اقرأ باسم ربِّك
في كتابه «الخصائص» يلفت «ابن جني» أنظارنا إلى ما يسميه هو بالاشتقاق الكبير، وكتاب «الخصائص» مؤلف ضخم يقع في ثلاثة مجلدات، يبحث في خصائص اللغة العربية، وهو — كما ذكرت عنه في مناسبة سابقة — أقرب شيء إلى ما نسميه اليوم بفلسفة اللغة، ولست أعرف في تراثنا العربي كله، ما ينافس «الخصائص» في موضوع بحثه، عمقًا وإسهابًا، وأحسب أن علماء اللغة قبل ابن جني، لم يعرفوا إلا ضربًا واحدًا من الاشتقاق، وهو ذلك الذي يتعقب الألفاظ التي يمكن أن تتولد من أصل لغوي واحد، فمن الأصل «كتب» تولد «كاتب»، «مكتوب»، و«كتاب» و«كتيبة»، إلخ، أما الاشتقاق الكبير الذي يلفت ابن جني أنظارنا إليه فشأنه شأن آخر، وخلاصته أن الأحرف الثلاثة التي يتركب منها الأصل الثلاثي، لتعطي معنى معينًا، يمكن أن نغير في ترتيبها، فنحصل بذلك على كلمات أخرى، لكل منها معناها، لكنها جميعًا لا بدَّ أن تكون ذات صلات بعضها ببعض؛ لأنها تكون أشبه بأفراد الأسرة الواحدة، كل فرد منهم متميز بفرديته، لكن يظل الشبه الأسري قائمًا بينهم جميعًا، ثم ضرب ابن جني أمثلة يوضح بها ما زعمه عما أسماه بالاشتقاق الكبير.
وعلى طريق ابن جني، وجدت نفسي مدفوعًا إلى إمعان النظر في كلمة «اقرأ»، وذلك عندما أحسست في لحظة من لحظات التأمل، بأنه لا بدَّ أن تكون هناك أبعاد بعيدة الأعماق؛ لأن يكون أول الوحي الإسلامي هو هذا الأمر الإلهي اقْرَأْ وقد يكون هنالك من العلماء السابقين أو المعاصرين، من تقصَّى تلك الأبعاد، لكن ذلك — حتى إن وُجد — لا يمنعني من متعة التفكير، بل من واجب التفكير؛ لأن عملية التفكير لمن يحسنها، واجب ومتعة معًا، فكانت أول خطوات التفكير عندي، محاولة الإفادة بمبدأ ابن جني في الاشتقاق الكبير؛ لأن ذلك من شأنه أن يُصوب الأضواء على ما يمكن أن يكون وراء الكلمة من الأبعاد التي نبحث عنها.
فمن الأحرف التي تتكوَّن منها كلمة «قرأ»، يمكن استخراج كلمة «أرق» وكلمة «أقر»، فلننظر — إذن — إلى هذين اللفظين المستخرجين، ثم نعود بعد ذلك إلى الكلمة التي هي موضوعنا، وهي الأمر القرآني اقْرَأْ وكونه أول ما نزل به الوحي.
وأبدأ بالأرق، وللأرق علاقة وثيقة وحميمة بالحياة، فالذي يتأرَّق هو الكائن الحي على وجه العموم، والإنسان على وجه الخصوص، فالمادة الموات لا تتأرق لشيء، الحجر لا يؤرقه أن تسفعه الريح العاتية سفعًا، ولا أن ماء المطر يغرقه، ولا إذا شاءت له حرارة الشمس أن يلتهب وتتفتت أجزاؤه، فليس له في طبيعته إلا أن يتلقى ما يتلقاه، إنه ينفعل ولا يفعل … ولا كذلك الكائن الحي على إطلاقه، فماذا تقول في الإنسان؟ ولقد كنت وقعت ذات يوم على تعريف للحياة — أغلب ظني أنني صادفته مرتين، إحداهما عند هربرت سبنسر، والثانية عند برتراند راسل — وخلاصة ذلك التعريف، هو أن الحياة إن هي إلا تعاقب مستمر بين حالتَي التوتر والارتخاء في الكائن الحي، وذلك أن الكيان الحي ذو حاجات عضوية، من غذاء وماء وغيرهما، فإذا أحس ذلك الكيان الحي بالحاجة إلى غذاء توترت أجهزته العضوية، حتى إذا ما سرى فيه الغذاء المطلوب، استراح واسترخى، وهكذا دواليك طالما كان الكائن حيًّا، فإذا وجهنا أنظارنا إلى الإنسان، وجدنا تلك المراوحة لا تقتصر على الحاجات العضوية وحدها، بل يُضاف إليها في هذا السبيل حاجات عقلية وحاجات وجدانية، أشد إلحاحًا عليه وأقسى، فانظر كم تتأزم نفس الإنسان إذا افتقد «الحرية» فلم يجدها، وإذا طلب «العلم» فسُدَّت أمامه الطرق، وفي كلِّ حالة من حالات تأزمه لنقص فينا يشبع حاجاته العقلية والوجدانية، يتوتر كيانه كله، فلا يستريح إلَّا إذا أشبعت له حاجته الظامئة — وذلك هو الأرق الذي تتصف به كل حياة، وتتصف به حياة الإنسان بصفة أخص، وأدق، وأسمى.
