فالق الحَبِّ والنَّوَى
إنك لتنظر إلى حبة القمح، أو نواة التمر، فتحسب أنك إنما تنظر إلى قطعتين من الجماد الأصم الأخرس، كأنهما حصاتان ألقت بهما الأحداث، ثم أهملتهما على أرض يباب، وقلما يطوف بذهنك أن ما أمامك خزانتان اختزنتا طاقة حيوية جبارة القوى، تنتظران الظروف المواتية، ومعها مشيئة الخالق جلَّت قدرته وتدبيره وحكمته، وإذا بحبة القمح تتفتح عن عود حي يغتذي من الأرض طعامًا، ويرتوي من ماء المطر شرابًا، ويستمد من الهواء ومن الضياء فاعلية ونماءً، حتى ينتهي إلى حمل من سنابل، تحمل كل سنبلة منها حبات من القمح تُعد بالعشرات، وكذلك تتفجر نواة التمر عن عملاقة من النخل، ترفع رأسها لتبلغ ما بلغته الأبراج العالية، لولا أن هذه الأبراج البشرية مصمتة الصخر لا فعل لها ولا تفاعل، وأما النخلة السامقة فمن عناصر الأرض طعامها، ومن غيث السماء سقياها، تحمل في جوفها سر الحياة لتطرحه كل عام عراجين مثقلة بثمارها حمراء أو صفراء، كأنها عناقيد الياقوت والذهب ساطعة في ضوء الشمس، اللهم سبحانك أمن التراب ألوان بهية وطعوم فيها حلاوة؟!
فانظر يا أخي إلى الفارق البعيد، بين ما رأته العين حبة ونواة، كانتا في رؤية العين كأنهما جماد لا يحس ولا يعي، فإذا هما — وقد شاء لهما خالق الكون أن تواتيهما عوامل الغذاء والماء والهواء والضياء — تبديان العجب وتخرجان العجاب، فماذا أنت قائل — إذن — في ذرية بشرية، لم يكن الفارق بينها ساعة ميلادها وكأنها الفراخ العارية من الزغب والريش — ثم إذا رأيتها بعد ذلك وقد خرج منها رجال ونساء، أقول: كم يكون الفارق بين أن تواتيها في نمائها ظروف تستخرج كل ما أودعها ربها من مواهب وقدرات، وبين أن تهمل لتنمو بأجسادها طامسة في أجوافها ودائع الله فيها من كنوز المواهب؟ أرأيت يا صاحبي كم يكون الفرق بين آلة الموسيقى وهي ملقاة على الأرض في صمت، وبينها حين تلتقطها يد العازف ليخرج منها حلو النغم؟ لقد كانت في الحالة الأولى «آلة»، ثم أصبحت في الحالة الثانية «موسيقى»، وهكذا الإنسان إبان طفولته ونشأته، يكون أقرب إلى آلة بدنية عجماء إذا أهمل شأنه، ثم يكون ومضة فكر ونبضة وجدان إذا عرف ذووه كيف ينشئونه.
وقل عن أمة بأسرها ما تقوله عن كلِّ فرد من أفرادها، فقد يشهدها التاريخ حينًا وهي ترتفع في جو السماء مع العقبان والنسور، ثم قد يشهدها حينًا آخر وهي على أديم الأرض مع بغاث الطير، فيسألون عندئذٍ ويتساءلون: لماذا؟ وما الذي أصابنا؟ والجواب عند حبة القمح ملقاة على الأرض، ثم مزروعة لتحيا وتنمو وتثمر، وعند نواة التمر تحسبها حطبة جافة ابتلعها ثنين الموت، فإذا هي تلقى حظها من العناية فتظهر على حقيقتها: كائنًا حيًّا قويًّا ولودًا، وعند آلة الموسيقى يصيبها الإهمال فتكون آلة وتنالها العناية فتشدو، على أن الطاقة الإبداعية في أمة، ليست مجرد حاصل جمع لطاقات أفرادها، بلى هي قد تزيد عن ذلك، وقد تنقص، فهي تزيد بالتعاون الصحيح، وهي تنقص بالتناحر الهدَّام، افرض — مثلًا — أن مجموعة من الزملاء الأساتذة في كلية من كليات الجامعة، تعاونوا جميعًا — كل بما تخصص فيه — على إيجاد حل نعالج به انخفاض المستوى العلمي في هذه الفترة الزمنية الراهنة، فعندئذٍ تجيء نتيجة جهدهم أفعل أثرًا، مما لو استقل كل منهم بالتفكير من زاوية تخصصه، إذا ما تنافروا وتناحروا جاء الناتج خطوة إلى الوراء لا خطوة في سبيل الحل.
