الأشياء والكلمات
شاء لي الله فطرة، وجاءت مع تلك الفطرة مصادفات الدراسة والتثقيف والتخصص العلمي، فاجتمعت هذه العوامل كلها على أن تميل بي نحو طريقة في فهم اللغة مقروءة أو مسموعة، فهمًا يبحث عن «المعنى» فيما يُكتب وما يُقال … وكثيرًا جدًّا ما يوقعني ذلك الإمعان في البحث عن «المعنى»، يوقعني في حرج مع الناس؛ لأن الكثرة الغالبة من هؤلاء الناس، لا ينتهجون هذا النهج في فهم المسموع والمقروء، فتتسع الفجوة بيني وبينهم كلما كان الأمر يهمني ويهمهم، ولست الآن بصدد لوم يوجه إليهم في نهجهم أو أوجهه إلى نفسي في نهجي، وإنما هو أمر واقع في حياتي الفكرية، أقرره قبل أن أمضي في الحديث، ولأضرب لذلك مثلًا عابرًا ورد في حديثي مع أحد معارفي، أخذ يقص عليَّ نبأ زيارة مع طفله لحديقة الحيوان، ليذكر لي ملاحظات طريفة أبداها طفله كلما وقفا ينظران إلى حيوان في محبسه، فلما وقفا أمام النمر، سأل الطفل أباه: لماذا أحاطوا النمر بقضبان الحديد؟ فأجابه أبوه بقوله: لأنه مفترس وشرير. فأسرعت أنا بالتعليق على هذه الإجابة، قائلًا: لقد أسأت هنا إلى ولدك؛ لأنك أجبت عن سؤاله بجملة ليس لها «معنى» … فعجب الوالد لما قلته، وطلب شيئًا من الإيضاح، فقلت له: الشر والخير صفتان لا يكتسبان معناهما إلا أن يكون هناك حياة خلقية محددة المعالم، فمن سلكها كان خيرًا، ومن انحرف عنها كان شرًّا، والنمر حيوان خلقه خالقه ذا طبعٍ مغروز في جِبلته: كيف يُهاجم وكيف يُدافع، وماذا يأكل وما وسيلته للحصول على ما يصلح له طعامًا، فهو لا يكون شريرًا إذا سلك على طبعه؛ لأن الحيوان ليس ملزمًا بحياة خلقية معينة تشتمل على ضوابط وقيود يفرضها على نفسه ليحكم بها غرائزه: فلماذا تُعلِّم طفلك ما ليس له معنى، وما يبث فيه الخوف والكراهية للحياة في إحدى صورها؟
سكت الرجل، لكنني كنت أدرك ما يدور في خلده، ولست ألومه، فربما كنت أنا أحق باللوم؛ لأنني قلت كلامًا في غير موضعه، ولقد ذكرت هذا المثل العابر لأوضح به كيف أتعرض للحرج أحيانًا، مدفوعًا بفطرةٍ فُطرت عليها، وجاءت فيها عوامل لتقويها وتنميها، فلئن كان العالِم اللغوي القديم الذي أخذ يتقصَّى كلمة «حتى» في مختلف معانيها، وبذل في ذلك البحث ما بذل من جهد حتى أوشك في فراش مرضه أن يلفظ آخر أنفاسه، فقال لمن كان يجلس إلى جواره عبارة أصبحت معروفة ومحفوظة، إذ قال: «أموت وفي نفسي شيء من حتى.» أي أنه لم يكن قد شفى من نفسه غليلها في دقة التقصي وشموله، أقول: لئن كان ذلك هو ما تمناه العالم اللغوي القديم عن قضية شغلته، فأحسب أني لو قلت شيئًا عن نفسي، بالنسبة إلى قضية شُغِلت بها خلال الشطر الأعظم من حياتي العلمية، ولا أظنني قد وفيت من حقها في البحث عُشر ما كانت تستحقه، لقلت: أموت وفي نفسي أشياء وأشياء عن العلاقة بين الأشياء والكلمات.
