هذا الصغير وصَغائره
كانت جلستي هذه المرة مع نفسي، آخذ منها وأعطيها، ولقد بدأ الحديث بيننا حين دفعت الأحداث بين أيدينا بصورة ذلك الرجل الصغير الكبير، فهو صغير بأوهامه وأحلامه، وهو كبير بعمره ومناصبه، وهو صغير بتفاهاته التي يعيش بها وعليها، وهو كبير في أعين قوم قُلِبت أمام أعينهم درجات القيم، وربما كان للرجل عذره في صغاره؛ لأنه يريد الوصول إلى أعلى البناء، فماذا هو صانع بنفسه، إذا كانت أيامنا قد حكمت بألا يكون الأعلى للحق قبل الادعاء؟ ماذا هو صانع بنفسه، إذا كانت حياتنا قد أسلمت أسواقها للعملة الزائفة قبل العملة الصحيحة؟ أئذا ركب صاحبنا الصغير الكبير ظهور الموج مع اتجاه الريح، كان أحق باللوم، أم كان أحق بالثناء؟
وسمعت نفسي سيل هذه الهواجس مني، فانتفضت لتعترض قائلة في همس المختنق: كفى، كفى يا صاحبي، إن صغيرك الكبير هذا، حقيق بأن يُلقي العقاب على صغاره، وعقابه يكون بإهماله فلا يذكره الذاكرون، حتى يتعلم الشعب أن يكون الفرق بين صغير وعظيم، لقد اختلطت على الناس أمورهم واضطربت الموازين، فمتى يعود إلينا يوم لا يعلو فيه جهل على علم، ولا مهارة الحواة على كدح العاملين؟ لقد راقبت صغيرك الكبير على تعاقب السنين، فإذا هو يقيم بناءه مِن قشٍّ هشٍّ هزيل، لكنه يطليه بزخارف الألوان، فيخطف به أبصار البلهاء، الذين لا يكادون يركلون البناء بأقدامهم حتى يتهاوى قبل أن يعودوا بأقدامهم إلى حيث كانت، إنني لفي عجب منك يا أخي ومن أقرانك، الذين يظنونه خُلُقًا كريمًا أن تخفت أصواتهم أمام زيف خادع، وأرى الناس في بساطتهم يسألون في الصحف كل يوم: لقد دبَّ في حياتنا ضعف، فأين يا خبراء مواطن الضعف؟ وأول موطن من مواطن الضعف بين أصابعهم ولا يحسونه، وهو أن القوس لم تُعَد تعطى لباريها، فبات فينا عالمًا، من علمه قد انحصر في «أبجد هوز» أو ما يشبهها، وأصبح فينا أديبًا من أدبه قد اكتفى بركاكة اللفظ واختفاء المعنى، وأضحت شجاعة الرأي هي التهجم الغشوم الأجوف، وأمست حكمة الحكماء هي في مخادعة المنافق الجبان … رحمك الله يا أبا الطيب، لقد أنشدتها كلمة حق، حين قلت: إن من كان به صغار، عظمت في عينه الصغائر، وأما العظيم حقًّا، فهو ذلك الذي تصغر في عينه العظائم؛ لأن له وراء أي هدف عظيم، هدفًا أعظم منه، وهكذا تعلو همته علوًّا يشده صعدًا إلى عظيمة فوق عظيمة، فلعلك يا رفيقي لم تَنسَ بعدُ بيتَ المتنبي الذي أشير إليه، والذي يقول:
– قلت لنفسي: بارك الله فيك يا نفسي … ولقد ذكرتني بأبي الطيب المتنبي، فتعالي يا نفس نَعِشْ في ظل شموخه بضع دقائق، فإن دقيقة واحدة يعيشها إنسان مع ذلك الطامح، الأبي، الجبار، لكفيلة بأن تنقذه من صغائر الصغار، ومن قناعة الضعفاء بما هم فيه من غثٍّ رخيص، ولنجعل مأوانا من ديوان المتنبي، تلك القصيدة التي كان البيت الذي أشرت إليه يا نفس، هو ثاني أبياتها …
كان بنو كلاب قد عاثوا في ناحية من البلاد تدميرًا وتخريبًا، فسار إليهم سيف الدولة، وفي صحبته أبو الطيب المتنبي، وأدركهم وحصرهم في مأزق بين جبل وماء، وأوقع بهم ليلًا، فقتل من قتل وغنم ما غنم، ثم اتجه نحو ثغر كانوا قد خربوه، وقصد إلى بنائه من جديد، فخط له الأساس وحفر أوله بيده؛ ابتغاء مرضاة الله، لكن أهل المدينة كانوا قد أسلموها إلى من يدعي «بالدمستق»، فجمع له هذا الدمستق جيشًا جرارًا من خمسين ألفًا من الفرسان، كانوا خليطًا من جموع الروم، والأرمن، والروس، والبلغاريين، والصقالية، وغيرهم، ولم يكن مع سيف الدولة إلا خمسمائة مقاتل، فهجم بهم وهو على رأسهم، وكتب له الله نصرًا مبينًا، قتل فيه من جيش عدوه ثلاثة آلاف، وأسر عددًا من خيرة فرسانه، ثم انصرف بعد نصره إلى بناء المدينة بعد دمارها، ويقال: إنه لبث حتى وضع بيده ما يكون خاتمة العمل عند اكتماله.
