فعل الزمن
دقَّ الهاتف، فلما استجبت سمعت زميلًا أعرفه، وأعرف أنه يهاتفني آنًا بعيدًا بعد آن بعيد.
قال: لم أسمع صوتك منذ زمن طويل، فكيف حالك؟
قلت: حالي في هذا الصباح عجب من عجب.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: يا أخي كأنما الدنيا تجمدت حولي، وترفض أن تدور دورانها المألوف.
قال ضاحكًا: اشرح.
قلت: ذبلت الزهور على حداثة عمرها، ولم يبق منها إلا أنفاس خافتة من عطرها، وأبى المفتاح أن يفتح بابه لأننا تركنا الباب مغلقًا لفترة من الزمن، وأخرجت من خزانة الأوراق وثيقة أردت الاستعانة بها في أمر هام، فوجدتها قد اصفرت مع طول الزمن، وجفت حتى أوشكت أن تتمزق بين أصابعي، بل إنها قد تمزقت بالفعل عند ثنياتها، فلما أخذني الضيق، عزمت على الخروج لأتنفس الهواء الطلق، بعد أن قضيت أيامًا بين الجدران، وهَمَّ السائق بإدارة مفتاح السير، زمجرت السيارة زمجرة سمعت فيها صوت الغضب والرفض، وأبت أن تسير، ولقد عدت إلى بيتي فسمعت دقات الهاتف …
قال: وفيمَ العجب يا صديقي من كل ما ذكرته؟ إنه الزمن وفعله في الأحياء والأشياء.
قلت: نعم إنه الزمن وفعله، عبارة نقولها مصدقين، ثم نرفض أن نحيا ذلك المعنى، الذي صدقناه.
قال: آه! إنك في قولك هذا قد أمسكت بطرف خيط طويل، فأنا أعرفك وأعرف مراميك … لكن الهاتف لا يسعف، فهل لديك ما يمنع قدومي إليك ليتسع بيننا مجال الحديث؟
قلت: أبدًا، أبدًا، تفضل على سعة ورحب.
وجاءني الزميل، ثم ما هي إلا بضع دقائق قضيناها في تحية نتبادلها، حتى عدنا بحديثنا لنبدأ من حيث انتهينا على الهاتف، فقال الزميل: لماذا أخذك العجب من أحداث جاءت كلها نتائج طبيعية لما يفعله الزمن بالأشياء؟ الأزهار تذبل وتموت كما تذبل وتمرض الأحياء بكلِّ أنواعها لتموت، والمفتاح يبطل فعله إذا لم يواصل عمله، وكذلك تفعل السيارة إذا تُركت، وهو ما يحدث للآلات بشتى أنواعها، بل إنه ليحدث للقلم إذا تراخى الكاتب ولم يواصل الكتابة، إنما يصدأ المخ، ويتبلد العقل، وتتجمد الأفكار كما يحدث للماء في صقيع الشتاء، وانظر إلينا — أنت وأنا — لترى كيف تغضنت جلودنا، وتثلمت حواسنا، فلا العين تبصر كما كانت، ولا الأذن تسمع، ولا اللسان يفرق بين الطعوم، فلم يَعُد الحلو على حلاوته التي كانت، ولا المر على مرارته، أترانا نضحك كما كنا نضحك، أو نبكي كما كنا نبكي؟ ألم تتحول القهقهة إلى ابتسامة، كما جفت دموع الحزن فلم تعد تسيل، ليتحجَّر الحزن في صدورنا فلا ينصرف ولا ينزاح؟ لقد فترت العاطفة يا صديقي من همود القلب، وخمدت الشعلة مع الإحباط، ووهنت العزيمة مع تراكم الهموم … إنه الزمن وفعله كما ترى، إن في بيتي سلمًا ذا درجات عشر، كنت أقفز فوقها قفزًا كلما انتقلت من الطابق الأعلى إلى الطابق الأسفل، أو صعدت من الأسفل إلى الأعلى، فانظر إليَّ الآن كيف أهبط أو أصعد درجة درجة، متكئًا على حاجز مثبت فوق الحائط، وأحس كأن الدرجات العشر قد باتت مائة، وأن المسافة بين الدرجة والتي تليها قد ضوعف مقدارها … إنه الزمن وفعله، وإنك لتعلم ذلك ففيمَ كان العجب؟
