أزرعٌ ولا حَصَاد؟
كان اليأس قد استبدَّ بي في فترة من حياتي، حتى أحسست كأنما القلب لم يعُد ينبض كما كان ينبض، ولا الرئتان تتنفسان كما كانتا تتنفسان، وإنني لأذكر تلك الأيام السوداء، بعد أن انقضى عليها خمسة وثلاثون عامًا، فلا أغفر لنفسي قط أن اختلَّت موازينها إلى ذلك الحد الذي يخلط بين وقائع الحياة المختلفة وأوزانها، بحيث تخف الكفة بما هو في حقيقته ثقيل، وترجح الكفة بما هو في حقيقته خفيف، إنه لا حكمة لمن يزن حياته ومقدارها، لظروف لحظته الراهنة؛ لأنها ليست إلا حلقة في سلسلة طويلة، سبقتها حلقات وستلحق بها حلقات، وإلا كان كمن يرى الليل قد جاء فلف العالم بظلامه، فيظن ألا شروق للشمس بعد حين، لكن هذه حكمة من لا تلسعه النار، إنها حكمة ما بعد الأزمة التي تحيط بالمأزوم فلا تترك له طريقًا للنجاة، وكانت أزمتي في تلك الفترة الحالكة، هي أزمة مظلوم، بذل كلَّ ما يستطيع بشر أن يبذله، فتؤخذ ثمرات جهده، ثم يقال له: انصرف يا أخانا، فليس لك عندنا جزاء، وأذكر أني في تلك الضائقة قد هدأت يومًا، لأحلل الموقف إلى كلِّ عناصره، لعلي أقع على موضع الخطأ من حياتي فأُصححه، ووجدت الموقف يبدو لي وكانه ذلك الحصان «اللعبة»، الذي اكتملت فيه الأجزاء كلها، لكن الطفل صاحب اللعبة لا يعرف ماذا يصنع فيه ليسير كما كان المفروض له أن يسير، فحمل الطفل حصانه وجاءني مستغيثًا، فقلبت معه الحصان من جوانبه جميعًا لأرى أين موضع القصور، ولم أجد، فأعدته إليه، متمتمًا بعبارة لو سمعها لما فهمها — إذ قلت فيها: إن حصانك يا بني هو كحياتي، أعددت لها أجزاءها، لكنها مع ذلك «بلطت» في الخط لا تريد أن تتزحزح خطوة إلى أمام.
وعندما أذكر ذلك كله اليوم، لا أغفر لنفسي ذلك الضيق الذي ضاقت به؛ لأن تلك النفس عندئذٍ قد نسيت أمرين مهمين: أولهما أن الجهد الذي كانت قد بذلته، هو من النوع الذي يحمل في صلبه جزاء نفسه، فالدراسة في ذاتها متعة — أو هكذا وجدتها دائمًا، ولا أزال أجدها — فلماذا لا تنظر إلى تلك المتعة ذاتها وكأنها الجزاء إذا ما عزَّ الجزاء يأتيها من الآخرين؟ وأما الجانب الثاني فهو أن تلك النفس عندئذٍ أيضًا قد فاتها أن القوس المشدودة بين يدي الفارس، قد يبدو عليها السكون، مع أنها في حقيقتها تختزن العزيمة حتى تجيء اللحظة المناسبة فتطير إلى هدفها، فالذي ينقصها هو حركة خفيفة تتحرك بها أصابع الفارس فتنطلق.
