عصْر يَبحث عَن حرِّية الإنسان
عندما هممت بالكتابة عن حرية الإنسان، وكيف يتمخَّض بها عصرنا مخاض البركان يريد أن يتفجَّر بالحمم، أخرجت ورقاتي وأنرت المصباح وأمسكت بالقلم، لكنني لبثت على هذا الوضع فترة طالت معي على صورة لم أعهدها من قبل إلا قليلًا، وذلك أني لم أعرف كيف أبدأ، وظللت طوال تلك الفترة الطويلة، أُحدق بنظراتي إلى زجاج النافذة، كأنما أردت أن أنفذ بتلك النظرات خلال الزجاج، ولعل ما أعاقني هو رغبتي في أن أجد مدخلًا ميسرًا بسيطًا، يُشجع القارئ على البدء بالقراءة، ولكن، لماذا قدرت للقارئ أن يأخذه نفور فينصرف به عن قراءة ما سوف أكتبه؟ ربما جاء تقديري هذا من طبيعة الموضوع أولًا، ومن ميل مسبق عند طائفة كبيرة من الناس أن يسيئوا الظن بعصرنا، أما عن طبيعة الموضوع — والموضوع هو حرية الإنسان — فهو يدور حول كلمة من تلك الكلمات التي تنتفخ في الخيال حتى ليتسع جوفها لكل صنوف المعاني، ومع ذلك فقلما يخرج معظم الناس منها بشيءٍ اللهم إلا الكلمة نفسها التي بدأ بها، لماذا؟ قد يكون ذلك راجعًا إلى ما يحيط بالحرية من هيبة وجلال، مما يميل بمن يكتبون عنها، نحو اختيار عبارات تتناسب هيبة مع هيبتها، وجلالًا مع جلالها، وإنه لمن المفارقات العجيبة، أن حصيلة المعنى التي يخرج بها القارئ كثيرًا جدًّا ما تتناسب تناسبًا عكسيًّا مع ضخامة التعبير وفخامته؛ لأنه كثيرًا ما حدث في تاريخ الكتابة الأدبية، أن لجوء الكاتب إلى التضخيم والتفخيم، إنما هو قرين ملازم لقلة علمه وضحالة خبرته، وهذا بعينه هو ما يحدث في حالات كثيرة، عندما يكون الموضوع الذي يكتب فيه هو الحرية أو ما يشبهها من كلمات.
ذلك عن الموضوع وطبيعته، وأما عن عصرنا وكراهية الناس لذكره، فربما جاءت تلك الكراهية من أن بلادنا جزء من العالم الواسع الذي وقع ضحية أو فريسة، فعصرنا يتميز بين ما يتميز به، بانفراج الزاوية انفراجًا رهيبًا بين القوي والضعيف وبين الغني والفقير وبين طلائع العلم الجديد ومن هم لا يزالون في دنيا هذا العلم الجديد لكن يغمرهم الظل بظلامه، على أن المأساة في هذا كله تزداد أسى بكون الزاوية التي انفرجت بين الفريقين تزداد مع الأيام انفراجًا، فلا غرابة إذن — أن تثار الكراهية في الصدور، عند كثرة كثيرة من مواطنينا — إذا أراد كاتب أن يذكر لهذا العصر الباغي فضيلة أو فضائل، لا سيما إذا زعم لهم ذلك الكاتب فضيلة للعصر في جانب من الحياة، هم لم يروا فيه إلا نقيض ما زعم، وهذا الكاتب يهم بكتابة يعتزم أن يقول بها للناس إن عصرنا ما ينفك باحثًا لهم عن مسالك تؤدي بهم إلى حياة تسودها حرية الإنسان، وهو ما لم يروا منه — في ظنهم — إلا مرارة نقيضه.