فأول ما أشير إليه في هذا الصدد هو ذلك البُعد البعيد، والذي هو محتوم علينا ولا مفر لنا من الوقوع فيه، بين الشيء المعين الذي يحدث أن يكون مطروحًا علينا لنتحدث عنه، وبين كلمات اللغة التي نستخدمها في الوفاء بهذا الغرض، فافرض — مثلًا — أنك قد أطللت من شرفة دارك على نهر النيل، وألممت في لمحة بصرية سريعة بالمشهد الذي وقعت عليه عيناك، ثم أردت أن تصفه لصديق، فماذا أنت صانع إلا أن تظل تذكر له تفصيلات مما رأيته؟ فهنالك نهر منساب في مجراه، وبضع سفن وقوارب سابحة على سطحه، وجسر مزدحم بحركة المرور يصل شاطئيه أحدهما بالآخر، ومبانٍ متفاوتة الارتفاع، متباينة الشكل قائمة على الجانبين يتخللها نخل وشجر، وقد تَذكُر شيئًا عن أفراد الناس الذين شهدتهم هنا وهناك سائرين أو جالسين أو سابحين؛ شيء كهذا هو ما أنت قائله لصديقك عن مشهد رأيته … ولكن أمعن نظرك بدقة في الفارق البعيد، بين ما شهدته بلمحة بصرية، وبين ما أوردته في وصفك لذلك المشهد بالكلمات، تجد أول ما تجد وأهم ما تجد، أن ما كان مشهدًا «واحدًا» تراه العين بلمحة، قد جاءت الكلمات لتفك أجزاءه، وتزيل عنه وحدته، وليس في وِسْع الإنسان شيء غير هذا، فاللغة جمل، والجملة كلمات، والكلمة حروف، وهي كلها «أجزاء» اختلقتها اللغة اختلاقًا لتؤدي وظيفتها، فكان لنا بتفكيك الوحدة كسب وخسارة في آنٍ معًا، أما الكسب فهو أننا لولا هذه القدرة الفطرية فينا، وهي أن نحلل الواقع الموحد عن طريق الكلمات التي تُسمَّى كل كلمة منها جزءًا واحدًا من أجزاء الكل الموحد، لما استطعنا أن نعرف حقائق الأشياء وهي فرادى، وكنا عندئذٍ لنقف عند رؤية الطفل الرضيع لما حوله، فلا يدرك الفواصل التي تفصل شيئًا عن شيء، وتلك فائدة كبرى تأتينا عن كون اللغة بحكم كونها «كلمات» تُحلِّل ما هو في طبيعته موحد، والتحليل عملية عقلية من أدق ما يُميز الإنسان في إدراك عالمه الذي يعيش فيه.
ذلك هو الكسب الذي جاءنا عن طريق اللغة واستخدامها في نقل الخبرة الحسية من إنسان إلى إنسان، وأما الخسارة فهي أنه بات محتومًا علينا ألا ننقل خبراتنا — حسية من الخارج، أو شعورًا من الداخل — كما تقع لنا بالفعل، فإذا أحس أحدنا بحالة من الفرح، أو من الحزن، أو من الغضب، أو من الخوف، وإذا أكل أحدنا لونًا من الطعام أحبه أو كرهه، وإذا عانى أحدنا من مرضٍ يقسو عليه بشدة الألم، وإذا … وإذا … إلى أن تخص كل قطرة من بحر الحياة كما نحياها، وكل نبضة تنبض بها قلوبنا بوجدها ووجدانها، فليس في وسع اللغة أن ينقل بها الناقل إلى المُتلقِّي ما أراد نقله من خبرته كما وقعت؛ لهذا السبب الكبير الذي ذكرناه، وهو أن كل خبرة تقع للإنسان، عن خارجه أو عن داخله، إنما هي حالة موحدة، واللغة بطبيعتها تجزئ ما هو في حقيقته حالة واحدة إلى أجزاء منفصل بعضها عن بعض، ولقد ذكر لنا المتصوفة كلامًا كثيرًا وعميقًا وصادقًا، في شكواهم بأنهم يشعرون بما يشعرون به، ثم يعجزون عن نقله إلى الآخرين، لعجز اللغة عن نقل ما هو بطبيعته خبرة موحدة، فإذا فككتها في جمل وكلمات، أفسدتها.