أجبته — وبدا عليه أنه سيترك لي حبل الحديث بلا حوار — أجبته قائلًا: نعم إني لأعلم ذلك، لكن المسافة بعيدة بين الحقيقة المعينة يعرفها الإنسان، وبينها هي نفسها وذلك الإنسان يحياها، إن الزمن ليفعل الأعاجيب بالكائنات، فيُحكَى أنه في ماضي الكون السحيق، انتثرت من لهب الشمس قطعة صغيرة، فاستقلت وحدها، لكن بقي انتماؤها لأمها الشمس ظاهرًا في دورانها حولها، ثم بردت مع الزمن الطويل تلك القطعة النارية المنسلخة، فإذا هي هذا الكوكب الأرضي الذي نعيش فوق سطحه، نزرع، ونصنع، ونتكاثر حتى تضيق بنا موارد العيش، فنشعلها حروبًا يقتل فيها بعضنا بعضًا. ثم يُحكَى أنه قبل أن تبرد تلك الكتلة التي تمردت على أمها الشمس فانفصلت، عادت قطعة منها تتمرد بدورها فتنفصل، ولا يبقى من ولائها لأمها (الأرض) إلا احتفاظها بالدوران حولها، فكانت تلك القطعة، التي بدأت — كأمها — نارًا ثم بردت بفعل الزمن، هي القمر الذي لبث يسبح في الفضاء وحيدًا صامتًا لا يؤنسه في وحشته حي ناطق، حتى صعد إليه إنسان هذا العصر بجبروت علمه، وسار على صخره وترابه، نعم يا أخي، إنه الزمن وفعله، وهل بقيت أرضنا على حالها التي كانت عليها عندما بردت قشرتها وصارت «أرضًا»؟ كلَّا، إنها لبثت تظهر من مادة جوفها صنوفًا شتى تفاوتت من خسيس إلى نفيس، ومن نفائسها أن صنعت ماسًا وذهبًا وأحجارًا أسميناها نحن بعد ذلك أحجارًا كريمة؛ لندرتها وكمال صنعها … أتدري ماذا كان الخاطر الذي طاف برأس كيميائي عربي عظيم، هو جابر بن حيان، عندما أراد أن يُخرج ذهبًا من نحاس؟ إنه سأل نفسه: إذا كانت الأرض قد استطاعت على مرِّ الزمن أن تصنع من مادتها الجوفية ذهبًا، فهل يستحيل على الإنسان أن يدرس الخطوات التي سارت عليها الأرض حتى أنتجت ما أنتجته، ثم يسير تلك الخطوات نفسها ليُنتج النتائج نفسها؟ لكنه إذا أفلح في بلوغ الهدف، كان الفرق بينه وبين ما فعلته الأرض بمادتها، هو أنه استطاع أن يختصر الزمن الذي تتحقق فيه تلك النتائج؛ إذ لا بدَّ أن تكون الأرض قد أنتجت ذهبها في ملايين السنين، أما الإنسان الكيميائي (أو السيميائي كما يريد علماء الكيمياء المحدثون أن يسموا أسلافهم ليفرقوا بين أهداف السيميائي فيما مضى، وأهداف الكيميائي في الحاضر) أقول: أما الإنسان فلا بدَّ له أن يختصر الزمن ليُنتج الذهب في أقل من عمر رجل واحد.