وليست هذه الصورة بالنادرة الحدوث في حياة الناس العملية، ففي مواقف كثيرة يظن صاحب الموقف أنه تجمَّد ولم يَعُد له أمل في حياة ما ظنَّ به الموت، حتى يرى بعينه أن حركة خفيفة تأتي من خبير، وإذا بالذي كان قد تجمد، سرت فيه الحياة، رأيت ذلك منذ قريب في جهاز التليفزيون الذي عندي، فقد ذهبت عنه الحياة، لا صوت ولا صورة، وأشار عليَّ صديق بمن يُصلحه، وأعطاني رقم تليفونه، وجاء الرجل فور استدعائه، يرافقه مساعد يحمل حقيبة العدة، ولبث الرجل نحو ثلاث ساعات «يلغوص» في جيوب الجهاز وفي أمعائه، وانتهى إلى الحكم «بألا فائدة» وعليَّ أن أحمله إليه في «الورشة»، والحقيقة أني لم أكن قد استبشرت خيرًا عند أول رؤيتي للرجل؛ لأنه أنيق الثياب، مصفوف الشعر، لامع الوجه، حتى لتحسبه من رجال الدولة الكبار، وعلى أية حال فليس من المستطاع لمن هو في ظروفي — أن ينتقل بجهاز التليفزيون إلى أي مكان — حتى ولو كان ذلك المكان هو الغرفة المجاورة، فأهملت الأمر كله يائسًا، ثم أراد الله بي خيرًا، وأرسل إليَّ أحد أقربائي زائرًا، وكان ممن يُحسنون التصرف في هذه المواقف، فقبل أن يشير برأي، نظر إلى الجهاز مدة دقيقة واحدة، وحرك على وجه الجهاز شيئًا لا أدري ما هو، وإذا بالتليفزيون تعود إليه حياته كاملة، وإلى يومي هذا، صورة وصوتًا كأكمل ما تكون الصورة ويكون الصوت.
وهكذا قد نيأس من حياتنا، مع أنها لو امتدت إليها يد ماهرة فربما تستقيم لها الأمور بعزمة واحدة من إرادة قوية التصميم، فنحن إذا دققنا النظر فيما يحيط بنا اليوم من أسباب تشدنا إلى الأرض شدًّا، وجدنا ما قد يُبرر لليائس أن يشتد يأسًا من أن ينزاح الكابوس الجاثم على صدورنا، وهو كابوس كثيرًا ما ضلت أعين الناظرين إليه، فظننت أنه كامن في هذا المظهر أو ذاك، مما قد ملأ حياتنا بالصعاب العملية التي تزهق الروح، أما كاتب هذه السطور، فالرأي عنده هو أن تلك الصعاب العملية، من تليفونات ومواصلات ومرافق وغير ذلك من هذا القبيل، فأمره يهون؛ لأنه سرعان ما يعالج فيزول، لكن الكابوس الرازح الذي شلَّ حياتنا حقًّا، ولا يسهل زواله إلا إذا أخذتنا عزيمة صادقة من إرادة مصممة، فهو انحراف في اتجاه النظر؛ لأنه إذا أراد مسافر أن يذهب من القاهرة إلى الإسكندرية وأخطأ القطار الصحيح، وركب — وهو لا يدري — قطار الصعيد، فربما وجد في عربة القطار صعابًا، في المقعد الذي اختاره للجلوس، أو في طريق الوصول إلى دورة المياه، أو في قذارة القفف والبؤج التي تزحم المكان بحيث لا يستطيع أن يحرك قدميه … لكن ذلك المسافر المنكود الحظ، برغم تلك الصعاب كلها التي يشكو منها، قد فاته أن يقع على الخطأ الأكبر، وهو أنه قد ركب القطار الذي لن يصل به أبدًا إلى حيث أراد أن يصل، وإذن تكون خطوة الإصلاح الأولى، هي أن يترك قطاره في أقرب محطة، ليركب القطار الصحيح.
