوههم غمة مركسهم ابن السقاء، فاستدرك لهم ما كان تولى من سلطانهم بفتكته به الفتكة التي ثبتت أوتاد ملكهم، ثم نازع أخاه عبد الرحمن فيما ذهب إليه من التفرد به.
وقد كان أشار على أبيهما بعض حلفائه بإيثار عبد الرحمن، فتمسك الشيخ بحظه من إرضاء ولده الصغير عبد الملك فمال إلى قسمة الرياسة بينهما مدة حياته، غير ناصب أحدهما للأمر، يقضي الله أمره لمن يشاء، وأنشد قول الجزيري:
ثم نظر لعبد الرحمن فقدمه في الإشراف والجباية، وجعل إلى عبد الملك النظر في الجند، والتولي لفرضهم، والإشراف على أعطياتهم، فرضيا منه هذا التقسيم وأقامهما على الصراط المستقيم.
(قال مؤلف «البيان المغرب»): وها أنا أذكر من كلام ابن بسام وغيره ما أمكن من بقية أخبارهم إن شاء الله، فأقول أولًا:
كان عباد المعتضد خامر قلبه من أمر ابن السقاء مدبر دولة بني جهور ما لا يسعه بوح ولا كتم، وما لا يدعه سفه ولا حلم، شرقًا بحسن سيرته، وفرقًا من استمرار مريرته، وحسدًا لآل جهور، فقد كان ابن السقاء هذا من الاستقلال بمكانه، والضبط لسلطانه، بحيث يخيف الأنداد، ويغيظ الحساد، فدس عباد إلى عبد الملك بن جهور من جسره على الفتك، وإلى ابن السقاء من ألقى في روعه حب الملك، راش وبرى، حتى جرى القدر بينهما بما جرى، ولمَّا خلا لعبد الملك الجو بعد ابن السقاء أعرض وأطال، وطلب الطعن والنزال، ووجد عباد السبيل إلى شيء طالما أسَرَّ ذكراه، ونغص عليه كثيرًا من دنياه، من افتقار بني جهور إلى نصره، تصرفهم بين يدي نهيه وأمره، وانقبض عن عبد الملك لأول استبداده بالأمر حُماته الذين كان ابن السقاء يرفههم برفقه، ويصطنعهم بحذقه.
وخامر ابن ذي النون من الشغف بقرطبة ما هوَّن عليه إنفاق المال، واحتمال الأثقال، وتكلف الحل والترحال، ومضت السنون، وغالت عبادًا المنون، وصار الأمر إلى ابنه المعتمد سنة إحدى وستين، فلما كان سنة اثنتين بعدها دلف ابن ذي النون إلى قرطبة وكان لا يغبها شره، ولا ينام عنها مكره، فاحتاج عبد الملك بن جهور إلى استمداد المعتمد لانفضاض من لديه، وعجزه عمَّا كان أسند من أمر قرطبة إليه، فأمده المعتمد بجمهور أجناده على أكابر قواده، وقد تقدم إليهم بمراده، ونهج لهم سبيل إصداره وإيراده، فوافوا قرطبة ونزلوا بربضها الشرقي وأقاموا بها أيامًا يحمون حماها، وأعينهم تزدحم عليه، ويذبون عن جناها، وأفواههم تنجذب إليه، فلما شمل ابن ذي النون سفره واحتواه، وقضى من غزو قرطبة وطره وما قضاه، أخذ في الرحيل عنها فما انقشعت سدفة ليله، ولا تمزق غبار سنابك خيله، حتى هتك العباديون الحريم، وركبوا الأمر العظيم، باتوا متحدثين بالقفول ثم غلسوا مظهرين للرحيل، وعبد الملك متأهب لتشييعهم، عازم على البكرة إلى توديعهم، وشكرهم على حسن صنيعهم، فلم يرعه إلا إحداقهم بقصره، وارتفاع أصواتهم بالبراءة من أمره، وقد تمخضت له ليلة عن يوم عقيم، وافتر له ناجذ صبحها عن ليل بهيم، ومشى من أنصاره هنالك بين أسود مسوم، وأسد شتيم.
فقبض للحين على عبد الملك وأخواته، وجميع أهل بيته، وبالغوا لوقتهم في الانتهاك لحرمه، وإزالة نعمه، وإخفار ذممه، وأخرج الشيخ أبو الوليد بقية أشراف الأندلس، وكان إذ ذاك مائل الشق، مفلوج الشدق، مغلوب الباطل والحق، لم تحفظ له حرمة، ولا رُعِيَ فيه إلٌّ ولا ذمة.
بلغني أنه لما وسط به قنطرة قرطبة خارجًا منها على مركب هجين، وحاله تقر منها عيون الحاسدين، رفع يديه إلى السماء، وأخذ يبتهل في الدعاء، فكان مما حفظ عنه قوله: «اللهم كما أجبت فينا الدعاء علينا، فأجبه لنا.»
ثم مات بعد أربعين يومًا من نكبته بجزيرة «شلطيش» مزال النعمة، مدال الحرمة، وأقرت ساقته بها، أقاموا هناك بقية أيام المعتمد يأخذهم الحدثان ويدعهم ويخفضهم الزمان أكثر مما يرفعهم.
انتهى كلام ابن بسام (رحمه الله).
(قال صاحب «البيان المغرب»):
ولما أقلع ابن ذي النون عن قرطبة اجتمع أهلها في السر على أن يخلعوا ابن جهور ويولوا ابن عباد فأبرموا أمرهم وأحكموه، وقاموا بأجمعهم لما ضجروا من جور ابن جهور وتعديه هو وحاشيته السفلة على الناس، وثاروا في صبيحة اليوم الذي اتفقوا فيه مع قواد ابن عباد وقام أصحاب ابن جهور دونه، وكانوا طائفة قليلة، فغلب عليهم أهل قرطبة واستوى الخائن عبد الملك بن جهور في يد ابن مرتين قائد ابن عباد وانقرض ملك بني جهور، فكانت دولة أبي الوليد بن جهور بقرطبة ستًّا وعشرين سنة وستة أشهر ونصفًا.
لما أخذ أبو الوليد بن جهور العهد على أهل قرطبة لولي عهده ابنه عبد الملك وولَّاه على قرطبة جار واعتدَى، وتعاظم وتعاطى حتى سمَّى نفسه ذا السيادتين المنصور بالله الظافر بفضل الله وخطب له في منبر قرطبة بهذا كله، فسلط الله عليه نكاية ابن ذي النون له، وتضييقه عليه حتى ملك حصن المدور وحاصره بقرطبة، فاستغاث بالمعتمد محمد بن عباد فوجَّه إليه مقدمة في ثلاث مئة فارس، ثم جدد في إثرهم ألف فارس مع قائديه خلف بن نجاح ومحمد بن مرتين فدخلوا قرطبة فانصرف ابن ذي النون منحوبًا مغتاظًا، فاستبان ابن عباد حال عبد الملك وضعف عقله، وقلة رجاله، وكراهية رعيته فيه، فلحقهم الطمع فيه، فكان زوال ملكه أسرع من لحسة الكلب أنفه.
وثوى العسكر العبادي بقرطبة بعد رحيل ذي النون عنها أكرم ثواء، وأهلها يبثونهم شجوهم، ويطالعونهم على ما هم فيه، ويناشدونهم الله ألا يبرحوا حتى يقبضوا على الغوي الظالم أميرهم عبد الملك بن جهور ويحبسوا البلد على سلطانهم ابن عباد فأصبحوا عشي يوم الأحد المؤرخ على تعبئة سفرهم، ثم قدم القائدان على الباب من ضبطه، وأسرعا التقدم في الجند والعامة إلى دار عبد الملك بن جهور فاستوى هو وخويصته فوق غرفة داره، وتكاثر الجند عليهم، فأتوه من كل جهة، وتوصلوا إلى داره من السقف المتصل به، ونزلوا منه إلى قعرها، وغشيها جموع من الناس أعلاها وأسفلها كالجراد المنتشر، فتقدمت العامة على النهب، فصيروا جميع ما احتوى عليه قصره كحريق سريع، وفضوا أقاصي مخازنه على نفيس أعلاقها، وأما الشيخ أبو الوليد والده رب القصر فأوى إلى المقصورة ببناته وكرائمه، فاقتحمها عليه قوم من النصارى فجردوهم ونهبوا ما عندهم، فأصبح أميرًا، وأضحى أسيرًا، وآل الحال بالغوي ابنه إلى أن صعد إلى علية أغلقها على نفسه وعلى نسائه، فارتقى الجند إليه، ليقبضوا فيها عليه، فطلب الأمان، ونزل طائعًا للقائدين وبادر ابن مرتين بالمنع عن تخطي أحد من الناس، وأعلن بالنداء بالسيف في ذلك فكف الفسقة، وارتفع النهب، وأسرع ابن مرتين الرجوع إلى دار المخلوع، وقد حاصره ابن نجاح وقدما النظر في إخراج الغوي ليومهما إلى حضرة إشبيلية فوكلا به من أخرجه على أعين الناس مع أخيه وطائفته، ثم عطفا على النظر في شأن الشيخ الضليل والدهم ومن معه من بناته ونسائه، فصيروا جميعهم في دار صغرى، والتزم القائدان الجلوس للنظر في الأمور إلى أن وصل ابن عباد قرطبة فملكها.