وفي حدود هذه المفارقة في العلاقة بين الأشياء والكلمات، مما يؤدي إلى كثير جدًّا من عدم التفاهم الصحيح بين متكلم وسامع، أو بين كاتب وقارئ، نستطيع أن نضع من القواعد والضوابط، ما يضمن لنا إلى حد كبير، دقة الالتقاء بعضنا مع بعض عند معانٍ مشتركة بيننا، ولا بدَّ لها أن تكون مشتركة، وذلك في مجال التفكير العلمي، وأول ما يهمنا ذكره في هذا السبيل، هو أن نلفت نظر القارئ بأقوى وأوضح ما يمكننا أن نلفته، إلى أن اللغة في أيِّ وضع من أوضاعها، ليست هي الشيء، أو الحالة، أو الموقف، الذي جاءت تلك اللغة لتتحدث عنه … هذه حقيقة غاية في البساطة، غاية في الوضوح، غاية في الأهمية، ومع ذلك يصعب جدًّا على الإنسان، في استخدامه لكلمات اللغة مع الآخرين، أن يتنبه لها، ولا أظنني أغلو في القول بأي درجة من المبالغة، إذا قلت إن أهم سبب يؤدي إلى عدم التفاهم بين الناس، وبالتالي فهو الذي كثيرًا ما يؤدي إلى أفدح الأخطار، ومنها الدخول في قتال حقيقي بين الأطراف المتنازعة؛ هو أنهم حين يكونون في واقع الأمر إنما يتحدَّثون عن «كلمات» يظنون خطأ أنهم يتحدَّثون عن الأشياء التي تُشير إليها تلك الكلمات، والذي يساعد على حدوث هذا الخلط العجيب، هو سهوهم عن الحقيقة التي ذكرناها، وهي أن الكلمات ليست هي الأشياء المُشار إليها بها.
فافرض — مثلًا — أنك قد صادفت شخصين يتجادلان في «الحرية»، فيقول أحدهما: إن حق الحرية يقتضي أن يكون للفرد حق اختيار الدراسة التي يختارها لنفسه، فيرد عليه الآخر بقوله: إن الفرد لا حق له في مثل هذا الاختيار، بل هو حق للدولة باعتبارها راعية لمصالح الشعب ووسائل تحقيق تلك المصالح — فاعلم عندئذٍ أن موضوع الجدال بينهما هو «كلمة» الحرية، وكيف يكون تعريفها عند كل منهما، وإذا تتبعت مشكلات كثيرة في دنيا العقائد وفي دنيا السياسة، وفي دنيا النقد الأدبي والفني، وجدت الاختلاف غالبًا ما يقوم على كلمة بعينها وكيف يكون تعريفها، لقد كثرت حوادث «العدوان» بين الدول، فالدولة المعتدى عليها تصرخ بالشكوى، والدولة المعتدية تجيب بأن ما فعلته ليس عدوانًا، إنما هو دفاع عن النفس، مما اضطرَّ الأمم المتحدة أن تُشكِّل لجنة تبحث عن «تعريف» العدوان، وهكذا يترك الواقع الذي وقع، ويدور العراك حول كلمة ومعناها، وعندما غزت إسرائيل لبنان، وأسرت ألوف الفلسطينيين وعاملتهم أفظع معاملة وأقساها، فاحتجت بعض الهيئات الدولية على إسرائيل، وطالبتها بأن تعامل الأسرى في حدود ما يُوجبه القانون الدولي في هذا الشأن، أجابت إسرائيل بأنهم ليسوا أسرى حرب — بل هم إرهابيون، ولم نر ثورة شعبية تُطالب بالحرية من مستعمر، إلا وجدنا رءوس الثورة «أبطالًا» في بلدهم — «مشاغبين» في البلد المستعمر الذي قامت الثورة لترده عما اغتصب، في كل هذه الحالات يبقى الواقع في واقعه، ويظل الكلام في كلماته.
