تقاليد وتقليد
ظاهر هاتين اللفظتين أنهما تحملان معنى واحدًا، يجيء مفردًا في إحداهما، ويجيء جمعًا في الأخرى، فالتقليد عمل يُحاكي به إنسان إنسانًا آخر، كالطفل يوضع له نموذج من الكتابة ويُطلب منه أن يكتب على غرار النموذج، وذلك ما صنعوه لنا ونحن أطفال، حين أرادوا أن يُعلِّمونا الخط العربي، بل هو ما صنعوه لنا ونحن أكبر قليلًا، حين أرادوا أن يُعلِّمونا كتابة «الإنشاء»، إلا أن النموذج في دروس الخط العربي يقلد في رسمه، وأما النموذج في دروس «الإنشاء» فكان المطلوب فيه أن يُقاس عليه، بأن يكتب التلميذ موضوع إنشائه على صورة تشبه النموذج الذي قرأه أو الذي قُرئ أمامه، وللتقليد صور كثيرة في الحياة العملية، فكثيرًا ما تصنع خرزات بخسة الأثمان، تقليدًا للؤلؤ، والماس، والفيروز، والمرجان، ليلبس الفقراء أشياء تشبه ما يلبسه الأغنياء، وما دمنا بصدد هذا المعنى فأحب أن أذكر أمرين كان لهما دلالة كبيرة عندي، كل في لحظته التي وقع فيها، أما أولهما فهو نبأ طريف كنت قرأته في بلد خارج مصر، عن أميرة مصرية ضاق بها العيش وهي في غربتها، فلجأت إلى عقد من اللؤلؤ النفيس، وأخذت تبيع حباته بعضًا بعضًا، وكلَّما باعت بعضًا منها، ملأت مكان الحبات المفقودة بحبات من تقليد اللؤلؤ رخيصة الثمن، ولم يلحظ أحد أن شيئًا تغير في عقدها، فالوهم الأول الذي يحاصر عقل الرائي وذوقه، هو أن مثل تلك الأميرة لا تُزين الصدر والعنق إلا باللؤلؤ «الحر»، ثم تكمل الأضحوكة حين يستطرد النبأ في روايته، ليقول إن إحدى السيدات اللائي اشترين منها بعض لؤلؤاتها الحرة، ووضعتها عقدًا أو أقراطًا … أو لست أدري ماذا كانت، لم يصدقها أحد بأن يكون ما عليها هو من ذلك اللؤلؤ النادر؛ لأن مثلها لا يملك السبيل إلى مثله.
ذلك أحد الأمرين اللذين أردت أن أستطرد بالحديث إليهما، بمناسبة ما يلجأ إليه الفقراء تقليدًا «للأغنياء»، وأما الأمر الثاني، فهو أبعد دلالة من الأميرة ولؤلؤات عقدها، وذلك أن اليابان حين صنعت الحرير الصناعي لأول مرة، راعت في صناعته أن يكون شبيهًا بالحرير الطبيعي الذي عرف به الناس من طبقة المحاربين، وكانت تلك الطبقة عالية المكانة في المجتمع الياباني، فلما أن شاع الحرير الصناعي في ثياب عامة الناس، وكان مما يتعذر على العين المجردة أن تفرِّق بينه وبين ما كانت طبقة «الساموراي» (طبقة المحاربين) قد تميزت به وامتازت، كان ذلك من العوامل التي يقول عنها المؤرخون: إنها عملت على سرعة انتشار الروح الديمقراطية في المجتمع الياباني.
قلت: إن «التقليد» له أمثلة كثيرة في حياة الناس العملية، وأريد أن أدخل في تلك الحياة العملية، تقليد الآيات الروائع مما أبدعه عباقرة الفن بمختلف أنواعه، ولا يكاد يمضي صيف واحد، دون أن أقرأ أنباء غريبة عن قطع من الفن في أعلى درجاته، يُقلِّدها مُقلِّدون، ثم يتولَّى المُزوِّرون عملية دسها في سوق الفن، فتباع بمئات الألوف من الدولارات أو من الجنيهات، بل قد تُباع بملايينها، إذ تبلغ فيها براعة التقليد حدًّا ينخدع به كبار النقاد في أسواق الفن، الذين يزودون أشهر متاحف الفن بمعروضاتها حتى إذا ما انكشف التزوير في حالة من حالاته، سمعت الضجة الكبرى ترتج لها الصحف والإذاعات في أرجاء العالم.
