الفصل السابع
في الوقت الذي كان فيه المعتضد ثملًا بنشوة انتصاراته، عاكفًا على شهواته ولذاته، كان باديس حليف هموم وأحزان، حتى لقد بلغ به الحزن أن شق ثيابه — حين اتصلت به أنباء النكبة التي حلَّت بالبربر — أخذ يصيح صيحات الغضب، ويزمجر زمجرة الرعد، وقد استولى عليه الهياج والقلق والاضطراب، وتملَّكه شعور أسود جعل الدنيا تظلم في عينيه، وقد وقر في نفسه أن عامة العرب برندة تحركوا للثورة بدافع الجنسية والوطن، وقاموا قومة رجل واحد للقضاء على منافسيهم من البربر.
•••
ومن الذي يستطيع أن يدخل في روعه أن أتباعه من العرب لم يدخلوا في حلف مع بني عباد، وأنهم لم يأتمروا به وبعرشه؟ لقد شغلت هذه الفكرة باله، وكانت لا تفارقه ليل نهار، ويقال إنه كانت تعتاده نوبة ذهول، ثم يهيج به هائج الغضب، إلى حد أنه كان يصيح صياحًا شديدًا، ويقسم ليبيدنَّ كل عربي أقَلَّتْهُ الغبراء، وأحيانًا كانت تضطرم نفسه هلعًا، وتذوب جزعًا، وتفيض بالوساوس والأحلام والشكوك والأوهام، ثم يعود إلى حالته الأولى من السكون المبهم الغامض الأليم، وكأنما انقضت عليه صاعقة.
•••
على أثر هذه الحالة النفسية العصبية أخذ يفكر في تدبير خطة مروعة رهيبة، وذلك أنه كان يدور بخلده أنه ما دام العرب مقيمين معه في داخل المملكة ومنبثين في الولايات التابعة له، فلن يتأتى له أن يطمئن على سلامة ملكه لحظة واحدة، فعول — في قليل من الحنكة السياسية وعدم التبصر في العواقب — على إبادة خضرائهم، واستئصال شأفتهم من المملكة، وعقد النية على أن ينفذ هذا الرأي الخطير عند اجتماعهم بالمسجد للصلاة من يوم الجمعة المقبل، وكان لا يبرم أمرًا دون أن يستشير وزيره إسماعيل اليهودي، فلما صرَّح له بعزمه، وأفضى إليه بسره، وأعلمه أنه مصمم على تنفيذ خطته — رضي أم أبى — أظهر له الوزير شناعة هذه الخطة، ووخامة عاقبتها، وعمل جهده على أن يعدل الأمير عنها، وأشار عليه أن يتمهل في الأمر ريثما تنضج الفكرة، وأن ينظر فيما عساه أن ينجم عن هذا الرأي الخطير من النتائج، وكان مما قاله له: «لنسلم أن كل شيء سيتم على ما تريد وتهوى، ولنفرض أنك ستدرك غرضك بالقضاء على جميع العرب — بقطع النظر عمَّا ينجم عن هذا العمل من الخطر — فهل يفوتك أن العرب في خارج المملكة لا يسكتون عن مصاب إخوانهم وما يحل بزملائهم؟ وهل يدور بخلدك أنهم يلبثون ساكنين في أماكنهم، وأنهم لا يتحركون لنجدة أبناء جنسهم؟ كلا، إني أؤكد لك أنهم يسارعون إليك بدافع الغضب الشديد، والعصبية القومية، ويتدافعون إلى بلادك تدافع الأمواج الهائجة المضطربة، ولا يلقون السلاح أو يعلو السيف رأسك.»
•••
ومع مشاكلة هذا الكلام للصواب، ومطابقته للواقع، فإنه لم يؤثر في نفس باديس ولم يصرفه عن رأيه، وأخذ على إسماعيل عهدًا بأن يكون ما دار بينهما من الحديث سرًّا مكتتمًا، وأصدر أمره بأخذ الأهبة والاستعداد لما يجب عمله يوم الجمعة.
