صَانعُ الحرُوف
لقد دار الفلك بصاحبنا دورته، وجاءه اليوم الذي ينساه لأنه يخشاه، إنه في حياته يوم لا ككلِّ يوم، إنه ينساه ليذكره، ثم يذكره لينساه، فهو من يومه ذاك كمن يحاوره ويداوره، لا يريد له الظهور فيظهر، إنه دون سائر الأيام يوم ذو لون وطعم ورائحة، ففي مثله بدأت القصة فصولها، والله أعلم أهي قصة في صفحاتها مأساة أم هي مسلاة وملهاة؟ إنه يوم يُشبه أن يكون صورة مصغرة ليوم الحساب، ففيه يصر صاحبنا على أن يقيم لنفسه الموازين، لا عن عام واحد مضى، بل عن شريط أعوامه منذ كانت له أعوام: ماذا صنعت يا أخانا لتغير من حياة الناس؟ فلما أن طرح السؤال على نفسه هذا العام، كما كان يطرحه في موعده من كل عام، جاءه الجواب — ربما لأول مرة — بأنه لم يصنع سوى كلمات.
فلقد كانت حياته كلها كلامًا في كلام، كالذي قاله هاملت عن نفسه، حين رآه من رآه وهو يقرأ كتابًا، فسأله: ماذا أنت قارئ يا هاملت؟ فأجابه ساخرًا: إنها كلمات، كلمات، كلمات.
كانت الحياة قد تأزَّمت بأبي الطيب المتنبي وهو في مصر، أيام كافور الإخشيدي؛ لأنه لم ينل من كافور ما جاء ليناله منه، فلما حل يوم العيد، نظم قصيدته التي هجا فيها كافور، ووجه إلى مصر عتابًا لائمًا.
وقد بدأت تلك القصيدة بتوجيه خطابه إلى يوم العيد في نغمة مرة ساخرة: «عيد! بأية حال عدت يا عيد؟ … بما مضى؟ أم — لأمر — فيك تجديد؟» والمتنبي ذو كبرياء، إذا وجد في حياته قصورًا، فمحال أن يكون منه هو ذلك القصور، في سلوك الآخرين تجاهه، وأما صاحبنا الذي أروي عنه الحديث، فهو مهما بلغت به كبرياؤه، فإنها لا تبلغ حدًّا يلوم عنده الآخرين على ما يراه من قصور، إنه تقصير وليس قصورًا، إن صاحبنا شديد القسوة على نفسه، إذ هو على اعتقادٍ جازم بأن الإنسان صنيعة أفعاله وأقواله، فإذا أخفق فقد أخفق لأنه لم يُحسن الفعل والقول، ولا شأن في ذلك لأحدٍ سواه، إنه العاجز هو الذي ينسب عثراته إلى سواه، ليست النجوم هي التي تملك للإنسان سعده ونحسه: «إن نجومنا — أي عزيزي بروتس — هي طي نفوسنا» كما ورد في مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير، وما تقوله في ذلك عن الأفراد، قل مثله عن الشعوب، فخائب الرجاء هو الذي قل عقله وضعفت عزيمته فانحدر وانهار، قال: إنها الصهيونية وإنه الاستعمار، فقلة العقل وخور العزيمة هما طي نفوسنا، أي عزيزي بروتس! ونقول ذلك عن كلِّ من تعثَّرت قدماه فصرخ وقال إنها الظروف وإنهم الأشرار، حتى ولو كان القائل هو أبو الطيب المتنبي.