وكان أبو الطيب المتنبي يُصاحبه في ذلك كله، فلما كُتِب للمهمة ما حققته من نصر وتعمير، كانت تلك هي المناسبة التي أنشد فيها قصيدته، التي أعتقد أن مطلعها وبعض أبياتها مألوف لكثيرين؛ لأنها كثيرًا ما تورد بين المحفوظات في المدارس، ومع ذلك فإني أفضل أن أعرض مضمونها نثرًا، لسببين: أولهما أنهم قليلون أولئك الذين يصبرون على قراءة الشعر وهو في صورته المنظومة، وثانيهما: أنني سأُحِل لنفسي أن أسوق المعنى المنثور، مشروحًا بإضافات وتعليقات؛ لأن هدفي هو أن أُشْرك القارئ في تلك الجلسة التي انصرفت فيها أنا ونفسي إلى قراءة تلك القصيدة للمتنبي، لنظفر منها بشيءٍ من عظمة الروح، يخفف عنا ما يحيط بنا من صغائر الصغار، فهاك نفحة مما عشته مع نفسي في ظلال المتنبي وقصيدته التي أشرنا إلى مناسبتها:
ماذا تكون الحياة بغير إرادة تعزم، وعمل ينفذ؟ وإن الناس لتتفاوت أقدارهم بتفاوتهم في العزيمة وقوتها من ناحية، وفي تفاوتهم في دنيا الكفاح والعمل من ناحية أخرى، إنهم ليتفاوتون في هذا وفي ذلك تفاوت الماء وهو عند صفر التجمد أو ما دونه من درجات، ثم وهو عند مائة الغليان، وعند أسفل الدرجات ترى صغائر الصغار، وعند عليا الدرجات ترى عظمة الإنسان كيف تكون، ولكن ما كل إرادة تستوي مع كل إرادة، حتى لو تكافأتا في قوة التصميم، فقد تتعلَّق إرادة إنسان بمال يجمعه حتى يُعد بالملايين، وقد تتعلق إرادة إنسان آخر بمناصب النفوذ النافذ الذي يخترق صلابة القوانين فلا يحاسبه أحد، أو تتعلق بمظاهر الجاه ذي الهيل والهيلمان الذي تنخلع له القلوب من بطش سطوته، لكن لا هذه ولا تلك هي التي عنيناها عندما تحدثنا عن تفاوت الأقدار في ناحية الإرادة وفي ناحية الجهاد من أجل تحويلها إلى عمل، وإلا فهل رأيت صحائف التاريخ قد شُغِلت بسطرٍ واحدٍ من صفحة واحدة، برجل لتقول عنه إنه كان ذا ثراء ثم لا شيء بعد الثراء؟ أو رأيتها شُغِلت بسطر واحد من صفحة واحدة، برجل لتقول عنه إن كل بضاعته هالة من هيلمان؟ وحتى هي إذا قالت ذلك عن إنسان مضى، فإنما تقوله بحروف في مدادها قطرة من ازدراء، لا، إنما نعني إذ نتحدث عن تفاوت الناس في ناحية الإرادة وفي ناحية تنفيذها، أن يكون معيار التفاوت هو مقدار الجوهر الإنساني في الإنسان، فليس الناس — صغارهم وكبارهم — كلهم سواء في الصفات الأساسية التي تجعل من الإنسان إنسانًا، ومن هنا كان أبو الطيب موفقًا توفيق شاعر عبقري، حين جعل التقابل — في البيت الأول من قصيدته — بين «العزائم» و«المكارم»؛ فبالعزائم تمضي الإرادة نحو العمل، وليس أي عمل، بل العمل الذي يجيء مكرمة، فيبني للناس جزءًا من صرح الحياة ويُعلي البناء، وفي أمثال هذه الإضافات الحقيقية الحيوية يتفاوت الناس، تفاوتًا يسفل به الصغير بصغائره ويعلو العظيم بعظائمه، فحقًّا: على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وتأتي على قدر الكرام المكارم …