وقضي الأمر، وكان جميع الجند بأسلحتهم المختلفة أمام المسجد يوم الجمعة على هيئة عرض عام للجيش، ولم يقف إسماعيل حيال هذا الأمر موقف الخمول، بل كان قد دس نسوة إلى زعماء العرب عملن على تفريقهم، ونصحن لهم بعدم الاجتماع للصلاة يوم الجمعة، وأن يختفوا عن الأنظار في هذا اليوم فلا يبدو لهم أثر، فعملوا بنصيحتهن وأخذوا حذرهم، ولم يحضر المسجد في ذلك اليوم سوى نفر يسير من العرب ممن لا خطر لهم مع عامة الشعب، وتحقق باديس فشل خطته، فكاد يتميز من الغيظ وأرسل في طلب إسماعيل، وأخذ يلومه على إذاعة السر الذي أفضى به إليه، فقال: «إن امتناع العرب عن الحضور لصلاة الجمعة لم يكن لسر مذاع، وتفسير هذا الامتناع من جانبهم ظاهر، فإن القوم رأوا أنك حشدت جندك بلا سبب موجب في وقت لم يكن فيه بينك وبين جيرانك حرب، فلم يشكوا في أنك إنما تقصدهم بالسوء، فعوضًا من أن تغضب وتندم يجب أن تحمد الله (تعالى) على هذه العاقبة الحميدة، فلو أن العرب وقفوا على ما كنت تبيته لهم — من الشر والوقيعة — لثاروا واضطرب بسببهم حبل الأمن، أفلا يسرك أنك تراهم الآن ساكنين هادئين؟ فتروَّ في الأمر قليلًا، وسيجيء الوقت الذي تحمد فيه رأيي الذي أطلعتك عليه.»
•••
وربما كان باديس وقد غاب عنه وجه الصواب غير مقتنع بصحة ما ذهب إليه وزيره، ولكنه حين جاء أحد شيوخ البربر وأيَّد إسماعيل في الرأي اقتنع أخيرًا، واعترف في النهاية بأنه كان مخطئًا، ولم يعد يفكر في ملاشاة العنصر العربي من رعاياه، إلَّا أنه حين رأي فلول البربر الآتين من بني مرين وأركش وشريش ورندة قد لجئوا إلى غرناطة وجاءوا يلتمسون لهم فيها مأوى، اعتزم أن ينتقم من عدوه، ويغزو بجيشه والمهاجرين ولايات إشبيلية.»
•••
وليس عندنا تفصيلات عن هذه الموقعة الحربية، ولكن الدلائل تدل على أنها كانت حربًا دموية؛ لأن البربر كانوا موتورين يلتهبون حماسة للانتقام لأبناء جنسهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العرب كانت كراهتهم لبربر غرناطة أكثر من كراهتهم لسائر البربر، إذ كانوا يعدونهم من الرافضة أعداء الدين، لسكوتهم على أن يكون بين وزراء المملكة رجل يهودي، ويقول بعض شعراء إشبيلية الذين كانوا يشيدون بانتصارات المعتضد ما معناه: «لقد أعملت سيفك في رقاب شعب من البربر ينتحلون اسم الإسلام، ولا يؤمنون بغير اليهودية.»
لهذا كانت الحرب مع الغرناطيين تعد في نظر العرب حربًا دينية مما حملهم على مقاتلتهم بمنتهى الشدة حتى اضطروهم إلى التقهقر والارتداد إلى حيث يقيم أبناء جلدتهم، وقد ساءت حال أولئك المهاجرين البائسين إذ لم يسمح لهم المعتضد بالعودة إلى دورهم وبلادهم حين رأى باديس أن يحلوا عن غرناطة إلى مساكنهم الأصلية التي لا مندوحة لهم عن العودة إليها، فاضطروا إلى أن يجوزوا بحر الزقاق إلى سبتة ولم يشأ «سقوت» أمير هذه الجهة أن يكون لهم فيها بقاء، وهكذا كانوا يطردون — حيثما حلوا، وأينما ارتحلوا — في وقت تفشت فيه المجاعة بإفريقية مما أدى إلى هلاكهم جميعًا.
وبعد هذه النكبة التي حلت بالبربر وجه المعتضد جنده ضد القاسم بن حمود أمير الجزيرة، وكان أضعف أمراء البربر فلم يسعه إلا أن يدخل في طاعة المعتضد ويطلب منه العفو، فأجاز له أن يتحول إلى قرطبة فرحل إليها وأقام بها (١٠٨٥).