نعم، هذا هو الزمن وما يفعله، مسرعًا حينًا ومبطئًا حينًا، وذلك بحسب ما تقتضيه الحال، فيُحكى أن الشمس الجبارة القاهرة، التي كانت قد حملت الناس في قديم الزمان — حملتهم بجبروتها المشتعل — على أن يعبدوها، حتى جاءتهم من الله الهداية فاهتدوا، أقول: إنه لَمِمَّا يُحكى عن الشمس على ألسنة طائفة من العلماء، أنها وهي تغمر الفضاء بحرارتها، فإنما هي تفقد مخزونها قطرة قطرة، وشعاعًا شعاعًا، يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، وألف ألف عام بعد ألف ألف عام، إلى أن يأتي يوم تتساوى فيه الحرارة في أجزاء الدنيا جميعًا، فلا يعود هناك جزء أشد حرارة من جزء آخر، وعندئذٍ لن يكون اختلاف في الحرارة بين شمس وأرض، فتقف الحركة وتهلك الحياة، فاختلاف الحرارة بين شمس وأرض، هو الذي يبخر الماء سحابًا، وينزل من السحاب ماءه مطرًا على اليابس فينبت النبات، ويشرب الحيوان ويأكل … كل ذلك ينتهي، هكذا تحكي لنا طائفة من رجال العلم، وأظن أن طائفة أخرى قد تحوطت فقالت: إن حركة النار في جسم الشمس تعود فتولد حرارة قد تعوض ما كانت بعثرته في أرجاء الفضاء، فإذا فرضنا صدق الحساب عند الطائفة الأولى، ألا تنبعث منا آهة تتساءل في عجب: من ذا يصدق أن امتداد الزمان قد يبلغ بفعله كل هذا المدى؟ وإن مناسبة هذا الحديث لتغريني أن أروي لك عن موقف للشاعر عبد الرحمن شكري، الذي كان زميلًا للعقاد والمازني في اتجاه شعري واحد، وذلك أن عبد الرحمن شكري كان قد دفعه شيء من اليأس إلى التزام داره بالإسكندرية، لا يغادرها قط، وامتنع عن جمع مجموعة كبيرة من شعره لم يكن نشرها، فذهب إليه صديق، وسأله: لماذا يتردد في نشر شعره وإنه لشعر جدير بالبقاء؟ فابتسم له الشاعر ابتسامة ساخرة وتمتم وهو يشير بإصبعه إلى أعلى، وقال: بقاء؟! إن للشمس يومًا تبرد فيه فتزول، وسبحان من له وحده البقاء.
على أن الزمن — يا صديقي — كما يهدم ويمحو، فهو يبني وينشئ، إنها دورة عجيبة تتناول الأحياء والأشياء والمواقف والحضارات وكل ما يخطر لك ببال، فمع مر الزمن ينمو الطفل رجلًا أو امرأة، ومع مر الزمن كذلك ينحدر الإنسان إلى شيخوخة فموت، وعلى تعاقب الأعوام تنهض أقوى الحضارات بأسًا وأغزرها علمًا وفنًّا، وعلى تعاقب الأعوام كذلك، يضعف ما قد كان قويًّا حتى يزول، وربما كان في مستطاع الإنسان — بقوة إرادته، وتقدم علمه ورفعة فنه — أن يدوم حينًا من الدهر فيزداد قوة وازدهارًا، ويظل في صعوده أمدًا قد يطول، إلا أن شيئًا هامًّا في طبيعة الزمن يبقى ولا حيلة للإنسان فيه، وهو أن الزمن كالحياة — يسير في اتجاه واحد لا يقبل الرجوع، فمع مر الزمن تصير البذرة شجرة، ومحال على الشجرة أن تكر راجعة لتعود إلى البذرة التي كانت، على أنها تنتج بذورًا، كل بذرة منها يمكن أن تنبت شجرة من نوعها، لكن هذه الشجرة التالية هي كائن جديد.
