هؤلاء الآخرون!
لم أصدق «توم لاندو»، عندما قرأت كتابه منذ لا أدري كم من عشرات السنين، وكان كتابه ذاك عن فن التعامل بين الناس، وقد كنت استعرته من صديق أوصاني بقراءته، لم أصدقه حين وجدته لا يكف — صفحة من كتابه بعد صفحة — لم يكف عن التحذير من صعوبة التعامل مع الآخرين، وأن الأمر في ذلك ليس من البساطة واليُسر الذي يظنه الناس، فهؤلاء الناس كثيرًا ما يعيشون مع غيرهم، وهم على وهم بأن معاملة الآخرين تجيء مع الفطرة في سهولة وكأنها شربة ماء، إنها لو جاءت مع الفطرة لهان خطبها، فهي مع الحيوان تجيء مع فطرته؛ ولذلك قلما يعترك حيوان مع حيوان من نوعه، وحتى إن فعل، جاء اعتراكه أقرب إلى ممازحة اللعب فيها إلى جد القتال، كما نرى أحيانًا بين القطط والكلاب، وأما أفراد الناس فشأنهم في التعامل بعضهم مع بعض عجب من عجب، إن النمر لا يضمر الشر بالنمر ثم يُبدي له الصداقة ليلهيه، ولا الضبع يتودد إلى الضبع وفي نفسه ما في نفسه من كيد، وأما الإنسان فقد أفسد غرائزه الطبيعية — التي هي غرائز حيوانية في أساسها — أفسدها بما أضافه من «ثقافات».
ولأن ذلك هو الإنسان على حقيقته، أخذ «لاندو» يعرض على قارئه تحليلاته العلمية، وما استخرجه من قوانين وقواعد، هي التي يجب على من يريد لنفسه حياة هادئة آمنة، أن يهتدي بهديها، ولم أصدقه في كثير مما ذهب إليه من طبيعة الإنسان، وكيف أصدق تلك النظرة السوداء؟ وكان الله قد أنعم عليَّ بمجموعة من الأصدقاء وجدتهم نِعم الأصدقاء، نتنافس، نعم، ونتعاتب، نعم، ونتخاصم حينًا بعد حين — نعم، لكن ذلك كله كان معنا كما لو كان الواحد منا يُنافس نفسه، ويختصم مع نفسه، وحقًّا جاءت صداقتنا مصداقًا لقول شكسبير: «الصديق مرآة لصديقه»، وبأي معنى هو مرآته؟ بمعنى أنه يرى حقيقة نفسه في انعكاس سلوكه على سلوك صديقه، وانظر إلى بلاغة اللغة العربية حين بثت صفة «الصدق» في كلمة «صديق»، فالصدق هو جوهر الصداقة وصميمها، فلا صداقة بغير أن يصدقك الصديق بما يكنه في نفسه، ومن هنا تحقق الصداقة للصديقين أن تتواصل النفسان حتى لتصبحا وكأنهما نفس واحدة، فتتسع الآفاق لكلٍّ منهما، وتغزر خبرة أحدهما بإضافة خبرة صديقه إليها، أما إذا أحسست فيمن ظننته أول الأمر صديقًا، أنه يسمع منك ما تنفضه إليه من نفسك، ثم يكتم عنك ما في نفسه، فاعلم أنه لا صداقة بينكما، وأنه قد يأتي يوم يستخدم فيه ذلك الآخر ما كان سمعه منك عن حقيقة نفسك، بارودًا يقاتلك به فيرديك صريعًا، إذا استطاع، ولم يكن شيء من ذلك بيني وبين مجموعة الأصدقاء التي أنعم الله عليَّ بها ونحن في مرحلة الشباب؛ ولهذا لم أصدق «توم لاندو» في نظرته السوداء.
لكن أعوام العمر أخذت تكر، وأخذت معها الخبرة بالناس تزداد، فكنت كلما ازددت خبرة بالناس مع تعاقب السنين، تنقشع السحب التي تحجب عني ضوء الشمس شيئًا فشيئًا، وشيئًا فشيئًا أحس كأنني «بالذاكرة أقرأ توم لاندو» مرة أخرى، وأقلب صفحة من كتابه بعد صفحة، فلقد صدقت رؤيته، وتبين لي كم هو ضروري أن يتدبر الإنسان كيف يتعامل مع الآخرين، ليظفر منهم بنعيم الصحبة، وينجو بنفسه من جحيم العداوة والعدوان، لقد ختم جان بول سارتر إحدى مسرحياته — ولعلها — مسرحية «الذباب» — بعبارة تقول: «لجحيم هي الآخرون»، لكنني أصحح عبارته تلك لأجعلها تقول: «جنة الإنسان وجحيمه على هذه الأرض هما هؤلاء الآخرون»؛ لأنهم — حقًّا — مزيج من جنة وجحيم.