وكانت قرطبة منتهى أمله، وكان روم أمرها أشهى عمله، وما زال يخطبها بمداخلة أهليها ومواصلة واليها إذ لم يكن في منازلها قائد، ولم يكن لها إلا حيل ومكائد، لاستمساكهم بدعوة خلفائها، وأنفتهم من طموس رسم الخلافة وعنائها، وحين اتفق له تملكها، وأطلعه فلكها وحصل في قطب دارتها، ووصل إلى تدبير رياستها وإدارتها، قال من البسيط:
ولما انتظمت في سلكه، واتسمت بملكه، أعطى ابنه الظافر زمامها، وولَّاه نقضها وإبرامها، فأفاض فيها نداه، وزاد على أمده ومداه، وحملها بكثرة حبائه واشتغل بأعبائها عن فنائه، ولم يزل فيها آمرًا وناهيًا، غافلًا عن المكر ساهيًا، حسن ظن بأهلها اعتقده، واغترار بهم ما رواه ولا انتقده، وهيهات كم من ملك كفنوه في دمائه، ودفنوه بذمائه، وكم من عرش سلوه، وعزيز أذلوه، إلى أن ثار فيها ابن عكاشة ليلًا وجرَّ إليها حربًا وويلًا، فبرز الظافر منفردًا من كماته، عاريًا عن حماته، وسيفه في يمينه، وهاديه في الظلماء نور جبينه، فإنه كان غلامًا كما بلله الشباب بأندائه، وألحفه الحسن بردائه، فدفعهم أكثر ليلته، وقد منع منه تلاحق رجله وخيله، حتى أمكنتهم منه عثرة لم يقل لها لعا، ولا استقل منها ولا سعى، فترك ملتحفًا بالظلماء، مغبرًّا وسط الحماء، تحرسه الكواكب، بعد المواكب، ويستره الحندس، بعد السندس، فمر بمصرعه سحرًا أحد أئمة الجامع المغلسين وقد ذهب ما كان عليه ومضى، وهو أعرى من الحسام المنتضى، فخلع رداءه عن مكنبيه ونضاه، وستره به سترًا أقنع المجد وأرضاه، وأصبح لا يعلم رب تلك الصنيعة، ولا يعرف فتشكر له يده الرفيعة، فكان المعتمد إذا تذكر صرعته، وسعر الجوى لوعته، رفع بالعويل نداءه وأنشد:
ولما كان من الغد حز رأسه، ورفع على سن رمح وهو يشرق كنار على علم ويرشق نفس كل ناظر بألم، فلما رمقته الأبصار، وتحققته الحماة والأنصار، رموا أسلحتهم، وسووا للفرار أجنحتهم، فمنهم من اختار فراره وخلاه، ومنهم من أتت به إلى حينه رجلاه، وشغل المعتمد عن رثائه بطلب ثاره، ونصب الحبائل لوقوع ابن عكاشة وعثاره، وعدل عن تأبينه إلى البحث عن مفرقه وجبينه، فلم تحفظ له فيه قافية، ولا كلمة للوعته شافية، إلا إشارته إليه في تأبين أخويه المأمون والراضي المقتولين في أول النائرة التي ينتهي بنا القول إلى سرد خبرها، ونص عبرها، فإنه قال (طويل):
الفصل الحادي عشر
ثم قال: فرقَّ له المعتمد وأشفق، وأقشع نوء حقده عليه وأخفق، وعزم على الصفح عنه والتجاوز، وأن يرفع بالإغضاء له تلك المعاوز، فكتب إليه مراجعًا:
(٢) ارجع إلى ما كتبناه عن أخبار ابن عمار مع المعتمد في هامش الكتاب.
الفصل الثاني عشر
واستولى الأذفونش منهم على طليطلة وفي ذلك يقول بعض شعرائهم في التفجع على طليطلة:
(٢)
جاء في كتاب «البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب» لابن عذارى
المراكشي عن حيان بن خلف قال: هو عبد العزيز بن عبد الرحمن بن المنصور محمد
بن أبي عامر، وكان لقبه المنصور، وكان الموالي العامريون عند ذهاب مجاهد عنهم
قد أسندوا أمرهم إلى نفر من مشيختهم، فتشاوروا في أن يقدموا أميرًا من أنفسهم
يعترفون له، فاتفقوا على عبد العزيز ابن مولاهم، إيثارًا له على ابن عمه
محمد بن عبد الملك وكان مقيمًا بقرطبة، وعبد العزيز بسرقسطة، في كنف منذر
بن يحيى فأحكم له التدبير، وخرج سرًّا، فلحق ببلنسية، فاستقبله الموالي
أفواجًا، وقلدوه رياستهم، وكان عبد العزيز هذا من أوصلهم لرحمه، وأحفظهم
لقرابته، ابتعثه الله رحمة للممتحنين من أهل بيته، فآواهم، وجبر الكسير، ونعش
الفقير طول مدته، حتى بلغ من ذلك مبلغًا أعيا ملوك زمانه، وخاطب لأول حينه
الخليفة بقرطبة القاسم بن حمود مع هدية حسنة، وذكره بذمام سلفه، فسماه
المؤتمن ذا السابقتين، فتوطد سلطانه، واشتمل على خدمته أربعة من الكتاب، حتى
سماهم الناس الطبائع الأربع، وهم: ابن طالوت وابن عباس وابن عبد العزيز
وابن التاكرني كاتب رسائله، ولم تزل حاله تسمو، حتى اتصل بوزارته فنال جسيمًا
من دنياه، وطالت إمارة عبد العزيز إلى سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة فتوفي في
ذي الحجة منها، وهو صاحب بلنسية ومرسية وشاطبة وجزيرة شقر
وأعمالها.
وضعف أمر ولده المظفر ببلنسية، فملك ابن طاهر مرسية واستبدَّ بها إلى
أن مات، فورث ملكه بها ابنه محمد بن طاهر.
وبعد عبد العزيز بن أبي عامر ولي ابنه عبد الملك، اجتمع أصحاب أبيه عبد
العزيز على تأميره، وقام له بأمره كاتب والده، والمدير لدولته الوزير ابن عبد
العزيز المشهور، مع معرفته بابن روتش القرطبي وكان مشهورًا بالرجاحة، فأحسن
هذا الكاتب معونته على شأنه، وتولى تمهيد سلطانه، واستقر أمره على ضعف ركنه،
لعدم المال، وقلة الرجال، وفساد أكثر الأعمال، وراعى هذا الكاتب الشهم، مدبر
تلك الدولة في هذا المؤمر عبد الملك مكان صهره من الأمير المأمون يحيى بن ذي
النون إذ كان صهر عبد الملك أبا امرأته، المساهم له في مصاب أبيه، المعين له
على سد ثلمه، الزائد عنه كل من طمع فيه، فانزعج عند نزول الحادثة من حضرته
طليطلة إلى قلعة «كونكة» من أعماله، للدنو من صهره عبد الملك وبادر بإنفاذ
قائد من خاصته، وبالكاتب ابن مثنى إلى بلنسية في جيس كثيف، أمرهم بالمقام
مع عبد الملك وشد ركنه، فسكنت الدهماء عليه.
ومضى عبد العزيز أبوه، غير فقيد المكان، ولا عديم الشأن، ولا مبك لسمائه
وأرضه، ما فجع به إلا ذو رحمه من آل أبي عامر، لتناهيه في صلتهم، حتى صار
إسرافه في ذلك من أضر الأشياء لجنده وأجلبها لذمه، له في ذلك أخبار مأثورة،
وتوفي وهو أطول أمراء الأندلس مدة إمارة، وتملكها أربعين حجة، فسبحان المنفرد
بالبقاء، الأول قبل الأشياء.
وشاع توقيع ابن عباد وفشا في الناس عزمه على استنفار البربر لمجاهدة العدو، فلما علم بذلك أقرانه ملوك الطوائف، اهتموا وتشاوروا للأمر، ومنهم من كاتبه، ومنهم من شافهه، قائلين: «إن الملك عقيم، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد.» فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة: «رعي الجمال خير من رعي الخنازير» أي أن يكون مأكولًا ليوسف بن تاشفين، يرعى جماله في الصحراء، خير من كونه ممزقًا للأذفونش أسيرًا عنده يرعى خنازيره في قشتالة، وقال لعذاله قولًا آخر: «يا قوم إني من أمري على حالين، حالة يقين، وحالة شك، ولا بد لي من إحداهما، فأما حالة الشك، فإني إن استندت إلى الأذفونش أو إلى ابن تاشفين فمن الممكن أن يفي لي، ويمكن أن لا يفعل، وأما حالة اليقين، فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أُرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله، وهذه حالة يقين، فلماذا أدع ما يرضي الله إلى ما يسخطه.»