ذلك هو موقف صاحبنا من نفسه، كلما حاسب نفسه عن عام مضى، ولقد أخذ يقص عليَّ كيف انتهى به الحساب يوم الحساب من هذا العام، فقال فيما قال، وفي سياق حديثه بأن «الكلمات» هي صناعته: إنه لمن عجب أن شيخوختي هذه ما تزال تحمل في إهابها كل مراحل عمرها، فهي تحمل الطفل الذي كانته، وتحمل المراهق، والشاب، والرجل المكتمل، فقد يخرج له الطفل من مكمنه ليلهو بالمزاح البريء، وقد يفاجئه المراهق بأحلامه الجامحة وعاطفته الملتهبة وحيرته بين طرق الحياة وأيها يسلك، وقد يتصدى له الشاب بآماله العراض، على ظن منه بأن المستقبل ما زال أمامه ممدود السنين، وقد يجيء إليه الرجل القوي الذي لا يعرف في عمله كللًا ولا مللًا، فكأن الجلد الشائخ في صاحبنا مجرد غطاء يخفي وراءه جمهورًا متفاوت الأعمال، وهو بهذه الصفة يصلح أن يكون مرجعًا يركن إليه إذا ما أردنا مراجعة الحياة، كيف كانت في كل مرحلة من مراحل القرن العشرين! لكن تلك الشيخوخة — كما قال لي صاحبها — كثيرًا جدًّا ما تضيق بهذا العبث من أولئك الصغار الرابضين لها في جوفها، فهي مكدودة مهدودة بفعل السنين، لا طاقة لها بلهو الطفل، وتهاويم المراهق، وطموح الشاب، وجهد الرجولة القوية، فتهم بأن تضع الشكائم وتشد اللجام، ليثوب هؤلاء الصغار إلى واجبهم إزاء جسد منهوك، ولكنها قد تخيب فيما أرادت، وكثيرًا جدًّا ما تخيب، فصغارها هؤلاء لا يسهل أن يكبح لهم جماح، فعندئذٍ تأوي إلى فراشها لتنام …
ومضى صاحبي في حديثه عن نفسه، فقال: … وهذا هو ما قد حدث لي منذ بضعة أيام — هي أربعة أيام على وجه التحديد — عندما هممت أن أقيم لنفسي موازين الحساب عن عامٍ مضى، وما سبقه من أعوام، فلما أن عبث بي الصغار على نحو ما ذكرته لك، ضقت بهم ذرعًا وآويت إلى فراشي، وكانت الساعة مبكرة في أول المساء، فلم يأخذني النعاس، واسترسلت خواطري بغير قيد ولا ضابط، ولأمر ما كان أول ما خطر لي هو قصة «ألس في بلد العجائب»، و«ألس» هذه طفلة حملتها قدماها إلى نفق، فما هي إلا أن وجدت نفسها بين مجموعة من الحيوان رأت فيها عجبًا، واستطرد صاحبي ليقول عن تلك القصة: إن ذاكرتي كثيرًا ما تخون، فإن صدقت هذه المرة فقصة «ألس في بلد العجائب» التي هي الآن من عيون الأدب الإنجليزي — في أدب الطفولة — إنما كانت في أصلها حواديت حكاها عفو الخاطر أستاذ للرياضيات بجامعة أكسفورد، ولقد حكاها لأطفال أستاذ زميل له في الجامعات كان يسكن جارًا له، وأحبه الصغار، فكانوا يُلحون عليه كلما وجدوه، أن يحكي لهم «حدوتة»، فيطلق أستاذ الرياضيات العنان لخياله ويحكي، ومرارًا ما سمعه والد الأطفال ذاهلًا لتلك القدرة العجيبة عند زميله، ورجاه أن يكتب ما حكاه ليُنشر، وتحقق الرجاء فكان كتاب «ألس في بلد العجائب»، قال صاحبي: لأمر ما كان ذلك الكتاب أول ما ورد في تيار الخواطر المرسلة …
وسرعان ما امتزجت قصة «ألس» في مخيلتي بقصة علاء الدين ومصباحه، من حكايات ألف ليلة وليلة، واندمجت القصتان معًا في صورة واحدة، وجدتني على أثرها — وكنت ما أزال في يقظة مسترخية تنساب فيها الذكريات والصور، من حيث أدري ولا أدري — أقول: إني قد رأيتني وكأنما انحدرت بي قدماي إلى نفق، تمامًا كما حدث للطفلة «ألس» وكما حدث للفتى «علاء الدين»، لكن ما رأيته في عمق النفق لم يكن كالذي رأياه، إذ وجدتني في مدينة عامرة بأهلها ونشاطها، فهنالك الدكاكين المنوعة مصفوفة شوارع شوارع، وهنالك المصانع كبيرة وصغيرة، وهنالك دور اللهو رفيعة وخفيضة، وهنالك كل ما يجعل المدينة مدينة نابضة بالحركة والحياة، أخذت أطوف بها حتى استوقفني شارع الصناعات الصغيرة وهو شديد الشبه بخان الخليلي في القاهرة، هناك رأيت صناعات تطرق النحاس وأخرى تصنع التحف الخشبية الجميلة، وثالثة تصوغ الذهب والفضة، وهكذا، إلى أن وصلت إلى مصنع كُتب على بابه أنه يصنع الحروف.