وعند هذا المنعطف من الحديث، لا بدَّ لي من وقفة قد تطول بنا قليلًا، لكنني على يقين من أن التفرقة التي سأوضحها، بين موقفين فكريين يتَّصلان بما نحن بصدد الحديث فيه، وهو العلاقة بين الكلمات والأشياء، هي تفرقة مما ينبغي أن تكون واضحة للجميع؛ لأنها إذا ما وضحت، أنقذ الإنسان نفسه من مشكلات كثيرة، تندرج تحت روح التطرف والتعصب، فهنالك طريقتان في عالم الفكر، تختلفان باختلاف الموضوع الذي هو مدار ذلك الفكر، إحداهما أن تكون الفكرة المعروضة متعلقة بشيءٍ قائم في عالم الأشياء خارج البناء اللفظي الذي نعرض به ما نعرضه، كأن تكون الفكرة المعروضة — مثلًا — عن ضرورة الاستعانة بالمفاعلات الذرية مصدرًا للكهرباء، وإذا كان ذلك متفقًا عليه، فأين نقيمها، وأي بلد نستعين به على إقامتها … في هذه الحالة وأمثالها يتم فض الاختلاف في الرأي، إذا نشأ اختلاف، بدراسة علمية موضوعية لا تُغضب أحدًا، لكن هنالك حالات كثيرة جدًّا في العالم الفكري، لا يكون مدار التفكير فيها شيئًا من أشياء الواقع الخارجي، بل يكون في حقيقته شيئًا فرضناه من عندنا فرضًا، ثم بنينا على ذلك الفرض نتائجه، فها هنا تكون صحة تلك النتائج أو بطلانها متوقفًا على سلامة استدلال تلك النتائج من الفرض الذي فرضناه، ولا شأن لها قط بشيءٍ من عالم الواقع يمكن الرجوع إليه، فإذا طابَ لأيِّ شخصٍ أن يفرض لنفسه فروضًا أخرى ليستخلص منها نتائجها، كان له الحق في ذلك، دون أن يكون ثمة موضع لخلاف بين صاحب البناء الفكري الأول وصاحب البناء الفكري الثاني، ما داما لا يقيمان ما يبنيانه على فروض اتفقنا عليها معًا، ويكون الموقف أشبه بمنزلين مستقلين أحدهما عن الآخر، اختار أحدهما منزلًا وسكن فيه وأعجبه، واختار الثاني المنزل الآخر وسكن فيه وأعجبه.
والتطرف في الفكر وفي العقائد، ما هو؟ هو أن تختار مسكنًا فكريًّا أو عقائديًّا لتقيم فيه راضيًا عن نفسك، ولكنك لا تريد لغيرك أن يختار لنفسه ما يطيب له أن يسعد به من فكر وعقيدة، بل تلزمه إلزامًا — بالحديد والنار أحيانًا — أن ينخرط معك تحت سقفٍ فكريٍّ واحد، فلو تعلمنا عن فهم واضح أن النتيجة التي تبنى على مبدأ اختاره من اختاره، لا تنقضها فكرة أخرى تقوم على مبدأ آخر، اختاره لنفسه شخص آخر، لرأينا أنهما لا تتناقضان لأنهما مستقلتان إحداهما عن الأخرى … إذن التناقض يكون في البناء الفكري الواحد، حين تأتي نتيجة لا تترتب على المبدأ الذي فرضناه عند أول الطريق؛ وعلى هذا الأساس النظري نقول: إنه لا تناقض هناك بين العقائد الدينية إذا اختلفت نتيجة لاختلاف نقطة البدء، ولا تناقض بين المذاهب السياسية إذا اختار كل مذهب منها مبدأ يبدأ منه عملية تفكيره غير المبدأ أو المبادئ التي فرضها أصحاب المذاهب الأخرى، أقول: لا «تناقض»، ولكن بالطبع هناك بينها اختلاف، وليس كل اختلاف تناقضًا، والفرق بين الحالتين هام، وهو أنه في حالة التناقض، لا يصح إلا أحد النقيضين دون الآخر، أما في حالة الاختلاف الذي ليس تناقضًا، فليس صواب واحد منها دليلًا على خطأ الآخر، ولا خطأ واحد منها دليلًا على صواب الآخر؛ لأن كلًّا منها يستظل بمبدأ ليس هو المبدأ الذي يستظل به الآخرون — ومن هنا قد تختلف الشعوب في مواقفها وطرائق حياتها، ولا يقال إن شعبًا منها على صواب، وإن صوابه دليل على خطأ الشعب الآخر، فلكل منها سقف خاص يستظل به ويحتمي، وفي هذه الحالات جميعًا لا يكون البناء الفكري والثقافي المقام، مستمدًّا من شواهد الواقع، كالذي نراه في العلوم الطبيعية وهي تقيم قوانينها على شواهد الواقع، بل يقوم ذلك البناء على «مبادئ» نظرية اختارها الناس لأمر ما في تاريخهم.