وما لي أسافر بعيدًا لأسقط ما قاله هذا وذاك، في وجوب العناية والحذر عند التعامل مع الناس، وعندي حديثان شريفان فيهما الإرشاد والتوجيه، أما أولهما فهو قوله: «الدين المعاملة»، وأما ثانيهما فهو قوله — عليه الصلاة والسلام — «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»، وإننا لنكرر هذه الأحاديث الشريفة، ولكننا قلَّ أن نقف منها موقف المتدبر لمعانيها، ففي القول بأن الدين هو المعاملة، إشارة هادية إلى أنه لو لم تكن المعاملة بين الناس عسيرة المأخذ، كثيرة العثرات، لما اقتضت أن تنزل من السماء ديانات لتنظيمها وهداية الناس في مسالكها، ولو كان أمرها مكفولًا بالفطرة الغريزية وحدها، لما احتاج الأمر إلى وحي وتنزيل، والذي يدعونا إلى التفكير هنا هو الإنسان فيه ما في الحيوان من غرائز، فلماذا كان ما أنتجته تلك الغرائز عند الحيوان، ألا يأكل حيوان لحم أخيه الذي من نوعه، فلا يأكل النمر نمرًا، ولا الضبع ضبعًا، في حين أن الغرائز نفسها وهي عند الإنسان لم تهده هداية الحيوان؟ إنه لا بدَّ — على ضوء هذه المقارنة — أن تكون العلة المانعة هي ما أضيف للإنسان فوق غرائزه من قدرة على التفكير والتدبير، فكانت تلك الإضافة نعيمًا وجحيمًا في آنٍ واحد، وصدق الله العظيم في قوله عن النفس البشرية: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا فالأداة واحدة، لكن استخدامها يختلف بين الخير مرة والشر مرة، ومن هنا لزمت الضوابط الخلقية لتقيد سلوك الإنسان، تقييدًا يصرف ذلك السلوك في طريق الخير وحده دون طريق الشر، وذلك هو الدين، وأما الحديث الشريف الثاني الذي يقول في وصف المسلم الصحيح، بأنه هو من سَلِم الناس من لسانه ويده، فهو — إلى حد ما — يفصل ما أجمله الحديث الأول، بذكره الوسيلتَين الرئيستين اللتين يستخدمهما الإنسان في التعامل مع الآخرين، فيهتدي إلى الصواب والخير مرة، ويزل في الخطأ والشر مرة أخرى، والوسيلتان: الفعل والقول، والقول إنما هو ضرب من ضروب الفعل لكن تختلف الصورة عندما يكون الفعل باليدين، وعندما يكون الفعل بنطق اللسان، وتستطيع أن تضيف إلى فعل اليد عملية الكتابة، وفي هذه الحالة يكون المسلم كاتبًا بقلمه، أو متحدثًا بلسانه، هو مَن كتب أو تكلم ليهدي لا ليضل الآخرين … ولولا أن الإنسان في جبلته من القدرة على التفكير والتدبير، ما قد يتوجه بهما نحو الوقيعة والغدر، لما احتاج الأمر إلى آيات قرآنية كريمة تُرشد، وإلى أحاديث نبوية شريفة تُنبه الغافلين.