ولقد اختلفت الثقافات عند الشعوب المختلفة في نظرتها إلى العلاقة بين الإنسان والزمن، وإنه لاختلاف يشمل فيما يشمله، فكرة الناس عن الثبات والتغير: فما الذي يجب أن يبقى ثابتًا من جوانب حياتهم، وما الذي يجوز أن يتغير؟ وعند هذا السؤال يبرز الفرق واضحًا بين السلفي الذي يفتنه الماضي فيثبت عنده، والمستقبلي الذي ينجذب إلى أمام، فإذا هو أيقظ في نفسه شيئًا من ماضيه، فإنما يفعل ذلك ليستعين به على قوة الوثبة نحو غد وبعد غد، فالسلفي إذا تطرف، أميل إلى أن يدرج كل أوجه الحياة فيما يجب أن يبقى ثابتًا، فلا فرق عنده بين ماضٍ وحاضر، كأنه واقف عند نقطة معينة، والزمن أمامه كالنهر الذي لا يرى أين نبع وأين ينتهي، أي أنه يُخرج نفسه من التيار ليقف على شاطئ النهر متفرجًا، وأما المستقبلي — إذا تطرف — فهو أميل إلى أن يرى أوجه الحياة جميعًا مما يجوز أن يتغير، فليس هناك ما هو ثابت بالضرورة وبحكم المبدأ، وإنما كل شيء مرهون بأحداث الزمن، وإننا لنحمد الله حمدًا كثيرًا، أن هنالك بين الطرفين فريقًا ثالثًا، هو الذي تُعقد عليه آمال الناس — غالبًا — بأن يمسك بزمام الحياة لتتقدم، مبقية من تلك الحياة على ثوابتها، ومغيرة منها ما لا بدَّ له أن يتغير مع الزمن.
إن في «القدم» شيئًا يبهر، ولا بدَّ لنا من وقفة قصيرة هنا قبل المضي في الحديث، أقول: إن بقاء الشيء المعين على مر الزمان الطويل، يكسبه عظمة ووقارًا، حتى لقد أصبح مجرد القدرة على الصمود في وجه أحداث الزمن، قيمة في ذاته، فقد يخرج لنا علماء الآثار كسرة من إناء فخاري قديم، فنفسح لها مكانًا بين معروضات المتاحف، ومن ذا الذي يقع على كراسة قديمة كانت كراسته يوم أن كان طفلًا في أعوام الدراسة الأولى، فيمزقها غير عابئ؟ وليس الأمر في هذا مقصورًا على الحنين إلى ماض ذهبت أيامه، بل إنه ليجاوز ذلك إلى ما هو أهم من الحنين، ألا وهو معنى «الدوام» الذي يُذكرنا بالخلود، ويُخرجنا من محدودية اللحظة الزمنية القصيرة العابرة، إلى اللامتناهي في انطلاقه، وشيء من هذا المعنى قد جعل قابلية الشيء لطول البقاء، إحدى صفات الفن العظيم والأدب الرفيع، إن الفنان الذي شيَّد معبد الكرنك، والفنان الذي نحت تماثيله من الجرانيت، والرسام الذي صوَّر لوحاته بألوان لا تبهت على مر الزمن، وشاعر معلقة من معلقات الشعر العربي في الجاهلية، وكل فنان غير أولئك وهؤلاء، ممن بقي أثره الفني على الزمن، يستحق الخلود لخلود أثره؛ لأن مجرد القدرة على البقاء كافٍ وحده ليكفل البقاء لمن أبدع الأثر الذي صمد في وجه الأيام وتقلباتها.
نعم، فإن «للقدم» في ذاته هيبة ورهبة، كما أن «للحداثة» في ذاتها جذبًا للنظر وتنشيطًا للروح، ولقد تعرض أبو حيان التوحيدي لهذه الجوانب من القديم ومن الجديد في أول الجزء الأول من كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، فكان مما قاله في الموازنة بين موقف الإنسان من الجديد، وموقفه من القديم: إن الجديد يُثير في النفس التعجب والإعجاب، وأما القديم فله في النفس إجلال وتعظيم، ومن أطرف ما ذكره في سياق حديثه، تعليقه على معنى كلمة «عتيق» التي تؤخذ وكأنها مرادفة لكلمة «قديم»، فبين لنا أبو حيان أنها تضيف إلى معنى القدم جانبًا، وهو الإشارة إلى «الكرم، والحسن، والعظمة»، هذه كلمات التوحيدي، وهذه المعاني موجودة في قول العرب «البيت العتيق»، وبالطبع يتبادر إلى أذهاننا سؤال هنا، هو: هل يوجد هذا الجانب من المعنى في عتق العبد من عبوديته؟ فيقول عمن أعتقه سيده إنه «العتيق»، ويجيب أبو حيان التوحيدي بأن هذه الكلمة تدخل في المعنى نفسه، حتى في استعمالها هذا؛ لأن من كان عبدًا قد أكرمه العتق بأن ارتفع به عن العبودية.