ولم يَعُد الآن موضع لغرابة، إذا تناولنا اللفظ الثاني الذي استخرجناه من مادة «قرأ»، وهو كلمة «أقر»، فقد رأينا في الأرق أنه اضطراب يعقبه استقرار عندما تُشبع الحاجة، وهكذا تكون كلمة «أقر» في معناه جزءًا من «أرق» ومعناها.
فإذا عدنا إلى «قرأ»، رأينا في معناها ذلك العُمق الذي ظهر من النظر إلى شقيقتيها السالفتين، ففي فطرة الإنسان التي خلق عليها، حاجة حيوية لأن «يعرف» ما استطاع معرفته عما حوله، وعما في نفسه، فتلك المعرفة عند الإنسان، ليست للزينة، أو للمفاخرة، بل هي لحياته ضرورة كضرورة الهواء يتنفسه، والماء يشربه والطعام يأكله، فما لم «يعرف» الإنسان ما لا بدَّ من معرفته عن المكان الذي يسكنه وعن الزمان الذي يحيا فيه، لما استطاع العيش يومًا واحدًا، انظر إلى أهل الكهف حين استيقظوا، وسعوا في المدينة وهم لا يعلمون أن الزمان قد تغير عما ألفوا، فتعذر عليهم التفاهم والتعامل، وإنه لمصير محتوم على كل إنسان يبتر الروابط عن ظروف مكانه وظروف زمانه، سواء أجاء هذا البتر بإرادته أم جاء مفروضًا عليه، فشرط الحياة للإنسان، حتى وهي في أبسط درجاتها، هو أن «يعرف» ذلك الإنسان في أيِّ مكان هو، وبأي زمان يستظل، ثم تتدرَّج معرفة الإنسان لمكانه وزمانه، تدرجًا يتفاوت فيه الصعود بتفاوت الأفراد، على أن صلاحية المعرفة المكسوبة — وأعني صلاحيتها كمًّا وكيفًا — مسألة لا تُقاس بما يعرفه كل فرد على حدة، وإنما تُقاس بما تعرفه مجموعة الأفراد معًا في شعب معين، إذ المطلوب ليس هو أن يعرف كل مواطن كل شيء، بل المطلوب هو أن يكون حاصل جمع ما يعرفه أبناء الشعب المعين، فيه ما يكفي لحياته كما يريد لنفسه أن يحيا …
هي فطرة الإنسان، التي لا تكلف فيها ولا تصنع، هي فطرته أن يكون على «معرفة» ما استطاع إلى ذلك سبيلًا … فإذا لم يشبع من فطرته تلك حاجتها من المعرفة «تأرقت» نفسه لذلك النقص الذي يحد من إنسانيته، بل يحد من قدرته على الحياة، وأما إذا أشبع تلك الحاجة «أقر» بذلك نوازع نفسه، ولكن ما وسيلته إلى تلك المعرفة التي هي من حياته بمثابة القلب والصميم؟ وسيلته إليها هي أن «يقرأ»، ومن هنا كان أول الوحي هو: اقْرَأْ.