اختلفت خبرتي بالآخرين بين مرحلة شبابي، ومرحلة ما بعد ذلك، رأيت في المرحلة الأولى ما كان في ظني صفاء ونقاء برغم ما يجيء ويذهب من قطع السحاب، ووجدت فيما بعد ذلك رجحانًا للغدر والوقيعة، ولأنني نشأت على طبع يجبن دون المصارعة والقتال، ويسبق إليه تصديق الآخرين، قبل تكذيبهم، كنت الفريسة في حلبة التعامل مع أولئك الآخرين تسع مرات من كل عشرة لقاءات توهمت فيها صداقة في صدقها وإخلاصها، وكثيرًا ما أقدم العزاء لنفسي، بأن أذكرها بموقف للراهب الفيلسوف «توما الأكويني» — وكان أعظم من شهدته أوروبا من فلاسفة في عصورها الوسطى — فقد كان سريع التصديق لما يقوله الآخرون إذ كان يغلب عليه الظن … بخيرية الإنسان وطيبة عنصره، فحدث يومًا أن ضحكت عليه جماعة من زملائه الرهبان، وكانوا قد عرفوا فيه تلك البساطة البريئة، فصاحوا به قائلين: أسرع يا توما لترى تلك الأبقار الطائرة بأجنحة في جو السماء، فأسرع توما إلى حيث وقف زملاؤه عند النافذة، ونظر إلى السماء، فقهقه الزملاء سخرية بسذاجته، وهنا نظر إليهم توما في هدوء ثم قال: علام الضحك؟ فلأن أصدق بأن أبقارًا تطير، أهون على نفسي من أن أرى رهبانًا يكذبون!
ذلك هو الإنسان الذي خلقه الله ذا نفسٍ ينفتح أمامها طريق الفجور كما ينفتح طريق التقوى، ولها أن تختار، وعليها تقع التبعة فيما اختارت، وإذا استثنيت جان جاك روسو، الذي كتب ليقول إن الإنسان إذا نشأ على فطرة الطبيعة، جاء ذا نفس طيبة بخيرها خيرًا لا تمازجه شرور، وإنما الحضارة هي التي أفسدت عليه طبيعته، فكان من خبثه وشره، ما كان، أقول: إنك إذا استثنيت روسو، وجدت الأعلام فيمن تناولوا طبيعة الإنسان بالتحليل، قبل أن يخرج من حياة الغابة، ليدخل في حضارة تتلوها حضارات، وجدت هؤلاء الأعلام يُجمعون على أن الفرد من الناس، كل فرد، هو عدو للآخرين عداوة إذا هو أخفاها في تعامله مع هؤلاء الآخرين، فإنما يخفيها حتى يحين له الحين، فينقض على فريسته، وأحسب أن أوضح وأعمق من نقرأ لهم في بيان الطبع الإنساني على حقيقته العارية، هو توماس هوبز في كتابه «التنين الجبار».
ولا علينا من ذلك كله — صدق أو كذب، اقتصد في القول أو أسرف — فالذي همني عندما بدأت هذا الحديث، هو خاطر خطر لي في صورة سؤال، عندما أخذت ذاكرتي — كعادتها — تلف أمامي مواقف حياتي خلال مراحلها، فكان ما عرضته عليَّ هذه المرة، تلك المقارنة بين خبرتي مع أصدقاء الشباب، وخبرتي مع أصدقاء ما بعد ذلك، وهنا خطر لي الخاطر في صورة سؤال يُسأل: أهو اختلاف بين المرحلتين في حياتك أنت، أم هو يا ترى اختلاف بين مرحلتين في حياة الشعب كله؟ فبينما كانت ضوابط التعاون في المرحلة السابقة راجحة في ميزان التعامل، انحلت هذه الضوابط في مرحلته الراهنة، فانطلق مع الطائر جناح الفجور وانخفض جناح التقوى، وإذا كان ذلك كذلك، فلا بدَّ للظاهرة من تعليل؛ لأنه تناقض يلفت النظر بين أن تشتد الدعوة الدينية كما لم تشتد في أيِّ يوم شهدته، فيما مضى، وبين أن يعنف الصراع بين أفراد الشعب، كما لم يعنف في أي وقت مما وقع لي في خبرتي، وربما كان الأمر في هذا قد اتسع حتى شمل العالم كله، ونحن جزء منه، لا فرق بين شعب وشعب، ولا بين دين ودين، فالمسلم يُقاتل المسلم حتى الموت، والمسيحي يُقاتل المسيحي حتى الفناء.