ومضى صاحبي ليقول: هنا وقفت طويلًا، لأرى العاملين في مصنع الحروف وهم يصبون الرصاص المنصهر في قوالب تشكله على هيئة الحروف، ولكل حرف قوالب عديدة لتخرجه في صور مختلفة، فحرف الباء — مثلًا — له صورة والباء مستقلة وحدها، وصورة وهي في أول الكلمة، وثالثة لها وهي في وسط الكلمة، ورابعة لها وهي موصولة بآخر الكلمة، ثم تختلف صورها كذلك باختلاف أحجامها منها الكبير والمتوسط والصغير.
هنا وقفت، لا لأطيل النظر إلى الحروف الرصاصية تخرجها القوالب أشكالًا وأحجامًا، فذلك على أية حال أسلوب للطباعة قد ذهب وانقضى! بل وقفت لأسترجع بالذاكرة فترة طويلة من حياتي وهي في أوج نشاطها، عندما كان الطريق بين بيتي والمطبعة هو «مشواري» كل يوم، رائحًا وغاديًا، أروح ومعي أصول كتاب جديد، أو مقال، وأغدو ومعي التجارب المصححة لأزيدها صحة بمراجعتها، فلم يحدث لي قط أن تركت كلمة واحدة بغير مراجعة ثم مراجعة للمراجعة، وكنت أوثر من عمال المطبعة «عم علام» ليتولَّى طباعة كتبي وقد عرف طبعي وعرفت طبعه! وتلك أيام لم يكن يطوف لي فيها بخاطر أن ستأتي بعدها أيام أخرى لا أقرأ فيها ما أكتبه قبل دفعه إلى المطبعة، ولا أرجع شيئًا مما طُبع، ولا أظن أحدًا يا صديقي (هكذا وجَّه إلى صاحبنا حديثه) لا أظن أحدًا يستطيع أن يُقدر كل التقدير، كم أشقى بحسرتي حين أراني وقد حيل بيني وبين ما أكتبه، ودع عنك ما يكتبه الآخرون … لا علينا، فليس ذلك هو موضوعنا، فموضوعنا الآن، هو ما استثارته الحروف الرصاصية في مصنعها الصغير، من تأملات وأفكار ضاربة في حياتنا إلى أعمق جذورها.
تلك الحروف هي «أفكار» إذا هي رتبت بصماتها على الورق لتكون أفكارًا لكنها مجرد قطع من الرصاص، لو بقيت مكومة في صناديقها، وليس الفرق كبيرًا بين أن تبقى مكومة في تلك الصناديق وبين أن تنثر على الورق نثرًا لا يحمل معه معنى، وحتى إذا هو حمل المعنى فمعناه هذا لا يُحدث أثرًا في حياة الناس كائنًا ما كان هذا الأثر، ومثل هذه الحالة من بعثرة الحروف على الورق هي طريقة مألوفة في كثير مما نراه منشورًا في الكتب والصحف.
الأصل في الكتابة بهذه الحروف وأمثالها، هو أن تجيء «التركيبة» المطبوعة صورة تصور للقارئ «صورة» لأشياء الواقع كيف وقعت، حتى لقد كانت الكتابة في عصورها الأولى تصويرًا حقيقيًّا لما يُراد تصويره، فتُرسم شجرة لتعني شجرة ويُرسم عصفور ليعني عصفورًا وتُرسم سمكة لتعني سمكة وشمس لتعني شمسًا، وهكذا، وكان ذلك أيام لم يكن الإنسان قد وقع بعد على فكرة «الحروف» فلما أن تقدمت بذلك الإنسان حضارته وكثرت أشياؤه التي يريد أن يسجل عنها بالكتابة لم يعد في وسعه أن يُشير إلى كلِّ شيء برسم صورته، وبهذا نشأت في نفسه حاجة شديدة إلى مخرج من هذا المأزق، والحاجة — كما يقال لنا بحق — هي أم الاختراع، فهنا تفتق ذهنه عن الفكرة العبقرية التي هي أن يصور الأشياء، لا برسمها على نحو ما تراه العين منها، بل أن يصورها بما يرمز إليها، لكننا لو وقفنا بالأمر عند هذا الحد لبقيت المشكلة القديمة قائمة، إذ يتعذر أن يستوعب رموزًا بعدد الأشياء استيعابًا يمكن الأفراد من تبادل الأفكار؛ لأن هذا التبادل يقتضي أن يكون الكاتب والقارئ معًا على اتفاق فيما يرمز إليه كل رمز على حدة، فما هي إلا أن أشرقت على الإنسان فكرة «الحروف»؛ لأن عددًا قليلًا منها يكفي أن يركب ويفك على عدد لا نهاية بحصره، فالأمر فيها شبيه بعلبة الألوان عند المصور، يكفيه أن يكون فيها الألوان السبعة الأساسية لكي يمزجها في تشكيلات لا نهاية لعددها، بحيث يستطيع أن يرسم على لوحته أي لون تقع عليه العين في دنيا الأشياء، ولتعلم أن اللون الأساسي الواحد — كالأخضر مثلًا أو الأحمر — يمكن أن يجيء في دنيا الأشياء على ظلال متفاوتة قد تُعد بالألوف، وهكذا الأمر في «الحروف» عند الكاتب فهو — كما قلنا — يفكها ويركبها، لتخرج له ألوف الألوف من التركيبات، التي هي مفردات اللغة ومركباتها، لكن هذا كله لا يُنسينا الأصل الذي من أجله فكر الإنسان في حروف يستخدمها في عمليات «التصوير» لما شاء أن يصوره من عالم الكائنات، وهو العالم الذي يعيش فيه مع آخرين، يريدون أن يتبادلوا الكتابة والقراءة عن شئون دنياهم، وما معنى هذا في جملة واحدة؟ معناه أن الكتابة التي لا تدل قارئها على ما جاءت تلك الكتابة لتصوره، إنما هي حروف كومت على الورق، على نحو ما تكون حروف الرصاص في صناديقها.
