مُتطرِّف تحت المجْهَر
لا أذكر من هو الشاعر، ولا من هو الخليفة أو الأمير الذي قال الشاعر شعره بين يديه، لكنني أذكر بيتَي الشعر اللذين تبادلهما الشاعر والأمير، فوضع كل منهما وجهة نظره في بيت الشعر الذي ارتجله من وحي الموقف، فيبدو أن الأمير (أو لعله كان الخليفة المنصور) كان متسرعًا يعجل الفعل قبل أن يتدبره في رَوِيَّة وأناة: فوجه إليه الشاعر النصح في بيت من الشعر، مؤداه أن صاحب الرأي من واجبه أن يتدبر رأيه قبل أن ينتقل به إلى مجال التنفيذ، إذ لا يفسد الرأي إلا أن يتعجل صاحبه إلى الفعل قبل أن يستيقن من صواب ذلك الرأي، وهنا أسرع الأمير (أو الخليفة) بالرد في بيت من الشعر، أجراه على منوال البيت الذي قاله الشاعر، إلا أنه أخذ فيه بوجهة نظر مضادة، إذ قال: إن صاحب الرأي ليس في حاجة إلى التدبر بقدر ما هو بحاجة إلى العزيمة، إذ ليس ما يفسد الرأي هو الإسراع به نحو التنفيذ، وإنما يفسده أن يتردد صاحبه في تنفيذه، وهذان هما البيتان:
قال الشاعر:
فأجاب الأمير:
وأذكر أني في ساعة من ساعات الفراغ، أخذت ألهو في هذين الموقفين من الحياة، فأيهما يا ترى أقرب إلى الصواب؟ وهما موقفان كثيرًا جدًّا ما نراهما يقسمان الناس صنفين: صنفًا يتروَّى قبل التنفيذ، وصنفًا آخر لا تكاد فكرة تطوف بخاطره حتى يُسرع إلى تنفيذها، والأغلب أن يكون الصنف الأول ممن أنضجته خبرة السنين، وعرف أن الرأي المعين في الموقف المعين، كثيرًا جدًّا ما تقابله وجهات نظر أخرى تستحق الالتفات إليها، والموازنة بينها، قبل الانتهاء إلى قرار أخير، والأغلب أن يكون الصنف الثاني ممن لا يزال محكومًا بانفعالاته وعواطفه من الشباب أو من هم في حكم الشباب، فليست العبرة هنا بعدد السنين، وإنما العبرة بغزارة الخبرة المحصلة أو ضحالتها.
وبعد مراجعات أُقارن فيها بين الموقفين وأُوازن: لمع الذهن بحلٍّ يجمع بين وجهتَي النظر في موقفٍ واحد: فليس الصواب هو أن نجعل الأمر بديلين، علينا أن نختار أحدهما وأن نترك الآخر: فإما أن نتدبر الرأي ونتروَّى قبل العمل، وإما أن نعزم عزيمتنا مسرعين إلى العمل بلا تردد بين جانب الخطأ منه وجانب الصواب، فحقيقة الأمر — كما بدا لي — هي أن الطريق إلى العمل ذو مرحلتين: أولاهما مرحلة للتدبر، وثانيتهما مرحلة للعزيمة التي تهم بالفعل بناءً على ما وصلت إليه المرحلة الأولى: فإذا رأينا الناس وكأنهم منقسمون صنفين في هذا الصدد، فما ذلك إلا أن صنفًا منهم يقف عند المرحلة الأولى وحدها، وكأن إمعان التدبر قد أصابه بالشلل، وأما الصنف الثاني فهو الذي يتجاهل المرحلة الأولى، ويجعل نقطة البدء والانطلاق معًا في المرحلة الثانية، وكلا الرجلين نصف إنسان.