أقول: إنه ربما كان ذلك الشعور هو الذي حدا بي إلى التأني في اختيار ما أبدأ به الحديث حتى ارتأيت آخر الأمر، أن أبدأ باللفظة نفسها لفظة الحرية لأصب عليها نور المصباح، فأبرز منها أمام الأبصار جانبًا، هو فيما أعتقد — محجوب عن رؤية الناس، مع أنه فيما أعتقد كذلك لو أضيء ووضحت معالمه، انفتح الطريق أمام رؤية أنصع، وفهم أدق، وذلك الجانب الذي أعنيه هو أن اسم الحرية — شأنه في ذلك شأن طائفة كبيرة من الأسماء — إنما هو اسم لا يطلق على شيء محدد متعين، بل هو في الحقيقة اسم يُشير إلى مُحصلة مفردات كثيرة، كل مفرد منها مأخوذ على حدة ليس حرية، على نحو ما نعنيه بكلمة مباراة في كرة القدم مثلًا، فليس هناك شيء معين يكون هو المباراة، فكل لاعب من اللاعبين وهو على حدة ليس مباراة، إذ المباراة هي محصلة جزئيات من أفراد ونشاطهم الحركي توشك أن تستعصي على حصر عددها، إذا أردت حصرها.
ومن هذه البداية أبدأ حديثي، فإذا كانت جزئيات النشاط الحركي في مباراة الكرة تستعصي على الحصر لكثرتها، فإنه يمكن — برغم هذا — معرفة الاتجاه الذي يتجه به السير في مجراها، فكل فريق من الفريقين، في كل ضربة من ضربات أفراده للكرة، يستهدف الهدف المقصود، ومن محصلة تلك الضربات التي تُعد بالألوف تأتي النتيجة للفريق نصرًا أو هزيمة … وهكذا الحال في معنى الحرية، فالحياة الحرة للإنسان الحر أو للشعب الحر ليست جزئية واحدة بعينها تُشير إليها بإصبعك قائلًا: هذه حرية، بل هي تعرف باتجاه جزئياتها نحو هدف معلوم، هنالك تاجر يبيع وزبون يشتري، هنالك مهندس يُشرف على إقامة البناء وساكن يسكن، هنالك معلم يعلم وطالب يتعلم، هنالك طبيب يعالج ومريض يتلقى العلاج، هنالك وهنالك، إلى أن تبلغ بعدد الجزئيات إلى ملايينها، لكن هذه الكثرة الهائلة تتجه بتيارها اتجاهًا يجعلها حياة شعب حر، أو اتجاهًا آخر يجعلها حياة شعب مقيد، فبأي الخصائص — يا ترى — يتميز كل من الاتجاهين؟
إنك إذا نفذت ببصرك — عن طريق التحليل العلمي — خلال تلك التفصيلات الكثيرة التي يعيشها الناس في حياتهم اليومية العملية، رأيت إرادة رابضة وراءها تحركها في اتجاه يحقق لها آخر الشوط هدفًا ما، فإذا كانت تلك الإرادة هي إرادتي وإرادتك، وإرادة الكثرة الغالبة من المواطنين، بقي علينا أن نسأل عن الهدف الذي في سبيله نتحرك، فإذا وجدناه هدفًا يحقق لنا في نهاية المطاف أن نكون أكثر علمًا، وأيقظ وعيًا بالعالم الذي نعيش فيه، كانت حياتنا حرة بمقدار ما استطعنا أن نحقق من الهدف المنشود، وأما إذا وجدنا الإرادة الرابضة خلف نشاطنا الحركي في شتى مجالاته مفروضة علينا من سوانا وليست منبثقة من عزائمنا الباطنية، كنا غير أحرار، حتى لو كانت الأهداف التي نحققها بذلك النشاط مما يمكن أن يكون أهدافًا لنا، وكأني أسمع طالبًا من طلابي يصيح قائلًا: ماذا تكون هذه الإرادة الرابضة التي تتحدث عنها يا أستاذنا، وقد كنت تحاسبنا حسابًا عسيرًا على دقة الكلمات ما دمنا بصدد التعبير عن حقيقة عقلية؟ فأجيب السائل: بأن الإرادة الشعبية التي هي متوسط ما يحسه الأفراد في بواطن نفوسهم من رغبات حقيقية مقرونة بنوايا التنفيذ إذا واتتهم الظروف، أقول: إن مثل هذه الإرادة الشعبية يغلب أن نركن في إدراكها إلى مجرد الشعور بالتعاطف بين أفراد الشعب الواحد، دون أن تكون هنالك الوسيلة العلمية الدقيقة لرصدها وضبط مقدارها، فأحيانًا يحس أفراد الشعب بروح المقاومة — مثلًا — أو بروح التأييد، برغم كونها مكتومة في الصدور، بسبب أحكام عرفية، أو بسبب مراقبة خارجية تمنع التعبير الحر عما يدور في أخلاد الناس.