وأنتقل الآن إلى خاصة أخرى لما بين الأشياء والكلمات من علاقة، ولعلها هي الخاصة التي أستهدفها، ومن أجلها هذا الحديث، وتلك هي أن الكلمات التي نستخدمها فيما نتبادله، متكلمًا مع سامع أو كاتبًا لقارئ، ليس القصد منها هو أن نقف عندها، وكأنها مطلوبة لذاتها، اللهم إلا في تلك الحالات التي يُراد فيها بالتركيبات اللفظية أن تحدث في آذان سامعيها نشوة كالنشوة التي تُحدثها الموسيقى لبعض الشعر، ومع ذلك، فحتى في هذه الحالات يكون الهدف البعيد من تلك الأصوات المنغومة، أن تترك في نفس المتلقي حالة معينة أراد الشاعر لها أن تحدث في النفوس، ونعود إلى ما أسلفناه، من أن الأصل في الكلمات عند تبادلها بين متكلم وسامع، أو كاتب وقارئ، لينهض في اللحظة المناسبة فيحدث في دنيا الأشياء تغييرًا يستجيب للرسالة التي جاءته مبثوثة في العبارة التي قالها المتكلم، فإذا قال ابن لأمه إنه جائع، لم يكن الهدف من قوله أن تسكن الكلمات في أذنها، أو أن تتغنَّى بوقع أنغامها في نفسها معجبة بفصاحة ولدها، بل الهدف هو أن تنهض من فورها مُستجيبة للرسالة المحمولة على ظهور الكلمات فتُعد طعامًا لابنها الجائع، إن من يكتبون لنا الكتب والمقالات، ومن يُذيعون فينا الأحاديث عن جوانب مختلفة من حياتنا: فهذا عن الاقتصاد، وذلك عن التعليم، وثالث عن نظام المرور في الطرق، ورابع عن الصحة، وهكذا — إنما يستهدفون أن تنتهي مجموعة الكلمات المقروءة أو المسموعة بسامعيها وقائليها بوجهة نظر معينة تحملهم على تغيير هذه الناحية أو تلك من حياتهم العملية تغييرًا يحقق المعاني المبثوثة فيما تلقوه من كلمات، وإلا فلو قرأ القارئ ما قرأ وسمع السامع ما سمع، ثم تجاهله وكأنه ما قرأ وما سمع، كنا جميعًا كأهل بابل في برجهم، اختلفت لغاتهم فلم يفهم أحد منهم عن أحد، وكان الأمر كله أخلاطًا صوتية تصم الآذان وتشق الحناجر، ثم لا شيء بعد ذلك.
كلمات اللغة تأتيك ممن يوجهها إليك، لتوجب عليك أن تتجاوزها إلى ما وراءها من «معنى»، لتقوم بتنفيذ ما يراد تنفيذه، إلا إذا كنت معارضًا فيكون التنفيذ هو الكف عن العمل، والكف عن العمل هو كالعمل، شيء من الإرادة.
وبعد هذا التمهيد، أنتقل إلى ما قد قصدت إليه بهذا الحديث كله، وهو الأوامر القرآنية الكثيرة التي لم يألف المسلمون أن يأخذوها على أنها «أوامر» إلهية واجبة الطاعة لتكون جزءًا من عبادتهم لربهم، وقصروا فكرة العبادة على الأركان الخمسة: الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج لمن استطاعه، فلقد أَلِف المسلمون أن يقفوا من تلك الأوامر الإلهية موقف القارئ الحافظ المرتل المفسر، أما أن يفعلوا هذا كله ثم يتجاوزوه إلى التنفيذ فقلما رأيته في مسلم، في حين أنها أوامر يجيء تنفيذها في صميم الميادين التي من أجل تخلف الأمة الإسلامية في شئونها تخلفوا عن موكب الحضارة حتى أصبحوا أهون فريسة لمن أراد من أصحاب القوة.
