اختلاف الرَّأي والرؤية
إنني الآن في سبيلي إلى أن أعرض بين يديك تفرقة بين شيئين، لهما من الدقة الدقيقة ما تفلت به من أعين الناس، أو الكثرة الغالبة منهم، وسوف ترى في سياق هذا الحديث، كيف أن هؤلاء الناس لو أنهم تبينوها — حق بيانها — لألقوا عن ظهورهم أحمالًا ثقيلة من التزمت والتعصب والتطرف، إلى آخر هذه الأسرة غير الكريمة، فأراحوا واستراحوا وهدأت لبحر الحياة مياهه.
وأما الشيئان اللذان أريد أن أُفرِّق بينهما تلك التفرقة الدقيقة التي أشرت إليها، فهما: الموضوع الذي يثور حوله اختلاف الرأي — من جهة — والآراء أو المذاهب المختلفة نفسها، التي تتعلَّق بذلك الموضوع — من جهة أخرى — وإني لأسرع هنا فأذكر الحقيقة التي أسعى الآن إلى طرحها بين يديك، قبل أن أقدم على تحليلها وتفصيلها، لعلَّ ذلك يُعين على متابعة الحديث باهتمام أكبر، وبدقة أكثر، وتلك الحقيقة هي أننا واجدون في معظم الحالات، أن الآراء أو المذاهب، التي حسبناها متعارضة متضاربة، إنما هي آراء متكاملة؛ بمعنى أن كل رأي أو مذهب منها يتناول — في حقيقة أمره — جانبًا من الموضوع المطروح، غير الجوانب التي تتناولها الآراء أو المذاهب الأخرى، وأنه من مجموع الآراء أو المذاهب، يتألف موضوعنا ذاك من شتى نواحيه، وأن الخير كل الخير للمتلقي أن يجمع في نفسه جميع تلك الآراء أو المذاهب، ليصبح أكمل إلمامًا بالموضوع الذي هو مدار البحث والنظر والاعتقاد.
وأبدأ الآن في تفصيل ما أجملته، مستعينًا بأمثلة منوَّعة، أسوقها من ميادين مختلفة، وأبدأ بميدان الفكر الفلسفي في مذاهبه المتنازعة، فأقول — في إيجاز شديد — إن لذلك الفكر الفلسفي عند أصحابه، اتجاهين أساسيين، ثم يكون بعد ذلك لكل اتجاه منهما فروعه، أحدهما هو الذي يطلق عليه اسم المذهب «المثالي»، والآخر هو الذي يطلق عليه اسم المذهب «التجريبي»، والأصل في هذا الانقسام، مقابلة تقام بين «الأفكار» في ناحية، و«الأشياء» في ناحية أخرى، فأيهما يا ترى يكون هو الأصل الذي يشتق منه الآخر؟ أو يكون هو المرجع الذي يُقاس إليه الآخر في مدى حظه من الصواب والخطأ؟ إنك لو طرحت هذا السؤال على متدين واع بعقيدته الدينية، لجاءك منه الجواب مسرعًا، وهو: إن الفكرة تسبق تجسيدها في مخلوق متعين بخصائصه وصفاته، وكذلك إذا سألت من فيه طبيعة الفنان أو طبيعة الشاعر، أجابك بأن المعول عنده إنما هو ما يدور في نفسه، مهما يكن ذلك موصولًا أو غير موصول أول الأمر بدنيا الأشياء، وإذا سألت فيلسوفًا «مثاليًّا»، لكان جوابه أيضًا هو أن صلته بالوجود في مجموعه، أو في أي كائن من كائناته، إنما هي ما «يعرفه» عنه، والذي يعرفه هو «أفكار» أو تصورات، أو غير ذلك مما هو في داخله … كل هؤلاء — إذن — يرون للفكرة أسبقية على الشيء المجسد لها، لكن تحول بسؤالك إلى العلماء في أي ميدان من ميادين العلم: ميدان الفيزياء، أو الكيمياء، أو الأحياء، أو ما شئت، تجد جوابًا آخر، فمن «الظواهر» المبحوثة، أي من «الأشياء» تستقي قوانين العلوم ومِن ثَمَّ يجيء الانقسام في وجهة النظر، وهو انقسام قد يتسع ليجاوز الأفراد إلى الشعوب، بحيث نقول عن شعبٍ ما، إنه في مجموعه يجعل الأولوية لما يدور في نفسه، أو في رأسه، أو في قلبه، على الأشياء المجسدة التي تدركها الحواس، ونقول عن شعب آخر، إنه يجعل الأولوية «للشيء» في الواقع المحسوس، وعلى أساسه تقام الفكرة أو السلوك، وقد يكون هذا الاختلاف العميق بين شعب وشعب، هو الذي يُقام عليه الحكم بعد ذلك، بأن هنالك شعوبًا «روحانية» وأخرى «مادية».