•••
ولما تَمَّ للمعتضد هذا الانتصار الباهر رأى أن الوقت قد حان لإتمام الدور التمثيلي الذي لعبه حتى الآن أسوة بأبيه من قبل، فطوَّعت له نفسه أن يعلن أن هشامًا الثاني المزعوم، والذي قد مات وعلم الناس قاطبة بوفاته لا يزال على قيد الحياة.
على أنه لم تكن ثمة أسباب تدعو والده إلى إثارة مسألة الخلافة بانتحال هذا الاسم، فإن الناس جميعًا قد اقتنعوا — في ذلك الحين — باستحالة الرجوع إلى الماضي، والعودة إلى نظام الجماعة، وقد دلت التجارب على أن الخلافة قد سقطت بحيث لم يبق أمل في أن تقوم لها فيما بعد قائمة، وعلى هذا فقد أصبح في قلعة رباح شخص لا خطر له، ولا يترتب على وجوده أية فائدة.
ويجوز أن هذا الرجل الذي اختفى من سنين عديدة ولم يره أحد — لا من عامة الشعب، ولا من حاشية القصر — قد مات، أو أن المعتضد قد تضايق منه فأمر بقتله — كما تحقق ذلك بعض الأخبار — وليس في وسعنا أن نجزم بشيء في هذا الصدد؛ لأن أمير إشبيلية يعرف كيف يحيط أعماله بالأسرار الغامضة، وقد حدث أنه في سنة ١٠٥٩ جمع رجال الدولة، ونعى لهم هشامًا الذي مات من فالج أصابه، ولكنه أمر ألَّا يذاع خبر الوفاة ما دام في حروب مع جيرانه، أما الآن وهو في حالة سلم مع البلاد المجاورة، فقد أمر بدفن رفات أسير قلعة رباح باحتفال مشى فيه رجال الدولة، ومشى هو في الجنازة باعتباره الحاجب؛ أي: الوزير الأول، مترجلًا وبدون طيلسان، وأرسل البُرُد بنعي هذا الخليفة إلى حلفائه في شرق الأندلس، وطلب إليهم اختيار خليفة جديد ليبايعوه، ولم يفكر أحد في ذلك بطبيعة الحال، فزعم أن الخليفة الراحل عهد إليه أن يكون أميرًا على كل بلاد الأندلس من بعده، ومن المحقق أنه كان يعمل على إدراك هذا الغرض، وأن جميع جهوده كانت موجهة إليه، وقد توجهت نفسه الآن للاستيلاء على قرطبة عاصمة المملكة القديمة، ولم يدر ما كان يَخْبَؤُهُ له القدر من فشل وخذلان، وذلك أن جنوده أغاروا عدة إغارات على بعض الجهات التابعة لقرطبة، وانضم إلى ذلك أنه أمر ابنه إسماعيل قائد جيشه أن يستولي على مدينة الزهراء التي دمر نصفها البربر، فقابل أمره بشيء من الاستياء والامتعاض والتبرم والاعتراض، وكان قد بدأ منذ زمن يظهر الكراهة والاشمئزاز من أبيه، ويشكو قسوته وظلمه، ويرميه بأنه كان يقحم به على الأهوال والأخطار، ويعرضه لمواقع الهلكة، إذ كان يأبى في المعارك الكبيرة، وحصار المعاقل المنيعة، أن يمده بالعدد الكافي من الجند، وفوق هذا فقد حرك في نفسه عوامل الاستيلاء والبغض رجل أفاقي يُدعى أبا عبد الله البرزيلي كان قد رحل من مالقة عندما استولى عليها باديس، وكان يطمع أن يكون حاجبًا لأي أمير، فأثار في نفس إسماعيل فكرة الثورة على أبيه، وأوعز إليه أن يؤسس لنفسه مملكة مستقلة في جهة أخرى كالجزيرة الخضراء، وقد أتيحت للرجل أسباب النجاح إذ أظهر إسماعيل في الوقت الذي أمر فيه بالزحف على قرطبة منتهى ما يكون من الامتعاض والهياج؛ لأنه طلب من أبيه أن يمده بالعدد الذي يلزمه من الجند فأبى، وعبثًا حاول إسماعيل أن يقنعه بأن ما معه من الجند لا يكفي للزحف على ولاية كقرطبة، وبأن باديس لا بد آتٍ لمساعدة أهلها كما فعل ذلك سابقًا، وأنه إذا جاء لمعاونتهم ما دام محالفًا لهم، فإنه حينئذ يضع نفسه بين نارين، ويكون مضطرًّا لمنازلة عدوين، فلم يصغ المعتضد إليه، بل كان في أشد حالات الغضب على ابنه، ودعاه بالجبان، وهدده بالقتل، وكان على وشك أن يبرز ذلك من حيز القول إلى حيز الفعل وأفضى إليه بقوله: «إذا لم تطع قولي، وأظهرت الخلاف علي، فإني مضطر لا محالة أن آمر بضرب عنقك.»
