ظلال بين اليأس والرجاء
كنت في مطارح الغربة حين اكفهرت السماء بسحاب غاضب، وأظلمت الدنيا في عزِّ الظهر وكأنها قد انتقلت إلى قلب الليل في لمحة سريعة من لمحات الزمن، فقفزت إلى ذاكرتي رواية «ظلام في الظهيرة» لآرثر كبستلر، وهي رواية قوية التصوير ناصعة البيان، كتبها كاتبها في لحظة تحوله من يسار السياسة إلى يمينها، كان شيوعيًّا متطرفًا، وشارك في الحرب الأهلية الإسبانية في أواخر الثلاثينات على ذلك الأساس، وكان يحلم مع سائر الحالمين بأن جنة الله قد أوشكت على الظهور فوق الأرض، لكنه لم يلبث على أحلامه تلك إلا قليلًا، حتى اسودت سماء السياسة في وجهه، وأظلمت الدنيا ساعة الظهر، وذاق مرارة الاعتقال ورأى ظلمة السجن، لغير ذنب يعرفه، وعن تلك الخبرة كتب روايته «ظلام في الظهيرة» التي قفزت إلى ذاكرتي، عندما اكفهرت السماء بسحاب أقتم غاضب، وكان الوقت لم يزل في ساعة الزوال من منتصف النهار.
إنني هنا على أرض ليست هي أرضي، وسماء ليست سمائي، ويفصلني عن مصر لا أدري كم ألفًا من آلاف الأمتار، ولكني مع ذلك أطير على أجنحة الخيال إلى أرضها وسمائها ثم أعود، وأطير وأعود في تلاحق سريع، وتلك هي نعمة الخيال، يُحطم به الإنسان حواجز المكان وحواجز الزمان، مهما بعُدت المسافة وطال الزمن، ومع ذلك فأنا حريص هنا أن أضع مقعدي بحيث أواجه حائط الزجاج، الذي ينحرف قليلًا عن جهة الجنوب الشرقي، وهو الاتجاه إلى مصر، وكأني بذلك أساعد الخيال على الطيران في الاتجاه الصحيح، وفي جلستي تلك يعن لي آنًا بعد آن، أن أستوي إلى منضدة صغيرة لأكتب ما عسى أن يفيض به الخاطر، وإني لألصق المنضدة في الحائط الزجاجي، لعلي أظفر بمزيد من ضوء النهار، يُضاف إلى مصباحين يُصبان نور الكهرباء على الورق صبًّا قريبًا مباشرًا، فلما أعددت نفسي لأثبت على الورق فكرة كانت برأسي، اكفهرت السماء بسحابها الأسود الغاضب.
كانت الفكرة التي أعددت لها الجهاز الضوئي لتنزلق من مكمنها إلى سن القلم فيخطها على الورقة المنشورة أمامي، فكرة يخالطها عبوس، لم تكن مستبشرة ضاحكة إلا في قليل منها، وأما في معظمها فهي قنوط ويأس، واسودت السماء فانصرفت إليها عن الورقة والقلم، ونفذت ببصري — أعني بما بقي منه — خلال الحائط الزجاجي، لأرى وأسمع ما يشبه ثورة الجن، فخيوط البرق تلمع في رعشات عصبية مخيفة، لتعقبها زمجرة الرعد بما تحس معه كأنها تهز أطباق السماء، وانهمر المطر غزيرًا قوي القطرات في وقعه على ألواح الزجاج، حتى لتخشى أن يتحطم هشيمًا من الشظايا تحت ضرباتها، وهنا تذكرت «لير» مشردًا وحده في شيخوخته المحزونة والمجنونة، إذ هو في الخلاء المكشوف مشعث الشعر مهلهل الثياب عريان الصدر، فاتجه إلى السماء وهي ثائرة فوق رأسه ببرقها وبرعدها، وبما تصبه من جام غضبها، فخاطبها بأخلاط من اللفظ المخزون المجنون اليائس قائلًا فيما قاله: زمجري يا سماء وصبي ما ملأت به أمعاءك من غضب، حتى يتعادل داخلي مع خارجي نقمة وسوادًا.