ذلك عن التقليد، وقد يعرف القارئ عن أمثلته في دنيا الصناعات والفنون أكثر مما أعرف، وأما «التقاليد»، فهي لا تقتصر على أن تكون صيغة الجمع لكلمة «تقليد»، بل أكسبها الاستعمال معنى آخر، وهو معنى إن يكن مشتملًا على فكرة «التقليد» إلا أنه يضيف إلى تلك الفكرة أبعادًا أخرى، تكفل له أن يصبح معنى متميزًا قائمًا بذاته، فالتقاليد في معناها المباشر، ما يقلد به الأجيال لاحقًا لسابق، ولولا أن جيل القوم اللاحق يقلد سابقه في الجزء الأكبر من شئون الحياة الجارية، لتعذر عليهم التفاهم، بل لتعذر عليهم العيش نفسه، فاللغة يأخذها اللاحق عن السابق في الجماعة الواحدة، تقليدًا في المفردات، وفي طرائق التركيب، وفي النطق، وفي الكتابة، بل وفي نبرة الصوت حين تتشكل ارتفاعًا وانخفاضًا، تبعًا للظروف المختلفة التي تقال فيها الكلمة أو الجملة، على أني لا أترك هذه المناسبة تمضي، دون أن أضيف إضافة هامة، وهي أن التقليد في مجال اللغة، حين يأخذها جيل عن جيل، لا ينفي خاصة بشرية عجيبة، عميقة الدلالة عمقًا ليس له حدود، وتلك هي أن كل فرد من أفراد الناس، ومنذ المرحلة الأولى التي يتلقى فيها الطفل لغته عن أبويه أو من يتولون أمره، يبدي قوة إبداعية في تشكيل العبارات اللغوية، بمعنى أن كلَّ فرد من البشر، في حدود حصيلته من لغته، لا يتقيد بصورة معينة يكون ملزمًا بصب تعبيراته في قوالبها الحديدية، بل هو حر في طريقة التعبير، طالما هو يؤدي بطريقة تعبيره المعنى المحدد الذي يريد أن يؤديه، فلئن كانت اللغة تنتقل عبر الأجيال تقليدًا، إلا أن هامشًا عريضًا من الإبداع الفردي يظل باقيًا، من حيث اختيار المفردات واختيار الطريقة التي ترتب بها، وسوف أعود إلى هذه الخاصة الإبداعية في غضون هذا الحديث.
وليست اللغة وحدها، هي التي تُمثِّل جانب «التقليد» من «التقاليد» الاجتماعية، بل هنالك من جوانب التقليد في حياة المجتمع عدد كبير يدركه كل من أراد أن يُدير البصر في عناصر حياته مع سائر مواطنيه، فالطعام وألوانه وطرائق طهوه، وماذا يؤكل منه في الصباح عادة، وماذا يؤكل في وجبة الغداء أو العشاء، وما الذي يميز الطعام في رمضان، وفي عيد الفطر، وفي عيد الأضحى، وفي عاشوراء، وفي ليلة النصف من شعبان، كل هذه التفصيلات يقلِّد فيها اللاحقون من سبقوهم، بحيث ينتهي الأمر بالشعب الواحد إلى روح واحدة تميز طعامهم، وهكذا قل في الملابس، وفي وسائل التسلية في أوقات الفراغ، وما إلى ذلك من جوانب الحياة اليومية في الجماعة الواحدة، وكلها جوانب من «التقاليد» الاجتماعية، و«التقليد» هو وسيلة انتقالها من جيل إلى جيل.
لكن كلمة تقاليد — كما أسلفنا — لها دلالات أخرى غير جانب التقليد من معناها، وهذه الدلالات الأخرى هي بيت القصيد في هذا الحديث.