ولأمر ما، تواردت في رأسي عند تلك اللمعة الذهنية، ذكريات لا حصر لها، لمواقف كَثُر فيها اللغو بيننا، في التفرقة بين ما نُطلق عليه اسم «الكليات النظرية» و«الكليات العملية»، وهو تقسيم لا يجري بدقة مجرى التقسيم الذي باعد المسافة بين الشاعر والأمير، إلا أنه برغم ذلك يمت إليه بسبب؛ لأن شيئًا شبيهًا بما قلناه عن وجوب الجمع بين تدبر الرأي وعزيمة تنفيذه، ليكونا مرحلتين لا بدَّ أن يتكاملا معًا في الإنسان الواحد، نقوله كذلك فيما هو «نظري» وما هو «عملي» من ضروب العلم، فكل «علم» عرفته الدنيا من أول التاريخ الذي عرف فيه الإنسان كيف يفكر على نهج العلم، هو «نظري» أولًا، وعملي ثانيًا، إذا قسم «للنظرية» أن تجد من ينقلها إلى مجال التطبيق: وإلا فكيف يكون؟ أيبدأ الإنسان بالخبط هنا والتخبط هناك بغير «فكرة» في فكره؟ أم أنه يبلور خبراته المتفرقة في «فكرة» يقتنع بصوابها ثم يهم بتنفيذها: فإما طاوعه الواقع على فكرته، فتكون فكرته صحيحة، وإما استعصى الواقع على فكرته فتكون فكرة خاطئة؟ ولعل ما أضلنا عند القسمة إلى «نظري» و«عملي» في كليات الجامعة هو خلط فكري أفدح: إذ حسبنا دراسة العلوم الإنسانية أدخل في باب «النظري»، غافلين عن أن النظري هو ما يستند إلى «النظرية»، والنظريات بهذا المعنى، تعرفها العلوم الطبيعية أكثر مما تعرفها العلوم الإنسانية؛ لسبب واضح — هو أنه قرينة الدقة عندما تعلو درجاتها، وإذا شئت فراجع ما شئت من بلاد الدنيا، لترى كيف تُقسم فيها أنواع الدراسات، ولن نجد — فيما أعتقد — أحدًا سوانا نقل صفة «النظري» من موصوفها الحقيقي، وهو العلوم الطبيعية، إلى غير موضوعها الأساسي المباشر، وهي العلوم الإنسانية، فهذه علوم مختلف على منهجها حتى اليوم: هل يكون في نفسه منهج البحث في العلوم الطبيعية، أو يكون لها منهج خاص؟ وذلك لأن «النظرية» في أي علم، إذا ما وجدت سبيلها إلى دقة الصياغة، وغالبًا ما تكون الصياغة الدقيقة في صورة رياضية، كان ذلك دليلًا على أن ذلك العلم قد بلغ مرحلة متقدمة من الدقة والقدرة على التنبؤ الصحيح في مجاله.