تذكرت «لير»، لكن … لا … لا … لم أكن قط في مثل ما كان فيه، فقد كان الرجل ملكًا نزل عن أرضه لبناته، على أن يحفظن له كرامته ومأواه، ووعدنه بما أرضاه، لكنهن غدرن به حتى ولو كان والدًا، فعند الجشع الجائع للمال والسلطان، لا مكان لأبوة وبنوة، فأين أنا منه، فلا ملك ولا بنات، وكل ما في الأمر أن خطابًا ورد إليَّ من شاب لا أعرفه — ولا أعلم من أين عرف عنوان إقامتي، إذ هو من طبعي أن أتسلل كالظل، صامتًا متسترًا، جاءني ذلك الخطاب ليسألني الشاب عما عساه أن يصنع، فهو يريد أن يحيا بالعلم والثقافة، للعلم وللثقافة، ولعله أحسن الظن في شخصي، فطلب شيئًا من الإرشاد والنصح، كنت — إذن — أمام هذا السؤال، أفكر بماذا أجيب لو كنت لأجيب، عندما أزحت المنضدة الصغيرة نحو الحائط الزجاجي، لأكون أقرب إلى ضوء النهار، وأعددت الورقة والقلم، لكن السماء اكفهرت بسحابها الأقتم الغاضب، وبدأ الجن في ثورته أو في قتاله بمشاعل البرق وطبول الرعد.
كانت النفس عندئذٍ قد غشتها ظلال تقع بين اليأس والرجاء، فلا النفس في حالة من اليأس الخالص الذي لا رجاء فيه، ولا هي في حالة الرجاء الذي لا يأس فيه، فيكفيني أملًا أن أرى شابًّا كهذا الذي أرسل إليَّ سؤاله، وهو في أول طريقه ينذر نفسه للعلم وللثقافة، لكن موضع حيرتي هو وقفتي بين ما يكون وما ينبغي أن يكون، فبين هذين الطرفين في حياتنا زاوية منفرجة واسعة الانفراج، يسألني الشاب: ماذا صنعت أنت بنفسك؟ وشكرًا لك يا بني مرة أخرى على حُسن ظنك، لكنني — وأقولها صادقًا — إذ عشت حقًّا بالعلم والثقافة، للعلم وللثقافة، ويمنعني طبعي أن أمد يدًا أستجدي بها العون، حتى لو اجتمع لي الفراعنة، والأكاسرة، والقياصرة، والأباطرة، والملوك، كان لزامًا عليَّ أن أعيش من العمر ثمانين عامًا، قدمت فيها ما أظنه قد لقي شيئًا من القبول عند كثيرين، لكنه ظل إلى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه السطور، قبولًا مكتوم الأنفاس، أو هو كالمكتوم، إذ لم يخل الأمر من صوت ارتفع حينًا طويلًا بعد حين طويل، لكنني لم أيأس قط؛ وكان ذلك لسبب بسيط، وهو إذا لم أنفق أيامي في دراسة أتعلم بها، وفي كتابة أعبر بها عما يفيض به خاطري، ففيم كنت أنفقها؟ لكن الأعوام الثمانين قد أسمعت آخر الأمر آذانًا فيما وراء الحدود، والحمد لله على نعمته، فإذا كنت يا بني على استعداد نفسي، للعمل المتصل الذي لا يفتر، والذي — في الوقت نفسه — قد لا يعود عليك بما يتكافأ مع الجهد المبذول فيه، مكتفيًا بأن ترضى عن نفسك وترضى عنك نفسك، فهيا إلى جهاد طويل، لا أوصيك فيه إلا بشيءٍ واحد، وهو أن يكون لك هدف واضح في رسالة تؤديها لوطنك ومواطنيك، متوخيًا الصدق مع نفسك ومع الناس.
غير أن أمانة القول تقتضيني أن أضيف الوجه الآخر للموقف في حياتنا على حقيقته، وهو أن حب الظهور يملأ خياشيم عدد كبير منا، ولعل لهم عذرهم في ذلك؛ لأن «ثقافتنا» الشعبية الأصيلة تسير بجمهور الناس في خطين معًا، فهم لا يصفقون إلا لمن استطاع أن يظفر بقدرٍ ملحوظٍ من القوة في كثير من جوانبها: قوة النفوذ، قوة الصوت، قوة المال، قوة المنصب إلى آخر هذا الخط الطويل، لكن جمهورنا مع ذلك يكن التقدير الصامت لمن نذر نفسه للعلم وللثقافة كما تريد أنت أن تفعل، فإذا كنت نزاعًا بطبعك إلى قوة الجاه، فلا سبيل أمامك سوى أن تأخذك الكبرياء حتى ولو كانت كبرياء النفخة الكذابة، فلا تتواضع لأحد؛ لأن جمهورنا سريع الخلط بين التواضع والضِّعة، اشمخ بأنفك حتى لو لم يكن لك أنف تشمخ به، وابرز بصدرك إلى الأمام، حتى لو لم تُسعفك في ذلك رئتاك.