ولكي ألخص موقفنا في أوجز عبارة ممكنة، أقول: إننا ركبنا القطار الصحيح مدة لا تقل عن قرن ونصف القرن، وكان كل عيبه أنه بطيء السير، وأعني بذلك القطار تلك الصيغة الموفقة التي رسمناها لتسير عليها حياتنا، وهي صيغة مثلثة الأضلاع: أحدها يمثل ما نحييه من تراثنا، والثاني يمثل ما ننقله من الغرب، الذي هو ممسك بزمام العصر، والثالث يمثل ما نبدعه نحن إبداعًا يحمل طابعنا وشخصيتنا وهويتنا، مستلهمين فيه ما قد أمدنا به الضلعان الآخران، كانت تلك هي الصيغة، حتى حلت بنا هذه الفترة الأخيرة، وأصابنا فيها من الضعف ما أصابنا، فوجدنا من غيَّر لنا تلك الصيغة الأولى، ليرفع لنا شعارًا آخر، هو أن نزرع الماضي في أرض الحاضر، لا ليكون معه جزءًا من حياتنا، ويترك الجزء الباقي لضرورات الحياة في ظروف عصرنا، بل لقد زرعه في الأرض، مريدًا له أن يستوعب الأرض كلها، فنتج التناقض الذي شبهناه بمسافر أراد الانتقال إلى الإسكندرية فركب قطار الصعيد … إنه لا موضع في حياتنا الراهنة إلى يأس من ذلك النوع المتشائم القاتل، فكل ما في الأمر هو أن ننتقل من قطار خطأ إلى قطار صحيح.
لقد سألني ذات يوم من أخطأ طبيعتي وحقيقتي، قائلًا: لماذا أنت على تشاؤم ويأس فيما تكتب؟ فأجبته بقولي: لو كنت على تشاؤم ويأس كما تقول، لما كتبت، لكنني أكتب على عقيدة مني بأن المحنة قريبة عهد بنا، ولا بدَّ كذلك من أن تكون قريبة موعد بزوالها، إننا لا نريد أن نخلق أمة من عدم، فالأمة — بحمد الله — باقية بكل كيانها، كانت هنالك أمم أخرى تجاورها في عهود قديمة، وزالت واحدة بعد أخرى، وبقيت أمتنا أرسخ أساسًا من رواسخ الجبال، وإنما الذي حدث، هو أنها لفتت وجهها في اتجاه لا يحقق لها رسالتها، وعلينا أن ندعوها إلى لفت وجهها إلى اتجاه أصح وأنسب، ولم تكن هذه هي أول مرة يدعوها من يدعوها إلى تغيير اتجاه رؤيتها فيضل عن الطريق الصحيح، بل حدث لها بعد الفتح العثماني، أن أدير رأسها جهة الشرق والجنوب، فاستدارت ليكون ظهرها إلى البحر الأبيض المتوسط، مع أنها في تاريخها كله، كانت لها صلات بالشمال الأوروبي لم تنقطع، فلما أدارت ظهرها إلى شمال، واتجهت بوجهها إلى جنوب وشرق، انقطعت عنها شرايين الحياة، وأظلمت دنياها من الناحية الفكرية والحضارية ثلاثة قرون كاملة، حتى شاء لها الله من الأحداث ما تعود به سيرتها الأولى، وهنا بدأت سيرها على طريق النهوض، مهتدية بالصيغة الثلاثية التي أشرنا إليها، ثم لحقها هذا الخطأ العارض في أعوامها الأخيرة، وذلك يعني أن المطلوب لإصلاح الخطأ ليس من الفداحة بالقدر الذي يظنه المتشائمون.
إننا الآن في حكم من يزرع ثم لا يحصد بمقدار ما زرع، وإذا كان أمرنا كذلك، وجب البحث عن مواضع القصور في عملية الزرع، التي أدَّت إلى فقر الحصاد، ففي ميدان التعليم تبذل جهود مخلصة، مهما قيل في نتائجها فلا بدَّ أن يقال إنها أنتجت أفرادًا ممتازين في ميادين تخصصاتهم، يعدون بعشرات الألوف، فهم الذين يقيمون لنا العمران في كل أركانه، وهم الذين بثوا ويبثون معظم الحياة الجديدة في الوطن العربي الكبير طولًا وعرضًا، ولكن هل ازداد «المجتمع» المصري، من حيث هو مجتمع لا مجموعة أفراد، قوة وارتفاعًا في مضمار الحضارة العصرية التي هي مقياس يُقاس به من تقدم من الشعوب ومن تأخر؟ إنها لمفارقة عجيبة، كانت جديرة بأن تستوقف أنظارنا لنتناولها بالجدية التي تستحقها، وهي — مرة أخرى — زيادة المتعلمين زيادة عددية، وجمود المجتمع في جملته حضاريًّا وثقافيًّا معًا، فكيف أمكن لكائن حي، أن تقوى مفردات أعضائه عضوًا عضوًا، ثم يظل في مجموعه على ضعفه الذي كان عليه منذ مائة عام، إن لم يكن أضعف مما كان؟ بدليل أنه الآن مجتمع لا يقوى على تقبل الجديد، بمثل ما كان يقوى على ذلك منذ قرن كامل أو ما يزيد على قرن، فالموقف في عبارة مختصرة هو أننا نكبر حجمًا، ولكننا لا نتطور.