ونحن نسأل بعد هذا العرض قائلين: أيكون ما بين الفريقين، من قبيل «التضاد»؟ أم يكون من قبيل «التكامل»؟ والرأي الذي نراه في ذلك هو أن «الفكرة» و«الشيء» الذي يجسدها كطرفي العصا، أئذا قلنا عن رجل إنه يعني برأس عصاه أكثر مما يعني بأسفلها، كان معنى ذلك أنه استطاع أن يجتزئ الرأس من العصا، مستغنيًا عن قاعدتها المرتكزة على الأرض؟ إنه حتى إذا صح أن شعوبًا تُعنى بالباطن بدرجة أكبر من عنايتها بالظاهر، وأن شعوبًا أخرى تعكس هذا الترتيب — وهو صحيح بلا شكٍّ — فالذي يحدث بالفعل في تلك الحالة، هو أنهما يتبادلان النواتج، فالأولى تمد الثانية بشيءٍ من روحانياتها، والثانية تمد الأولى بشيءٍ من مادياتها، وإذا شئت فراجع حياة الناس في واقعها، فالغرب — عمومًا — الذي نشيع عنه أنه «مادي»، قد أخذ دياناته من منابعها في الشرق، والشرق الذي نقول عنه إنه «روحاني» يعيش كل فرد فيه، وفي كل لحظة من حياته، مستعينًا بماديات ذلك الغرب.
وننتقل إلى مثال آخر، نأخذه هذه المرة من مدارس علم النفس — لنرى مرة أخرى، إذا كان بين تلك المدارس تضاد — كما قد يظن — أم أن الذي بينها تكامل، بحيث يجوز لنا القول، بأنه من الممكن للعالم الواحد من علماء النفس، أن يجمع كل تلك المدارس في مجال تطبيق واحد، فالموضوع الرئيس الذي يتناوله علماء النفس بالبحث العلمي، هو الصور السلوكية التي يتحرك بها الناس في حياتهم، وأرجو القارئ أن يتنبه جيدًا، بأن تلك الصور السلوكية إنما هي ظاهرة تراها أعين المشاهدين الراصدين، كأي ظاهرة أخرى في دنيا الأشياء، يشاهدها مراقبوها وراصدوها، لكن علم النفس — كأي علم طبيعي آخر — لا يقف أمام موضوع بحثه كما يقف منه عابر السبيل، بل هو يحلله ليرتد به إلى ينابيعه، فمن أين جاء، وكيف جاء؟ وهنا نرى علماء النفس يختلفون، وهم في اختلافهم ينقسمون قسمين كبيرين، كل قسم منهما يتفرَّع بعد ذلك إلى فروعه، فقسم منهما يقف عند ظاهرة السلوك نفسها، لا يجاوزها، فمنها نجد النتيجة ومنها أيضًا نجد القوانين العلمية التي تحكم تلك النتيجة، أي أن هذا الفريق من علماء النفس، يغضون النظر عما يجري في جوف الإنسان صاحب الصورة السلوكية المبحوثة، ويُسمى هذا الفريق بجماعة «السلوكيين»، لكن هنالك أكثر من جماعة واحدة، ترى أن منبع السلوك الظاهر للعين، إنما هو في باطن صاحبه، وإذن فلا بدَّ من تعقبه إلى مصادره هناك، وتلك الجماعات من علماء النفس، تعلم كلها بالطبع ما يعلمه بقية العلماء في سائر الميادين، وهو أن العلم يلتزم «الظاهر»، ولا شأن له بما يخفى عن حواس المشاهدة وأدواتها، إلا أن ذلك الذي يخفى عن العين والأذن، قد نستطيع استدلاله مما هو ظاهر، وعندئذٍ يصبح عملًا مشروعًا أمام المنهج العلمي، ومن هنا تأخذ تلك الجماعات في محاولاتها لاستدلال ما استبطنته النفس في غيبها، لتحرك به أطراف البدن الظاهرة بسلوكها، وعلم النفس بهذه المحاولات، يُسمونه بعلم نفس الأعماق، ليقابلوا به موقف السلوكيين في عدم مجاوزتهم للأسطح الظاهرة.
وسؤالنا — مرة أخرى — وهو هذا: أحقًّا ذلكما اتجاهان متضادان بحيث يستحيل عليهما معًا أن يجتمعا عند عالم تطبيقي واحد؟ أم أنهما وجهان يمكن لهما أن يتكاملا؟ فماذا يمنع أن نستخدم طريقة السلوكيين في تحليل السلوك إلى وحداته الصغرى، لكي نُعيد بناء تلك الوحدات في أي صورة سلوكية أردنا؟ وأن نلجأ في الوقت نفسه إلى مناهج علماء «الأعماق» كلما وجدنا موقفًا يقتضي ذلك، كما يحدث — مثلًا — في معالجة مرضى النفس بطريقة التحليل؟ فللعلماء أن يوجهوا اختصاصهم نحو هذا الجانب أو ذاك، لكن الإنسان الذي هو موضوع البحث مشتمل على هذا وذاك معًا.