وإذا ما انتهت عزائم الناس — في تفاوت درجاتها — إلى دنيا العمل، اختلف نزلاء الدرجات السفلى عن نزلاء الدرجات العليا في شيئين: أولهما نوع الهموم التي تشغل حياتهم، فأصحاب الحظ القليل من العزيمة ينشغلون بتوافه الأمور التي لا تغني أحدًا عن فقر، ولا تضيء لأحد طريقًا من ظلام، في حين ينشغل أصحاب الحظ الموفور من العزيمة، بما يترك أثرًا على وجه الحياة المحيطة بهم، لا تمحوه الأيام، بل يصمد حتى يجيء ذو عزيمة قوية آخر فيُضيف إليه ذلك جانب، وأما الجانب الآخر في اختلاف الفريقين، فهو أن الصغير يستعظم صغائره حتى ليحسبها مما يخلد به الرجال، وأما العظيم فهو من علو النفس وشرف الطموح، لا ترضيه الإضافة العظيمة التي يُضيفها، فيسعى نحو ما هو أعظم وأسمى، فتبعد مسافة الخلف بينه وبين الصغير، بُعدًا فوق بُعدها، فالصغير يلهو على الأرض بتوافهه، والعظيم ماضٍ، يعلي البناء طابقًا على طوابقه، وهكذا تعظم في عين الصغير صغارها، وتصغر في عين العظيم العظائم …
ولما أردت الانتقال مع نفسي إلى البيتين الثالث والرابع من قصيدة أبي الطيب، ووجدتهما تتحدثان عن سيف الدولة، قلت: هل نتخطَّى هذين البيتين يا نفس؟ فأجابتني في غضب: لا … في مستطاعنا أن نسقط «سيف» فتبقى لنا «الدولة» وبذلك ربما وجدنا الموقف قد تحول بهذا الحذف، فأصبح وكأنها مصر تُخاطب أبناءها في أيامنا هذه، وما نخوضه فيها من صعاب، فاقرأ …
وقرأت أول البيتين، فوجدت وكأن الدولة حين أثقلتها همومها الجسام، توجهت إلى أبنائها ليحملوا عنها همومها، بيد أننا كما رأينا كم يتفاوت الناس في عزائمهم، ما بين صغير فاتر العزيمة، لا يحتمل إلا أوهن الأعباء، ورأينا الناس يتفاوتون كذلك في مكارمهم، ما بين التافه الذي يكفيه من الأعمال صغائرها، والجليل الذي لا يرضيه إلا أن يزحزح الجبل، إذا رأى الجبل يسد على الناس طريق التقدم، ثم رأينا — في البيت الثاني — كيف تتسع المسافة بين الصغير الذي تعظم في عينه الصغائر، والعظيم الذي تصغر في عينه العظائم، فكذلك نحن الآن — في البيت الثالث — أمام تفاوت من نوع ثالث، هو تفاوت الناس في أنواع الهموم التي يهتمون لها، فلقد باتت الهوة واسعة وسحيقة، بين هموم «الدولة» وكانت في القصيدة «سيف الدولة» من جهة، وهموم أبنائها من جهة أخرى، وكأنها ليست هي الأم، وكأنهما ليسوا هم الأبناء! لكن «الدولة» إذ تستمد عظمة طموحها، من عظمة تاريخها، تهيب بالأبناء أن يطاولوها همة وهمومًا …
وننتقل إلى البيت الرابع، فنجد «سيف الدولة» أعني أننا (في حالتنا نحن) نجد «الدولة» أو قل إننا نجد مصر، تطلب عند الناس ما عند نفسها، شأن كل عظيم عندما يتوقع مثل عظمته من أوساط الناس، فلأنه يفيض عظمة بفطرته، لا يتكلف ولا يتصنع، يحسب أن تلك هي فطرة الإنسان — كل إنسان — وهو ضرب من الطموح لا يعرفه بين كائنات الدنيا إلا الإنسان … وأما في عالم الحيوان، فالليوث تدرك بغريزتها أنها من قوتها وسطوتها، في منعة لا ترتقي إليها الغزلان والحملان، فالقوة التي رآها المتنبي في سيف الدولة، والتي نريد أن نرى شبهًا لها في مصر اليوم، وهي القوة التي يُراد لها أن تنتقل من الدولة إلى أبنائها، ليست قوة الغابة، وإنما هي قوة الحضارة، قوة الدين، قوة العلم، قوة الفن، إنها قوة الريادة، والقيادة «ويطلب عند الناس ما عند نفسه، وذلك ما لا تدعيه الضراغم.»