القراءة أمرٌ إلهيٌّ للإنسان، بل هي من الأوامر الإلهية أوَّلها نزولًا، فهل نخطئ إذا قلنا عن القراءة إنها عبادة؟ ولكن ما كل قراءة هي من ذلك القبيل الأسمى، بل إن من القراءة ما يضل ويُفسد، إذن، فماذا تكون؟ وكيف تكون؟ إن الإجابة تتبدَّى في صيغة الأمر الإلهي نفسه: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، في كلتا الحالتين يأتي الأمر بالقراءة متبوعًا باسم الله، فليست القراءة الواجبة — إذن — هي قراءة الآلي، وإنما هي القراءة التي تفك بها الرموز، فيكشف عن الكنوز المكنونة من معرفة لما كتبه قلم يحمل علمًا كان مجهولًا للإنسان قبل قراءته «الحالة الأولى»، ومن معرفة لما خلقه الله، وذلك بدراسته ما وسع الإنسان أن يدرس ليعلم «الحالة الثانية».
هي قراءة مزدوجة، فرع منها يقرأ الكلمات، وفرع آخر يقرأ مخلوقات الله، والفرعان كلاهما يستهدفان هدفًا واحدًا، وهو، «المعرفة» بعد فك الرموز والكشف عما تعنيه، ولعل الأمر يزداد أمامنا وضوحًا إذا ذكرنا محاولة من أهم محاولات الفلاسفة المسلمين الأولين، وهي محاولة قد وفقوا فيها إلى حدٍّ بعيد، وأعني محاولتهم أنْ يبينوا بأنَّ الحقائق التي نزل بها الوحي قرآنًا، هي نفسها الحقائق التي يصل إليها العقل علمًا، وربما كان أمتع وأنفع ما نقرؤه في هذا المجال، هو كتاب «حي بن يقظان» لابن طفيل، فهو «أمتع»؛ لأنه «أدب من حيث الشكل الروائي»، وهو «أنفع» لأنه وضع أمام قارئه إنسانًا نشأ وحده على جزيرة ليس فيها إلا نبات وحيوان وكائنات مادية كالأرض والماء والشمس، فلما نما جسمًا، ونضج عقلًا، استطاع من تأمل المخلوقات التي حوله، أن يستدل بعقله المحض على وجود الله، وطبائع الأشباه، وأريد للقارئ أن يتأمل الاسم الذي اختاره ابن طفيل لبطل روايته الفلسفية، إذا استخدمنا مصطلحات الأدب في عصرنا، وأحب هنا أن أضيف حقيقة إملائية، وهي أن القارئ إذا ما رآني قد كتبت «ابن طفيل» بحرف الألف في «ابن»، فذلك هو الصواب؛ لأن الألف في «ابن» لا تُحذف إلا إذا جاءت بين اسمين كقولنا: «عمر بن الخطاب» — أعود إلى سياق حديثي، فأقول إنني أريد للقارئ أن يتأمل اسم «حي بن يقظان»، ليرى كيف أحسن ابن طفيل اختيار الاسم؛ لأنه إذا كان الإنسان المعزول وحده في جزيرة منذ وُلد، قد استطاع بعقله أن «يقرأ» الكائنات من حوله، قراءة كشفت له عن الحق سبحانه، وعن حقائق الأشياء وطبائعها؛ فذلك لأنه لم يكن غافلًا ولا لاهيًا بما يسمع ويرى، أعني لم يكن غافلًا ولا لاهيًا عندما «قرأ» الذي قرأه فيما حوله، فذلك لأنه «حي» بكل معنى الحياة، ولأنه «يقظان» بكل وعيه وإدراكه … فهذا الذي صنعه الفلاسفة المسلمون الأولون، حينما بيَّنوا التقاء ما نزل به الوحي، وما يدركه العقل باستدلالاته وبراهينه، يوضح لنا ما قلناه عن القراءة بشعبتيها، وتلك هي القراءة العابدة؛ لأنها قراءةٌ باحثةٌ كاشفةٌ عارفة.
ومن هذا الذي قدَّمناه، تتولد نتيجة أراها ذات أهمية كبرى في رؤيتنا الإسلامية من جهة، وفي تربية أبنائنا على تلك الرؤية من جهة أخرى، وأعني بها النظرة التي ننظر بها إلى الحلال والحرام، اللذين هما جوهر الشريعة، فالحلال حلال لأن شريعة الله قد أحلَّته، والحرام حرام لأن شريعة الله قد حرمته، وهما بغير شك مطاعان عند المسلم لمجرد أنهما شريعة الله، وهناك علماء من أفضل العلماء، يرون أن طاعة المسلم فيما حلل له وما حرم، يجب أن تؤخذ بغير أن يسأل: لماذا كان الحلال حلالًا وكان الحرام حرامًا؟ والرأي عند كاتب هذه السطور هو — بكل التواضع الذي يقبل التصحيح بلا تردد إذا ظهر له أن في الرأي خطأ هو لا يراه، أقول: إن الرأي عند كاتب هذه السطور هو أن الخير كل الخير أن نسأله: لماذا؟ وأن نحاول الجواب والبيان.