إنه لمن أغرب النقائض في عصرنا، أن تبلغ الدعوة إلى التآخي بين الشعوب وبين الأفراد ما لم تبلغه خلال التاريخ الماضي كله، وأن تهبط علاقات الإخاء بين الشعوب وبين الأفراد إلى حضيض لم تهبط إلى مثله خلال التاريخ الماضي كله أيضًا، فنحن في عصر تعاقدت الأمم فيه على أن تلتقي في جمعية متحدة، وأحسب أن لقاءات تلك الجمعية منذ نشأت في أول لقاء لها سنة ١٩٤٦ — بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية في صيف ١٩٤٥، أقول إني أحسب أن لقاءاتها منذ ذلك الحين، ومؤتمراتها، ولجانها ومطبوعاتها ومحاضرها لا تستطيع حصرها إلا الأجهزة الإلكترونية الحاسبة، ومع ذلك تشعبت الأمم أكثر جدًّا مما اتحدت، فقد انقسم الشعب على نفسه شرائح، تريد كل شريحة منه أن تستقل أمة وحدها، مهما صغر حجمها وقل عدد سكانها، ثم تنافر الأفراد حتى في الشريحة الواحدة من الشعب الواحد، حتى لكان كل فرد بات يتمنَّى لنفسه أن يكون دولة وحده وانسدت في حياة الناس قاطبة طرق التفاهم، فالمتكلم لا يكلم سامعًا، وإذا أنصت له السامع جعل يفكر في دخيلة نفسه وهو يسمع، كيف يرفض وينقض هذا الذي يسمعه قبل أن يسمعه! ولا عجب — إذن — أن ينشأ في عصرنا ويشيع ما أسموه بالأدب اللامعقول، أو أدب العبث، الذي جاء هو — وكثير غيره من الفنون — انعكاسًا لعدم التفاهم السائد في عالم اليوم، وفي الأدب العربي المعاصر مشاركة في تلك الموجة شارك بها توفيق الحكيم بمسرحيته «يا طالع الشجرة».
لقد أصابنا نحن من تلك الحمى المجنونة شرر وشر، فتعثر التفاهم وتعسر وتعذر؛ لأن مصالح الأفراد والجماعات تباعدت وتنافرت، ويكتب الكاتبون ويذيع المذيعون، ويعظ الواعظون، ويعلم المعلمون، فلا تتحرك في الأبدان شعرة لأنه إذا تعددت أهداف المواطنين بحيث لا تلتقي، فإنها لا تتحد وتلتقي بكلمات تكتب وتُقال، ولكنها تتحد وتلتقي في اقتلاع الجذور التي أنبتت فروع الخلاف، افتح عينيك جيدًا ترى في تعالي بعضنا على بعض عجبًا، إننا نتصارع على درجات السُّلم، نتدافع ونتدافع بالأذرع والأرجل، فيصعد منا من هو أقوى وأمهر، ويسقط منا من هو أضعف بنية، وأضيق حيلة، ولا علاقة قط في ذلك الصعود والهبوط بالمواهب والقدرات، ولكن ماذا تصنع القدرات والمواهب أمام قوة السلطان في أيدي الصاعدين؟ فإذا ما استقر الصاعد والهابط كل على أرضه، رأيت لعبة غريبة يلعبونها في صمت: فالهابط يحاول أن يكتسب شيئًا من رائحة النجاح، فيتقرب من الصاعد، والصاعد بدوره يُبعده، بالسياسة والكياسة، آنًا، وبالمصارحة القاسية الجارحة آنًا آخر، حتى لا يقترب منه فيظن الناس أنهما تقاربا مكانا فتقاربا مقامًا، الحق أني لم أشهد في أيِّ بلدٍ آخرَ من الدنيا التي خبرتها، من ينافسنا في لعبة المسافات، وكان من أشد ما رأيته إثارة لدهشتي، أن رأيت ذات يوم في بلد ما وزيرًا وساعيًا يقفان في طابور واحد، وفي المكان الذي يعملان فيه، وقفا انتظارًا لدورهما ساعة الشاي بعد الظهر، وكان الساعي أسبق من الوزير في صف الانتظار، فلا تململ الوزير من موقعه، ولا عرض الساعي أن يترك موقعه، وأذكر أني بنيت على تلك الواقعة مقالة صورتها في صورة أدبية، وقلت عندئذٍ — وكان ذلك في أواسط الأربعينات — إن مأساتنا الحقيقية فيما يتصل بمعاني الديمقراطية والمساواة ليست في أن الوزير يتعالى على الساعي ومن إليه من جمهور الناس، بقدر ما هي في القلق الذي يُصيب الساعي ومن إليه إذا رأى نفسه وقد وضعته المصادفات في مواقف المساواة مع الوزير.