نعود إلى ذكر ما أسلفناه من أن الحرية اسم لا نطلقه على شيءٍ واحد معين، كما نطلق مثلًا اسم النيل على النهر الذي يجري في أرضنا، أو نطلق اسم المقطم على الجبل المشرف على مدينة القاهرة، بل الحرية اسم يُطلق على محصلة عدد يتعذر حصره من جزئيات سلوكية يؤديها الفرد أو الأفراد المرتبطة بما يشعرون به من وجود العزيمة الداخلية التي تريد لنفسها ذلك السلوك، وما دام الأمر كذلك فالحرية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأهداف وبالوسائل الموصلة لتلك الأهداف، وذلك يعني أن تكون حرية الفرد الحر، أو الشعب الحر مرتبطة أشد ارتباط بمدى علم ذلك الفرد أو ذلك الشعب بطبائع الأشياء التي لا بدَّ له أن يلجأ إلى استخدامها، وسائل كانت أم أهدافًا، فالجاهل بحقيقة شيء معين محال عليه أن يتخذه هدفًا، أو أن يتخذه وسيلة لهدف؛ لأن الجهل بشيءٍ معناه غياب ذلك الشيء عن دائرة الوعي.
فلئن كان التحرر من قيد ما أمرًا ممكنًا لأي إنسان قادر على تحطيم ذلك القيد، فليس الأمر كذلك بالنسبة للحرية التي تأتي مرحلة ثانية بعد التحرر من القيود؛ لأن هذا التحرر معناه إزالة العقبات التي تحول دون العمل والبناء، وأما الحرية التي تأتي بعد ذلك فهي الجانب الإيجابي في إقامة البناء أو في إنجاز العمل، ولا نتصور كيف يمكن لبناء أن يُقام أو لعمل أن يُنجز دون أن يكون هنالك علم بما نبنيه أو بما نؤديه، وهذا العلم — بالطبع — درجات بين الناس، وبالتالي كانت قدرات الناس متفاوتة في دقة العمل وكفاءته، ومع هذه الدقة والكفاءة تكون الحرية بمعناها الإيجابي المبدع.
علم الإنسان بطبائع الأشياء هو نفسه قدرة الإنسان على التمكن من تصريف تلك الأشياء على النحو الذي يريده لنفسه منها، ضع كتابًا بين يدي قارئ ثم ضعه بين يدي أميٍّ لا يقرأ، تجد فرقًا بين الإنسان الذي يعلم والإنسان الذي لا يعلم، الأول حر في استخدام المادة التي بين يديه، وقادر بالتالي على التصرف اهتداءً بها، فيغير من حياته وحياة الناس ما يريد أن يغير، وأما الثاني فلا فرق بين أن يكون ما بين يديه كتاب أو قطعة من الحجر، وليس في وسعه أن يشكل حياته بناء على شيء مما ورد فيه، اللهم إلا أن يسند بجسم الكتاب قطعة عرجاء من أثاث بيته، وأعط سيارة لمن يعرف كيف يحركها ويقودها ويُصلحها إذا عطبت، ثم أعطها لمن لا معرفة عنده بشيءٍ من ذلك، تجدك قد أمددت الأول بمصدر للقوة وسرعة الحركة، وأما الثاني فقد أمددته بكتلة صماء من الحديد، فالعلم بأي درجة من درجاته قوة وسيطرة على الشيء المعلوم، والجهل بطبائع الأشياء التي حولنا وبين أيدينا عجز عن تحريكها واستغلالها، ومن هنا كانت الصلة الوثيقة بين العلم والحرية، وبين الجهل والقيود، عندما نقول عن العلم إنه نور، فلسنا نقول ذلك على سبيل المجاز، بل نقوله على سبيل الحقيقة الواقعة، ففي