وهذا الرأي أبنيه على ازدواجية القراءة التي أسلفت ذكرها، فإذا كان الأمر هو كما بيَّنه الفلاسفةُ المسلمون الأوَّلون، أن العقل يمكنه بالاستدلالات الصحيحة من وقائع العالم كما تقع لنا، أن يستنتج الأحكام التي نزلت وحيًا، كان معنى ذلك هو أن الحلال والحرام هما النافع والضار فيما يدركه العقل، لو أنه تعقب حقائق الأشياء وطبائعها ونتائجها القريبة والبعيدة، فكل حلال إنما هو في حقيقته الواقعية، شيء يُفيد فائدة مطلقة، لا يحتمل أن يشوبها ضرر مهما امتدَّ حبل النتائج التي تترتب عليه، وكل حرام هو شيء ضار، قد يظهر ضرره فور وقوعه، وقد يكون ضررًا كامنًا تظهر نتائجه بعد حين قصير أو طويل، وأعتقد أن بيان ما هو حلال وما هو حرام، لمن نربيه على الإسلام، يزداد عمقًا في نفس المتعلم — وفي نفس المسلم عامة — إذا «عرف» بعقله لماذا حلل والحلال وحرَّم الحرام، إن الأوامر والنواهي لا يتبدل فيهما شيء، عندما ينتقلان من مرحلة القبول الذي لا يسأل عن الأسباب، إلى القبول ومعرفة أسبابه، ففي تربية الوالد الرشيد لولده، يأمره بأفعال وينهاه عن أفعال، لكنه يمسك عن ذكر الأسباب إذا رأى طفله أقل قدرة على إدراك تلك الأسباب، لكن كلما نما ولده وازداد قدرة، اتسع المجال أمام ذلك الوالد، ليشرح لولده لماذا كان الأمر ولماذا كان النهي.
لكنه في الوقت الذي لا يتغير فيه شيء من الحلال والحرام، بين أن يكون الإنسان على علم عقلي بالأسباب، أو لا يكون على شيء من ذلك العلم، فإن الفرق كبير في الإنسان نفسه، بين أن يعلم تلك الأسباب وألا يكون على علم بها، فاستعداد الإنسان لقبول أحكام بغير علم بمبرراتها، قد يتسع مداه في حياته الإدراكية — دون أن يشعر بذلك — من دائرة الطاعة الصامتة في مجال الدين، إلى الطاعة الصامتة كذلك في مجال العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك علاقة الحكومة بالشعب، وعندئذٍ قد يطغى من يطغى، دون أن يكون من حق المحكوم أن يسأل لماذا؟ … ثم قد يتسع المدى كذلك لينتقل الإنسان السلبي في طاعته، من دائرة الأحكام الدينية، إلى دائرة الاعتقادات التي لا هي من أحكام الدين فتطاع بغير سؤال من العقل، ولا هي من المعرفة العلمية التي محَّصها العقل وأثبت صحتها قبل قبولها؛ وأعني بتلك المجموعة الضخمة من الاعتقادات، التي لا هي من دين، ولا هي من علم، تلك «الخرافات» التي إذا شاعت ودامت مع الناس، رسخت في نفوسهم كأنها حقائق لا موضع فيها لجدل أو سؤال، لا سيما إذا كانت الأغلبية الغالبة من الشعب قد حُرمت من الحد الأدنى من التعليم والتثقيف، ذلك الحد الأدنى الذي لا يسمح لصاحبه أن يقبل رأيًا، أو فكرة، أو حكمًا أو صورة من صور السلوك، إلَّا إذا كان لها مُبرر معروف.