ومرَّت بعد تلك الواقعة أربعون عامًا، وتغيرت مواقع الأفراد، وارتفع من ارتفع وانخفض من انخفض، لكننا مع ذلك احتفظنا بالطابع القومي في لعبة المسافات، ثم أضافت إليها في هذه المرحلة الزمنية التي اضطربت لها الأوضاع في سائر أنحاء العالم — ونحن جزء منه — أن صار أفراد الشعب الواحد وكأن كل فرد منهم قد انفرد وحده في برج مغلق، لا شأن له بسواه، وإن صورة برجية كهذه كان قد تصورها «ليبنتز» (القرن ١٧) وهو يتصور حقيقة الإنسان، أو على الأصح، وهو يتصور طبيعة الكائنات الحية جميعًا، إذ تصور أن كلَّ كائن حي إنما هو في حقيقته كيان منطوٍ على نفسه، ومستقل عمن سواه وعما سواه، فهو يُشبه أن يكون في برج مسدود ليس فيه نافذة تنفتح على أي شيء مما حوله، وسيرة حياته تتم بأن ينبسط ما هو منطو في البذرة التي أنشأته، ويظل ذلك المنطوي من حقيقته ينبسط شيئًا فشيئًا حتى يتم سيرة حياته، ثم يذبل ويموت، فكأن الكائن الحي يعيش وحده في هذه الدنيا، وليس له إلا ما هو مضمر في بذرته، فهو في ذلك أشبه بشريط سجلت عليه قصة، أو مسرحية، وأخذ الشريط يبسط من نفسه ما انطوى، جزءًا جزءًا، فإذا ما بلغ نهايته، انتهت مع نهايته القصة أو المسرحية المُسجلة عليه.
لكن هذا التصوير الذي قدَّمه «ليبنتز» لطبيعة الكائنات الحية، بما في ذلك أفراد الإنسان، يختلف اختلافًا بعيدًا عن أبراج اليوم التي يسكنها الأفراد لينعزل كل منهم في برجه عن الآخرين، وموضع الاختلاف بين الحالتين هو أن ليبنتز أكمل صورته بأن أضاف إليها أن رعاية الله وعنايته، أرادت للأفراد أن تتناسق الحياة بينهم، برغم انفراد كل فرد عن بقية الأفراد، فيتحقق بذلك اتحاد خطوات السير، وكأنهم يتجاوبون بعضهم مع بعض عن وعي منهم وإرادة، ثم أخذ ليبنتز يسوق تشبيهات جميلة يبين بها ما يعنيه، فقال في تشبيه منها، إن الأمر في حياة الأفراد وتناسقها برغم انعزالهم، كل في برجه المغلق، يشبه فرقة موسيقية لكل فرد منها آلته الموسيقية الخاصة، وقد وضع كل منهم في غرفة وحده، ثم ضبط لهم التوقيت، فبدءوا العزف، كل على آلته الخاصة، فنشأ عن مجموعهم سيمفونية موحدة، دون أن يكون أي مهم على علم إلا بالدور الذي أداه والرابطة التي ضمنت هذا التناسق بينهم، هي اشتراكهم في مدونة «نوتة» موسيقية واحدة، وتلك المدونة المشتركة هي التي تقابل عناية الله ورعايته.
وأما الأبراج البشرية التي تتحرك على مسرح حياتنا اليوم، والتي انعزل في كلِّ برج منها فرد عن بقية مواطنيه، ليطلق لنفسه العِنان فيما يفعله وما لا يفعله، بلا رقيبٍ عليه ولا حسيب، فهي أبراج لا تعزف على مدونة موسيقية واحدة، ولا عليها أن يصدر عنها خليط صوتي نشاز.
وتشبيه جميل آخر ساقه ليبنتز لتوضيح رؤيته لحقيقة الإنسان، كيف كانت لكلِّ فرد من الناس فرديته الكاملة؟ وكأنه يُقيم في برج مغلق لا نافذة في جدرانه تنفذ إلى العالم الخارجي من حوله، ومع ذلك فهنالك تناسق كامل بين مجموعة الأفراد، وهي مشكلة يستند في حلها إلى تناسق منذ الأزل، دبرته عناية الله ورعايته، وذلك يشبه ألوف الألوف من «الساعات» الدالة على الزمن، يحملها أفراد الناس، وكل ساعة منها مستقلة وحدها عن سائر آلات الزمن، فكيف أمكن لهذه الآلات المتفرقة المتباعدة أن تتفق كلها على قياس الزمن على صورة واحدة؟ الجواب هو أنها استطاعت ذلك؛ لأن صانع الساعات صنعها على تكوين إرادة لها، في تروسها وسائر أجهزتها بحيث تتحرك كلها في موازاة لا خلل فيها، وهكذا أيضًا تكون رعاية الله وعنايته لأفراد الناس.