•••
فجرحت هذه الكلمات إسماعيل في صميم نفسه، وهاج به هائج الغضب، ودفعه حرج الموقف إلى المضي في الخطة الرهيبة التي رسمها لنفسه، ولكنه جاء إلى البرزيلي ليشير عليه بما يمكن عمله، فكان من السهل على هذا أن يقول له: «إنه قد حانت الساعة لتنفيذ الخطة التي أدليت بها إليك.»
وبعد مضي يومين من سفر إسماعيل على رأس الجيش من إشبيلية بلغ رؤساء الجند أن قد ورد عليه نبأ من أبيه أن يأمره فيه بالعودة لمقابلته ليفضي إليه بأمر هام.
وقفل راجعًا مع البرزيلي وثلاثين فارسًا من فرسان الحرس إلى إشبيلية ولم يكن المعتضد في هذا الوقت بقصر الإمارة الحصين، بل كان قد تحول إلى قصر الزاهر الواقع على الضفة المقابلة من النهر، وآنس إسماعيل قلة الحامية والحراس، فاستولى عليه ليلًا، وحمل ما فيه من كنوز ونفائس على ظهور البغال، ولكي يحول دون أن يعبر أحد النهر إلى «قصر الزاهر» لإبلاغ أبيه الحادث أمر بإغراق الزوارق الراسية تجاه الحصن، وتمكن من أخذ والدته ونساء القصر، ومضى لا يلوي على شيء في طريقه إلى الجزيرة الخضراء، وعلى الرغم من مبالغته في التكتم، وشدة الحذر والخوف من أن يصل نبأ هذا الحادث إلى أسماع أبيه، تسرب الخبر إلى أبيه من أحد فرسان ولده؛ لأنه لم يرضه هذا العمل، فاقتحم نهر الوادي الكبير سباحة وأبلغه الحادث في الحال.
فأنفذ المعتضد في أثره كتائب من الفرسان، وأرسل رسله إلى حكام حصونه في الوقت المناسب، فأوصدوا أبواب القصور التي في طريقه في وجهه، وخشي إسماعيل من تألب أصحاب القصور عليه، فلجأ إلى واحد منهم اسمه «حصادي» وهو صاحب حصن قائم على ربوة جبل عند حدود قسم شذونة وطلب إليه أن يكون في جواره وحمايته، فقبل أن يجيره، ولكن شرط عليه أن لا تبرح خيله سفح الجبل، وخرج إليه في جماعة من جنوده، ونصح له بعدم الخلاف على والده، وعرض عليه أن يكون وسيطًا في الصلح بينهما، ولكونه قد فشل في محاولته هذه فشلًا تامًّا، رأى أن ينزل عند رأيه ويعمل بمشورته، وحينئذ أذن له أن يدخل معه الحصن، وعامله بما يليق بمكانته، وأرسل إلى المعتضد كتابًا يذكر فيه أن إسماعيل ثاب إلى رشده، وندم على فعلته تلك، وتوسل إليه أن يقبل وساطته ويصفح عنه، فأرسل إليه يقول: «إنه قد صفح عنه.» فعاد إسماعيل إلى إشبيلية ورد والده إليه جميع أملاكه، ولكنه شدَّدَ عليه الرقابة، وأمر بضرب رقاب أبي عبد الله ومن معه، وعلم إسماعيل بذلك فسقط في يده، وأدرك مبلغ خيانة والده وغدره، ووجد أنه قد وقع في الشرك الذي نصبه له من الصفح المزعوم، فأعمل الحيلة في الخلاص، وكسب بقوة المال الحراس، وطائفة من العبيد، وجمعهم — ذات ليلة — على الشراب ليبعث فيهم الحماس