ونحن؟ من نحن؟ وأين نقع من هذا كله؟ أجب بما شئت من جواب، تجد إجماعًا في الرأي على نقطة واحدة على الأقل، وهي أننا كنا ذات يوم في طليعة المسيرة الحضارية ولم نَعُد، هذا صحيح من حيث نحن مصريون، ومن حيث نحن جزء من أمة عربية، فمن حيث نحن مسلمون، فقد كانت مصر هي الطليعة الحضارية، ولم تعد كذلك، وكانت الأمة العربية هي سيدة الحضارة في حينها ولم تعد كذلك، وكانت الأمة الإسلامية صاحبة الكلمة المسمومة ولم تعد كذلك، فمن أي جانب أخذتنا وجدت انحدارًا في المنحنى الحضاري والثقافي جميعًا، وهنالك من لا يعجبه مثل هذا الصدق، فيسميه تشاؤمًا، كأنما التفاؤل هو أن تقول لرجل كان قويًّا وأصابته علة، إنه لا علة هنا، وما زلت قويًّا كما كنت.
يكون القول تشاؤمًا لو أننا زعمنا أن طاقة الإبداع فينا قد اقتلعت من نفوسنا اقتلاعًا، لكن حقيقة الأمر فينا هي أن تلك الطاقة في كُمون، يُشبه كُمون الحياة في حبة القمح، وفي نواة التمر، حتى إذا ما شاء لها فالق الحب والنوى أن تنزاح عن محابسها أقفالها توقدت الشعلة من جديد، وأول خطوة على الطريق هي أن تنفخ فينا إرادة أن نحيا، ثم يضاف إلى ذلك إرادة أن تكون حياتنا حياة السادة لا حياة العبيد: سيادة في العلم، سيادة في الفكر، سيادة في الأدب والفن، سيادة بالإباء وبالكبرياء.
أتسألني: وكيف يكون ذلك؟ ذلك يكون إذا تعلمنا الدرس من حبة القمح ونواة التمر، فنرى كيف ينتقلان من سبات إلى صحو، ومن خمود إلى نشاط، ومن أفول إلى سطوع بالحياة وبالنماء وبالإنماء، فارقب يا صاحبي وسجل: فأولها: أن يتهيأ مهد تستقر فيه البذرة مطمئنة لتغتذي من أثداء أرضها على مهل، ولترتوي بما يتسرب إليها في مهدها ذاك من فيض سمائها، وعندئذٍ تنفث من جوفها جذور حياتها، وثانيها: أن تحرص حبة القمح على أن تخرج قمحًا مثلها في النوع، وليكن بعد ذلك نسلها أصح مما كانت هي وأقوى، وأن تحرص نواة التمر على أن تخرج البلح على نحو ما فعلت حبة القمح، طامعة في نسل أصح وأقوى، فلا يجوز لأي منهما — الحبة والنواة — أن تمسخ أبناءها وبناتها بأن يجيء نسل الحبة من القمح بطيخًا وشمامًا، وأن يجيء نسل النواة أشجارًا تثمر التفاح والرمان، وثالثها: أن يتعرض الجذع والفروع، إذا ما نبتت فوق سطح الأرض، للهواء وحرارة الشمس … تلك هي أهم الدروس التي نتلقاها من الحبة ومن النواة، وهي الكفيلة بأن تخرج لنا أطيب الثمر.