•••
ولما عزم المعتمد على الاستجاشة، أمر كلًّا من «المتوكل بن الأفطس» صاحب بطليوس وعبد الله بن حبوس صاحب غرناطة أن يوفد كل منهما قاضي الجماعة بحضرته، واستحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيد الله بن أدهم وكان أعقل أهل زمانه، فلما اجتمع عنده القضاة بإشبيلية، أضاف إليهم وزيره أبا بكر بن زيدون وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ ابن تاشفين وترغيبه في الجهاد، وأسند إلى وزيره ابن زيدون ما لا بد منه في تلك السفارة من إبرام العقود السلطانية «وقد وفى يوسف بالأولى ولم يفِ بالثانية».وكان ابن تاشفين منذ اعتراء الضعف دول الأندلس لم تزل تفد عليه وفود المسلمين من وراء البحر، مستعطفين مجهشين بالبكاء، فما وفدت رسل ابن عباد حتى أسرع الإجابة، وحشد العساكر، وأنزلها بالجزيرة الخضراء، وأجاز على أثرها، وامتلأت الجزيرة بالمجاهدين والمتطوعة، وعلى رواية ابن خلكان أنه أمر بعبور الجمال، فعبر منها ما أغص الجزيرة، وارتفع رغاؤها إلى عنان السماء ولم يكن أهل الجزيرة رأوا جملًا قط ولا خيلهم، فصارت الخيل تجمح من رؤية الجمال، ومن رغائها، وكان ليوسف في عبور الجمال رأي مصيب، فكان يحدق بها عسكره عند الحرب، وكانت خيل الفرنج تجمع منها.
•••
ولما نزل يوسف بحشوده في الجزيرة، وبلغ الأذفونش تألُّب أمراء المسلمين لمناهضته، استنفر جميع أهل بلاده، وما يليها وما وراءها، ورفع القسيسون والأساقفة صلبانهم، واجتمع له من الإفرنجة والجلالقة ما لا يحصى عدده، وبعث الأذفونش إلى ابن عباد: «إن صاحبكم يوسف تجشم المشقة، وخاض البحار، وأنا أكفيه العناء فيما بقي، وألقاكم في بلادكم رفقًا بكم.» وكان مقصده في الدلوف إلى ديار المسلمين أنه إن دارت عليه الدائرة، كان له من ورائه من معاقله ومدائنه معتصم، وإن كانت عليهم، كان أقدر على النكاية فيهم في عقرتهم.»ومما قيل إنه كتب إلى يوسف كتابًا أنشأه له بعض غزاة المسلمين، يغلظ له في القول، ويتوعده، فأمر ابن تاشفين — ولم يكن أعلم بالعربية من الأذفونش — كاتبه أبا بكر بن القصيرة أن يجاوبه، وكان كاتبًا مجيدًا فكتب وأجاد، فلما قرأه، يوسف استطاله، وأخذ كتاب الأذفونش وكتب على ظهره: «الذي يكون ستراه»، وأخذ المعتمد وأمراء الأندلس يجلبون لجيوش المرابطين الأقوات والضيافات.
ولما قرب أمير المسلمين من إشبيلية خرج ابن عباد للقائه في وجوه أصحابه، وعندما تلاقيا، تصافحا وتعانقا، ثم شكرا أنعم الله، وتواصيا بالصبر والرحمة، وتوسلا إلى الله أن يجعل سعيهما خالصًا لوجهه، ووافت الجيوش كلها بطليوس.
وجاءهم الخبر بزحف الطاغية، ولما تدانى الفريقان، أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفًا عليهم من المكايد لجهلهم المكان، وكان يوسف قد كتب إلى الأذفونش يدعوه إلى إحدى الثلاث وهي الإسلام أو الجزية أو السيف، كما هي السُّنَّة، فامتلأ الأذفونش غيظًا، وقامت الأساقفة ورفعوا صلبانهم، وتبايعوا على الموت، وقام الفقهاء من الجهة المقابلة، ووعظوا وحضوا على الصبر والثبات، وصدعوا بقوارع الكتاب، وأصبح يوم الخميس، فبعث الأذفونش إلى ابن عباد يقول له: «غدًا يوم الجمعة، وهو عيدكم، والأحد عيدنا، فليكن لقاؤنا بينهما وهو يوم السبت.»
فأعلم ابن عباد السلطان يوسف بذلك وأنها خديعة ليفتك بالمسلمين يوم الجمعة، فانتبه الجيش الإسلامي طول ليلة الجمعة، واستيقظ الفقيه الناسك أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي فرحًا مسرورًا يقول: إنه رأى النبي ﷺ تلك الليلة في النوم، فبشره بالفتح والشهادة، فتأهب ودعا وتضرع ودهن رأسه بالطيب، وانتهى ذلك إلى ابن عباد فبعث إلى يوسف يخبره.
وجاء في الليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة الأذفونش وسمعا ضوضاء الجيوش، وصليل الأسنة، وجاءت العيون من داخل محلتهم، يقولون: قد استرقنا السمع فسمعنا الطاغية يقول لأصحابه: «ابن عباد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون — وإن كانوا ذوي حفاظ وبصائر في الحرب — فهم جاهلون البلاد، فاقصدوا ابن عباد، وأصدقوه الحملة، فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون.»
فأرسل ابن عباد يعرف أمير المسلمين، وقبل ورود الجواب غشيته جنود الأذفونش من كل جهة، وهاجت الحرب، وحمي الوطيس، وتبايع الناس على الموت، وصبر المعتمد صبرًا لم يعهد مثله لأحد، واستبطأ يوسف في النجدة، وانكشف بعض أصحابه، وأثخن جراحات، وعقرت تحته ثلاثة أفراس.
وبينما هو على تلك الحال أقبل عليه — من قواد المرابطين — داود ابن عائشة، وكان من الأبطال، فنفس عن خناقه، وأقبل يوسف بجموعه، وأصوات طبوله قد ملأت الفضاء، فنهد إليه أذفونش بمعظم جيشه، فصدمهم ابن تاشفين بجنده، فردهم إلى مراكزهم، وانتظم — بيوسف — شمل ابن عباد وحملوا جميعًا حملة الرجل الواحد، فتزلزلت الأرض بحوافر خيلهم، وأظلم الجو من العثير، وتراجع المنكشفون من أصحاب ابن عباد وتجددت الحملة، فانكشف الأذفونش وقيل: بل تصادم الجمعان، وتناوبا الكر والفر، إلى أن أمر يوسف حشمه من السودان، فترجل منهم نحو أربعة آلاف بدرق اللمط، وسيوف الهند، ومزاريق الزان، وأدرك الأذفونش أسود لصق به، وقبض على عنانه، وانتضى خنجرًا أثبته في فخذه، فهتك حلق درعه، وهبت ريح النصر، وأنزل الله السكينة على المسلمين، وانكشف العدو من كل جانب، وقد فشا فيه القتل والأسر، واعتصم الأذفونش — بخمس مئة فارس من قومه — بربوة عالية انسابوا منها بعد تخييم الظلام، وقد أباد القتل من الإسبانيول أمة، وجعل المسلمون من رءوسهم مآذن يؤذنون عليها، واستشهد في ذلك اليوم ابن رميلة كما بشَّره النبي ﷺ، وقاضي مراكش أبو مروان عبد الملك المصمودي، وغيرهما من الأعيان.
وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام، حتى جمعت الغنائم، فتعفف عنها أمير المسلمين، إيثارًا لأهل الأندلس، وعادوا جميعًا إلى إشبيلية وحضرت الكتب من بر العدوة إلى ابن تاشفين، تقتضي عزمه بالرجوع، فعبر البحر وودعه المعتمد، وهذه وقعة الزلاقة الشهيرة من أشهر ما حملته التواريخ من الوقائع بين الإسلام والنصرانية.
(٤) توفي باديس عام ١٠٨٣م، فقسمت مملكته بعد وفاته بين حفيديه عبد الله وتميم فكان نصيب الأول غرناطة والثاني مالقة. «دوزي»
جاء في كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب للمراكشي ما يأتي: ولما كانت سنة ٤٧٩ جاز المعتمد على الله البحر، قاصدًا مدينة مراكش إلى يوسف بن تاشفين، مستنصرًا به على الروم، فلقيه يوسف المذكور أحسن لقاء، وأنزله أكرم نزل، وسأله عن حاجته، فذكر أنه يريد غزو الروم، وأنه يريد إمداد أمير المسلمين إياه، بخيل ورجل ليستعين بهم في حربه، فأسرع أمير المسلمين المذكور إجابته إلى ما دعاه إليه، وقال له: وأنا أول منتدب لنصرة هذا الدين، ولا يتولى هذا الأمر أحد إلا أنا بنفسي.
فرجع المعتمد إلى الأندلس مسرورًا بإسعاف أمير المسلمين إياه في طلبته، ولم يدر أن تدميره في تدبيره، وسلَّ سيفًا يحسب له، ولم يدرِ أنه عليه، فكان كما قال أبو فراس:
فكان هذا أول ما أوقع في نفس يوسف التشوف إلى مملكة جزيرة الاندلس، ثم إنه فصل عن الخضراء بجيوشه قاصدًا شرقي الأندلس، وسأله المعتمد دخول إشبيلية دار ملكه ليستريح فيها أيامًا، حتى تزول عنه وعثاء السفر، ثم يقصد قصده فأبى عليه وقال: «إنما جئت ناويًا جهاد العدو، فحيث ما كان العدو توجهت وجهه.»