لقد كتبت بالأمس عن «الإرادة» وموضعها في النظرة الإسلامية، وكان مضمرًا في نفسي أن أهم ما ينقصنا هو تربية الإرادة القوية في أبنائنا وبناتنا؛ لأنه إذا كان قد أصابنا ضعف في نواح كثيرة فأساسه فتور الإرادة وتراخيها، وإذا رغبنا في استعادة مجدنا فسبيلنا إلى ذلك هو إرادة قوية لا تلين أمام الصعاب.
فلما جاءتني رسالة الشاب، كان أول خاطر سبق إلى ذهني هو أن أوجه السؤال لنفسي على هذا النحو: لقد كتبت عن الإرادة وأنها هي صاحبة الأولوية في النظرة الإسلامية، وها هي ذي فرصة قد حانت لنكمل الحديث، فبأي شيء نريد للإرادة أن تتعلق؟ ولعل في الإجابة ما يكون في الوقت نفسه جوابًا مفيدًا للشاب صاحب الخطاب، فلم ألبث بضع ثوان حتى أجبت نفسي: أول ما أود لعزيمتنا أن تمتد إليه، فتمحوه من الوجود محوًا هو «الخوف»، إن من طبيعة الإنسان أن يتحصن بشيءٍ من الخوف على سبيل الحذر من المجهول، لكن الخوف — شأنه في ذلك شأن جميع الظواهر النفسية — يصبح مرضًا إذا بولغ فيه، وقد زاد عن حده المعقول في حياتنا وأصبح مرضًا، فيخاف الإنسان فينا من ظله، كما نقول، نخاف من صاحب النفوذ، ومن صاحب القوة بكل أشكالها، ومن هنا ترانا نكتم الحق خوفًا من إعلانه، إذا كان في إعلانه ما يُغضب أصحاب القوة، فكانت النتيجة المحتومة لذلك أن نحيا — كما نحيا — بازدواجية القيم، فحياة نحياها في الظاهر بالقيم التي تصادف الرضا، وحياة أخرى نحياها في الخفاء، ليسر بعضنا لبعضنا الآخر همسًا في الآذان، عما يراه حقًّا، فإعلان الحق ضرب من الجهاد، كثيرًا ما يصيب المجاهدين في سبيله العناء والعنت والأذى، مما يتطلب من أولئك المجاهدين في سبيل الحق وإعلانه، اللجوء إلى الصبر، ولكن الناس يظلون في خسر إلى أن يظهر فيهم من تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر …
أمة تخلو من الخوف والتخويف، إلا بالقدر الذي تتطلبه طبيعة الإنسان — هذا هو أول ما يجب أن تتعلق به الإرادة، ولا يكون ذلك إلا بتربية تبث في الناشئ ثقته في نفسه، مع احترامه للآخرين، إنه مطلب يسير في وصفه والتعبير عنه، لكنه عسير في تحقيقه تحقيقًا يجعله طريقة عيش وأسلوب حياة عند كلِّ فرد من أفراد الشعب، فالحياة عندما تتخذ في الإنسان صورتها المُثلى تصبح مغامرة يغامر بها الفرد ابتغاء الوصول إلى مثل أعلى يراه في هذا الجانب أو ذاك من جوانب الحياة، فقد يتجه المثل الأعلى بصاحبه نحو أن يكون عالمًا بحاثة يكشف عن حقائق الوجود، أو يتجه به نحو إبداع في الفن والأدب، أو نحو قوة الحكم أو قيادة الجيوش أو ما شئت من سبيل، لكن أيًّا ما كان السبيل المختار، فهنالك طريقتان للتربية من أجل تحقيق غاية منشودة: طريقة توحي بالمغامرة والكشف والتحديد وإرادة القوة، وطريقة ثانية تبث في الناشئ روح الخوف والانكماش والمحافظة والبُعد عن الخطر والمخاطرة، والطريقة الأولى تكون لها السيادة في الشعوب عند نهضتها، والطريقة الثانية تخنق الرقاب وهم في مرحلة الضعف والتخلف والجدب والجمود، في الحالة الأولى إقدام وجرأة، وفي الحالة الثانية، جبن وحذر وخوف، والأغلب في الحالة الأولى ألا يضغط الرأي العام على حرية الفرد إلا بالحد الأدنى الضروري لسلامة المجتمع، أما في الحالة الثانية فيغلب أن يبطش الرأي العام بأيِّ فردٍ من أفراده تأخذه الجرأة فيحاول تغيير المألوف، وأخشى أن يكون المسيطر على حياتنا في مرحلتنا الراهنة هو مناخ الخوف والهزيمة.