ثم انعرجت بي الخواطر نحو الكليات الجامعية وأسمائها، فرأيت كم تعجل أولئك الذين أطلقوا تلك الأسماء على غير مسمياتها؛ فالتي أطلقوا عليها اسم «كلية الآداب» لا تدرس آدابًا بالمعنى المعروف لهذه الكلمة، ولا كان مقصودًا بها أن تفعل — وإنما هي تدرس علومًا اجتماعية، أو علومًا إنسانية، فلماذا لم يُسموها باسمها؟ و«كلية التجارة» لا تدرس تجارة، بل تدرس محاسبة وإدارة، فلماذا لم يُسموها باسمها؟ وكلية «الحقوق» تدرس القانون، فلماذا لا تُسمَّى كلية القانون كما هي الحال في سائر بلاد الدنيا؟
ولكنني سرعان ما أوقفت هذه الخواطر متهكمًا، قائلًا لنفسي: هذه الأسماء كلها، وإن أطلقها من أطلقها على غير مسمياتها، فهي حتى وإن اختلف الناس حول معانيها، فلن يؤدي بهم ذلك الاختلاف إلى قتالٍ تُسفك فيه الدماء، وماذا أنت قائل في مجموعات أخرى من الأسماء يفهمها الناس على أوجه مختلفة، ثم ينتهي بهم انقسامهم في الفهم إلى عراك، ينشُب بينهم بالكلمات أول الأمر ثم يتحول العراك إلى ساحات الحرب ونيران المدافع؟! فاسم «الديمقراطية» يطلقه فريق على نظام تتعدد فيه الأحزاب لتعدد وجهات النظر، ويطلقه قوم آخرون على نظام الحزب الواحد لواحدية الرأي الذي لا يجوز له عندهم أن يتعدد، فإذا قال الأولون: هذه هي الديمقراطية، ردَّ الآخرون بقولهم، بل الديمقراطية هي هذه، وعلى العرافين، والمنجمين، وقُرَّاء الكف والفنجان، أن يكشفوا للناس وجه الحق بين الفريقين، قبل أن ينتقلا بالخلاف إلى لغة الحديد والنار، وكل إنسان على كوكب الأرض يرفع لواء «الحرية»، وهل شهد التاريخ كله حاكمًا واحدًا يُعلن عن نفسه أنه يحكم لغير الحرية؟ إنه يقتل من أجل الحرية، ويزج في السجون من أجل الحرية، ولكن تعال فانظر إليهم، كيف يفهمونها على معانٍ تختلف باختلاف العصور وباختلاف الشعوب في العصر الواحد، تجد عجبًا، إننا هنا لا نريد أن نُسيء الظن بأحد، فكل يحب وطنه وأهله إلى حد العشق والهيام، لكن العلة هي في فهم الناس للكلمات، فواحد يقول إن الحرية أساسًا هي حرية الفرد، وهي نفسها الحرية التي جاءت رسالات السماء لتقررها لكلِّ فرد حيث يكون مسئولًا حقًّا عما قدمت يداه وهو بين يدي الله يوم النشور، لكن قومًا آخرين يتعجبون إذ هم لا يرون كيف تكون حرية إلا لكتلة الشعب معجونة كلها معًا في عجينة واحدة، إن الحرية عند الأولين هي آخر الأمر أن يعبر المواطن عن نفسه فكرًا وعقيدة وسلوكًا ولا تقيده في ذلك إلا ضوابط تستهدف في نهاية المطاف أن يُتاح للإنسان الحر أن ينعم بذلك التعبير عن ذات نفسه، وأما الآخرون فلا يخجلهم أن يقولوها صريحة، وهي أن الحرية في آخر التحليل — هي أن يأمن كل مواطن على رغيف الخبز …
جاءت معي تلك المقارنات استطرادًا طبيعيًّا، في تلك الجلسة الهادئة التي بدأتها بموقف المناظرة الشعرية التي دارت بين الشاعر والأمير (أو لعله الخليفة) حول أن يكون صاحب الرأي ذا تدبير أو أن يكون ذا عزيمة، ثم أخذ تعاقب المعاني ينتقل بي من موضوع إلى موضوع، وكان الرابط بين مختلف الموضوعات التي طرقتها، هو اختلاف الناس في فهم الكلمات التي يستخدمونها، ثم ما هم إلا أن ينقلهم الوهم إلى الاعتقاد بأنهم إنما يختلفون على حقائق الواقع، وحقائق الواقع هي هي، لكن كلًّا منهم يريد أن يأخذ جانبًا منها دون جانب، ويظن مع ذلك أنه