وننتقل إلى مثل ثالث، نأخذه من مدارس النقد الأدبي، وأظن أن كثيرين ممن لهم اهتمام بالحركة الأدبية، يعلمون كم دار في حياتنا الأدبية من معارك نقدية، وربما يكون صليلها قد جلب الشهرة للمتبارزين، لكنها إذا ما فحصت جيدًا، وجدناها معارك في غير معترك، فقد تدور المعركة — مثلًا — بين ناقد يرى أن جودة المنتج الأدبي مرهونة بمقدار قدرته على الكشف عن حقيقة الأديب الذي أنتجه، فيرد عليه ناقد ثان، ليقول: إن مقياس الجودة لا يعول على استخلاص الصورة النفسية للأديب، بل يعول على صورة المجتمع كله وما يمكن أن ينتفع به من ذلك المنتج الأدبي، وقد يدخل ناقد ثالث فيقول: لا أنت على حق، ولا هو على حق؛ لأن الأدب تُقاس جودته بكيفية بنائه، بغض النظر عما هو كامن في ثناياه من تصوير لمنتجه أو تصوير لمجتمعه … فلو سئل كاتب هذه السطور: أي هذه المذاهب النقدية تختار؟ لما تردد في الإجابة بأني بحاجة إليها جميعًا، فكلما ازدادت الجوانب التي أنظر منها إلى المنتج الأدبي، ازددت لها فهمًا وتقديرًا.
وننتقل إلى مثل رابع، نأخذه من فلسفة الأخلاق، فهنالك ضروب من الفعل يكاد يجمع البشر جميعًا على قبولها، وضروب أخرى يكاد الإجماع ينعقد على رفضها، وفلسفة الأخلاق من شأنها أن تبحث عن الفيصل الذي يُميِّز هذا الضرب من ذاك، وقد حدث أن تفرق أصحاب الفكر الفلسفي في هذا الموضوع، فمنهم من انتهى به التحليل إلى القول بأن ذلك الفيصل هو مقدار المنفعة التي تعود على الإنسانية — في آخر المطاف — من الفعل المعين، فالأكثر نفعًا أكثر فضلًا، والضار مرفوض، ومنهم من لا يرى هذا الرأي، إذ يهديه تحليله إلى نتيجة أخرى، كأن يقول — مثلًا — بل الفعل المقبول مرفوض علينا بحكم طبيعته ذاتها، سواء أجاءنا منه النفع أم جاءنا خسار، وهكذا تتعدد الاتجاهات، فيظن المتسرع أن هذا الاختلاف وراءه اختلاف آخر في صور الأفعال ذاتها، في حين أن البشرية كلها، تكاد تجمع — وعلى امتداد تاريخها — على الفعل الذي يكون فضيلة والفعل الذي يكون رذيلة، وينحصر موضع الاختلاف في عملية التحليل على المستوى النظري فقط، ومن طريف ما أذكره في هذا السياق أنني — بحكم وقفتي الفلسفية التي أقفها — أرى أن الألفاظ الدالة على فضائل أو على رذائل لا تصلح أن تساق في جملة علمية، ومجالها مجال آخر غير مجال العلوم، فنشر عني كاتب ذات يوم، أنني بمثل هذه الوقفة المنهجية أعد داعيًا للخروج على الحياة الخلقية! فالذي أعوز ذلك الكاتب، هو التفرقة بين «موضوع» من جهة، وتحليله من جهة أخرى، وأكرر القول: إن الإنسانية كلها، بجميع شعوبها، وفي جميع عصورها، لا تكاد تختلف على ما هو فضيلة وما هو رذيلة، برغم اختلافها في عادات المعيشة اليومية، لكن ذلك الإجماع لا ينفي أن يتصدَّى مفكرون للبحث عن ينابيع القيم الأخلاقية أين وكيف، وفي عملية البحث تختلف السبل بالباحثين.