وأسوق هنا مثلًا واحدًا، إذ ضربت أمثلة كثيرة أخرى فيما كتبته من قبل، وفي هذا الموضوع نفسه الذي نحن بصدد الحديث فيه، لقد أمرنا الله في كتابه الكريم أن سيروا في الأرض واضربوا في مناكبها، ولكن لماذا نفعل؟ أهو من أجل التنزه؟ من أجل «الفرجة»؟ من أجل الاصطياف هنا والتشتية هناك؟ لا، بل هو قبل أن يكون شيئًا من هذا كله يريدنا أن نجوب كل مجهول من يابسٍ وماء، مستطلعين كاشفين باحثين، نجوب الصحراء، ونصعد الجبال، ونشق البحر، ونطير في الهواء، نخرج من جوف الأرض حديدها ونحاسها وبترولها وذهبها وما فيها من يورانيوم ومنجنيز وفحم وماء، ونبحث في طبائع الأرض لنعلم كيف نخصب الجدب، وكيف نزرع الهواء بالماء، وكيف نحيل أجاج البحار والمحيطات ماءً عذبًا فنروي ونرتوي، ونغوص إلى قيعان تلك البحار والمحيطات نكشف عما أودعه الله فيها من الخيرات، أمرنا الله أن سيروا في فجاج الأرض، بحرها ووهدها برها وبحرها، لا لنقف عند ذلك في آياته الكريمة قارئين، حافظين، مرتلين، متبركين، وبعد ذلك لا جهاد ولا كفاح ولا علم ولا صناعة ولا عمارة ولا حضارة! ولو كنا في غنى عن هذه الثمرات كلها، التي تخرج للإنسان من اليابس ومن الماء ومن الهواء، لقلنا نعم ونُعامى عين، ولكننا نفتقر إليها ونستجديها ممن يحصلون عليها، الذين يحققون ما أمر الله به المسلمين، وهم من غير المسلمين، فإذا كان الدعاة الأفاضل منا، ينقلون اليوم عن الدعوة بأن قراءة القرآن الكريم في ذاتها عبادة، حتى ولو لم يفهم القارئ معنى ما يقرؤه، فنحن نقول لهم: ليكن ذلك يا سادة، لكن هنالك عبادة أخرى في درجة أعلى وأكرم، وهي أن يكون قارئ القرآن على وعي بما يقرأ، وينهض فور قراءته بتنفيذ ما فيه من دنيا العلم والعمل، وبالطبع لا يطلب من كلِّ مسلم فرد أن يضطلع منفردًا بأمثال تلك الأوامر القرآنية، فليس كل مسلم مطالبًا بأن يكون كل شيء، ولكنه مطالب بأي جزء من العلم ومن العمل يراه في مقدروه وفي مجاله، ومن مجموع القادرين العالمين في شتى ميادين الحياة تتكوَّن أمة المسلمين.
كلمات اللغة، مفردة ومركبة إنما هي في تجسيداتها أشياء من الأشياء، إنها نوع من الكائنات كأيِّ نوع آخر من كائنات الأرض أو السماء، فهي في مادتها — إذا كانت منطوقة — موجات من هواء، وهي — إذا كانت مكتوبة — أجسام مشكلة من مداد أو من رصاص، أو من طباشير، أو ما شئت من مواد الكتابة، الكلمات أشياء من الأشياء، ولكنها أسرة عجيب أمرها عجبًا لا ينقضي إذا تأملتها، فمنها العلم ومنها الأدب، ومنها السحر ومنها الخرافة، ومنها الغناء المطرب، ومنها الخطابة التي تلهب، ومنها معارك، ومنها حلو السمر بين الأحباء، والكلمات نوع من الكائنات كسائر أنواع الكائنات، فهي كجماعة الطير، فيها البلابل وفيها العقبان والنسور، وهي كجماعة الحيوان فيها الغزلان وفيها الأسود والنمور، أو هي كصخور الأرض فيها التبر وفيها التراب … لكنها نوع عجيب متفرِّد وحده دون سائر الأنواع؛ لأن بالكلمات صار الإنسان إنسانًا، لا من حيث هي مجرد موجات من الصوت، ولا من حيث هي مجرد جسيمات من مداد أو غير المداد نثرها الكاتبون على الورق، ولكن من حيث هي حاملات للمعاني، ورامزات إلى الأشياء لتكون مهمة من يتلقاها أن يزاوج بين تلك المعاني وهذه الأشياء، فإذا هو لم يفعل، كانت وكأنها وقعت منه على أصم وأعمى وأبكم، كلماتنا قلوبنا وعقولنا، خرجت من مكامنها إلى ملأ الناس في العلانية، وكلمات الله — جلت قدرته — في قرآنه الكريم، هي منهج «للعمل» نعلو به سادة على الأرض ظافرين من ربِّ السماء.