ومع ذلك، فالمسألة فيما بين الكتابة ومدلولها ليست بهذه البساطة كلها؛ لأن الإنسان في ارتقائه لا تكفيه الأشياء التي في دنياه ليجعل منها شغله الشاغل، بل يضيف إلى تلك الأشياء المجسدة «أفكارًا»، والأفكار كائنات عقلية وليست كالأشياء أقيمت من حجر وخشب وحديد، وإذا كانت الأشياء المجسدة تبلغ من الكثرة حدًّا يجاوز الحصر، فالأفكار في رءوس الناس أكثر منها عددًا؛ لسبب واضح وهو أن الأشياء يحكمها أنها موجودة بالفعل، وأما الأفكار، فمنها ما هو مرتبط بتلك الأشياء القائمة ارتباطًا مباشرًا أو غير مباشر، ومنها كذلك ما هو أفكار عن «الممكن» الذي لم يوجد بعد وليس ما يمنع أن يوجد ذات يوم، فضلًا عن الممكنات التي قد لا تجد طريقها إلى التجسد حتى أبد الآبدين … هذه الأفكار كلها بشتى ضروبها قد يراد لها أن تكتب، ووسيلة كتابتها هي الحروف، فإذا كانت الحروف — كما قلنا — هي أدوات تصوير، قريبة الشبه جدًّا في أدائها لوظيفتها بمجموعة الألوان عند الرَّسام، فقد ينشأ عن قارئ سؤال: وهل يمكن تصوير الأفكار بمركبات الحروف، كما يصور الرسام منظرًا ما بمزج الألوان؟ وجوابي (هذا ما تحدث به صاحبي إليَّ في غمرة انفعاله)، جوابي هو أن الفكرة المكتوبة إذا لم يتصورها قارئها، فهي ليست شيئًا على الإطلاق، والذهن إذا تصور فلا بدَّ أن يكون ثمة «صورة» يتصوَّرها، هذا بالطبع إذا كان المتلقي متكافئًا في قدرته مع المستوى الذي يتلقاه.
أعجب عجيبة في كائنات الدنيا بأسرها هي هذه الحروف، فالحرف الواحد منها وهو منفرد على حدة يكاد يستحيل على الإنسان أن ينطقَ به، فحاول — مثلًا — أن تنطق بحرف الباء وحده، تجدك قد زممت شفتيك ولكن لا صوت، وأرجوك ألا تظن أن قولك «باء» هو نطق بالحرف وحده لأنك في هذه الحالة قد أضفت إليه ألفًا وهمزةً لتتمكن من النطق، لا، إن الحرف وحده يتعذَّر النطق به ما لم تضف إليه حركة ليست منه، ومع ذلك فهو إذا انضم إلى غيره من زملائه الحروف، ليكون كلمة أو جملة أصبح قوة أين منها قوة الزلازل والبراكين؟! فالحرب تستعر بكلمة، والحب يشتعل بكلمة، والعلم مجموعة كلمات، والأدب تكوينات من حروف … ولا تقل: إن المهم هو ما وراء الحروف من حالات نفسية وأفكار عقلية؛ لأن تلك الحالات والأفكار ما كانت لتكون لها قوتها، بل ربما هي لم تكن لتثبت وجودها إلا إذا أسعفتها الحروف … الكلمات نكتبها أو ننطق بها، هي الهدى وهي الضلالة هي العلم وهي الجهالة، هي الحب والبغض … إنها هي الإنسان.