وما قلناه عن التعليم ونتائجه، نقول مثله عن الاقتصاد وعن السياسة معًا، فالأفراد في المجال الاقتصادي قد ازداد معظمهم دخلًا، ولكنهم في الوقت نفسه ازدادوا خفضًا في مستوى معيشتهم، أضف إلى ذلك انحرافًا خطيرًا في محاور الدخل، إذ أصبح معظم الدخل مصبوبًا في جيوب من لم يظفروا بدرجة من التثقيف تدعوهم إلى الارتفاع بمستواهم الحضاري بما يتناسب مع زيادة كسبهم، وأصبحت العلاقة عكسية بين درجة العلم والثقافة من جهة، والقدرة المالية من جهة أخرى، فالأعلم هو الأفقر، والأجهل هو الأغنى، مما كان له الأثر الملحوظ في انخفاض «المجتمع» في جملته حضارة وثقافة، وبدل أن ترتفع القرى إلى مستوى المدن، انخفضت المدن إلى مستوى القرى.
وفي ميدان السياسة أحس شيئًا كهذا، وإنما عنيت بالسياسة — هنا — حقوق الإنسان في المقام الأول، لا من حيث هي أسماء تكتب وتقال، ولكن من حيث هي صور من الحياة الفعلية، تُمارس وتُعاش، فها هنا كذلك نجد المفارقة نفسها التي رأيناها في ميدان التعليم، بمعنى أن نجد الأفراد على شيء والمجتمع — في جملته — على شيء آخر؛ لأننا إذا أخذنا الصحافة مرآة للمجتمع في جملته، رأينا على تلك المرآة صورة تقرب من الكمال في الإحساس بضرورة الحرية وضرورة المساواة بين المواطنين وضرورة العدل، لا بمعناه القضائي فقط، بل بمعناه الاجتماعي الشامل، الذي من شأنه أن يجد كل فرد نفسه في الموقع الذي يتناسب مع مواهبه وقدراته، وهكذا وهكذا، لكن اترك تلك المرآة الصحفية جانبًا وانظر إلى الحياة الفعلية كما تجري ممثلة في الأفراد، تجد عجبًا من حالات الضغط على حريات هؤلاء الأفراد، ومن حالات الإجحاف الصارخ الذي يضع القادر تحت إمرة العاجز، ومن حالات التسلط الذي كثيرًا ما تقصر قيود القوانين على الضعفاء دون الأقوياء بنفوذهم وسعة حيلتهم، وإذن، فها هنا أيضًا ليس المجتمع حاصل جمع أفراده، بل هو في مجموعه شيء، وفي أفراده — في أثناء ممارستهم لحياتهم العملية — شيء آخر، وأرجو من القارئ أن يتسع لي صدره دقيقة واحدة، لأضرب له مثلًا واحدًا، عن حرية الأفراد في الرأي والعقيدة كيف تصان عند أمة متقدمة في رعاية حقوق الإنسان بالفعل لا بالكلام، سأضرب هذا المثل الواحد، وأترك للقارئ أن يراقب نفسه من الداخل جيدًا، فإذا وجد نفسه على شيء من الشعور بالغضب والمقاومة، علم كم هو في حقيقة نفسه يريد للأفراد الآخرين من مواطنيه حق الحرية أو لا يريد.