تعامل الإنسان مع شيء يعرفه حق المعرفة فكأنما هو بتلك المعرفة قد أزاح عنه الظلام، فهو يفكه جزءًا جزءًا ثم يُعيد تركيبه إذا شاء، إنه يألفه ولا يخشاه ولا يتهيبه، وأما من جهل شيئًا مما حوله فهو أولًا يقف حياله مكتوف اليدين لا يدري ماذا يصنع به، ثم هو ثانيًا يخافه ويخشى سوء عواقبه، ومن هذه النقطة بالذات نشأت في تاريخ الإنسان خرافات وخرافات، حتى لقد دفعه وهم خرافاته إلى عبادة ما جهل طبيعته وحقيقته، فلقد عبد الفارسي القديم النار، وهذا مثل من ألف مثل، لأنه رأى ألسنة من اللهب تنبعث من أرضه ولا يعرف عنها أصلًا ولا فصلًا، فخشى عاقبتها وأراد اتقاء بطشها، فعبدها، وأرجح الظن أن تلك النار إنما كانت ناشئة عن البترول المخزون تحت أرض فارس (إيران)، ولم يكن بالطبع يعرف عن ذلك الأصل البترولي شيئًا، أما وقد جاء إليه في عصره الحديث من يعلمه عن حقيقة أرضه ثم يخرج له ما في جوفها، فقد انتقل من عبادة نارها المشتعلة المجهولة إلى استخدامها وبيعها وكسب القوة منها، ولم يكن قد بقي له إلَّا أن يجد من يعلمه الحكمة أيضًا ليحسن الانتفاع بما كسب.
الحرية قوة وقدرة وإنجاز، وليست هي مقصورة على مجرد فكِّ القيود، فالإنسان حر بمقدار ما قد أصبح في قدرته أن يصنعه، وبالطبع لم تشهد الدنيا يومًا واحدًا خلا من الإنسان الحر القادر بتجربته أن ينجز ما استطاع إنجازه إذا أراد ذلك، إلا أن الحرية القادرة هذه لم تكن دائمًا من حق الإنسان، كل إنسان، بل بدأت أول أمرها مجمعة في قبضة رجل واحد، هو الذي يحكم سائر الأفراد من أبناء جماعته، ثم يأذن لمن أراده من هؤلاء الأفراد بقدر من الحرية يحدده له كما شاء، ثم اتسعت الدائرة مع مر الزمن، فأصبح الأحرار فئة بعينها من الشعب دون سواها، فانقسم المجتمع بذلك — كل المجتمعات القديمة — إلى أحرار وعبيد، ثم اتسعت الدائرة مرة أخرى مع الزمن، حتى أصبحت الحرية من الوجهة النظرية حقًّا للأفراد جميعًا كائنة ما كانت مكانتهم من المجتمع أو أنسابهم أو أجناسهم أو ألوانهم أو أنواع العمل الذي يؤدونه … ونقول: إن هذا قد أصبح حقًّا شاملًا لا يستثنى منه فرد من الناس، لكن ذلك من الوجهة النظرية وحدها، وأما من الوجهة العملية فليس في وسع قوى الأرض جميعًا أن تجعل فردًا من الناس حرًّا بالنسبة إلى عالم يجهل ما فيه، ونعود فنذكر القارئ بما أسلفناه، وهو أن حرية الإنسان إنما تكون في شيء يعرفه وبمقدار ما يعرف عنه، وإلا فماذا ينفع إذا ما تركوني وحدي في مكان القيادة من طائرة وهي تسبح في الفضاء الأعلى، أقول: ماذا ينفع عندئذٍ أن أصيح بملء فمي قائلًا إنني إنسان حر؟! إذ أين تكون حريتي وأنا أمام أجهزة أجهل عنها كل شيء، وأظل أجهلها إلى أن تصطدم بي الطائرة فيما لا بدَّ أن يكون قضاءنا المحتوم؟! … الإنسان الحر يعرف ما هو حر فيه، ولا حرية لجاهل.