معذرة فقد استطرد بي القلم، لكنني أردت أن أقول: إنه ربما كان لمن جذبه الماضي فوقف عنده، عذره، لأن للقدم هيبته ورهبته وجلاله وعظمته، إلا أنه إذا كانت لهذه المشاعر الشريفة فتنتها، فلا ينبغي لتلك الفتنة أن تذهب بأصحابها إلى أبعد من النشوة والحنين، بحيث لا يضحون في سبيلها واجب السير إلى أمام …
… وهنا جاءت لحظة صمت بيني وبين صاحبي، الذي جلس يستمع إلى حديثي بأذن مصغية إصغاء توترت به جلسته، وكان صاحبي هو الذي خرج بنا من لحظة الصمت، فقال: إنني عرفتك منذ زمن بعيد، ولهذا استطعت إدراك ما ترمي إليه منذ بدأت حديثك هذا عن الزمن وفعله، وأخذت تشرح لي كيف يكون فعل الزمن في الأشياء وفي الأحياء جميعًا، هادمًا جاء ذلك الفعل أم جاء بانيًا، ثم بينت الرابطة بين فعل الزمن وفكرة الثبات والتغير، فلقد أدركت أنك تشير إلى من يتملك الوهم ظنونهم، فيحسبون أن في مستطاعهم أن يجمدوا الزمن فلا يسير ولا يترك في الحياة بصمة إصبع، فيصبح وكأنه لم يكن، أو كأنه لحظة واحدة تحجرت على حال واحدة، فلا فرق عندئذٍ بين أن تقول عن تلك اللحظة إنها الماضي — أو إنها الحاضر — أو إنها المستقبل، إذ استقلت هي وحدها بالزمن كله، وإن أعجب ما تعجب له في هذا الوهم، أن أصحابه يحيون حياتهم اليومية كما يحياها سائر عباد الله، لا يختلفون عن سواهم إلا فيما توهموه في رءوسهم، دون أن يلحظوا ولو للحظة واحدة، أن ذلك الذي يتوهمونه ليس هو الذي يحيونه، لا صحوًا في ساعات النهار، ولا حلمًا في نعاس الليل، فهم إذ يتحدثون عن ضرورة البقاء مع السلف في حياة واحدة، مسقطين من الحساب فعل الزمن، تراهم في شئون حياتهم اليومية، يحيون على غير ما يتمنون له أن يكون، ونحن بهذا القول لا ننحي بلائمة على أحد، لأننا نعلم كم يحتاج الأمر إلى إرادة جبارة، إذا أراد صاحب دعوة أن يعيش ما يدعو إليه، إذا كان الذي يدعو إليه مضادًا للعواصف العاتية، فليس في أفراد البشر عشرات مثل غاندي، حين خاصم بريطانيا في جبروتها، ثم عاش خصومته تلك في حياته العملية، فارتدى ثوبًا من غزله ونسجه، واغتذى بلبن عنزته، فلم يعد بحاجة إلى شيء من مصانع مانشستر وليفربول، وليس في أفراد البشر عشرات مثل تولستوي، يدعو إلى تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وبدأ بنفسه فتنازل عن معظم ما يملك، وإنه لمن أغنياء الروسيا في عهده، فقليلون جدًّا هم الدعاة الذين ينعمون بإرادة قوية تعينهم على أن يحيوا على النموذج الذي يدعون الناس إلى احتذائه … لا، إننا لا ننحي باللائمة على أحد، حين نقرر أمرًا واقعًا، هو أن الداعين إلى النمط السلفي في حياتنا، تضطرهم ظروف العصر بقوة دفعها، إلى أن يمارسوا شئون الحياة الجارية كما يمارسها سائر عباد الله، فهم — والحمد لله — لا يفوتهم — ما استطاعوا — أن ينعموا بثمرات الحضارة الجديدة، فيسكنون البيوت المشيدة على هندسة العمارة الحديثة، ويذهبون بمرضاهم إلى طب جديد بأجهزته ووسائله، أينما وجدوه، ويُرسلون أبناءهم إلى مراكز العلم الجديد حيثما كان، وهم لا يقصرون في استخدام سبل العيش الحديثة، بسياراتها، وطياراتها، وثلاجاتها، وهواتفها، وأنوارها … واختصارًا هم يحيون في ظلال الحضارة الجديدة، ما امتدت أمامهم تلك الظلال، وهكذا اتسعت المفارقة بين الصورة الكلامية التي يرسمها السلفيون بما يدعون الناس إليه، وبين ما اضطرتهم قوة التيار الحضاري الجديد إلى ممارسته في حياتهم العملية، وإلى هنا وليس ثمة من ضرر حقيقي يحيق بنا، لولا أن الدعوة حين وقعت على آذان الشباب، بالقوة التي وقعت بها، اهتزت لها نفوسهم، وغمضت الرؤية أمام أبصارهم، ولم يعودوا يفرقون تفرقة واضحة بين خطأ وصواب في دنيا السلوك العملي.