أخذها جميعًا واستوعبها من شتى أطرافها … ولبثت خواطري تلك تنساب بي من مجال للحديث إلى مجال، انسيابًا طليقًا لا يقيده هدف محدد أبتغي الوصول إليه، لكن الله العليم الخبير شاء لي أن يتحول معي ذلك الانسياب الحر إلى موقف جاد وحاد: وكان ذلك عندما طرق على الباب زائر عاد لتوِّه من سفر، ولا أعرف ماذا كانت مناسبة الحديث التي ظهرت فيها فكرة التطرف الديني، وقد يكون زائري نفسه هو الذي افتعل ظهورها افتعالًا: ليقول لي في شيء من الرعشة العصبية المكشوفة: لست أفهم كلمة التطرف يوصف بها متدين، فالمتدين الحق متمسك بدينه، لا زيادة ولا نقصان، إنه إنسان يلتزم الخط الديني، وخط الدين خط واحد، والأمر بعد ذلك يكون في أفراد الناس هو: إما سائر على هذا الخط وإما منحرف عنه، فأين يكون في هذه الصورة الواضحة مَن هو معتدل ومَن هو منحرف؟ قلت لزائري: قد فاتتك تفرقة مهمة بين طرفين، هما «الدين» كما هو مثبت في كتابه المُنزل من جهة، و«المُتدين» بذلك الدين من جهة أخرى، فبينما الكتاب «واحد»، فإن المتدينين به كثيرون، وليس هو من الأمور الشاذة في طبيعة الناس، أن يختلفوا في طريقة فهمهم لنص واحد قرءوه: وهذا هو ما حدث بالفعل للمسلمين (كما حدث مثله في أتباع الديانات الأخرى جميعًا)، فالمسلمون متفقون على الكتاب الكريم، لكنهم مختلفون في فهمهم لبعض آياته: ومن هنا نشأت المذاهب المتعددة، ومِن ثَمَّ يكون معنى التطرف يا صاحبي هو أن يأخذ المسلم بطريقة معينة في الفهم، أو قل: بمذهب معين، ثم يُعلن أنه هو وحده الصحيح، وقد أخطأ الآخرون، ولو وقف أمره عند هذا الحد، لما كان عليه غبار؛ لأن معنى أن يأخذ إنسان بمذهبٍ معينٍ دون سائر المذاهب، هو أنه قد رأى الصواب في جانب المذهب الذي اختاره، لكنه ينقلب «متطرفًا» إذا هو أراد أن يُحمل الآخرون بالقوة — كائنة ما كانت صورة القوة — على مشاركته فيما اعتقد.
- أولًا: ليس ما يؤخذ على المُتطرِّف أنه قد اختار لنفسه وجهة نظر يرى الأفكار
والمواقف من خلالها، لا، فهذه — على العكس — علامة نضج، وكذلك ليس ما
يُؤخذ عليه أنه يحاول إقناع الآخرين بمشاركته في وجهة نظره؛ لأن تلك
المحاولة منه إنما هي علامة إيمانٍ بصدق ما رأى، لكن الذي يُؤخذ عليه
حقًّا هو إرهابه للآخرين، لإرغامهم على قبول ما يدعو إليه هو وزمرته،
ففي ذلك الإرهاب جوهر التطرف.
ولأضرب لك مثلًا على ذلك من التاريخ: فإنه لما نشبت الحرب بين الإمام علي — كرم الله وجهه — وبين معاوية، على الحق في إمارة المؤمنين لمن تكون، كان الموقف يتضمن رأيين في أحقية الخلافة، أولهما: أن آل النبي — عليه الصلاة والسلام — أحق من غيرهم بها، وفي هذه الحالة تكون الأحقية لعلي، فضلًا عن أن عليًّا قد بُويع بالفعل، والرأي الثاني: هو أن أحقية الخلافة جائزة لكلِّ ذي أصل عربي، سواء أكان من آل بيت رسول الله ﷺ أم لم يكن، وفي هذه الحالة لم يكن ثمة ما يمنع أن يتولاها معاوية إذا توافرت له البيعة، فلما ثارت في قلب المعركة مسألة الاحتكام إلى الكتاب الكريم، في فضِّ الخلاف بين الفريقين المتحاربين، تطورت الحوادث تطورًا سريعًا أدَّى إلى أن يُعلن بعض أنصار الإمام علي — كرم الله وجهه — خروجهم عليه؛ اعتقادًا منهم بأنه لم يكن حاسم الرأي في مسألة الاحتكام إلى الكتاب، وأطلق على هؤلاء المعارضين اسم «الخوارج».