وقياسًا على هذا التشبيه، أقول: إنه إذا كان المثل الأعلى في حياة المجتمع الإنساني وأعضائه، هو أن يكون للفرد حريته الكاملة في تطوير حياته بما يتفق مع استعداداته الطبيعية، شريطة أن يجيء نموه متناغمًا مع سائر الأعضاء ونموهم، إذن فالظاهر في مجتمعنا اليوم، أن الأفراد قد حملوا ساعات مختلفة في سرعاتها وفي اتجاهات سيرها، فبعض الأفراد قد حملوا ساعات تشير إلى الزمن بما يسمونه التوقيت العربي، وبعضهم يحملها أفرنجية التوقيت، وبعض ثالث جعلوا ساعاتهم على توقيت صيفي، وبعض رابع اختاروا التوقيت الشتوي، وهكذا، فإذا سألت جمعًا منهم: كم الساعة الآن؟ جاءتك إجابات تتراوح بين الواحدة والثانية عشرة، وهكذا انسلخ كل فرد منا ليعيش في سبيله، سائرًا به نحو هدفه، وليس السبيل متفقًا عليه مع سواه، ولا الهدف نفسه هو ما يستهدفه سائر أفراد المجتمع.
لقد كنا ذات يوم قريب، نصب اهتمامنا على التفكير في تشخيص العلة التي أصابت المصري في المرحلة الأخيرة، من تاريخه، بحيث اختفت عنه صفات كان متميزًا بها، ومنها تعاونه التلقائي مع أهل أسرته وقريته أولًا، ومع أبناء وطنه بصفة عامة، وكان لكاتب هذه السطور رأي أبداه وهو أن العلة الطارئة على المصري في علاقته مع وطنه ومواطنيه، أساسها ضعف شديد في إحساسه بالآخرين، فتراه يتصرف وكأن لسان حاله يقول: وهل هناك آخرون؟ على غرار ما قاله «بلفور» حين رسم خريطة وهمية لفلسطين، التي كانت عندئذٍ (١٩١٧) تحت الانتداب البريطاني، وكان بلفور وزيرًا في الحكومة البريطانية، وأراد أن يعلن وعده المشهور لليهود بوطن على أرض فلسطين، فرسم تلك الخريطة التي أشرنا إليها ليبين عليها كيف يكون التقسيم، فسأل من عرض عليه خريطته تلك: وأين يذهب سكان هذه المنطقة التي حدَّدتها وطنًا لليهود؟ فأجابه: وهل هناك سكان؟! سؤال استنكاري يُثير الدهشة والغضب …
لم يعد المواطن المصري — لظروف طارئة — يحس بوجود «الآخرين»؛ ولذلك فهو لا يحسب حسابهم، إذا ما خطط لنفسه طريق حياته، حتى يصطدم اصطدامًا فعليًّا بهؤلاء الآخرين، لأن كل واحد منهم — بدوره — قد خطط لنفسه طريقًا للحياة، لم يوضع في ميزانها أن هنالك على أرض مصر أناسًا آخرين، ونتج عن هذا الموقف الشاذ أن هبط التعاطف الحقيقي بين المواطنين، بعد أن كان ذلك التعاطف أقوى سمة تميز المصري في علاقته بوطنه.
ويلفت النظر أن ذلك الموقف مزدوج الاتجاه، فبينما الفرد من ناحيته يدير ظهره نحو المجتمع ليتصرف وكأنه لا مجتمع، ترى ذلك المجتمع هو الآخر قد شاعت فيه روح سلبية نحو أبنائه، فهو لا يأبه لأي فرد من هؤلاء الأبناء، يغض النظر عنه إذا احتاج إلى مؤازرته وكأن ذلك الفرد المهمل ليس واحدًا من أبنائه، أو هو يهاجمه ويقلل من قيمته علنًا، وكأن قيمة المجتمع ليست هي حاصل جمع القيمة في أفراده، ومع ذلك كله، فبين مصر وأبنائها من الجذب ما قد يدهش له الغرباء، فلئن كان «الآخرون» الآن هم لفرد منهم جحيمه، بما يحاولونه لهدمه وخفض قدره، فهم هم الجنة ونعيمها …