هل يعقل بعد هذا كله أن نجعل منها عبثًا ولهوًا نجريه على الورق؟ لقد نظرت إلى صف المصانع الصغيرة التي يقع بينها مصنع الحروف، وذلك فيما سرحت به في أحلام يقظتي (هكذا استأنف صاحبي حديثه معي) وسألت نفسي أمام مصنع النحاس: هل يُعقل أن يشكل الصانع نحاسه ليكون «لا شيء»؟ وأمام صانع الخشب: هل يُعقل أن يشكل النجار الخشب ليصبح «لا شيء»؟ وأمام صانع الذهب والفضة: هل يُعقل أن يشكل الصائغ معدنه ليخرج به «لا شيء»؟ أليس صانع النحاس يصنع الأكواب والأواني والطشوت والأباريق؟ أليس النجار يصنع المقاعد والمناضد والصناديق والخزائن؟ أليس الصائغ يصوغ الأقراط والأساور والمدليات فلماذا لا يحذو حذوهم صانع الكلمات من الحروف؟ إن تكوين الكلمات والعبارات هو ضرب من صناعات التشكيل، ولا بدَّ للتشكيل أن يخرج ما هو نافع في حياة الإنسان العملية والفكرية والوجدانية جميعًا، ولقد حدث في ألمانيا الغربية منذ سنوات قلائل، أن أراد اتحاد الكُتَّاب هناك الانتفاع بمزايا النقابات الصناعية، فقام بحملة قلمية يُنادي فيها بأن الكاتب إنما هو «صانع» كلمات وعباراتٍ يُشكلها على نحو ما يُشكل النحَّاس والحداد والنجار والصائغ مادته، وما دام الأمر هو صناعة وتشكيل إذن لا بدَّ أن تتجه صناعة الكاتب نحو أن يُقدم للناس ما يحيون به.
قلت لصاحبي: وهل ترى أقلام كُتابنا سيالة بما لا ينفع الناس؟ فأجابني صاحبي — وقد اشتد انفعاله — نعم، إني أرى ذلك في كثيرٍ من الأحيان، لكن قولي هذا يريد ضبطًا وتحديدًا؛ لأن سؤالًا هنا يجب أن يقام وهو: ما هو مقياسنا الذي نميز به ما ينفع؟ إذ قد ينطق الناطق بما هو أقرب إلى التخليط الذي يضر ولا ينفع، ثم يزعم لكلماته هداية ونفعًا، وتحديد النفع مرهون حتما بالهدف، والنافع هو ما يكون خطوة تقرب السائر من هدفه، فإذا قلنا إن الهدف في سير الحضارات لا بدَّ أن يكون — آخر الأمر — مستقبليًّا وجديدًا ومتساميًا بالإنسان في عمله وفي فنه، وفي معيشته، وفي إبداعه، وفي حقوقه وواجباته … إلخ، كان حتمًا علينا أن نقيس صناعة الكاتب بما هي فاعلته نحو دفع الإنسان إلى ذلك المستقبل المأمول، وأزعم أن كثيرًا جدًّا مما يكتبه الكاتبون يشد الناس إلى الوراء، أكثر مما يدفعهم إلى الأمام … إن معظم ما كتبه حملة الأقلام منا في قرن كامل، لم يستطع أن يزحزح الجمهور في وقفته ليلفت وجهه في اتجاه عينيه، بدل أن يظل مشدودًا إلى قفاه، فلئن كنا قد نجحنا في تغيير الأفراد من حيث هم أفراد ذوو مهن وحِرف ومعرفة، فنحن يقينًا لم نوفق إلى نجاح مثله بالنسبة إلى الجمهور مجتمعًا، إذ ما يزال نكفيه إشارة بأصبع واحدة من رجل واحد أن انظر وراءك يا جمهور الناس، ليسرعوا إلى تلبية النداء …
قال صاحبي: فلما أفاقت خواطري السارحة من أحلامي يقظتي، عدت فواجهت اليوم الموعود من كلِّ عام، الذي أحاول دائمًا أن أنساه لأنني أخشاه، وأخشاه لأنه يوم تحاسب فيه النفس ذاتها ماذا صنعت؟ إنني رجل صناعته الحروف معلمًا وكاتبًا؟ يجمعها ويفرقها، ثم يجمعها من جديد، لعلها تحمل إلى الناس نصيبها من رسالة التغيير والتجديد، فإلا تكن فعلت اليوم، فربما تحقق لها ذلك غدًا أو بعد غد.