فما قصدنا بهذا الحديث إلا أن يجيء شارحًا لما نعنيه بكلمة «تراث»، عندما نقول إن إطار حياتنا الثقافية والحضارية الجديدة، إنما هو — أو ذلك ما ينبغي له — دمج عضوي تام بين تراثنا من جهة، ومقتضيات هذا العصر من جهة أخرى، فماذا نعني بهذه الكلمة الهامة والخطيرة: كلمة «تراث»؟ إنني ما زلت أذكر تلك اللحظة الفاصلة من حياتي الفكرية، لحظة أن جلست في مكتبة الجامعة حين صحَّ مني العزم على أن أكثف جهدي — وهل أقول: أكثف جهادي — في أن أسد نقصًا خطيرًا أخذت أزداد شعورًا به في تكويني الفكري يومًا بعد يوم، وأعني به ما كان يعوزني من روابط أربط بها الحقائق المفككة المتناثرة التي كانت قد اجتمعت لي مما قرأته من التراث وعن التراث، على مدى بضع عشرات من السنين، نعم، إن ما كان يعوزني عندئذٍ — في أوائل الستينيات — ليس هو «الحقائق» المفردة عن التراث، بل هو ما يربط تلك الحقائق في لوحات متماسكة المحتوى، وأحسست في نفسي بذلك النقص الخطير، الذي لا يجيز لي قط أن أحكم بأيِّ حكم على شيءٍ من تراثنا، وكيف أحكم والصورة المتكاملة الأجزاء والأطراف غائبة عني؟ من هنا صحت عزيمتي على أن أكلف نفسي بما كلفتها به من تحصيل ومراجعات، واصلت فيها ساعات العمل دون أن أحس مرورها، حتى تكامل لي الحد الأدنى من الصورة المتماسكة التي أردتها.
وعندئذٍ كانت جلستي التي أشرت إليها، حين أشرت إلى لحظة فريدة وأنا جالس في قاعة المراجع من تلك المكتبة، وسألت نفسي — قبل أن أهتم بالعمل في ذلك اليوم — ماذا تعني «بالتراث»؟ أهو مجموعة كتب وغير الكتب من صنوف المدونات، بحيث تكون قد ألممت بذلك التراث، إذا أنت قرأت كل ما تحويه المكتبة العربية، أو قرأت أكثره، أو بعضه؟ وإذا كان ذلك كذلك ففيمَ العناء؟ إن الكتب موجودة في خزائنها في هذه المكتبة وغيرها من مكتبات، لا تُعَد ولا تُحصى في شتى أرجاء الأرض، لا، محال أن يكون مطلوبك هو أن تكون مكتبة تمشي على قدمين، إذن ماذا تعني بالتراث؟ هل يكفيك منه اللغة وعلومها؟ فقه الفقهاء؟ شعر الشعراء؟ نقد النقاد؟ هل تريد ما كتبه المتصوفة؟ ما كتبه المتكلمون؟ ما كتبه الفلاسفة؟ وهنالك في التراث أيضًا تاريخ كتبه مؤرِّخون، ورحلات كتبها رحَّالة، وعلم كوني وعلم رياضي كتبه علماء هذه الفروع، فماذا تريد من «التراث» الذي من أجله رفعت لواء الجهد والجهاد؟
كلا، إن ما أريد هو «روح» تشيع في هذا كله، روح تتمثل في كل سطر من كل كتاب، وفي كل بيت من كل ديوان، فإذا وقعت ببصيرتي على لمحة من لمحات ذلك الروح سواء وقعت عليها من قليل قرأته أم وقعت عليه من كثير، وسواء جاءتني تلك اللمحة من نثر أو من شعر، فهي التي تحقق مرادي بقدر ما جاءت كثيرًا بكثير، وقليلًا بقليل، ولكن أليست كلمة «الروح» هنا حين تقول إن مرادك هو الإلمام بروح التراث، كلمة يكتنفها غموض؟ فماذا أردت بها؟ … وأجبت نفسي على سؤالها هذا بقولي: إنني أعني بها التقاليد الأساسية في كلِّ ميدان من ميادين التراث، التي ترى الشاعر، أو الكاتب، أو العالم، أو الفقيه، أو الفيلسوف، أو من شئت من أعلام التراث، قد التزمها في عمله وكأنها جزء من طبعه، لا تكلف فيه ولا تصنع.