ولم يلبث هؤلاء الخوارج أن كونوا لأنفسهم وجهة نظر شاملة، كان منها رأي في أحقية الخلافة، فلا هم سلموا بأولوية آل البيت في ذلك الحق على سواهم، ولا هم وافقوا على أن يقصر ذلك الحق على من كان ذا أصل عربي من بين المسلمين الأكفاء للخلافة، وخرجوا برأي ثالث، هو أن كلَّ مسلم له حق الحكم ما دام ذا قدرة معترف بها، دون أن يكون بالضرورة من أصل عربي، أو أن يكون بالتفضيل من آل البيت: فإذا ضممنا هذا الرأي إلى غيره من آرائهم، ونظرنا إليها في ذاتها، فربما وجدنا وجهة نظر الخوارج خالية مما يُؤخذ عليهم، فهي وجهة نظر لا تقل عن سواها من وجهات النظر: إذن فلماذا نفرت منهم الأمة الإسلامية، ولا تزال تنفر من مجرد ذكرهم؟! كانت العلة في تطرفهم بالمعنى الذي أسلفته عن التطرف؛ وهو اللجوء إلى القسوة العنيفة، إرهابًا لكلِّ من وقعت عليه أيديهم حتى يوافق على وجهة نظرهم، وإن لم يفعل قتلوه بأفظع صور القتل وأبشعها، ولا بدَّ أن نُضيف هنا حقيقة عنهم لتكتمل الصورة أمام القارئ، وهي أنهم كانوا لا ينقطعون عن عبادة الله لحظة واحدة، ويُديمون الصلاة، حتى لقد كانوا يُعرفون بما كانت تتقرح بهم جباههم من السجود على حصباء الأرض العارية، فالخوارج — كما ترى — قد أغضبوا الأمة الإسلامية على طول التاريخ الإسلامي كله، لا لمجرد أن لهم وجهة نظر إسلامية خاصة، ولا لأنهم قصروا في عبادة الله، بل هم أغضبوها بتطرفهم حين يكون معنى التطرف لجوء صاحبه إلى الإرهاب، فلا هي الموعظة الحسنة وسيلتهم، ولا هي الجدل بالحجة تُقارع الحجة، ولا هي الحكمة: وتلك الوسائل الثلاثة هي وحدها المذكورة في القرآن الكريم.
- ثانيًا: إذا كان اتخاذ الإرهاب وسيلة لإرغام الخصوم، هو العلامة الحاسمة التي تميز المتطرف عمن سواه، كان محالًا أن يلجأ إليه إنسان قوي واثق بنفسه وبعقيدته، وإنما يلجأ إليه من به ضعف في أية صورة من صوره، لماذا؟ لأن الإنسان إذا أحسَّ في نفسه ضعفًا، تملكه الخوف من أن يطغى عليه أصحاب المواقف الأخرى، وكأي خائف آخر، ترى المتطرف هلعًا جزوعًا، يسرع إلى أقرب أداة للفتك بخصمه إذا استطاع قبل أن تتسع الفرصة أمام ذلك الخصم، وليس هذا النزوع العدواني مقصورًا على المتطرف في الدين، بل هو نزوع نلحظه في كلِّ ضروب التطرف الأخرى، فإذا أحدثت جماعة انقلابًا في بلدها، تولت على أثره مقاليد الحكم في ذلك البلد، فإنها على الأرجح لا تتريث قبل أن تنزل على من تتوخى فيهم المعارضة، كل ضروب التنكيل والتعذيب تخلصًا منهم أولًا، ليكونوا عبرة لغيرهم ثانيًا.