والمثل الواحد الذي أسوقه، صادفني خلال هذا الصيف (١٩٨٥) فيما علمته من أخبار دولة أوروبية قصدت إليها للعلاج، والنافذة التي يطل منها مريض على المجتمع الذي يقيم بين ظهرانيه، هي وسائل الإعلام فيه، ووسيلتي الوحيدة الآن: الأذن، أسمع بها ما يُذيعه الراديو، فسمعت أن لجنة كانت قد شُكِّلت بصورة رسمية، قدمت تقريرها، فإذا بإحدى المواد المعروضة التي يُراد لها أن تسن وتصاغ قانونًا من قوانين الدولة الخاصة بحريات الأفراد في الرأي والعقيدة، أن يحرم على من يعرض شيئًا عن الديانة التي يؤمن بها، أن يجرح أية عقيدة دينية أخرى، فهو مسموح له أن يُشيد كيفما شاء بعقيدته دون أن يتعرض لعقيدة دينية أخرى بتجريح … إلى هنا وقد لا يثير الأمر دهشة عندنا، برغم أننا من الناحية التطبيقية عاجزون عن تنفيذه، لكن ما يشد الانتباه بعد ذلك، هو أن أعضاء الندوة التي عُرِض عليها ذلك التقرير لمناقشة مواده قبل عرضها على البرلمان، وجدوا أن ثمة نقصًا يجب تلافيه؛ لأننا إذا اكتفينا بالنص على ألا يتعرض أنصار ديانة معينة لديانة أخرى بتجريح، فربما فهم من ذلك أنه من الجائز أن يجرح من اختار لنفسه أن يكون بغير دين، فلا بدَّ من إضافة ما يحمي هؤلاء في حريتهم لما اختاروه … ذلك هو الحرص من مجتمع يريد صادقًا أن يكون لأفراده حق الحرية في الرأي والعقيدة.
وهكذا تستطيع أن تدور ببصرك في جوانب حياتنا، وسترى في كلِّ جانب أن هناك فجوة تتسع بين الوطن في مجموعه من ناحية، والمواطنين — من حيث هم أفراد — من ناحية أخرى، فما تصف به الوطن قد لا يصدق بنفس الدرجة على المواطنين الأفراد، والعكس صحيح، أي أن ما يصدق على الأفراد من صفات، قد لا تجده بالدرجة نفسها في الوطن مأخوذًا بجملته، فأفراد بأعداد ضخمة، قد أصبحوا في عداد الأغنياء حتى بالمقاييس العالمية، وملايين من عمال الأرض وعمال الزراعة باتوا على قدرة شرائية لم نكن نحلم لهم بها مهما شطحت بنا الأحلام، ولكن الوطن، في جملته فقير بأيِّ مقياس مما يستخدمه المختصون في قياس درجات التقدم والتخلف في الشعوب، انظر إلى مجموعة الأفراد الذين نبغوا في دنيا الفن والأدب وفي كثير من الدراسات المنهجية، تجدنا في حالة من الثراء بحيث استطعنا أن نجول في أنحاء العالم المتقدم جميعًا، وحيثما كنا، وجدنا من أبنائنا أفرادًا تفاخر بهم وبقدراتهم كل أمة من الأمم، وهؤلاء الأبناء في معظمهم تلقوا تعليمهم في جامعات وطنهم مصر، ومع ذلك فمصر متخلفة في العلم وفي الثقافة تخلفًا جعلها من بلاد يُسمونها تأدبًا «بالنامية» حين يريدون بها معنى التخلف.