تراثنا بهذا المعنى، هو مجموعة تقاليدنا، ولكن — وبهذه الكلمة، كلمة لكن — أريد أن أستدرك استدراكًا عظيم الشأن في موضوعنا هذا، لو أفلت منك فقد أفلت الموضوع كله — أقول: إن تراثنا هو مجموعة تقاليدنا، ولكن بعد أن نطرح من معنى كلمة تقاليد «في هذا الموضع من السياق، جانب التقليد»، وبعد طرحنا لجانب التقليد من معنى التقاليد «يكون باقي الطرح من معنى التقاليد» هو بالضبط ما يعنيه بالتراث الذي نريد له أن يندمج دمجًا عضويًّا مع مقتضيات العصر ليتكون من عملية الدمج مواطن عربي معاصر، لكن هذا القول الموجز يريد منا شرحًا طويلًا يوضح معناه، وفيما يلي بعض هذا الشرح المطلوب:
وأول مثل أسوقه في سبيل الشرح، أستمده من اللغة وطبيعتها، وتستوي في ذلك اللغة العربية وكل لغة أخرى من لغات البشر، وربما أفادنا أن نمهد لما نريد عرضه، بتشبيه يوضح حقيقة الموقف، فتصور معي إنسانًا صاحب أعمال، وضع ماله في مصرف ليسحب منه أي مبلغ من المال أراد، عند قيامه بعمل من أعماله، فالرصيد المالي المودع في المصرف، لا يدل بذاته على العملية التي سوف يؤديها الرجل غدًا أو بعد شهر أو بعد عام، رصيد المال هناك، ينتظر رغبته وإرادته وما ينشأ له في مجرى حياته من أعمال يريد إنجازها، فأما رصيد المال في هذا التشبيه، فهو اللغة، وأما كل سحب من هذا الرصيد لقضاء ما يراد عمله، فهو بمثابة أي جملة أو مجموعة جمل يستخدمها صاحب اللغة ليقضي شأنا من شئونه، فكما أن رصيد المال ليس هو التجارة، أو الصناعة أو إقامة أي مشروع معين، فكذلك اللغة وهي في معاجمها، أو في قواعد نحوها وصرفها واشتقاقها، ليست هي قصيدة الشعر يقولها امرؤ القيس، أو يقولها المتنبي، أو أحمد شوقي، ولا هي موطأ مالك، أو مسند أحمد بن حنبل، ولا كتاب الأم للإمام الشافعي، لا، ليست اللغة وهي في معاجمها وقواعدها هي أي كتاب كتبه مؤلفه في تاريخ، أو فلسفة، أو فلك، وإنما تلك الكتب المؤلفة كلها، هي التي تقابل عمليات السحب من الرصيد المالي المودع في المصرف ليكون رهنًا برغبة صاحبه … ومن أين جاء رصيد اللغة المودع في المعاجم وفي كتب النحو وغيره من علوم اللغة؟ إنه جاء على النحو التالي: كانت هنالك جماعة من الناس يكلم بعضها بعضًا، وفيهم من ينظم شعرًا، ومنهم من يثبت على الورق أي شيء يريد إثباته، ثم جاء من جاء في عصور تالية، من رجال أرادوا أن يجمعوا المفردات اللغوية التي استخدمتها تلك الجماعة في حياتها، ورجال أرادوا أن يستخرجوا من الطرق التي تكلمت بها تلك الجماعة، ما عساه يكون فيها من ضوابط استخدام تلك اللغة عند أصحابها، فإذا تصورنا ما قد جمعه هؤلاء الرجال، وما استخلصوه من قواعد، فقد تصورنا بهذا لغة الجماعة المذكورة، إذ تكون في رصيدها الذي يختزنها، لمن شاء من أصحاب ذلك الرصيد أن يأخذ ما يريده ليستخدمه لما يريد.