والآن فلننظر كيف تكون الموازاة بين حياة الحبة والنواة — من جهة — وحياتنا من جهة أخرى، ونبدأ بالدرس الأول وما يُستفاد منه، وهو ضرورة أن تستقر البذرة في مهد صالح، فيه المدد من أرضها ومن سمائها الذي يشبعها ويرويها، فكذلك الإنسان وهو في مهد الطفولة والنشأة الأولى، ينبغي له أن ينبض قلبه بمرجع انتمائه الوطني والقومي، وأكرر ذكر القلب ونبضه؛ لأن المرحلة الأولى لا تحتمل تحليلًا ولا تعليلًا، إننا نريد له هنا أن يحب وكفى … أن يحب أرضًا وأهلها لأنها أرضه ولأن الأهل أهله.
فماذا تكون تلك الأرض؟ ومَن يكونون هم الأهل؟ البداهة تبدأ مع المصري بمصر، ومع العراقي بالعراق، وهلمَّ جرا، تمامًا كما يبدأ الرضيع بأمه، وكما يبدأ القروي بقريته، وهكذا، ولكن سرعان ما يتبين بأن جزئية البدء محال أن تكفي ذاتها بذاتها، إذ لا بدَّ من امتداد ما يشمل تلك الجزئية مع أخوات لها، فيكون السؤال عندئذٍ هو: إلى أيِّ حد يذهب ذلك الامتداد؟ أيذهب مع المصري إلى حدود مصر ثم يقف هناك، ومع العراقي إلى حدود العراق، وهكذا؟ هنالك من يجيب: نعم، ومن يجيب: لا، وأما أصحاب الإيجاب فيركزون الحكم على أساس التميز العرقي وحده، غاضين النظر عن المشاركة في نمط ثقافي واحد (هذا إذا كان أهل البلد الواحد من عِرق واحد، وغالبًا ما يكون ذلك على سبيل الافتراض النظري لا على سبيل الواقع الفعلي)، وأما أصحاب النفي، فيؤسسون الحكم على أساس النمط الثقافي الواحد، الذي يضم من يعيشون في إطاره برباط قومي واحد، وإذا وجدنا القوم قد انشقوا على أنفسهم ولم يجتمعوا جميعًا على أم واحدة، بالمعنى القومي لهذه الكلمة، امتنع عليهم عنصر من أهم العناصر الأولية التي تعمل على أن تنبت حبة القمح قمحًا، ونواة البلح بلحًا.
وذلك بالفعل هو ما نحياه اليوم في مصر وفي غير مصر من أجزاء الوطن العربي الكبير، فلقد وسوس في صدورنا وسواس خناس، فتشعَّب بنا الرأي في طبيعة انتمائنا، لا من حيث الجزئية الأولى التي ينتمي بها المصري إلى مصر، والعراقي إلى العراق … إلخ، بل من حيث الامتداد وراء تلك الجزئية الأولى، هل يكون أو لا يكون، فكان هذا الانقسام أول ضربة فرقتنا أشتاتًا، فاشترينا ضعف التجزؤ بقوة التوحد، وكان مصدر هذا الإثم فينا هم رجال السياسة.
ولقد كان كاتب هذه السطور، خلال الشطر الأول من حياته الواعية، ممن وقفوا بانتماء المصري عند حدود مصر، لم يجاوزها مترًا واحدًا فيما يجاورها، لكنه رأى بعد ذلك رأيًا آخر، وهو ألا حياة للمصري إلا في نمطه الثقافي الذي يميزه ويمتاز به، فإذا تبين أن ذلك النمط إنما هو بذاته النمط الذي نطلق عليه اسم العروبة، كان الصواب هو أن المصري عربي الرؤية الثقافية — جتى قبل أن يفتحها العربي عقب ظهور الإسلام، ومن طريف ما أذكره في هذا السياق، أن مذيعًا سألني في حوار أداره معي ذات يوم عندما كنت خارج مصر قائلًا: هل حدث لك في حياتك أن غيَّرت رأيك في فكرة كبرى؟ فأجبته بالإيجاب، ذاكرًا له فكرة انتماء المصري إلى «العروبة»، من حيث أصوله الثقافية التي منها تتكون رؤيته العامة، ولقد حدث لي في عدة مناسبات سابقة أن حللت ذلك النمط الثقافي الذي أعنيه، وكان من أهم دعائمه «التدين» — قبل الإسلام وبعد الإسلام — فموقف «المتدين» عميق عميق في أهل هذه الرقعة من الأرض … إلى آخر ما أدليت به من رأي في ذلك الحوار الإذاعي، ولم أكد أعود إلى مصر بعد رحلتي تلك حتى تلقيت خطابًا، كان التوقيع فيه هو «مستمعة»، فقد أذيع ذلك الحوار، واستمعت إليه صاحبة الخطاب ولم يعجبها ما تغيرت به في انتماء المصري، رأيًا بعد رأي — وأخذت في خطابها القصير تسدد إليَّ سهامها، وتنزع عني صفة «المثقف» ما دمت قد تحولت بالمصري إلى أن يكون عربيًّا، ولعل هذه المناسبة صالحة للتعليق من ناحيتي على ذلك الخطاب، فأقول: إن «المستمعة» لم تُحسن الاستماع، ولو كانت قد أحسنته لما وجدت ما يُبرر لها بعض ما أوردته في خطابها.