ولست في الحق أدري هل كان هذا المعنى الذي يربط الحرية بالعلم جزءًا مما قصد إليه الشيخ محمد عبده، حين أعلن خطته في النهضة الوطنية بأن يكون تعلم الشعب هو الخطوة الأولى في جهاده لينال حريته، ومن ثم فقد عمل على إنشاء مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية لينقل فكرته من مجال الفكر النظري إلى مجال التطبيق، وإنني لأسأل هذا السؤال؛ لأنني حين ربطت بين الحرية والعلم، لم أقصد أن يكون ذلك العلم أي معرفة نلقنها للمتعلم كما اتفق، إذ لا تتم الرابطة بين الحرية والعلم إلا إذا جاء ذلك العلم متصلًا بالميدان الذي يريد المتعلم أن يكون حرًّا فيه، ومن مجموعة الأحرار بهذا المعنى تتكون حرية الشعب، وإذن يكون الشعب حرًّا بمقدار ما لأبنائه قدرات عملية على التعامل مع مجالاتهم، كل منهم في المجال الذي تعلم أن يكون حرًّا فيه وبمقدار ما تعلم، وهل يصبح لكلمة الحرية أي معنى إذا قيل لشعب إنك أيها الشعب حر، في حين يكون أفراد ذلك الشعب على درجة من العجز إزاء أرضهم وبحرهم وسمائهم، بحيث لا يملكون صنع شيء لأنفسهم، حتى يجيء دخيل خارجي فينتج لهم ما عجزوا عن إنتاجه؟ أليست الحرية الحقيقية عندئذٍ هي حرية ذلك الدخيل؟ وأما الشعب الذي قيل له إنك حر، إذا أعمته الجهالة فعجز، فلن تكون حريته تلك إلا كلمة يضيع الصوت الذي يهتف بها مع عصف الريح.
وما أكثر الصفات التي نصف بها هذا العصر الذي نعيش فيه، ولنتفق مؤقتًا على أن المقصود بكلمة عصرنا الفترة التي بدأت بنهاية الحرب العالمية الأولى (١٩١٨) وامتدت إلى يومنا الراهن — أقول: إنه ما أكثر الصفات التي نراها مميزة لعصرنا هذا، لكن الذي يهمنا منها الآن فيما له علاقة مباشرة بحديثنا هذا صفتان، إحداهما تحرر الشعوب التي كانت محكومة بغيرها، والأخرى هي الكم الهائل من المعرفة التي استطاع الإنسان بأجهزته الحديثة أن يجمعها عن هذا العالم وكائناته، إنه ربما استطاع بأجهزته تلك أن يجتمع في العام الواحد، ما لم تكن تستطيع جمعه آلاف السنين التي هي تاريخ الإنسان على هذه الأرض، إننا أبناء هذا العصر قد ألفنا بعض الحقائق عن دنيانا وما فيها حتى لنظن أنها لأهميتها الشديدة في حياتنا معلومة للإنسان منذ أقدم عصوره؛ ولذلك ندهش حين نعلم أن الإنسان حديث عهد بها، إلى حد قد لا نتصوره، وإن كاتب هذه السطور ليقرر عن نفسه أنه كاد لا يصدق حين عرف لأول مرة أن حقيقة كون الجسم الحي مكونًا من خلايا لم تعرف للعلم إلا في آخر القرن الماضي! ولقد كان من الأمثلة الشائعة في كتب الفلاسفة المعاصرين (وتنبه إلى كلمة معاصرين هنا) كلما أراد هؤلاء الفلاسفة أن يضربوا أمثلة توضح ما يسمونه بالاستحالة التجريبية؛ أي الحقيقة التي هي ممكنة من الوجهة النظرية الصرف ولكنها مستحيلة الوقوع من الناحية العملية، أقول: إن من أشيع الأمثلة التي كانوا يسوقونها في كتبهم لتوضيح الاستحالة التجريبية أن يرى الإنسان الوجه الآخر من القمر، فمن المعلوم أن القمر يواجه الأرض بأحد نصفيه دون النصف الآخر، ولبث ذلك المثل يُساق إلى منتصف هذا القرن العشرين، إذ مَن ذا الذي كان يتصور أنه سيحدث في تقدم العلم أن يدور الإنسان حول القمر؛ فيرى وجهه الخلفي الذي لا يواجه الأرض قط؟ لكن ما كان مستحيلًا بالأمس بات في حدود الإمكان.