والجرأة، وقلدهم السلاح وتسوَّر بهم ناحية من القصر رأى الوصول إليها هينًا، وكان يقدر أن يصادف والده في هذه الساعة نائمًا، وقد صمَّم في هذه المرة أن يقضي عليه القضاء الأخير، ولكنه سرعان ما ظهر المعتضد فجأة على رأس حاميته، وما هي إلا أن عاينه المتآمرون حتى لاذوا بالفرار، ولكن جنود الحامية تعقبوهم إلى أن جاءوا بهم معتقلين، وكان الغضب قد وصل بالمعتضد إلى أقصى حد، فأخذ ابنه إلى مكان بعيد من القصر، وأرداه بيده قتيلًا بحيث لم يشهد مصرعه أحد، وهاج به هائج الغضب فأخذ يقتل وينكل بشركائه وأصدقائه وخدمه، وحتى بنساء قصره، وكم أمر ببتر أيد وأرجل وجدع أنوف، وقطع رءوس، وقتل في السر وقتل في العلن. وبعد أن شُفي غيظه وسكنت ثورة غضبه، تملكه حزن عميق وتنبه في قرارة نفسه تأنيب شديد، ووخز في الضمير أليم، وما كان يشفع لهذا التأنيب وذلك الألم النفساني الدائم، أن ابنه القتيل كان آثمًا على الحقيقة جديرًا بما حلَّ به من العقوبة، فقد ثار عليه، وحاول قتله في محاولتين فشلتا معًا، وسرق ذخائره وأعلاقه وكنوزه حتى لقد سرق مع ذلك نساءه، وكان لا يفتر لحظة عن التصريح بهذه الشناعات والجرائم التي ارتكبها ابنه، ولا عن التحدث بأنه كان يحبه حبًّا حقيقيًّا، فإنه مع جبروته وقسوته كان يحب أسرته وبخاصة ابنه الذي كان يرى فيه العاقل الرشيد السديد الرأي في المجلس، والقائد المدافع عن حوزة المملكة في ميادين القتال، والعون الوحيد له في شيخوخته، والمتمم لعمله إذا وافاه الأجل المحتوم، وها هو قد حطم بيده تلك الآمال، وقضى بنفسه على كل تلك الأماني.
في اليوم الثالث لهذه الكائنة المحزنة، والفجيعة الدامية، دخلت أنا وزملائي على المعتضد في مجلسه، وكان وجهه مربدًا تعلوه كآبة الحزن، في منظر موحش فظيع، فعرتنا دهشة، وارتعنا هلعًا وفزعًا، وتقدمنا فحييناه، وهو يجمجم بكلام لم نتبيَّنه، فنظر إلينا نظر استثبات وتفحص، وجعل يصعد فينا بنظره ويصوب، ثم قال في زمجرة كزمجرة الأسد: «ما بالكم لا تنطقون أيها الأشقياء؟ إنه ليسركم في الباطن ما أنا فيه الآن من محنة وبلاء، فاذهبوا بعيدًا عني، واخرجوا من هذا المكان.»
•••
وكان نير باديس قد أثقل كواهل العرب في مالقة منذ سنين، وأخذوا يلعنون أيامه، ويئنون من جبريته وظلمه، وصاروا يعقدون الآمال في الخلاص من هذا الحكم الغاشم على أمير إشبيلية، وهم وإن كانوا على يقين من أنه مثله في الظلم، إلا أنهم كانوا يؤثرونه على باديس لأنه من جنسهم، ولهذا اتفقوا مع المعتضد، ودبروا مؤامرة كان باديس بتهاونه أول مساعد على تحقيقها، لإدمانه على الشراب، وإغفاله شئون دولته إلا في أوقات قليلة نادرة.