- ثالثًا: لا يتطرف بالمعنى الذي حددناه للتطرف: إلا من حمل على كتفيه رأسًا
فارغًا وحاويًا، اللهم إلا أضغاثًا دفع بها إلى ذلك الرأس، عن فهم أو
عن غير فهم؛ وذلك لسببين يأتيان على التعاقب في خطوتين: فمن جهة أولى،
لا تكون الأفكار التي شحن بها رأسه علمية بأي معنًى من المعاني، إذ
الفكرة العلمية لا هي تتطلب أن يتعصب لها أحد بالتطرف فيها، ولا الأخذ
بما يشعر في نفسه بأي حافز يحفزه إلى ذلك؛ لأنها ما دامت فكرة علمية
فهي مقطوع بصوابها من ناحية، وخالية من أية شحنة انفعالية، من ناحية
أخرى، وهنا ننتقل إلى الخطوة الثانية: وهي أن ما يمتلئ به رأس المتطرف،
ما دام لا يمت إلى العلم بصلة فلا بدَّ — إذن — أن يكون فيه الخصائص
المضادة لخصائص العلم، ومنها حرارة الانفعال، وغموض المعنى، واحتمال أن
تتعدد فيها وجهات النظر في فهمها وتأويلها واغتراف جانب من جوانبها مع
إهمال الجوانب الأخرى.
وهذه الخصائص كلها لا غبار عليها، إذا كان رأس حاويها فيه القدرة الناقدة، وموضوعية النظر، بحيث إذا تقدم إليه ناقد بنقد شيء مما في رأسه، لم يقابله بالثورة الغاضبة، وبالتهديد بالقتل أو بالضرب، بل أنصت إلى نقده بعقل مفتوح، وما دمنا قد حددنا معنى التمرد باقترانه بالإرهاب الأهوج، تحتم أن يكون رأس المتطرف قد خلا من الضوابط التي تمكنه من مخالفة الآخرين لوجهة نظره.
- رابعًا: لقد تساهلنا فيما أسلفناه، حين جعلنا التطرف في أيِّ مجال، وجهة نظر؛ لأن من كانت له وجهة للنظر ثبت عليها ورأى كل شيء من خلالها … لكن التطرف في حقيقته الدفينة «حالة» من حالات التكوين النفسي، تجعل صاحبها معدًّا لأن يتطرف وكفى: فليس المهم هو الموضوع الذي يتطرف فيه، بل المهم في تكوينه هو أن يتطرف للتطرف في حد ذاته، ومن هنا رأينا أمثلة كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يوم وليلة من تطرف في فكرة إلى تطرف في الفكرة التي تناقضها: فنراه اليوم — مثلًا — متطرفًا في رؤية إسلامية معينة، ثم نراه غدًا متطرفًا في رؤية شيوعية، مع أن الإسلام والشيوعية ضدان لا يلتقيان.
إن المريض بالتطرف لا يعرف وهو بالتالي لا يعترف بأنه مريض، شأنه في ذلك شأن المرضى بسائر الأمراض النفسية، وإذا كاشفت المتطرف الديني مثلًا بحقيقة حالته، أجابك بأنه إنما يسير على الخط الديني، فماذا يعني التطرف فيمن يتمسك بدينه ويلتزم أوامره ونواهيه؟ قال زائري: هذه إشارة إلى ما قلته لك عن نفسي في أول الحديث، نعم إنني ملتزم خط الدين، وفق ما تعلمت وما علمت بأنه الدين الصحيح، فقل لي ماذا تريد أن أفعل؟
قلت: لا أريد لك أن تغير من أمر نفسك شيئًا، إلا أن تتذكر كلما رأيت أحدًا يلتزم دينه مع اختلاف في تفصيلات الرؤية والفهم والتأويل، بأنه هو الآخر يمارس دينه كما تعلم وعلم بأنه الخط الصحيح، فإما تركته وشأنه وضميره، وإما دخلتما معًا في حوار هادئ، منتج، أمين.