نعم إن الحياة المزدهرة لا بدَّ لها من «أمن»، لكن المهم دائمًا هو تحديد المعاني التي لها قوة التأثير على تشكيل الفكر والسلوك، فبأي معنى نفهم «الأمن»؟ أما الخائف الضعيف المهزوم، فلا يفهم من الأمن إلا أنه ضمان استمراره فيما هو فيه، وأما صاحب العزيمة القوية، الطموح الجريء البحاثة الرحالة الطائر في أجواز الفضاء، الغائص إلى أغوار المحيط، فمعنى «الأمن» عنده أن تُصان له حريته وظروفه التي تساعده على أن يحيا تلك الحياة المخترقة للآفاق، ولقد سبقت لي الإشارة في مناسبة سابقة إلى مغزى العنوان الذي اختاره الإدريسي لكتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» فهو يدل على روح الشعب العربي الإسلامي إذ كان في مرحلة قوته، فقوته لم تكن في إغلاق النوافذ خوفًا من لفحة البرد، بل كانت قوته في اختراق الآفاق.
ولطالما وقفت متأملًا قول الله — جلت قدرته: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ والإشارة هنا كانت إلى قريش الذين هيأ لهم الله سبل السفر المطمئن في رحلاتهم التجارية إلى الجنوب شتاءً، وإلى الشمال صيفًا، فللحياة المزدهرة ركيزتان أساسيتان: وفرة في الجانب الاقتصادي من جهة، تسانده سكينة نفس من جهة أخرى، وتستطيع أن تفهم من الوفرة الاقتصادية كل ضروب النشاط الإنتاجي مع كل ما يؤدي إليه ويتفرَّع منه، كما تستطيع أن تفهم من النفس التي أمنت من الخوف واطمأنت، كل ما قد تنتجه تلك النفس الهادئة المطمئنة من علم وفن، بل ووسائل الحياة المهذبة في ساعات الفراغ، من يسرت لهم حياة فيها الركيزتان: الازدهار في ضرورات العيش الكريم من جهة، والنفس التي أمنت عوامل الخوف، فقد حقت عليهم عبادة الله الذي هيأ لهم السبيل.