مرة أخرى أذكر الصفتَين اللتين اخترتهما من صفات عصرنا، وهما تحرير الشعوب التي كانت من قبل محكومة بغيرها، والكم الهائل من المعرفة بحقائق الحرية، وكما أسلفنا القول، فإن التحرر من القيود وحده لا يعني الحرية، كالذي تفك عنه أغلاله، فيتحرَّر منها لكنه لا يصبح حرًّا بعد ذلك إلا بما يجيد العلم به، فيمهر في إنجاز ما يصنعه في المجال الذي أجاد معرفته، وهنا نجد السؤال يطرح نفسه: كم من الشعوب التي تحرَّرت قد اكتسبت من خضم المعلومات العلمية وغير العلمية التي قدَّمها عصرنا ما يكسبها قوة وقدرة على الصنع والبناء لتصبح حرة بعد أن تحرَّرت؟ كان الغرب بصفة أساسية هو الذي استعمر الشعوب التي قلنا عنها إنها تحرَّرت من قبضته خلال القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الثانية بصفة خاصة أي بعد سنة ١٩٤٥، وكان ذلك الغرب هو نفسه الذي استطاع بعلمه وبأجهزته الجبارة أن يجمع ذلك الخضم من المعرفة بهذا الكون وكائناته، وهي معرفة تعرض نفسها علانية لمن يأخذ، فكم من الشعوب المتحررة قد أخذ، وكم أخذ؟ جواب ذلك يأتي في صورة أوضح إذا قلبنا السؤال فجعلناه إلى أي حد تجد تلك الشعوب المتحررة نفسها مضطرة إلى الاستعانة بالغرب في صنع ما تصنعه؟ فإذا جاءنا الجوابُ بأن الجزء الأعظم من حاجات الشعوب المتحررة لا يستغني عن صناعات الغرب أو عن مساعدات الغرب بأيِّ وجه من الوجوه، مع أن ما يصنعه الغرب وما يساعد به مأخوذ كله من علمه ومن معرفته التي جمعها عن طبائع الأشياء من حوله، وهو علم وهي معرفة معروضان علانية لمن يأخذ، أقول: إنه إذا كان هذا هو الجواب عن سؤالنا، كانت النتيجة التي تفرض نفسها، هي أن الشعوب التي تحررت لم تستطع بعد أن تصبح حرة، ولقد كان التحرر نتيجة صراع مع المستعمر الأجنبي، وأما الحرية فلن تكتسب إلا نتيجة صراع تلك الشعوب مع نفسها.
إلا أن عصرنا هو العصر الذي عرَّف الحرية بمعناها الإيجابي المنشئ المبدع الخلاق، وهو العصر الذي جمع لتلك الحرية وسائلها من علم ومعرفة يسيطر بها على عالم الأشياء، وهو العصر الذي عرض تلك الوسائل أمام الناس جميعا، فمن أراد الحرية فليأخذ وسائلها لينعم في رحابها، وأما من وجد في مجرد التحرر من القيد شبعًا وريًا، تاركًا للأحرار أن يعمروا له دنياه، فليرض بنصيبه العادل — وما نصيبه إلا أن يقف مواقف الأتباع الأذلاء حتى بعد أن يتحرر من قبضة سيده.