وأرتفعُ بالمسألة المطروحة درجة، لأقول إن عقيدة المسلم هي أن الإسلام دين لكل زمان ولكل مكان، ومن الحكمة أنْ نُبين للناس ذلك الأساس الذي يُؤيد صدق عقيدة المسلم في دينه، والأساس هو استناد الإسلام إلى «العقل» ليكون هو أداة الإدراك كلما أريد للفكرة المدركة أن يكون لها ثبوت وثبات، وليس الإسلام هو المسئول، إذا نشأت جماعة من المسلمين على تربية تبيح لهم أن يبيعوا عقولهم من أجل خرافة ووهم، فالحقيقة العقلية وحدها هي التي تستطيع بحكم طبيعة تكوينها — أن يدوم لها صدقها مهما تغير بها المكان أو الزمان، وإذا قلنا الحقيقة العقلية فقد قلنا الحقيقة العلمية، إذ لا فرق — في الأساس — بين العبارتين، وهل يتأثر الصدق في قولنا «إن الاثنين نصف الأربعة.» مهما تغير المكان أو الزمان الذي تُقال فيه؟
من هنا يكون الفرق بين أن تذكر لي أسلوبًا معينًا من أساليب العيش، قائلًا لي إنه أسلوب جيد أو أسلوب رديء، وبين أن تذكر لي في الوقت نفسه «المبدأ» العقلي (أي التعليل) الكامن وراء ذلك الأسلوب من أساليب العيش، فيجعله حسنًا أو رديئًا؛ لأن المبادئ العقلية، أو قل: الحقائق العلمية هي وحدها التي لا يتغير من صدقها شيء برغم تحولات المكان والزمان، وفي هذه المناسبة أروي عن سقراط، وقد كان في موقفه من تاريخ الفكر الإنساني، ينقل المفاهيم العامة والهامة في حياة الناس، ينقلها من حالات الغموض والإبهام إلى حالة التحديد العلمي؛ ليتبين صدقها أو بطلانها، فلقد صادف سقراط شابًّا في ساحة المحكمة، وسأله عما جاء به إلى هناك، فقال له الشاب (وهو أوطيفرون): جئت لأشكو أبي؛ لأنه قتل عبدًا في المزرعة بغير حق، مما قد جاوز بالوالد حدود التقوى، فسأله سقراط، وما هي حدود التقوى؟ فأجابه الشاب بما معناه أنها هي الحدود التي جعلت أباه في قتله للعبد على باطل وضلال، وجعلته هو في رفع الأمر إلى القضاء، مع أن القاتل هو أبوه، على حق وهدى، فاعترض سقراط على تلك الإجابة، مبينًا للشاب أنه إنما يحدد معنى التقوى بسلوك معين في موقف معين، مع أن التحديد لا تتوافر فيه الشروط العقلية — إلا إذا جاوزنا الموقف المعين، لنستخرج ما يكمن وراءه من «مبادئ»؛ لأن المبدأ هو الحقيقة العامة التي تتخطَّى جزئية السلوك الفردي في مكانه المعين وزمانه المعين، ليشمل كل سلوك لأي فرد، في أيِّ مكان، وفي أيِّ زمان …
وهذه النقطة هي عندي بيت القصيد، فلقد كان الإسلام آخر الرسالات الدينية لهذا السبب نفسه، وهو أن الإسلام قد أوكل المشكلات التي قد تنشأ في حياة الناس، مما لا يكون قد ورد فيه حل قاطع، أو كلها إلى «العقل» الإنساني؛ أي أنه أوكلها إلى «العلم»، فكل مشكلة هامة تعترض حياتنا، هي بمثابة موضع يختص به علم معين، أو مجموعة علوم، إذ قد تكون من اختصاص علماء الطب أو علماء الاقتصاد أو علماء النفس والاجتماع، أو غير ذلك من سائر العلوم، بحسب طبيعة المشكلة المطروحة، وما دام الأمر في تدبير الحياة إذا ما أشكلت على الناس، قد أحيل (في الإسلام) إلى عقل الإنسان وعلمه، ففيم تكون الرسالات الدينية بعد ذلك؟
إنها رؤيةٌ إسلامية، تنظر إلى الإسلام من ناحية إقراره لعقل الإنسان وأحكام ذلك العقل في استدلالاته إذا ما التزم فيها منهج العلم، وهي رؤية أذكرها، لا لأضيف بها جديدًا من حيث الأساس، بل لأذكر بها من نسيها أو تناساها والذكرى تنفع المؤمنين.