وما أسرع ما جاءتني المصادفات بمفاجأة جديدة بعد ذلك، وفي الموضوع نفسه الذي نحن الآن بصدد الحديث فيه، وتلك هي أن قادمًا من باريس زارني راجيًا أن يدور بيننا حوار في بعض القضايا التي تشغل الناس، وحدث أن وردت في كلامي عبارة «الأمة العربية»، فاستوقفني ليسأل: وهل هناك ما يجوز تسميته «بالأمة العربية»؟ فانطلقت أشرح له كيف أنه لا رباط يشد القوم في قومية واحدة أكثر مما يفعله الرباط الثقافي، انظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية كم جنسًا يدخل في تركيبها البشري؟ وكل جنس من تلك الأجناس، ذهب إليها بثقافته الأصلية، فانصبت الجهود نحو ما يُسمونه هناك «بالأمركة»؛ لذلك الجمع المتنافر، وما تلك «الأمركة» المنشودة إلا أن يحيا الجميع في نمطٍ ثقافيٍّ واحد، ولتتعدد بينهم الأعراق بعد ذلك ما شاءت أن تتعدد، فالمسألة — إذن — في وجود «أمة عربية» أو عدم وجودها، هي مشاركة شعوبها في رؤية ثقافية واحدة، فإذا نحن حلَّلنا تلك الرؤية إلى عناصرها، فوجدناها العناصر نفسها التي تتركب منها رؤية المصري على امتداد تاريخه، كان المصري منتميًا مع سائر من ينتمون إلى ذلك الركب الثقافي المعين، وإذا بقيت بعد ذلك بواق ينفرد بها المصري، كان المصري — شأن كل عربي آخر — منتميًا إلى «العروبة» بما ينتمي به، منفردًا وحده بما ينفرد به.
ذلك هو الدرس الأول، المُستفاد من حبة القمح ونواة البلح؛ وأعني انتماءها في شعبها وفي ريها، إلى غذاء من أرضها وماء من سمائها، وعلينا — إذن — أن نعلم أوضح ما يكون العلم: أي أرض هي أرضنا، وأي سماء هي سماؤنا؟ وبعد هذا يأتي الدرس الثاني، وهو شديد الصلة بالدرس الأول، وموضوعه هو حرص حبة القمح أن تثمر قمحًا من نوعها، حتى لو جاء الثمر أصح منها وأقوى، وكذلك حرص نواة البلح أن تثمر النخلة بلحًا، وللثمر بعد ذلك أن يجيء ألذ طعمًا وأحلى مذاقًا، وعلى هذا النموذج، تكون تربية الطفل وتنشئته إذا أردنا له يقظة تخرجه من هذا السبات العميق الذي يغط فيه، أي أن نربي طفلنا ونُنَشئه تربية وتنشئة تخرجانه استمرارًا لآبائه وأجداده، ثم يضيف إلى تلك الاستمرارية، ما يجعله أقوى منهم وأقوم سبيلًا.