قالت لي نفسي: هيه يا رفيقي … في حلو أيامي ومرها، امض فيما أنت قارئ، ولنجعل مصر نصب أعيننا فيما نقرؤه، اقرأ، قلت لنفسي: إن أروع ما يستوقف النظر، هو أن أبا الطيب، في هذه القصيدة، لا يفوته قط أن عظمة الإنسان الحقيقية، إنما هي في البناء، فإذا أقام إعجابه بشجاعة أميره في ذلك القتال الذي واجه فيه «الدمستق» وفرسانه في عشرات ألوفهم، فهو سرعان ما يشفع ذلك بالهدف البعيد الذي من أجله لجأ سيف الدولة إلى الحرب، وذلك الهدف البعيد، هو بناء المدينة التي كانت عامرة فدمروها، فانظري — يا نفسي — كيف بدأ هذا البيت بعبارة: «بناها فأعلى» قبل أن يذكر ما كان يحيط بذلك الجهد في عملية البناء: «بناها فأعلى، والقنا تقرع القنا، وموج المنايا حولها يتلاطم»، فإذا نحن عدنا مرة أخرى إلى اسم «سيف الدولة» فأسقطنا عنه السيف، لتبقى لنا الدولة، التي هي مصر، وجدنا الصورة التي نريدها فيما نخوضه اليوم مع العالم الذي نعيش فيه، فهو عالم يضطرنا اضطرارًا، حين نمضي في جهود البناء الحضاري، الذي عرف بنا وعرفنا به آلاف السنين، أن ندجج أنفسنا بأقوى السلاح، الذي نريد له أن يكون من صنعنا، وابتكارنا، ومؤسسًا على علمنا؛ لكي نواصل عملية البناء، حتى ولو كان «موج المنايا حولها متلاطم»، نعم، فسماء الدنيا امتلأت بجوارح الطير، «أحداثها والقشاعم» وهو طير لا يخشى شعوبًا خلقت بغير مخالب … أتذكرين يا نفسي — ذلك الشاعر الإنجليزي، الذي أدار البصر في «الطبيعة» فهاله أن يراها «ملطخة بالدماء نابًا ومخلبًا»؟ فقد فاته أن مجتمع البشر، في يومنا هذا على الأقل، قد بات ينافس الطبيعة ولوغًا في الدماء!
إننا — يا نفس — نقرأ هذا الذي نقرؤه لأبي الطيب المتنبي، لنستمد منه روح الشجاعة، والهمة، والطموح، والأمل، والثقة بالنفس، لعلنا نبرأ مما أصابنا من شعور باليأس، والقصور، والهزيمة، ونبرأ قبل هذا كله من التفاهة، والصغار، والعبث اللاهي في ظروف تقتضي الجد والجهد وقوة البأس، والتسامي إلى أوج نحن به جديرون، لقد هزأ الشاعر بذلك «الدمستق» الذي اجترأ على مواجهة الأسد، فعجب كيف لم تسعفه حواسه فتنبئه بالهول الذي هو مقدم عليه، مع أن ريح الليث تُشَم من بعيد: «أيُنكر ريح الليث حتى يذوقه؟ وقد عرفت ريح الليوث البهائم»، ولنختم — يا نفس — لقاءنا مع المتنبي، بهذه اللوحة الرائعة، التي جلس فيها الظافر، ينظر إلى الأسرى من أبطال عدوه، موصيًا — يا نفس — بأن توجهي انتباهك إلى أن الظافر في جلسته تلك، كان في جلاله متكافئًا مع نصره، وجهه وضاح، وثغره باسم:
«العظيم» اسم من أسماء الله — جل جلاله — وهو اسم يحمل صفة المسمى به، وكان اسم «العظيم» في أول الأمر — كما يقول الإمام الغزالي في شرحه للأسماء الحسنى — إنما أُطلق على الأجسام، ليدل على امتداد الجسم، في الطول والعرض والعمق (وليلحظ القارئ أن كلمة «عظيم» متصلة بالعظم في هياكل الأجسام)؛ ولذلك كان «العظيم» في مدركات البصر، هو ما لا يدرك البصر أطرافه، ومن هنا نقول عن المحيط إنه عظيم، وكذلك عن الصحراء وعن السماء بنجومها، وغير ذلك من امتدادات المكان، ثم انتقل معنى «العظيم» من وصف الأجسام التي لا يدرك البصر أطرافها، ليصف مدركات العقول والبصائر إذا تحقق فيها العمق والاتساع، ومنها ما تستطيع العقول الجبارة إدراكها، ومنها ما يستعصي إدراكه الكامل على الإنسان؛ وعلى هذا الأساس يكون العظيم من العباد، هو ما تعذر على عامة الناس إدراك أبعادهم وأعماقهم إلا بالدرس، وواضح أن عظمة الإنسان تُقاس إلى من دونه من البشر، وأما عظمة الله سبحانه فهي لا متناهية ومطلقة.