وكان الأذفونش محاصرًا لحصن من حصون المسلمين يعرف بحصن «الليط»، فلما بلغه عبور البربر أقلع عن الحصن راجعًا إلى بلاده، مستنفرًا عساكره، ليلقى بهم البربر، وتوجه يوسف المذكور إلى شرقي الأندلس يقصد ذلك الحصن المحاصر، والإصلاح بين المعتمد على الله وبين رجل كان تغلب على مرسية يقال له ابن رشيق قد تقدم ذكره في أخبار ابن عمار، فأصلح بينهما يوسف أمير المسلمين، على أن يخرج له ابن رشيق عن مرسية ويعوضه المعتمد عن ذلك مالًا جعله له، ويوليه في جهة إشبيلية أضخم ولاية، فأجابه ابن رشيق إلى ذلك، وتسلم المعتمد مرسية وأعمالها، ولقي يوسف أمير المسلمين ملوك الأندلس الذين كان عليهم طريقه، كصاحب غرناطة والمعتصم بن صمادح صاحب المرية وابن عبد العزيز أبو بكر صاحب بلنسية ثم إن يوسف المذكور استعرض جنده على حصن الرقة فرأى منهم ما يسره، فقال للمعتمد على الله: «هلم لما جئنا له من الجهاد، وقصد العدو.»
وجعل يظهر التأفف من الإقامة بجزيرة الأندلس، ويتشوق إلى مراكش، ويصغر قدر الأندلس، ويقول في أكثر أوقاته: «كان أمر هذه الجزيرة عندنا عظيمًا قبل أن نراها، فلما رأيناها وقعت دون الوصف.»
وهو في ذلك كله يسر حسوًا في ارتغاء، فخرج المعتمد بين يديه قاصدًا مدينة طليطلة واجتمع للمعتمد أيضًا جيش ضخم من أقطار الأندلس، وانتدب الناس للجهاد من سائر الجهات، وأمد ملوك الجزيرة يوسف والمعتمد بما قدروا عليه من خيل ورجال وسلاح، فتكامل عدد المسلمين من المتطوعة والمرتزقة، زهاء عشرين ألفًا، والتقوا هم والعدو بأول بلاد الروم، وكان الأذفنش — لعنه الله — قد استنفر الصغير والكبير، ولم يدع في أقاصي مملكته من يقدر على النهوض إلا استنهضه، وجاء يجر الشوك والشجر، وإنما كان مقصوده الأعظم، قطع تشوف البرابرة عن جزيرة الأندلس، والتهيب عليهم.
فأما ملوك الأندلس، فلم يكن منهم أحد إلا يؤدي إليه الإتاوة، وهم كانوا أحقر في عينه وأقل من أن يحتفل لهم.
ولما تراءى الجمعان من المسلمين والنصارى رأى يوسف وأصحابه أمرًا عظيمًا هالهم من كثرة عدد وجودة سلاح وخيل، وظهور قوة، فقال للمعتمد: «ما كنت أظن هذا الخنزير — لعنه الله — يبلغ هذا الحد.»
وجمع يوسف أصحابه، وندب لهم من يعظهم ويذكرهم، فظهر منهم من صدق النية، والحرص على الجهاد واستسهال الشهادة ما سر به يوسف والمسلمون، وكان ترائيهم يوم الخميس وهو الثاني عشر من رمضان، فاختلفت الرسل بينهم في تقرير يوم الزحف ليستعد الفريقان، فكان من قول الأذفونش لعنه الله: «الجمعة لكم، والسبت لليهود وهم وزراؤنا وكتابنا، وأكثر خدم العسكر منهم، فلا غنى بنا عنهم، والأحد لنا، فإذا كان يوم الاثنين كان ما نريده من الزحف.» وقصد — لعنه الله — مخادعة المسلمين، واغتيالهم، فلم يتم له ما قصد، فلما كان يوم الجمعة تأهب المسلمون لصلاة الجمعة، ولا أمارة عندهم للقتال، وبنى يوسف بن تاشفين الأمر على أن الملوك لا تغدر، فخرج هو وأصحابه في ثياب الزينة للصلاة، فأما المعتمد فإنه أخذ بالحزم فركب هو وأصحابه شاكي السلاح، وقال لأمير المسلمين: «صل في أصحابك، فهذا يوم ما تطيب نفسي فيه، وها أنا من ورائكم، وما أظن هذا الخنزير إلا قد أضمر الفتك بالمسلمين.» فأخذ يوسف وأصحابه في الصلاة، فلما قعدوا الركعة الأولى ثارت في وجوههم الخيل من جهة النصارى، وحمل الأذفونش — لعنه الله — في أصحابه، يظن أنه قد انتهز الفرصة، وإذا المعتمد وأصحابه من وراء الناس، فأغنى ذلك اليوم غناء لم يشهد لأحد من قبله، وأخذ المرابطون سلاحهم، فاستووا على متون الخيل، واختلط الفريقان، فأظهر يوسف بن تاشفين وأصحابه من الصبر وحسن البلاء والثبات ما لم يكن يحسبه المعتمد، وهزم الله العدو، واتبعهم المسلمون يتعقبونهم في كل وجه، ونجا الأذفونش — لعنه الله — في تسعة من أصحابه، فكان هذا أحد الفتوح المشهورة بالأندلس، أعزَّ الله فيه دينه، وأعلى كلمته، وقطع طمع الأذفونش — لعنه الله — عن الجزيرة، بعد أن كان يقدر أنها في ملكه، وأن رءوسها خدم له، وذلك كله بحسن نية أمير المسلمين، وتسمى هذه الوقعة عندهم وقعة الزلاقة.
وكان لقاء المسلمين عدوهم — كما ذكرنا — في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رمضان الكائن في سنة ٤٨٠.
ورجع يوسف بن تاشفين وأصحابه عن ذلك المشهد منصورين مفتوحًا لهم وبهم، فسر بهم أهل الاندلس، وأظهروا التيمن بأمير المسلمين والتبرك به، وكثر الدعاء له في المساجد، وعلى المنابر وانتشر له من الثناء — بجزيرة الأندلس — ما زاده طمعًا فيها، وذلك أن الأندلس كانت قبله بصدد التلاف من استيلاء النصارى عليها، وأخذهم الإتاوة من ملوكها قاطبة.
فلما قهر الله العدو، وهزمه على يد أمير المسلمين، أظهر الناس إعظامه، ونشأ له الود في الصدور، ثم إنه أحب أن يجول في الأندلس على طريق التفرج والتنزه، وهو يريد غير ذلك، فجال فيها، ونال من ذلك ما أحب، وفي خلال ذلك كله، يظهر إعظام المعتمد وإجلاله، ويقول مصرحًا: «إنما نحن في ضيافة هذا الرجل، وتحت أمره، وواقفون عند ما يحده.»
وكان ممن اختص بأمير المسلمين من ملوك الجزيرة، وحظي عنده، واشتد تقريب أمير المسلمين له أبو يحيى محمد بن معن بن صمادح المعتصم صاحب المرية، وكان المعتصم هذا قديم الحسد للمعتمد كثير النفاسة عليه، لم يكن في ملوك الجزيرة من يناوئه غيره، وربما كانت بينهما في بعض الأوقات مراسلات قبيحة.
وكان المعتصم يعيبه في مجالسه وينال منه، ويمنع المعتمد من فعل مثل ذلك مروءته، ونزاهة نفسه، وطهارة سريرته، وشدة ملوكيته، وقد كان المعتصم — قبل عبور أمير المسلمين بيسير — توجه إلى شرق الأندلس يتطوف على مملكته، ويطالع أحوال عماله ورعيته.
فلما دانى أول بلاد المعتصم خرج إليه في وجوه أصحابه، وتلقاه لقاء نبيلًا، وعزم عليه ليدخلن بلاده، فأبى المعتمد ذلك، ثم اتفقا بعد طول مراودة، على أن يجتمعا في أول حدود بلاد المعتصم وآخر حدود بلاد المعتمد فكان ذلك واصطلحا — في الظاهر — واحتفل المعتصم في إكرامه، وأظهر من الآلات السلطانية، والذخائر الملوكية المعدة لمجالس الأنس، ما ظنه مكمدًا للمعتمد، مثيرًا لغمه، وقد أعاذ الله المعتمد من ذلك، وصان خلقه الكريم عنه، وعصمه بفضله منه، ثم افترقا بعد أن أقام المعتمد عنده في ضيافته ثلاثة أسابيع، ورجع المعتمد إلى بلاده وبأثر ذلك عبر إلى مراكش، ولم يزل ما بينه وبين المعتصم معمورًا، إلى أن عبر أمير المسلمين كما ذكرنا، فلقيه المعتصم بهدايا فاخرة، وتحف جليلة، وتلطف في خدمته، حتى قربه أمير المسلمين أشد تقريب، وكان يقول لأصحابه: هذان رجلا الجزيرة، يعني المعتمد والمعتصم.
وكان أكبر أسباب تقريب أمير المسلمين إياه ثناء المعتمد عليه عند أمير المسلمين، ووصفه إياه عنده بكل فضل.