وماذا عسى أن يكون المعنى المقصود من قولنا بأن يجيء الحفيد استمرارًا لأبيه وجده؟ إننا لا نريد أن يكون صورة كربونية لأحد، بل لا نريد لفرد كائنًا ما كان موقعه من تيار الحياة الدافق أن يجيء صورة لفرد سواه، وإلا فقدت الفردية صميم معناها، لكن هناك بين أجيال الأمة الواحدة — أو يجب أن يكون هناك — أقول: إن هناك ضربًا من العلاقة بين ما هو ثابت وما هو «متغير» في أيِّ تسلسل يجري به نوع من الكائنات الطبيعية أو الكائنات المصنوعة، ولك أن تزور — مثلًا — معرضًا لتاريخ السيارات — كيف تطورت صناعتها على مر السنين، منذ اختُرعت السيارة لأول مرة، وحتى يومنا هذا، وهنالك ترى بعينيك كم يكون الفارق بعيدًا بين السيارة الأولى والسيارة الأخيرة في تلك الحلقات المتتابعة، كل حلقة منها تُشبه سابقتها، مع شيء من اختلاف وتظل الاختلافات تتراكم جيلًا من السيارات بعد جيل، حتى تبعد مسافة التباين بين الحلقة الأولى والحلقة الأخيرة، وهذا بعينه ما يحدث — أو ما ينبغي له أن يحدث — في تسلسل الأجيال في أمة واحدة، الذي بقي في سلسلة السيارات هو الجوهر الذي يجعل الشيء سيارة وليس قطارًا أو سفينة، وكذلك في شعب مصر أو في الأمة العربية أو ما شئت من جماعات ذوات التاريخ المتصلة حلقاته، تظل الأجيال يختلف لاحقها عن سابقها في كثير أو قليل، تدول عليها دول وتأتي دول، وتزول عنها حضارات وتأتي حضارات، لكن شيئًا جوهريًّا يبقى ليجعل المصري مصريًّا أو العربي عربيًّا أو من شئت، وقد تتداخل الدوائر بعضها في بعض، كما هي الحال بالنسبة إلى المصري حين نراه متميزًا وحده بصفات ومشتركًا مع سائر أبناء العروبة في صفات، ولست أعني الصفات العارضة التي نراها في كلِّ إنسان من البشر أجمعين، بل أعني تلك الصفات الرئيسة التي تدخل في أساس الهوية الذاتية والقومية، وهي نفسها الصفات التي منها يتكوَّن الإطار العام لرؤية متميزة للكون وللإنسان والنشأة والمصير.
وبقي لنا درس ثالث نتعلمه من الحبة والنواة، حين يبدوان وكأنهما ذهبت عنهما الحياة، وإذا بالطاقة الحيوية الكامنة فيهما تنطلق بإذن الله انطلاقة تأتي بالسنابل الغنية بحباتها، كما تأتي بالعراجين المثقلة بثمارها، ولئن كان الدرسان الأول والثاني قد أخذناهما من البذرة وهي — بعد — دفينة في أرحام الأرض، فهذا الدرس الثالث إنما نتلقاه بعد أن تنشق الأرض عن نبتة تنبثق منها لتعلو ما أراد لها نوعها أن تعلو ساقًا أو جذعًا، وما يخرج بعد ذلك من فروع وأزهار وثمار، فها هنا نتعلم كيف ينبغي للشجرة أن تعرض نفسها للهواء وللشمس ليُكتب لها نماء وازدهار وإثمار، ها هنا نتعلم كيف يتحتم على الكائن الحي أن يأخذ ويعطي، وإلا فصور لنفسك — على سبيل التفكُّه — أن جماعة من فروع النخلة، اجتمعت هناك عند الرأس في أعلاها، لتحرض النخلة من جذرها إلى سعفها، أن تتصدى «لغزو» الهواء وأشعة الشمس، محتجة بأن تلك العوامل الدخيلة من شأنها أن تنحرف بالنخلة عن طبيعتها، فتصبح في دنيا الشجر مسخًا من الأمساخ … فماذا أنت قائل عندئذٍ لتلك الجماعة التي ذهب بها إخلاصها لطبيعتها النخلية إلى حد الانتحار؟ ألا تقول لها عندئذ: إن خطأها قد بدأ معها منذ أخطأت فهم نخلتها، ففاتها بعد ذلك أن تُدرك كيف لا تنعم النخلة بمجرد الوجود إلا إذا خاضت مع محيطها عملية الأخذ والعطاء، تُعطي من كيانها شيئًا ينفع سائر الكائنات، وتأخذ من سائر الكائنات شيئًا ينفعها.