وفي اليوم المضروب موعدًا لتنفيذ المؤامرة شبت في العاصمة ثورة، اشترك في إضرامها خمسة وعشرون حصنًا، وتلاحقت في نفس الوقت جيوش إشبيلية بقيادة المعتمد بن المعتضد، فاجتازت الحدود لمساعدة الثائرين، فأخذت البربر على غرة، ولعب السيف في رقابهم ولم ينجُ منهم إلا من تعجل الفرار، وفي أقل من أسبوع من الزمن تم فتح جميع الولاية، إلا حصن مالقة الذي كان به حامية البربر فإنه بقي وحده بدون تسليم، وهو حصن منيع لوقوعه على قمة جبل، ولمناعته كان في استطاعته أن يقاوم مدة طويلة، وحينئذٍ كان يخشى أن ينتهز باديس الفرصة فيجيء لشد أزر الحامية، وهذا ما حسب له زعماء الثورة ألف حساب، فأشاروا على المعتمد أن يُشدِّد الحصار على مَن في الحصن، وألَّا يثق كثيرًا بجماعات البربر الذين في جيشه، ولم يقدر المعتمد قيمة هذه النصائح الثمينة، ولم تلقَ منه أذنًا صاغية، بل تهاون في الأمر، وآثر الراحة، وأطلق سراح الجند الذين أعجبوا بهذا المسلك الحسن، فعكفوا على الشراب، وأخذوا يبحثون عن النساء، لاعتقادهم أنه لا خطر هناك يتهددهم، وقد غرهم ما قاله رؤساء البربر للمعتمد من أن الحصن عمَّا قليل ستسلم حاميته، وكانت هذه الخديعة من البربر بدافع ميل خفي إلى باديس، وقد جرَّ ذلك كثيرًا من الشؤم على جيوش إشبيلية، فإن أولئك السودان الذين هم في الحصن، وجدوا عندهم متسعًا من الوقت يخبرون فيه باديس بأن الفرصة سانحة لمباغتة عسكر المعتمد والقضاء عليه.
فجدت جنود غرناطة في المسير، وشقت طريقها إلى مالقة بين الجبال والأوعار في سرعة وحذر، ودخلت المدينة على حين غفلة من أهلها، دون أن يكون عند المعتمد قبل دخولهم بلحظة واحدة علم باقترابهم، فلم يستطع أن يجمع الجيش لملاقاة العدو، ولم تكن بين الجيشين معركة، وكل ما في الأمر أن جند غرناطة قاموا بمذبحة في عسكر إشبيلية الذين كانوا عزلًا من السلاح، والذين كان أكثر من نصفهم سكارى، وقد أفلت المعتمد من أيديهم بانسحابه إلى رنده واضطرت ولاية مالقة جميعها أن تخضع من جديد لحكم باديس.
ولنتصور هنا مبلغ حنق المعتضد وغضبه حين نمى إليه خبر هذه الهزيمة، وأن ولده بتهاونه وتضييعه خطة الحزم قد فقد جيشه، وفقد ولاية عظيمة، وكان من نتيجة هذا الغضب أن أصدر أمره باعتقال المعتمد مع مسجوني حصن رنده وقد هَمَّ أن يقضي على ولده الثاني في حياته أيضًا، ناسيًا وخز الضمير الذي أصابه لقتله ولده الأول.
وكان المعتمد يجهل مبلغ ما وصل إليه والده من الغضب والحسرة والندم، ولما استقر في الحصن، وعرف مدى غضب والده بعث إليه بقصيدة تفيض بالمديح والثناء، وتشيد بكرم المعتضد، وتستجلب عطفه وصفحه، وتقتضي فؤاده الرحمة والشفقة، بذل في هذه القصيدة كل ما في استطاعته ليصرف عن والده ما ساوره من حزن، وألَمَّ به من ألَمٍ، وليعزيه عن هذا المصاب وذلك الإخفاق بما أحرزه فيما مضى من انتصارات باهرة، وفتوحات اتسعت بها رقعة المملكة، ومن أجمع الأبيات لهذه المعاني قوله في صدر قصيدته الرائية:
ثم حاول في قصيدته هذه أن يعتذر عن نفسه، ويلقي التبعة على البربر الخائنين، ويصف بأبدع أسلوب مبلغ الحزن الذي تملكه من جراء غضبه عليه فقال:
•••
وقد أثر هذا الشعر — بروعته وسمو معانيه وانسجام عباراته — في نفس المعتضد وأخذ يرق تدريجًا، ويعطف على ولده، كما عطفه عليه رجل معروف بالصلاح والورع من رجال رندة أكثر من التوسلات والشفاعات التي رق لها قلبه، ولان جانبه، فأباح للمعتمد العودة إلى إشبيلية، وصفح عنه، ولكن مالقة قد أفلتت من يده بحيث لا سبيل إلى رجوعها، واستيقظ باديس» من ذلك الحين وأخذ في الأهبة والاستعداد والحيطة حتى لا يحاول المعتضد» مباغتتها والانقضاض عليها مرة أخرى، ومما يقال عن ملك غرناطة أنه كان في ثورة غضبه لا يرحم، وأنه كان ينتقل من مكان إلى مكان للانتقام من الثائرين والزعماء، وهو محاط بجلاديه، وأنه أودى بحياة الآلاف من المساكين الذين ثاروا عليه وأبادهم تقتيلًا وتمثيلًا، وإحراقًا وتنكيلًا، فلم يعد أحد من الثائرين الكارهين لحكمه يرغب في إعادة الكرة عليه ثانية.