ولم يكن المعتصم بعيدًا من أكثر ما وصفه به، ولما اشتد تمكن المعتصم من أمير المسلمين، بدا له أن يسعى في تغيير قلبه على المعتمد وإفساد ما بينهما، حسن له ذلك سوء رأيه، ودنس سريرته، وضعف بصره بعواقب الأمور، وليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وليبلغ القدر ميقاته، وإذا أراد الله أمرا هيَّأ له أسبابًا، فشرع المعتصم فيما أراده من ذلك، ولم يدر أنه ساقط في البئر التي حفر، وقتيل بالسلاح الذي شهر، فكان من جملة ما ألقى إلى أمير المسلمين، أن جعل يقرر عنده عجب المعتمد بنفسه، وفرط كبره، وأنه لا يرى أحدًا كفؤًا له، وزعم أنه قال له في بعض الأيام، وقد قال له المعتصم: «طالت إقامة هذا الرجل بالجزيرة — يعني أمير المسلمين — ولو عوجت له أصبعي، ما أقام بها ليلة واحدة هو ولا أصحابه، وكأنك تخاف غائلته، وأي شيء هذا المسكين وأصحابه، إنما هم قوم كانوا في بلادهم في جهد من العيش، وغلاء من السعر، جئنا بهم إلى هذه البلاد نطعمهم حسبة وائتجارًا، فإذا شبعوا أخرجناهم عنها إلى بلادهم.» إلى أمثال هذا القول من تحقير أمرهم، وأعانه على ذلك قوم من وجوه الأندلس، إلى أن بلغوا ما أرادوه من تغير قلب يوسف أمير المسلمين على المعتمد.
وقد كان أمير المسلمين ضرب لنفسه ولأصحابه أجلًا، وحدَّ له ولهم مدة يقيمونها في الجزيرة لا يزيدون عليها، وإنما فعل ذلك تطييبًا لقلب المعتمد وتسكينًا لخاطره، فلما انقضت تلك المدة أو قاربت، عبر أمير المسلمين إلى العدوة، وقد وغر صدره وتغيرت نفسه:
فاتفق رأيه ورأي أصحابه، على أن يراسلوا المعتمد يستأذنونه في رجال من صلحاء أصحابهم رغبوا في الرباط بالأندلس، ومجاهدة العدو، والكون ببعض الحصون المصاقبة للروم إلى أن يموتوا، ففعلوا، وكتبوا إلى المعتمد بذلك، فأذن لهم، بعد أن وافقه على ذلك ابن الأفطس المتوكل صاحب الثغور، وإنما أراد يوسف وأصحابه بذلك أن يكون قوم من شيعتهم مبثوثين بالجزيرة في بلادها، فإذا كان أمر من قيام بدعوتهم، أو إظهار لمملكتهم، وجدوا — في كل بلد لهم — أعوانًا.
وقد كانت قلوب أهل الأندلس — كما ذكرنا — قد أشربت حب يوسف وأصحابه، فجهز يوسف من خيار أصحابه رجالًا انتخبهم، وأمر عليهم رجلًا من قرابته يسمى بلجين وأسَرَّ إليه ما أراده، فجاز بلجين المذكور، وقصد المعتمد من ملوك الجزيرة، فقال له: «أين تأمرني بالكون؟»
فوجه معه المعتمد من أصحابه من ينزله ببعض الحصون التي اختارها لهم، فنزل حيث أنزلوه هو وأصحابه، وأقاموا هناك إلى أن ثارت الفتنة على المعتمد وكان مبدؤها في شوال من سنة ٤٨٣ بأخذ جزيرة طريف المقابلة لطنجة من العدوة، دون مقدمة ظاهرة توجب ذلك، فتشعبت جموعه، وأهواؤها ملتئمة، وانتثرت بلاده، وقلوب أهلها على محبته منتظمة، ولما أخذ المرابطون جزيرة طريف ونادوا فيها بدعوة أمير المسلمين، انتشر ذلك في الأندلس، وزحف القوم الذين قدمنا ذكرهم الكائنون في الحصون إلى قرطبة فحاصروها، وفيها عباد بن المعتمد الملقب بالمأمون، وقد تقدم ذكره، وهو من أكبر ولده، فدخلوا البيت، وقتل عباد هذا بعد أن أبلى عذرًا، وأظهر في الدفاع عن نفسه جلدًا وصبرًا، وذلك في مستهل صفر الكائن في سنة ٤٨٤، فزادت الإحنة والمحنة، واستمرت — في غلوائها — الفتنة، وأجمعت على الثورة بحضرة إشبيلية طائفة، فأعلم المعتمد بما اعتقدته الطائفة المذكورة وكشف له عن مرادها، وأثبت عنده سوء اعتقادها، وأغري بتمزيق أديمها، وسفك دمها، وحض على هتك حريمها، وكشف حرمها، فأبى له ذلك مجده الأثيل، ورأيه الأصيل، ومذهبه الجميل، وما حباه الله من حسن اليقين، وصحة العقل والدين، إلى أن أمكنتهم الغرة يوم الثلاثاء منتصف رجب من السنة المذكورة، فقاموا بجيش غير مستنصر، واستنسروا بغاثًا غير مستنسر، فبرز هو من قصره سيفه بيديه، وغلالته ترف على جسده لا درقة له ولا درع عليه، فلقي على باب من أبواب المدينة يسمى «باب الفرج» فارسًا من الداخلين، مشهور النجدة، شاكي السلاح، فرماه الفارس برمح قصير أنابيب القناة، طويل شفرة السنان، فالتوى الرمح بغلالته، وخرج من تحت إبطه، وعصمه الله منه ودفعه — بفضله — عنه، وصب هو سيفه على عاتق الفارس، فشقه إلى أضلاعه، فخر صريعًا، وانهزمت تلك الجموع، ونزل المتسنمون للأسوار عنها، وظن أهل إشبيلية أن الخناق قد تنفس.
فلما كان عصر ذلك اليوم عاودهم القوم، فظهر على البلد من واديه، ويئس من سكنى ناديه، وبلغ فيه الأمل حاسده وشانيه، وشبت النار في شوانيه، فانقطع عندها العمل والقول، وذهبت القوة من أيدي أهلها والحول، وكان الذي ظهر عليها من جهة البر رجل يعرف بالقائد أبي حمامة مولى «بني سجوت» والتوت الحال أيامًا يسيرة، إلى أن ورد الأمير سير بن أبي بكر بن تاشفين وهو ابن أخي أمير المسلمين بعساكر متظاهرة، وحشود من الرعية وافرة، والناس في خلال هذه الأيام قد خامرهم الجزع، وخالط قلوبهم الهلع، يقطعون السبل سياحة، ويعبرون النهر سباحة، ويتولون مجرى الأقدار، ويترامون من شرفات الأسوار، حرصًا على الحياة، والموفون بالعهد، المقيمون على صريح الود ثابتون، إلى أن كان يوم الأحد لإحدى وعشرين ليلة خلت من رجب من السنة المذكورة، وهذا يوم الكائنة العظمى، والطامة الكبرى، فيه حم الأمر الواقع، واتسع الخرق على الراقع، ودخل البلد من واديه، وأصيب حاضره وباديه، بعد أن جد الفريقان في القتال، واجتهدت الفئتان في النزال، وظهر من دفاع المعتمد — رحمة الله — وبأسه، وتراميه على الموت بنفسه، ما لا مزيد عليه، ولا تناهٍ لخلق إليه، وفي ذلك يقول المعتمد بعدما نزل بالعدوة أسيرًا حسيرًا:
فأما المعتمد بالله فإن القائد الواصل إليه، قبض عند نزوله على كل ما كان يملكه.
وأما الراضي بالله فعند خروجه من قصره قُتل غيلة، وأخفي جسده، ورحل بالمعتمد وآله، بعد استئصال جميع أمواله، ولم يصحب من ذلك بلغة زاد، فركب السفين، وحل بالعدوة محل الدفين، فكان نزوله من العدوة بطنجة فأقام بها أيامًا، ولقيه بها الحصري الشاعر، فجرى معه على سوء عادته من قبح الكدية وإفراط الإلحاف، فرفع إليه أشعارًا قديمة قد كان مدحه بها، وأضاف إلى ذلك قصيدة استجدها عند وصوله إليه، ولم يكن عند المعتمد في ذلك اليوم مما زود به — فيما بلغني — أكثر من ستة وثلاثين مثقالًا، فطبع عليها وكتب معها بقطعة شعر يعتذر من قلتها، سقطت من حفظي، ووجه بها إليه، فلم يجاوبه عن القطعة على سهولة الشعر على خاطره، وخفته عليه، كان هذا الرجل — أعني الحصري — الأعمى أسرع الناس في الشعر خاطرًا، إلا أنه كان قليل الجيد منه فحركه المعتمد على الله على الجواب بقطعة أولها:
وجاء في كتاب «نفح الطيب» ما يأتي:
ثم إنه بقي مأسورًا ﺑ «أغمات» إلى سنة ٤٨٦ فأخذ بمالقة رجل كبير يعرف بابن خلف فسجن مع أصحاب له فنقبوا السجن وذهبوا إلى حصن «منت ميور» ليلًا فأخرجوا قائدها ولم يضروه.
وبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رجل فسألوه، فإذا هو عبد الجبار بن المعتمد فولوه على أنفسهم وظن الناس أنه الراضي، فبقي في الحصن ثم أقبل مركب من المغرب ويعرف بمركب ابن الزرقاء فانكسر بمرسى الشجرة قريبًا من الحصن فأخذوا بنوده وطبوله وما فيه من طعام وعدة، فاتسعت بذلك حالتهم ووصلت أم عبد الجبار إليه ثم خاطبها أهل الجزيرة وأهل أركش فدخلها سنة ٤٨٨، ولما بلغ خبر عبد الجبار إلى ابن تاشفين أمر بثقاف المعتمد في الحديد وفي ذلك يقول:
انتهى ما قصدنا جلبه من كلام الفتح ممَّا يدخل في أخبار المعتمد بن عباد المناسبة لما مر، وكلام الفتح كله الغاية وليس الخبر كالعيان، ولذا قال بعض من عرف به أنه أراد أن يفضح الشعراء الذين ذكرهم في كتبه بنثره — سامحه الله — وأخبار المعتمد (رحمه الله) تحتمل مجلدات، وآثاره إلى الآن بالغرب مخلدات.
وكان من النادر الغريب قولهم في الدعاء للصلاة على جنازته «الصلاة على الغريب» بعد اتساع ملكه، وانتظام سلكه، وحكمه على إشبيلية وأنحائها، وقرطبة وزهرائها، وهكذا شأن الدنيا في إغرائها، وقد توجه لسان الدين الوزير بن الخطيب إلى «أغمات» لزيارة قبر المعتمد (رحمه الله) ورأى ذلك من المهمات، وأنشده على قبره أبياته الشهيرة التي ذكرتها في جملة نظمه الذي هو أرق من النسيم، وأبهج من المحيا الوسيم.
قلت وقد زرت أنا قبر المعتمد والرميكية أم أولاده — رحمهما الله — حين كنت بمراكش المحروسة بالله عام عشرة وألف، وعمي عليَّ أمر القبر المذكور وسألت عنه من تظن معرفته له، حتى هداني إليه شيخ طعن في السن، وقال لي: هذا قبر ملك من ملوك الأندلس، وقبر حظيته التي كان قلبه بحبها خفاقًا غير مطمئن، فرأيته في ربوة حسبما وصفه ابن الخطيب (رحمه الله) بالأبيات، وحصلت لي في ذلك المحل خشية وادِّكار، وذهبت بي الأفكار في ضروب الآيات، فسبحان من يؤتي ملكه من يشاء لا إله غيره وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وما أحسن قول الوزير ابن عبدون في مطلع رائيته المشهورة:
وكان للقاضي جده أدب غض، ومذهب مبيض، ونظم يرتجله كل حين، ويبعثه أعطر من الرياحين، فمن ذلك يصف النيلوفر:
(٦) رد الخليفة هارون الرشيد مثل هذا الرد تقريبًا على كتاب للإمبراطور «نقفور».
ملوك الطوائف وعواصمهم
(١) يؤخذ من رواية صحيحة لابن حيان أنني كنت على حق إذ قلت إنه لم يكن لسرقسطة سوى ملك واحد من هذه الأسرة، وهو المنذر، وأن الملك هو الذي قتل سنة ١٠٣٩ وليس ابنه. «دوزي»
الجزء الثاني: نظرات في تاريخ الإسلام
ديانة العرب في الجاهلية
(٣) يعني الأوربيين.
(٤) ارجع إلى كتاب «دوزي»: «الإسرائيليون في مكة».
افتن رواة العرب وشعراؤهم في رواية الأساطير الرائعة عن الجن، ولعل أجمل ما قرأناه في ذلك هو تلك القصة البديعة التي تخيلها أبو العلاء في رسالة الغفران بين ابن القارح وشيخ من أدباء شيوخ الجن وقد أثبتناها في كتاب أساطير ألف يوم وفي هذه القصة يرى القارئُ حوارًا ممتعًا لا نغالي إذا قلنا إنه منقطع النظير في العربية كلها، ومن أجمل ما نختاره من تلك القصة قول الجني — وهو يقص على ابن القارح بعض ما حدث له في الدار الأولى:
ومما ذكره ذلك الجني لابن القارح قوله: «ولسنا مثلكم يا بني آدم يغلب علينا النسيان والرطوبة لأنكم من حمأ مسنون وخلقنا من مارج من نار.»
وقوله: «وهل يعرف البشر من النظيم إلا كما تعرف البقر من علم الهيئة ومساحة الأرض، وإنما لهم خمسة عشر جنسًا من الموزون قلَّ ما يعدوها القائلون، وإن لنا لآلاف أوزان ما سمع بها الإنس.»
وقوله: «ولا بد لأحدنا أن يكون عارفًا بجميع الألسن الإنسية ولنا بعد ذلك لسان لا يعرفه الأنيس.»
وقد قص الجني على ابن القارح — في قصيدة أخرى — شيئًا كثيرًا مما ينسبه الناس إلى الجن، فمن ذلك قوله:
وقد أشرنا — في رسالة الغفران — إلى ذلك إشارة موجزة لا بأس من إثباتها هنا لفائدة القراء:
أساطير الجن وسليمان النبي
شاعت أخبار سليمان والجن، وانتشرت — منذ أقدم أزمنة التاريخ — فنسب إليه من الخوارق القدرة المطلقة على تسخير الجن ومعرفة لغاتهم المختلفة، ونسب إلى خاتمه — المشهور بما عليه من النقش — معجزات لا تحصى، كما عزي إلى بساطه قدرة خارقة على الطيران بما يحمله في الجو بسرعة لا يكاد يتصورها العقل.وقد كادت تجمع تلك الأخبار على عدة أمور أنضجها الخيال ونسقها التواتر، فمن ذلك أن سليمان النبي كان يهيمن على الجان ويتطلب منهم خدمات شتى تتفاوت صعوبة ويسرًا، وقد يعن له أمر هام لا يستطيع إنفاذه إلا جني بعينه يكون مشهورًا بقدرته الخارقة، فيرسل إليه، فإذا لبى دعوته فذاك، وإلا نكل به أو ختم جبهته بالنقش — الذي على خاتمه — فأحرقه توًّا، أو سجنه في قارورة مرصصة أو قمقم من النحاس، وربما سجنه في عمود طويل من الصخر بعد أن أوثقه بالسلاسل والأغلال وختمه بخاتمه.
ولقد اشتهر وزيره الحكيم آصف بن برخيا بمساعداته القيمة لسليمان على إذلال الجن وإخضاعهم لأوامره.
وقد ذاع من تلك الأساطير — بين العامة والخاصة — شيء كثير، وافتن الناس في رواياتها بأساليب شتى وطرق متباينة، ولهذه الأساطير مصادر عدة — نخص بالذكر منها — عدا روايات وأقاصيص رواة العرب — مصدرين رئيسيين نعدهما من أخصب المصادر وأغناها وهما «أساطير ألف ليلة وألف يوم» وأسطورة «سيف بن ذي يزن».
(١٤) سميت كذلك لأنها تُرى من بعيد على شكل مكعب منتظم الأضلاع. «دوزي»
(١٥) ملاءة.
(١٦) قال ابن الكلبي: «كان لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها، وكان أعظمها هبل». (المترجم)
(١٧) روى ابن الكلبي: «إنه كان من عقيق أحمر، على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدًا من الذهب.» (المترجم)
(١٨) قالوا: وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة وكان يقال له هبل خزيمة. (المترجم)
(١٩)
روى ابن الكلبي في كتابه الأصنام: «أنه لما سكن إسماعيل بن إبراهيم (عليه
السلام) مكة، ولد له بها أولاد كثيرون حتى ملئوا مكة، ونفوا من كان بها من
العماليق، وضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم
بعضًا، فتفسحوا في الأرض التماس المعاش.»
قال: «وكان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرًا من حجارة الحرم،
تعظيمًا للكعبة وصيانة وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم
بالكعبة، تيمنًا منهم بها، وصبابة بالحرم وحبًّا له، وهم بعد يعظمون الكعبة
ومكة ويحجون ويعتمرون على إرث أبيهم إسماعيل من تعظيم الكعبة والحج
والاعتمار.» (المترجم)
(٢٠) قالوا: «إن أول من أدخل عبادة الأصنام هو عمرو بن لحي، وإنه أول من غيَّر دين إسماعيل ونصب الأوثان، وقد جاء في كتاب الأصنام أن السبب في ذلك أنه مرض مرضًا شديدًا، فقيل له: إن البلقاء من الشام «حمة» إن أتيتها برأت، فأتاها فاستحم بها فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: «ما هذه؟» فقالوا: «نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو.» فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة.» (المترجم)
(٢١) هو أبو رجاء العطاردي تجد ترجمته في كتاب ابن قتيبة ص١١٩ وفي مسند الدارمي ص٣٦٤. «دوزي»
(٢٤) كان «ذو الخلصة» — فيما يقول ابن الكلبي — مروة بيضاء، منقوشًا عليها كهيئة التاج، وكانت «بتبالة» بين مكة واليمن، على مسيرة سبع ليال من مكة، وكان سدنتها بنو أمامة من باهلة بن أعصر وكانت تعظمها وتهدي لها «خثعم» و«بجيلة» و«أزد الشراه» ومن قاربهم من بطون العرب من هوازن ومن كان ببلادهم من العرب «بتبالة»، قال: وكانت العرب جميعًا تعظمه. (المترجم)
قالوا: فكان امرؤ القيس أول من أخفره، ثم غزا بني أسد فظفر بهم!