هي دروس ثلاثة، نتعلمها من الحب والنوى: الدرس الأول: هو أن نُوثق الصلة بين البذرة ومهدها، والدرس الثاني: هو أن تحرص البذرة على أن تنسل أشباهها، والدرس الثالث: هو ألَّا حياة لنباتها إلا إذا أخذ من دنياه وأعطى.
وبعد ذلك فلننتقل بدروسنا الثلاثة إلى التاريخ وعبرته لنرى في إيجاز شديد، كيف جاءت فترات القوة من تاريخنا بمثابة تجربة تطبيقية لتلك الدروس، وفترات، القوة بالنسبة إلى المصري تتشعب شعبتين: إحداهما فرعونية تضرب في عمق الزمن السحيق، والأخرى في السلف العربي الإسلامي وفي فتوته وقوته، أما الأولى: فقد وضعت لنفسها دستورها الحضاري في أقدم أثر فني دونه التاريخ المصري؛ وأعني أبا الهول، فمنذ تلك اللحظة السحيقة في القِدم، قال المصري بلغة الإزميل في يد النحات: لقد اعتزم المصري أن يحيا حياة تربط أصولها بطبائع الأشياء ثم تُسلِّم قيادها إلى حكمة العقل، فأبو الهول جسمه أسد ورأسه إنسان، أي أن الجسم هو طبيعة في أقوى صورة له والرأس تدبير في أحكم صورة له، وهكذا أعلن المصري بإزميله منذ فجر نشأته أنه سيظل موصولًا بأرحام فطرته، ثم يجمع لتلك الفطرة معارف يدركها بعقله وخبرات يتمرَّس بها؛ لكي يضمن لنفسه سماء يستلهمها ويستوحيها، وأرضًا يسعى في فجاجها ويعيش، ولو أننا لخصنا شريط التاريخ المصري خلال آلاف السنين التي حكم فيها الفراعنة، ولو لخصنا ذلك بنظرة طائرة، لقلنا إن المصري قد بدأ بالتمكين لنفسه في أرضه وبالصبر قرونًا حتى رسخت له قواعد حضارته، ثم أخذ بعد ذلك يمد بصره إلى بعيد ليعطي وليأخذ، وما أكثر ما أعطى وما أقل ما أخذ؛ لأنه لو نطق بلسان الحال آنئذٍ لقال بملء فمه: أنا الحضارة والحضارة أنا.
وننظر إلى أصولنا الإسلامية العربية الأولى فنرى الحياة الحضارية والثقافية كيف تتابعت خطواتها، فإذا هي تنهج النهج نفسه؛ أي أنها انصرفت إلى جذورها حقبة من زمانها، وهي الحقبة التي دار فيها النشاط الفكري كله — أو معظمه — حول علوم اللغة، وأعقبتها مذاهب الفقه في استخراج أحكام الشريعة، حتى إذا ما أمن المسلم على قاعدة قوية في استيعاب عقيدته ولغته، انتقل إلى مرحلة الجذع والفروع من حياة الشجر، وهي مرحلة التعرض للهواء ولأشعة الشمس، وها هنا تطلَّعت إلى كل من كانوا حولها لتأخذ منهم وتعطيهم، وبهذا التفاعل تكوَّنت العناصر التي نُطلق عليها اليوم اسم «التراث».
إنه إذا كانت مصر مع سائر أجزاء الأمة العربية، بل وسائر أرجاء الأمة الإسلامية إذا أردت المجال الأشمل، أقول: إنها إذا كانت قد أخذتها غفوة طال أمدها بعض الشيء حتى ظنَّ أن قد جمدت عروقها وتيبَّست أطرافها، فما ذلك كله — في يقين كاتب هذه السطور — إلا كذلك الذي تراه العين المجردة من حبة القمح ونواة النخل، فتحسبهما حصاتين من حصوات أرض مهملة، ثم يفجؤها أن تراهما وقد بدت فيهما حياة عارمة حين يأذن لها بذلك فالقُ الحَبِّ والنَّوَى.