قالت لي نفسي: ماذا أردت بهذا التحليل لمعنى «العظيم»؟! هل أردت أن تعلل انشغالنا بصغائر الأمور، بغياب «العظيم»؟ فأجبتها: إن ذلك جزء مما أردته، ولو اقتصر الأمر على غياب العظيم، لما كان الخطب فادحًا؛ لأن حياة الناس منذ كان في الحياة ناس، لم تشهد عظماءها في كل عصر من عصورها، وفي كل شعب من شعوبها، بل كانت العظمة بمعناها الصحيح، كالشهب تسطع في السماء حينًا بعد حين، ويظل وهج الشهاب هاديًا للناس فترة طويلة بعد غيابه، قبل أن يسطع في سمائهم شهاب آخر، لكن فداحة الخَطْب في حياتنا الآن، هو في هذا الخمول الفكري الذي نحياه، يخيم علينا بوخمه فنتثاءب فيأخذنا نعاس، ثم ما هو أفدح، إذ يختلط علينا الأمر فنظنه عظيمًا من تشيطن فمشى على حبل مشدود مشية البهلوان، أو نعده عظيمًا من تكاثرت ملايينه في بلد يعد حصيلته بالقروش، فيأخذنا الذهول، ونهتف: ألا إنه لعظيم … صنوف كثيرة من «الشطارات» يظهر بها أصحابها، وكل بضاعتهم سفاسف وتفاهات، فندرجهم في قائمة العظماء، فأين هذه السذاجة البلهاء، من المقياس الصحيح، الذي يضن بلقب «العظيم» على رجل مثل نابليون، قائلًا: إنه مهر فيما لا يدفع بحضارة الإنسان إلى الأمام، قد محا ممالك وأنشأ أخرى، وخلع ملوكًا وتوج ملوكًا، ثم مرت الأعوام وعاد كلُّ شيء كما كان، فكأنك يا زيد ما حاربت ولا غزوت، العظمة في العباد إنما تكون للأنبياء والعلماء والمبدعين لروائع الفن والأدب، وللمصلحين الذين تتحول بهم شعوبهم حالًا بعد حال …
إن لشكسبير حكمة مشهورة، يقسم بها العظمة بين ثلاثة رجال، إذ يقول ما ترجمته: «بعض العظماء يولد عظيمًا، وبعض يبني عظمته بيديه، وبعض ثالث تُدفع إليهم العظمة دفعًا» — ولست أدري من ذا قصد إليه في القسم الأول، فإذا كان قد أراد ملوكًا يولدون ملوكًا لأن آباءهم ملوك، فقد أخطأ لأن التربع على عرش المُلك ليس — في ذاته — دليلًا على عظمة، وإنما عظمة الإنسان فيما يقيمه لتتقدم به حياة الناس، والصواب فيمن يولد عظيمًا، هو الموهوب بفطرته في دنيا العلم والفن وإصلاح ما فسد أو ضعف من حياة الناس.
قالت لي نفسي وقلت لها: وهكذا ظللت آخذ منها وأعطيها، وقد بدأ حوارنا — كما رأيت — بتذكر صغير كبير، كبرت سنه، وعلا موقعه، ولم تزل حياته نسيجًا من صغائر، ثم سار بنا الحوار مستهدفًا — بنفحة من أبي الطيب المتنبي — أن نُلهب العزائم حتى يولد العظماء …