وحديثي الآن، إنما هو عن الخوف الذي أراه قد ملأ صدورنا، فسدت أمامنا أبواب الفكر الحر والنشاط المغامر الجريء، ولست أقصر قولي على الخوف في حياتنا السياسية، بمعنى ألا يكون بين الحكومة والشعب إلا تلك العلاقة التي أشار إليها سعد زغلول في زمانه، ووصفها بأنه نظرة الطير للصائد، لا نظرة الجند للقائد، لا، بل إني في حديثي عن الخوف أنظر نظرة أشمل، ومن العجب أنها هي النظرة التي لا تزال ترى الصدق في عبارة سعد زغلول، مع جعل العلاقة التي تكون موضع الحديث، علاقة الرأي العام عندنا اليوم مع أفراد الشعب، فقد عبئ هذا الرأي العام تعبئة مالت به إلى نوع غريب من الخوف، وأعني الخوف من كلِّ فكرة تثار، ويكون من شأنها أن تجيء مخالفة في كثير أو في قليل للمادة التي عبئ بها حتى انسدت بها أوعيته الدموية جميعًا، موضع العجب هنا هو أن الخائف قد بلغ به الخوف حدًّا جعل منه طاغية على من يجرؤ على فتح باب أو نافذ في جدران البرج الأصم الذي بناه بيديه ليضع نفسه فيه …
وانتهى الأمر بالرأي العام عندنا اليوم إلى سطحية ساذجة، ومعذرة إذا قلت إنه قل أن يكون لها نظير حتى في مجموعة العالم الثالث، الذي كنا نستكبر في أول الأمر أن تكون مصر جزءًا منه، من الناحية الحضارية والثقافية، وقد سرنا في هذا التدهور على خطوتين: كانت أولاهما أن نفخنا في أبواق الفزع من شيء أسموه بالغزو الثقافي، ثم لم يريدوا أن يفهموه بما كان يجب أن يفهم به، فإذا قصد بمقاومة الغزو الثقافي أن نحصن أنفسنا ضد العوامل التي تمحو هويتنا الذاتية، فأين هو الفرد الواحد الذي لا يوافق على مقاومة الغزو الثقافي مأخوذًا بهذا المعنى؟ أما أن تتسع الدائرة ليصبح المعنى شاملًا لتيارات الفكر والفن والأدب ونظم التعليم ونظم السياسة، ونظم التجارة … إلخ … إلخ، فذلك هو الانتحار الحضاري بعينه، وسره هو «الخوف»، وسر الخوف فينا هو ما قد أصابنا من هزيمة وضعف وخيبة رجاء، وقد أضيف أنه لا بدَّ أن يكون بيننا صاحب مصلحة في إثارة ذلك الخوف في نفوسنا، كأن تكون قوته وارتفاع قدره وكثرة ماله مستمدة من أن تدوم فينا حالة الفزع من الهواء والنور.
وأروي للقارئ هذا النبأ، لنرى معًا ماذا ينطوي عليه من مغزًى، وهو أنني بينما كنت في رحلتي العلاجية إلى إنجلترا في صيف عام ١٩٨٤، تصادف أن جاء عيد الأضحى أثناء إقامتي، وفي ليلة الوقفة، سمعت حديثين في الإذاعة البريطانية، كما شهدت في التليفزيون برنامجًا، بمناسبة وقفة عرفات … أما الحديثان المُذاعان بالراديو، فكان أحدهما لرجل من كبار رجال الدين في تلك البلاد، وأما الحديث الثاني، فكان لباكستاني مسلم، وكان المتحدث في البرنامج التليفزيوني مصريًّا، ماذا قال رجل الدين البريطاني؟ أخذ يشرح كيف أن اليهودية والمسيحية والإسلام ديانات ثلاث، تنتمي كلها إلى سيدنا إبراهيم — عليه السلام — مما لا بدَّ أن يعني أخوة أصيلة بين أتباع الديانات الثلاث جميعًا، وأما الباكستاني المسلم فقد أدار حديثه حول المشكلة التي أصبحت تستدعي النظر عند المسلمين، وهي تزايد أعداد الحجاج تزايدًا بلغ بهم الملايين، وهو في تزايد مستمر، ما دام سكان العام يتزايدون، ومنهم بالطبع جماعة المسلمين، فماذا يكون الحل عندما يصبح مستحيلًا على عدة ملايين أن تجتمع كلها في وقتٍ واحدٍ وفي مكانٍ واحدٍ محدود المساحة؟! إن المملكة السعودية تبذل كل مستطاع في إيجاد الوسائل، بما تقيمه من الكباري العلوية ونحو ذلك، لكنها وسائل مهما بلغ المبذول فيها من جهد، فمصيرها أن تضيق بالحجاج ذات عام لا نراه بعيدًا، وكانت تلك المشكلة هي التي طرحها المتحدث الباكستاني، وجاء دور المواطن المصري، يتحدث على شاشة التليفزيون، فركَّز حديثه على ما رآه من نعمة الإسلام على المسلمين، فما الذي أورده من جوانب تلك النعمة؟ … كان أهم ما قال في ذلك أنه لولا الإسلام علينا لما اهتممنا بغسل أقدامنا في الوضوء، ولا تنبهنا إلى ضرورة الاستحمام، فالإسلام علَّم المسلمين النظافة، كما حثَّ الغني على أن يتصدَّق للفقير … وسار المتحدث في هذا الخط من الكلام، ولنلحظ هنا في انتباه أن المتحدث يتحدث إلى قوم يأخذون النظافة مأخذ التسليم، وينظرون إلى تأمين العيش للفقراء بنظم شاملة من التأمينات الاجتماعية، فهل أفادهم ذلك المتحدث عن الإسلام بما كان ينبغي له أن يفعل؟! فلولا أنه معبأ بما انتهى به إلى درجة مخيفة من السطحية الساذجة، لقدم الإسلام عن طريق القصيدة في لبها وأساسها، فشرح لهم «التوحيد» الإسلامي ما معناه وما مداه في توجيه النظرة الإنسانية نحو الأكمل، وفي تشكيل السلوك نحو الأقوم … لكنه لم يفعل شيئًا من ذلك كما رأيت، وأكاد أوقن أنه لو حدث مثل هذا الحديث فيما قبل هذه المرحلة التي نجتازها، ثم اختير من رجالنا العلماء من يتحدث في مثل تلك الظروف، لعرف كيف يكون الحديث عن الإسلام، لكنها سطحية علم، وسذاجة رؤية، وبراءة كبراءة الأطفال، هي التي تسودنا اليوم، وكان مبعث سيادتها أن دبت فينا روح الهزيمة، والخوف، وتسلم القيادة الفكرية في معظم حياتنا، من رأى أن النجاة إنما تتحقق لنا بأن نلف أنفسنا في غطاء جلودنا، فلا تفتح منا عين لترى، ولا تصغي أذن لتسمع …
وكيف نبدأ العودة إلى مصادر النور؟ الخطوة الأولى هي أن نفتح الأعين لترى، وأن نصغي بالآذان لتسمع، وماذا نرى ونسمع؟ إن ذلك يتم من ناحيتين في آنٍ واحد: الناحية الأولى أن نزيل الغشاوة عن عقولنا لندرك مواضع القصور في حياتنا الفكرية، وعندئذٍ نرى أننا قد جمدنا إلى حدٍّ لن نغفره لأنفسنا عندما نفيق، تصوروا يا سادة أنني كتبت يومًا لأندد بكتاب أخرجته مطبعة مصرية، يُقيم فيه صاحبه البراهين على بطلان القول بكروية الأرض، زاعمًا أنه باطل مقصود من جانب المستعمرين! فتصلني رسالة بعد ذلك المقال، أشكر صاحبها على أدبه في اختيار لفظه، لكنه يناشدني أن أتقي الله في الدفاع عن هذا الباطل! … وبعد الناحية السلبية التي قلت إننا نبدأ بها فنفحص مواضع النقص الخطير في حياتنا الفكرية، تأتي ناحية إيجابية نكفل بها حرية الفكر وحرية التعبير، لكل فرد من أفراد الشعب لم يثبت أنه مصاب بمرض في عقله، وأود لفت الانتباه في هذه المناسبة إلى أننا لكثرة انشغالنا بالمسائل السياسية، أصبحت المطالبة بحرية التفكير وحرية التعبير، تعني أول ما تعنيه عند الناس، أن تكون تلك الحرية في مجال الفكر السياسي، ومع إدراكي — بالطبع — لأهمية تلك الحرية في مجال السياسة، إلا أن اهتمامي الأقوى متجه نحو مجال أسبق وأشمل وأخطر من ذلك، وأعني حياتنا الفكرية حين تجعل مدارها وجهة نظرنا إلى العالم الذي نعيش فيه، فنحن في هذا العالم، بعد أن كنا نطمع في خطوة نخطوها إلى الأمام، أصبحنا ندعو إلى خطوة نخطوها إلى الوراء، وبينما نعطي حرية القول لأصحاب هذه الدعوة، نخاف إذا أخذ هذا الحق نفسه دعاة يدعون إلى السير نحو الأمام، ومع دعاة الرجوع رأي عام معبأ، بات كفيلًا وحده أن يكتم أنفاس المخالفين.
وإلى صاحب الرسالة التي جاءتني من شاب يسأل كيف يكون السبيل … أقول: إنني حين هممت بكتابة هذه السطور، كانت السماء قد اكفهرت وثارت ثورتها بالبرق والرعد والمطر، واستجابت لها نفسي بشيءٍ من اليأس، وها هي ذي السماء قد صفت وتقشع سحابها، عندما فرغت من الكتابة، فاستجبت لها بنفسي امتلأت بالأمل والرجاء …