وعلى ضوء هذا التصور الذي أسلفنا، لا يكون أي إنسان واحد ممن استخدموا لغة ما، هو اللغة «لم يكن المتنبي أو المعري، هو اللغة العربية»، ولا كان هو اللغة العربية أي رجل ممن استخدموها، اللغة كعين الماء التي لا تنضب، ولكلِّ من أراد أن يغترف منها فليغترف، ولأي غرض أراده، وبأية وسيلة اختار، فهذا ينضح ماءه بدلو، وذلك ينضحه بكوب أو فنجان، وهذا يريد ماءه ليطهو طعامًا، وهذا يريده ليشربه، وثالث يريده ليستحم أو ليغسل ثيابه، كل واحد من هؤلاء ينضح من عين الماء، لكنه ليس هو عين الماء.
وهكذا نقول عن التراث، فهو هناك مخزون في مكتباته وخزائنه، ولكل من شاء أن يغترف منه ما شاء وكيفما شاء بحسب ميدان تفكيره أو مجال نشاطه، لكن الاغتراف نوعان: فقد يغترف دارس منه شيئًا ليحفظه حفظًا أهم عن ظهر قلب ليتظاهر به، أو لا أدري ماذا يصنع به، وقد يغترف منه مبدع أراد أن يلتمس فيه إلهامًا يقدح به شرارة الإبداع، فأما الحفاظ فهم الكتب ذاتها، وقد أصبحت تمشي وتأمل وتجلس وتنام، بعد أن كانت مخزونة في خزائنها ومكتباتها، فليسوا هم — أعني حفاظ الكتب — التراث، بالمعنى الذي نريد به للتراث أن يشتعل حياة ينبض بها عصرنا وتنبض به، وأما الذين يلتمسون في مخلفات السلف إلهامًا توقد به المشاعل، فهؤلاء هم الذين يسحبون من الرصيد ما يحولونه في دنيا الأعمال تجارة وصناعة وكل نشاط مما تموج به الحياة.
إن أحياءنا لتراثنا لا يكون بحفظ نصوصه وتسميعها كلما نشأت مناسبة للتسميع، إن إحياءنا للتراث لا يتحقق بنقله من خزائنه الخشبية إلى جماجم رءوسنا نصًّا بنص، فهذه الرءوس لم تُخلق لتنافس الخزائن، وكذلك إحياؤنا لتراثنا لا يكون بتقليده، إذ المقلد ليس محسوبًا في النبتة الصغيرة كيف تلتمس ماءها وغذاءها، كما تراه في أصغر حيوان كيف يظفر لنفسه بمكان آمن إذا أحاط به الخطر، بل إن إحياءنا لتراثنا إنما يكون بالتزام تقاليده لا بتقليده، فليس فقيه الدين هو من حفظ ما قاله الفقهاء السابقون، بل هو من درس ما قاله هؤلاء الفقهاء، ليصوغ لنفسه فقهًا كما صاغوا، ولتكون له رؤية كما كانت لهم رؤًى، فهو يدرسهم ليتذوق الرحيق لكي يتسنى له أن ينخرط في تاريخ الفقه فقيهًا، وليس الشاعر هو من حفظ دواوين الشعراء السابقين، لكنه هو الذي يتذوق الشعر العربي في تلك الدواوين لكي يتسنى له — بموهبته الفطرية — أن ينخرط في تاريخ الشعر العربي شاعرًا، وليس الناقد الأدبي هو من قرأ كل ما كتبه نقاد الأدب في الماضي، ثم قرأ فوق ذلك كل ما كتبه نقاد الأدب في الحاضر، بل الناقد الأدبي هو من درس هؤلاء وأولئك ليقف على سر المهنة كي يتاح له أن ينخرط في سلك النقد الأدبي أو الفني ناقدًا، إني لأشعر بالقلق الخلقي، كلما وجدتني مضطرًّا إلى شرح ما تدركه البديهة الإنسانية بفطرتها، وماذا هو أكثر بداهة من قولك: إن الشاعر العربي عليه أن يكون شاعرًا عربيًّا، وإن الناقد الأدبي مطالب بأن يكون ناقدًا أدبيًّا؟