وهنا نقف لنلقي سؤالنا، فقد زعمنا في الفقرات السابقة أن موقفنا على ما فيه من تناقض، أو ربما بسبب ما فيه من تناقض بين ما يوصف به الأفراد ولا يوصف به الوطن، ليست مشكلته من الفداحة بالدرجة التي يتوهمها اليائسون، بل هي مشكلة حلها قد يتحقَّق في حركة خفيفة نغير بها الاتجاه، والسؤال هو: ماذا عساها أن تكون تلك اللعبة الجديدة؟
هل سمعت قصة الأعمى والمقعد؟ تحكي أن مُقعدًا شُلَّت رجلاه فلا تقويان على حمله، التقى مع أعمى سليم الرجلين، فهو قادر على المشي لكنه لا يرى الطريق، فاتفقا على أن يجلس المُقعد على كتفي الأعمى، فيكون عليه أن يرشد إلى الطريق، وعلى الأعمى أن يمشي برجليه إلى حيث يريدان، ولما كان كل إنسان سليم فيه ما في الاثنين معًا، فهو قادر على الوظيفتين: يرى طريق السير، فيمشي برجليه إلى الهدف، وبهاتين الوظيفتين معًا تتكامل للإنسان حياته، وما التعليم والتربية معًا للناشئ الذي نعلمه ونربيه، إلا هاتان الوظيفتان: فالتعليم هو تزويد الفرد بمجموعة «أفكار» نضعها في رأسه، لتكون له بمثابة الإبصار، والتربية هي تزويد من نربيه بعادات يتحرك بها إلى حيث تهديه أفكاره التي حصلها، وباسمين آخرين نقول: إن الأفكار الهادية إلى الأهداف هي العلوم، وإن العادات المحركة نحو الأهداف هي القيم، ونحن إذ نصف فردًا ما، أو شعبًا معينًا، بأنه مزدهر مبدع ناجح، كان معنى ذلك أن في حصيلته أفكارًا هي له بمثابة خطط مرسومة للسير، وأن لديه العزيمة والقدرة على أن يخرج تلك الخطط إلى عالم التنفيذ، ومن هنا نفهم قول الفيلسوف «ليبنتز» للأمير الذي كان يحكم الإقليم الذي يُقيم فيه، وكانت حالة الناس في ذلك الإقليم لا تعجبهما معًا، فقال ليبنتز للأمير: سلمني مقاليد التعليم والتربية، أغير لك وجه الأرض في جيل واحد من الزمان، وقد صدق، إذ ماذا يريد قوم يعيشون حياة قوية مزدهرة، إلا «أفكارًا» هادية إلى أهداف و«قيمًا» تدفع الناس إلى تحويل الأفكار إلى أعمال، والأفكار — كما أسلفنا — «تعليم» و«القيم» تربية.
وسر النكسة الحضارية التي نجتازها اليوم، هو أننا إذ نملأ رءوس الناس بأفكار، لا تكون هي الأفكار الحية التي يمكن تحويلها إلى بناء حضاري متعدد الطوابق والأركان، وإذ نبث فيهم ما نبثه من قيم، لا تكون هي القيم التي تدفعهم إلى السير الناجح في هذه الدنيا — واللمسة الخفيفة التي قلت عنها إنها كافية لإصلاح حالنا، هي أن نجعل الأفكار التي نملأ بها رءوس الناس «علومًا»، وأن نقصر القيم على جهاز التحريك فتعتدل الكفتان ويتعاون المُقعد والأعمى، إذ العلوم بغير دوافع للعمل بمقتضاها، هي بمثابة مبصر كسيح، وكذلك القيم الدافعة إذا وضعت في فراغ، هي بمثابة الرِّجلَين السليمتَين عند مكفوف البصر، فلا يعرف إلى أي اتجاه يسير.
المصدر الرئيس للمعرفة العلمية هو المدارس والجامعات، والمصدر الرئيس للقيم الموجهة للسلوك هو الدين، والحياة السوية شرطها أن يتوازن المصدران، فبالمصدر الأول نعرف حقيقة العالم الواقع، وبالمصدر الثاني نعرف الحدود الجائزة في التعامل مع ذلك الواقع الذي عرفناه، وينشأ الخطأ في حياة الناس حين يتوهمون أنهم بأحد المصدرين هم في غنى عن المصدر الآخر، فربما كان خطأ الغرب اليوم هو ارتكازه على معرفة الواقع بغير ضوابط تضع حدود التعامل مع ما عرفوه، وربما كان خطؤنا وخطأ أمثالنا هو الارتكاز على ضوابط القيم، وأما معرفتهم بحقيقة الواقع فهم حتى إذا درسوها، فإنما يدرسونها بنصف عقولهم، كأنها زائدة لا ضرورة لها، فتبقى لهم ضوابط القيم وكأنها طاحونة تعمل في فراغ، ولا عجب أن يزرعوا زرعهم، ولكن لا حصاد.