ومضى صاحبي في الحديث على هذا النحو، كأنما أراد أن يتكلم عني بلسانه، فيقول ما كنت لأقوله لو أمسكت بزمام الحديث، إلا أنه أخذ يعلو بصوته وبشدة انفعاله معًا، خصوصًا عندما قال في ختام حديثه: إنهم يريدون — يا أخي — أن يوهموا شبابنا بأن تيار الزمن بين حاضرنا وماضينا قد تجمد وسقط من الحساب.
قلت: هوِّن على نفسك، فليس الفارق بيننا حين ننادي بوجوب الدمج بين حاضر وماض في صيغة حياتية واحدة، وبين الدعاة إلى سلفية، حين يجدون أنفسهم مرغمين على أن تكون تلك الدعوة في واد، والحياة العملية في وادٍ آخر، أقول: إن الفارق بيننا ليس كما نظن من البعد البعيد، ففي كلتا الحالتين ينتهي الأمر بنا إلى حياة فيها درجة من الدمج المطلوب، يتفاوت مقدارها بتفاوت الأفراد، يقرها بعضنا وينكرها بعضنا الآخر إنكارًا يوقعه في الازدواجية التي أشرنا إليها بين قول وفعل.
إن المدار الصحيح، الذي يجب أن تتجه إليه الدعوة بالنسبة إلى الماضي والحاضر، وكيف تكون العلاقة بينهما، هي أن ندعو إلى أن يكون لقاء الطرفين في كيان الفرد الواحد، وبالتالي يكون في كيان المجتمع كله، فالماضي الذي نريد له أن يحيا، إنما هو يحيا في كائن حي يفكر ويشعر ويسلك، فيجيء فكره وشعوره وسلوكه محصلة واحدة من روافد تربوية، جاء بعضها من المصادر الموروثة، وجاء بعضها الآخر من مصادر الحاضر، وبمقدار ما يتحقق لنا التوازن بين الجانبين في حياة موحدة يكون التوفيق إلى جادة الطريق.
وسكتنا لحظة، ثم قلت لصاحبي: أتذكر يا صديقي ما قلته لك هذا الصباح عما أحاط بي من عوامل الضيق؟ فالزهور وجدتها ذابلة على حداثة عهدها، ومفتاح الباب أبى أن يدور في قفله، والوثيقة القديمة بحثت عنها فوجدتها وقد اصفر وجهها وتمزقت أركانها، والسيارة من طول ما تعطلت رفضت أن تسير، ولكن فلتعلم يا صديقي أن الزهور الذابلة ستخلي مكانها لزهور ناضرة، وأن مفتاح الباب سيزول عنه الصدأ، ويدور في قفله لينفتح الباب، والوثيقة سأعطيها لمن ينسخها بأحرف ناصعة على ورق أبيض، وسيارتي سيصلح عطبها فترغم على أن تسير، فإذا صح منا العظم، انفتح لنا الطريق.