وفي رواية أخرى أن رجلًا كان أبوه قد قتل، فأراد الطلب بثأره، فأتى ذا الخلصة، فاستقسم عنده بالأزلام، فخرج السهم ينهاه عن ذلك، فقال:
(٢٦) قال ابن الكلبي: «وكان لمالك وملكان ابني كنانة، بساحل جدة، وتلك الناحية، صنم يقال له سعدوكان صخرة طويلة، فأقبل رجل منهم بإبل له ليقفها عليه يتبرك بذلك فيها، فلما أدناها منه نفرت منه — وكان يهراق عليه الدماء — فذهبت في كل وجه وتفرقت عليه، وأسف فتناول حجرًا، فرماه به، وقال: «لا بارك الله فيك إلهًا أنفرت عليَّ إبلي.» ثم خرج في طلبها وانصرف وهو يقول (الأبيات).
(٢٧) هو الاسم الذي كانوا يطلقونه على ذبائح الغنم التي يذبحونها عند أصنامهم.
(٢٨) يعرف تشريد اليهود ونفيهم عند المؤرخين باسم جلاء بابل! فقد تولى «بختنصر» في عام (٦٠٦ق.م.) وأجلى اليهود عن بيت المقدس، وضربه وأخذ آنيته الثمينة، وقد مكث مخربًا نحو مئة عام، وشرد اليهود كل مشرد، وذهب فريق منهم أسرى إلى بابل وبلاد «مادي». وفي عام (٢١ب.م.) جاء «طيطوس» فنكب اليهود مرة أخرى وهدم بيت المقدس وشتت شملهم، وحرم عليهم الإقامة في فلسطين وقد كتب «يوسيفوس» المؤرخ كتابه عن اليهود، وما حدث لهم في تلك الموقعة. (المترجم)
فرقة من اليهود ظهرت في وقت العهد الجديد، وهي تنسب — في رأي بعض المؤرخين — إلى «صدقيا» وهو من أسرة أرستقراطية، من أحبار بيت المقدس في زمن سليمان (عليه السلام)، وفي رأي آخرين أنهم منسوبون إلى الكلمة العبرية التي معناها «الحق» وهي قريبة الحروف من الكلمة العربية، وأهم مميزات الصدوقيين هي: أنهم كانوا حزب الأرستقراطية، وأنهم كانوا لا يعترفون بغير التوراة المكتوبة، ويرفضون كل ما عداها مما زيد عليها من الأحاديث الشفوية المروية عن موسى (عليه السلام) كما كانوا يرفضون كل ما أضيف إليها من التفاسير والشروح، التي أدخلها فيها النساخ.
ولهذا رفض الصدوقيون الإيمان بأهم الأسس التي بنيت عليها الديانة اليهودية، فلم يؤمنوا بالبعث، ولم يقبلوا فكرة الخلود، ولا فكرة الجزاء في الدار الآخرة، وكانوا — إلى ذلك — ينكرون الملائكة ويجحدون الأرواح، ويقررون — تقرير الجازم المستيقن — أن الإنسان مخير — بأوسع ما تحويه هذه الكلمة من معانٍ — وأنه متمتع بحرية الإرادة في كل ما يفعله من خير أو شر، وأن سعادته وشقاوته — على هذا — ثمرة غرسه ونتاج عمله.
ويرى بعض المؤرخين أن الصدوقيين، لم ينكروا وجود الملائكة والشياطين، كما يتبادر إلى الذهن من أقوالهم، وأن هذا الوهم سببه عدم تحري الدقة في فهم عبارتهم التي التبس على الكثيرين فهمها، وإنَّما أنكر الصدوقيون أن يكون للملائكة والشياطين دخل في أعمال الإنسان، فعبارة إنكارهم الملائكة والشياطين يجب أن يفهمها المؤرخ بعد أن يتعرف المناسبة التي قيلت فيها والقرينة التي اقترنت بها.
ولقد كان ينقص الصدوقيين حرارة الإيمان وقوة العقيدة اللتان امتاز بهما الفريسيون الذين كانوا يعقدون آمالهم على الدار الآخرة، وما يتوقعونه فيها من الجزاء، فلم يحفلوا بالاعتبارات الدنيوية، على أن الإنصاف يقضي علينا أن نقرر أن ذلك لم يكن إلا في ظاهر معتقداتهم، وأنهم قد تاجروا بهذه المبادئ، واتخذوها وسيلة إلى المداهنة والرياء، حتى أصبح خصومهم يطلقون من اسمهم هذا — على سبيل المجاز — صفة لكل من ينافق أو يُعنى بظاهر اللفظ ويستغني بالقشور عن اللباب، ويفضل المصطلحات والمظاهر، على جوهر الحقيقة الخالصة المقصودة لذاتها.
وكان سقوط الدولة اليهودية مصحوبًا بالقضاء على الصدوقيين وقد ورد ذكرهم في «التلمود» ولكن عبارة «التلمود» غامضة لا يسهل اجتلاؤها لمن يريد تعرف الحقيقة.
وقد قسم ابن «حزم» — في كتاب الملل والنحل — اليهود إلى خمس فرق، وهي:
- (١)
السامرية: وهم يقولون إن مدينة القدس هي نابلس — وهي من بيت المقدس على ثمانية عشر ميلًا — ولا يعرفون حرمة لبيت المقدس ولا يعظمونه، ولهم توراة غير التي بأيدي سائر اليهود، ويبطلون كل نبوة كانت في بني إسرائيل بعد موسى (عليه السلام) وبعد يوشع (عليه السلام)، فيكذبون بنبوة «شمعون وداود وسليمان وأشعيا واليشع وإلياس وعاموص وحبقوق وزكريا وأرميا» وغيرهم، ولا يقرون بالبعث البتة، وهم بالشام لا يستحلون الخروج عنها.
- (٢)
الصدوقية: وينسبون إلى رجل يقال له «صدوق» وهم يقولون من بين سائر اليهود إن العزير هو ابن الله — تعالى الله عن ذلك — وكانوا بجهة اليمن.
- (٣)
والعنانية: وهم أصحاب عانان الداودي اليهودي، وتسميهم اليهود العراس والمس، وقولهم إنهم لا يتعدون شرائع التوراة وما جاء في كتب الأنبياء، ويتبرءون من قول الأحبار ويكذبونهم، وهذه الفرق بالعراق ومصر والشام، وهم من الأندلس بطليطلة وطليبرة.
- (٤)
والربانية: وهم الأشعنية، وهم القائلون بأقوال الأحبار ومذاهبهم وهم جمهور اليهود.
- (٥)
والعيسوية: وهم أصحاب أبي عيسى الأصبهاني — رجل من اليهود كان بأصبهان — وبلغني أن اسمه كان محمد بن عيسى وهم يقولون بنبوة عيسى ابن مريم ومحمد ﷺ.
ويقولون إن عيسى بعثه الله (عز وجل) إلى بني إسرائيل — على ما جاء في الإنجيل — وأنه أحد أنبياء بني إسرائيل، ويقولون إن محمدًا ﷺ نبي أرسله الله (تعالى) بشرائع القرآن إلى بني إسماعيل عليهم السلام، وإلى سائر العرب كما كان «أيوب» نبيًّا في بني عيص، وكما كان «بلعام» نبيًّا في بني «مواب» بإقرار من جميع فرق اليهود. (المترجم)
الحنيفية
اختلف الناس في تفسير هذه الكلمة واضطرب الشراح في معانيها اضطرابًا شديدًا، بلغت مسافة الخلف فيه من النقيض إلى النقيض، ولهم العذر في ذلك فقد تطورت معاني هذه الكلمة — بمرور الزمن — فكان هذا التطور سبب الحيرة والشك اللذين وقع فيهما أكثر المفسرين، وقد ذكر صاحب «لسان العرب» وغيره معاني مختلفة لهذه الكلمة لا تربطها صلة، وليس هنا مجال التوسع في سرد ما قالوه، وكتبوه في ذلك، فلنجتزئ بشرح معناها الذي نفهمه بإيجاز، وهو فهم يلائم بين تلك الآراء كلها: «كلمة الحنيف أصل معناها المائل عن الطريق المعبَّد السوي الذي ألفه سواد الناس إلى طريق آخر، وهذا هو ما فعله إبراهيم عليه السلام، فقد خالف ما كان عليه قومه من الشرك والوثنية، ومال عن سنتهم إلى طريق التوحيد، فأطلق عليه قومه اسم «الحنيف» ثم خلفه من بعده من أبنائه فاتبعوه في حنيفيته ولكن مذهب إبراهيم وشريعته دخلها كثير من الضلالات والأوهام والبدع، ومن ثَمَّ تباين أتباعه في نحلهم وعقائدهم، فوجد منهم المؤمن الحق والمشرك والوثني، ولكن كلًّا منهم احتفظ لنفسه باسم الحنيفية، وأطلقوا على أنفسهم لفظة الحنفاء، فلما جاء الإسلام وجد لفظة الحنيفية في حاجة إلى تحديد، فلم يكتفِ بوصف إبراهيم (عليه السلام) بالحنيفية، بل احترس، فقال عنه إنه كان حنيفًا مسلمًا.»ولعل خير ما تختم به هذه الكلمة هو قول الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير الآية: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وإليك ما قال: «قال بعض المشتغلين بالعربية من الإفرنج: إن الحنيفية هي ما كان عليه العرب من الشرك، واحتجوا على ذلك بقول بعض النصارى: في زمن الجاهلية: «إن فعلت هذا أكون حنيفًا.» وإنها لفلسفة جاءت من الجهل باللغة، وقد ناظرت بعض علماء الإفرنج في هذا، فلم يجد ما يحتج به إلا عبارة ذلك النصراني، وهو الآن يجمع كل ما نقل عن العرب من هذه المادة لينظر كيف كانوا يستعملونها، ولا دليل في كلمة النصراني العربي على أن الكلمة تدل — لغة — على الشرك، وإنما مراده بكلمته، البراءة من دين العرب مطلقًا، وذلك أن بعض العرب كانوا يسمون أنفسهم الحنفاء أيضًا، والسبب في هذه التسمية هو الدعوى أن سلفهم كانوا على ملة إبراهيم حقيقة، ثم طرأت عليهم الوثنية فأخذتهم عن عقيدتهم وأنستهم أحكام ملتهم وأعمالها، فنسوا بعضها بالمرة، وخرجوا ببعض آخر عن أصله، ووصفه كالحج.