قس كلَّ جانب من جوانب التراث، وما يكون موضعه من حياتنا الراهنة، بالمقياس الذي قدمناه بلغة، فاللغة رصيد في المعاجم وقواعد التركيب، ثم يأتي كل مستخدم لها في أي عصر من التاريخ، ليُبدع — أكرر: ليبدع، وأقولها مرة ثانية: ليبدع — يأتي من يستخدم تلك اللغة ليبدع ما لم يسبق إليه سابق، الطفل في أول نشأته، لا يكاد يجمع شيئًا من مفردات اللغة، مع الذوق الخاص في تركيبها، حتى تسمعه يصوغ عبارات على نحو لم يسبق أن صاغ أحد على صورته، لكن ذلك الطفل ما كان ليُبدع صياغته إلا بعد أن يملك من مادة اللغة ما يمكنه من ذلك، وهكذا يكون الأمر بالنسبة لكلِّ مبدع في أي مجال، يبدع الفقيه بوحي من دراسة الفقه عند القدماء، ويبدع الشاعر بوحي ما أنتجته القريحة العربية من شعر القدماء، وهكذا في كل شيء، هل يمكن لمهندس العمارة أن يبدع تصميمًا لمسجد إذا هو لم يكن قد رأى في حياته مسجدًا؟ وربما سألتني عمن صمم أول مسجد، فأجيبك إن الناس لم يمسوا ذات ليل ثم أصبحوا مع فلق الصبح ليروا مهندسًا يُقيم مسجدًا محسوبًا في فن العمارة من لا شيء، بل إن الأمر ليحتاج إلى بداية ساذجة، ثم تظل تلك البداية تتطور لتوغل في مجالها الفني على امتداد التاريخ.
علاقتنا بتراثنا هي أقرب شيء إلى اكتساب كل ذي موهبة، حسًّا تاريخيًّا فيما يتصل بمجال موهبته، فهو إذ ينتج ما ينتجه إبداعًا غير مسبوق إليه إنما يفعل ذلك وهو ممتلئ بشعوره بالانتماء لا إلى جيله وحده، بل بالانتماء إلى كل من ظهروا في التاريخ مبدعين في الميدان الذي جاء هو بدوره ليبدع فيه، فالفقيه المعاصر ينتمي إلى الفقه متمثلًا في جميع من شهدهم تاريخ الإسلام من فقهاء، والشاعر العربي المعاصر، يرتد انتماؤه إلى الشعر العربي لا في جيله وحده، بل منذ عرفت الحياة الإنسانية شعرًا … وهكذا في أيِّ مجال آخر للإبداع في الفكر والأدب والفن.
حقيقة الموقف الإبداعي في أي فرع من فروع الثقافة والعلم بكل ما يشتملان عليه من فروع هي أن توضع اللحظة الراهنة في خطها التاريخي، وإلا فكيف تتاح لها أن تجد مكانها؟ هل يمكن لعالم الرياضة ألا يكون على علم بما وصل إليه علماء الرياضة قبله، وكيف وصلوا؟ هل يمكن للخياط أن يعرف كيف يجيد صناعته، قبل أن يعرف أصولها؟ «قف لحظة عند كلمة أصول»، إنه لا سبيل أمامك إذا أردت أن تأتي بجديد في أي مجال، نظريًّا كان أم عمليًّا في فن أو في صناعة، إلا إذا عرفت أصوله «لتعرف عندئذٍ كيف تنبثق الفروع» الجديدة من أصولها.
فالمطالبة لحياتنا بصيغة جديدة، تدمج فيها عناصر العصر مع عناصر التراث لا تعني أن نضع شيئًا من هنا إلى جانب شيء من هناك، بل يعني — بكل بساطة — أن يبدع منا من يبدع، وماضينا كله فيما يختص بمجال إبداعه ماثل في وجدانه؛ لأن انتماءه الفني أو العلمي لا يقتصر على جيله الحاضر بل يمتد ليشمل تاريخ مجاله ليتشرب تقاليده، دون أن يقلد أحدًا.