•••
ووجد الناقمون عليه في وسط هذه المحنة الشديدة والعذاب المستأصل سبيلًا لإثارة الخواطر حيث آنسوا أن نفوذ اليهود في بلاط غرناطة قد بلغ النهاية، فإنه بعد أن مات إسماعيل خلفه ولده يوسف الذي عني أبوه في حياته بتعليمه كثيرًا من العلوم، وأعدَّه إعدادًا تامًّا للقيام بأعباء الوزارة بعده، وقد اضطلع بمنصب كبير الوزراء في الدولة، ولديه كل المؤهلات العلمية والتثقيفية، إلا أنه كان يعوزه لين الجانب، والتواضع الذي كان يكسب والده — مع سمو المركز — صفح الأمير ورضا الجميع عنه. ولم يكن يوسف على شاكلة أبيه من هذه الناحية، بل كان يظهر بمظهر أميره باديس ممتطيًا جواده إلى جانبه، وركابه بإزاء ركابه، وشارته في اللبس كشارته، حتى إن الناظر إليهما لا يفرق بين الأمير ووزيره.
بل لقد كان يوسف في الحقيقة ملكًا فوق الملك، وكان هو المسيطر المتسلط على باديس لعكوفه على شرابه، وانغماسه في لهوه وبطالته، ولكي يستمر نفوذه وسلطانه على المملكة كان قد أحاط باديس بجواسيس وعيون من نساء وفتيان قصره، استغلهم بالمال، وغمرهم بالإحسان، فلا يكاد باديس ينبس أو يتنفس إلا وهو يعلم ذلك.
•••
وذهب كثير من الناس إلى أنه لم يكن على دين آبائه وأجداده، وأنه كان مستهترًا يحتقر الأديان جميعًا، وقالوا: إنه لم يكن يهوديًّا إلا بالاسم فقط، وكان — في حملاته على الدين الموسوي — لا يكاد يصرح بالطعن، أما الدين المحمدي فكان يجهر بالغض منه، ويعيب أحكامه، هذا إلى أنه كان يحرف كثيرًا من آيات القرآن، يضاف إلى ذلك أنه أساء إلى العرب والبربر بل واليهود، وجرح كرامة الجميع بكبريائه وترفعه وإعجابه وزهوه، وآرائه اللادينية وقلة إنصافه، وعدم رعايته العدل، وحام حوله كثير من الشبه والظنون، وأصبحت تعزى إليه تهم وتذاع مخازٍ وفضائح، واستهدف لكثير من الألسنة وحمل كثيرًا من جمهرة المسلمين على معاداته، بينهم الزاهد أبو إسحاق الألبيري الذي ذاعت قصيدته في الإغراء باليهود.
عصف الشباب بهذا الرجل، فسوَّلت له نفسه أن يتطلع لمركز في البلاد يرى نفسه — لمنصبه وسابقته في الزهد والورع — أهلًا للحصول عليه، فخيب يوسف آماله فرحل وهو يحمل في نفسه من الحقد والكراهة له ولليهود ما حفزه على أن ينظم فيهم قصيدته التي يقول في مطلعها:
ومنها:
ومنها يخاطب السلطان:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
•••
ثم عمدت صنهاجة بعد ذلك إلى قتل سائر اليهود، فقتل في يوم منهم مقتلة عظيمة، ونهبت دورهم، وقد بلغ عدد من قُتل منهم أربعة آلاف يهودي ذهبوا ضحية العداوة الدينية (٣٠ ديسمبر سنة ١٠٦٦).