ونفي الشرك عن إبراهيم — في آخر الآية — احتراس من وهم الواهمين وتكذيب لدعوى المدعين.» ا.ﻫ. (المترجم)
بعد وفاة النبي
(١) لهذه المحادثة التي أقنع بها مسيلمة سجاحًا بنبوته قصة طريفة يعرفها أكثر القراء ولا حاجة لذكرها في هذا المقام. (المترجم)
(٢)
قال له عمر: أليس قد قال رسول الله ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا
بحقها، وحسابهم على الله!»
فقال له أبو بكر: ألم يقل «إلا بحقها»؟ وهذه الزكاة من حقها، واللهِ لا
أفرق بين الصلاة والزكاة، وقد جمع الله بينهما، والله لو منعوني عقال بعير
— كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ — لقاتلتهم عليه.» (المترجم)
(٥) ارجع إلى «مصرع الوليد» في كتابنا «مصارع الخلفاء». (المترجم)
قواعد الإسلام
قال: «صدقت.»
قال: «فعجبنا منه يسأله ويصدقه.»
قال: «فأخبرني عن الإيمان.»
قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.»
قال: «صدقت.»
قال: «فأخبرني عن الإحسان.»
قال: «أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.»
قال: «فأخبرني عن الساعة.»
قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل.»
قال: «فأخبرني عن أماراتها.»
قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا النبي ﷺ: إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ.»
ثم أدبر، فقال «ردوه». فلم يروا شيئًا، فقال: «هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم.» أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
•••
وفي بعض روايات الحديث: «بينما نحن ذات يوم عند رسول الله ﷺ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي ﷺ، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله، وتؤمن بالبعث، قال: ما الاسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله، ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تره فإنه يراك، قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله، إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ … ثم انصرف الرجل، فقال: ردوه عليَّ، فلم يروا شيئًا، فقال: هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم.»والمعنى أن جبريل (عليه السلام) جاء وتخطَّى الناس حتى انتهى إلى النبي (عليه السلام)، وجلس كهيئة المتعلم بين يدي من يتعلم منه تأدبًا، أو فعل ذلك من باب المبالغة في تعمية أمره على الحاضرين حتى يظنوا أنه من جفاة الأعراب، ولذلك استغربوا منه أنه تخطَّى الناس، وأنه جاء ماشيًا وليس عليه أثر السفر مع أنه ليس من أهل البلد، وقد نظر بعضهم إلى بعض حين رأوه فقالوا: «ما نعرف هذا» والمقصود من هذه القصة أن يسأل جبريل ويجيبه النبي (عليه الصلاة والسلام) ليتعلم الصحابة أمورًا هي جملة الدين وجماعه، وذلك لأنه بدأ أولًا بسؤاله عن الإيمان، ومعلوم أن الإيمان هو التصديق بوجود الله (تعالى)، وأنه لا يجوز عليه العدم، وأنه موصوف بكل صفة من صفات الكمال من العلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر والحياة، منزه عن أضداد هذه الصفات، وعن الجسمانية والتحيز، وعن كل صفات النقص، وبأنه سبحانه واحد فرد حق صمد، وأنه خالق جميع المخلوقات يتصرف فيها بما شاء من التصرفات، يفعل في ملكه ما يريد ويحكم في خلقه ما يشاء، ثم التصديق بجميع الملائكة تفصيلًا بمن عرف تعيين أسمائهم، وإجمالًا بمن لم يعرف اسمه، وكذلك التصديق بجميع الرسل تفصيلًا بمن علمنا اسمه، وإجمالًا بمن لم نعلمه، واعتقاد أنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله (تعالى)، وأنه أيَّدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، وأنهم بلغوا عن الله ما أمروا بتبليغه للخلق، وأنهم بينوا للمكلفين ما أمرهم ببيانه، نؤمن بهم جميعًا ولا نفرق بين أحد منهم، ونصدق بلقاء الله (تعالى) ورؤيته في الآخرة، وبالبعث، وبالقدر خيره وشره، هذا هو الإيمان فالإيمان هو الاعتقاد بالباطن، والتصديق الجازم بأصول الشريعة الإسلامية، وقواعد الشرع الشريف، فهو يتعلق بأعمال القلب، أما الإسلام فهو الانقياد وامتثال الأعمال الظاهرة المتعلقة بالجوارح كالصلاة بما فيها من خشوع القلب والجوارح وكالزكاة والصيام والحج، والحديث قد فرَّق بين حقيقة الإيمان والإسلام كما فرقت بينهما الآية في قوله (تعالى): قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا على أن الاسلام الذي هو اسم للأعمال الظاهرة، والإيمان الذي هو اسم للاعتقادات الباطنة كل منهما بما يتناوله ويشتمل عليه يصح أن يطلق عليه اسم الآخر، وهما معًا بكل ما يصدقان عليه من أعمال واعتقادات كالأجزاء التفصيلية التي تتركب منها جملة الدين وبها يكون جماعه وقوامه، ولهذا جاء في الحديث: «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم.»
(والإحسان) من أحسنت العبادة إذا حسنتها وكملتها، وذلك أن العبد إذا قوي إيمانه تمثل دائمًا عظمة المولى، وأيقن أنه مطلع عليه في كل أحواله شهيد على عمله في كل وقت، فاذا هَمَّ بفعل معصية من المعاصي على اختلاف أنواعها، علم أن الله يراه على أي حالة ارتكب فيها المعصية وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فيكف عن المعصية ويرجع عنها لقيام الدليل اليقيني الذي يجعله يحس في قرارة نفسه أن الله (تعالى) موجود حق وأنه ناظر إليه في كل عمله وفي كل ما يصدر منه من حركة أو سكون، فيحول علمه بذلك بينه وبين جميع المنكرات، وكذلك لا يستطيع أن يترك العبادات الواجبة عليه تهاونًا بها فإن المضيعين للفرائض إنما ضيعوها لجهلهم بمقام الألوهية وعدم معرفتهم بقدر الآمر وقدر الأمور، وجحدهم وعدم إقرارهم بالربوبية، ولذلك يقول الحديث: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تره فإنه يراك.» أي تعبده عبادة من يرى الله (تعالى) ويراه الله (تعالى)، ومن هذه حاله وتلك صفته ما دام في عبادته لا يترك شيئًا من الخضوع والإخلاص وحفظ القلب والجوارح ومراعاة الآداب إلا فعله، وفي الحديث أيضًا الإيمان بالغيب، وباليوم الآخر، والسؤال عن الساعة، وبيان شيء من أشراطها وعلاماتها، فأصبح هذا الحديث — بما اشتمل عليه — كالجامع لعلوم الشريعة كلها. (المترجم)
(٢) لا يفوتنا أن نذكر القارئ بأن القرآن هو كلام الله وأنه جعل الجواب على لسان نبيه محمد ﷺ. «دوزي»
(٣) ارجع إلى كتاب «دوزي» «تاريخ المسلمين في إسبانيا» (ج٢ ص١٠٩).
(٤) من المعروف عن «بورنوف» الذي يسلم كثير من الفارسيين إلى اليوم بصحة قوله: «إن بوذا مات سنة ٥٤٤ قبل الميلاد». «دوزي»
(٥) هذا ما قاله المسعودي في مذكراته عن الهند ص٩٠. «دوزي»
(٦) ارجع إلى رسالة الغفران (ج٢). (المترجم)
(٧) لا تنس أنه لا يزال إلى اليوم في التيبت يعدونه إلهًا في شكل إنسان. «دوزي»
(٨) هذا المثال عظيم الخطر لأنه أقدم مثال نستدل به على أصل هذه الفكرة، وما أجدره بأن يضاف إلى المجموعة الفنية التي جمعها «سنين شنيدر»، ولو اطلع «هوج» على كتاب «شنيدر» لأمن الوقوع فيما وقع فيه من الخطأ حين تصدَّى لتفسير هذا الرمز العددي، فقد نسب هذا الرقم — حين عرض للكلام عنه — إلى مضاعفات العدد (٦) وعلل ذلك بأن رقم ستة يدل على عدد الأيام التي تم فيها خلق العالم.