وننتقل إلى مثل خامس، نأخذه من السياسة، أو على الأصح من فلسفة السياسة، ولعلك تعلم أن الفرق بين موضوع معين وفلسفته، كاللغة وفلسفتها، والتاريخ وفلسفته، والفن وفلسفته، وهكذا، هو أنه بينما قوام الموضوع حين يُساق في مستوى «العلم»، هو مجموعة قوانينه وقواعده، وأما حين ننتقل إلى «فلسفته»، فذلك يكون بالبحث وراء تلك القوانين والقواعد عن مبدأ عام يوحدها، ويكون هو المنبع الخفي الذي تنبثق منه تلك القوانين والقواعد، وهكذا الفرق بين «السياسة» حين تساق علمًا مع سائر — العلوم، ثم حين يرجع بقوانينها وقواعدها وطرق ممارستها، إلى مبدأ مضمر، وذلك المبدأ المضمر في مجال السياسة، هو — أساسًا — تحديد العلاقة بين المجتمع المعين وأفراده، تحديدًا نستند فيه إلى ما نفترضه بقوة الفكر الخالص، أو بنفاذ البصيرة، ما نفترضه عن حالة الناس في أول نشأة المجتمع، كيف كانت قبل أن يتعاقد الناس على المشاركة في مجتمعٍ موحد، ثم على أي أساس كان ذلك التعاقد، أو — ربما — اللاتعاقد؛ لأن هنالك من فلاسفة السياسة من يرد البناء الاجتماعي إلى إرادة زعيم قوي فرض سلطاته على الأفراد؛ لينخرطوا في نظام معين يضعه لهم، ويفرضه عليهم.
ومن فلسفة السياسة هذه، أستمدُّ المثل الخامس من الأمثلة التي أريد بها البيان بأن معظم الحالات التي نظن أن الآراء فيها متضاربة متعارضة، وتكون حقيقة الأمر فيها هي أن الاختلاف هو نحو التكامل أقرب منه إلى التعارض والتضاد، ففي فلسفة السياسة خرج أصحابها بتيارين مختلفين في وصف العلاقة بين المجتمع وأفراده، فأما أولهما: فيجعل الحرية للأفراد، بحيث تكون الوظيفة الرئيسة للمجتمع ممثلًا في «الدولة»، هي التنسيق بين تلك الحريات الفردية في مختلف أوجه نشاطها، ليحصل كلُّ فردٍ على أقصى حد ممكن من الحرية، بعد أن يحسب حساب حريات الأفراد الآخرين، وبهذا تكون الدولة قد أقيمت لتنسق، لا لتسيطر، ذلك تيار، وأما التيار الآخر: فيرى أن المحور هو البناء الاجتماعي وليس أفراده، فالحر هو المجتمع، وحرية الفرد معناها أنه يعيش في مجتمع حر، وكيف تفهم عبارة «المجتمع الحر»، إلا إذا تصورناه وكأنه كيان عضوي متماسك الأطراف، متصل الأعضاء، على نحو يجعل حركة النشاط منسوبة إلى الجسم الاجتماعي وهو موحد، ولا يبقى للفرد الواحد بعد ذلك من حرية يستقل بها إلا بمقدار ما نرى مثل تلك الحرية منسوبة إلى عضو واحد في كائن حي، كأن تكون الذراع حرة، والكبد حرة وهكذا، والمعروف الشائع في عالم السياسة في يومنا الحاضر، هو أن غرب أوروبا ومعه الولايات المتحدة الأمريكية، وما جرى مجراهما من سائر الدول، يأخذ في فلسفته السياسية بالطراز الثاني، الذي يجعل الأساس هو حرية الدولة ممثلة للمجتمع.
ونجيء الآن إلى سؤالنا الذي كررناه في الأمثلة السابقة جميعًا، وهو: أليست حقيقة الأمر هي أن بين الفكرتين تداخلًا، إذا لم يكن بينهما تكامل تام؟ فانظر إلى دول الفكرة الأولى تجد حرية الأفراد مستحيلة التصور إلا في إطار عدد من القوانين قد يُعَد بالألوف، إن الأمر في سير الفرد، يشبه من يسير في متاهة كثرت فيها الحوائل والحواجز والسدود، فضلًا عن استحالة قيام حياة فردية إلا وهي منتمية إلى جماعات صغيرة أو كبيرة، كالانتماء إلى الأسرة والقرية والمصنع، وإذن فهي حرية للفرد مُقيَّدة بشبكة تلتف عليها الخيوط وتكاد لا تترك لها منفذًا للفرار، وعكس ذلك صحيح بالنسبة إلى النمط الثاني، فكون الحرية منسوبة فيه للدولة لا للفرد، لا يمنع ذلك أن يمرح الفرد في دائرة واسعة من حياة يستقل فيها بميوله الخاصة وأوجه نشاطه الخاصة، ولو أخذت فردًا من النمط الأول وفردًا من النمط الثاني، وحلَّلت حياتهما إلى تفصيلاتها، برز لك التشابه أكثر مما يبرز لك الاختلاف، والمسألة تنحصر في النسبة التي يضبط بها الجانبان: جانب الدولة وجانب الفرد، في كلِّ من الحالتين، فواحدة تشرب الشاي باللبن، والأخرى تشرب اللبن بالشاي.
ولقد قدمت الأمثلة الخمسة السابقة، مأخوذة من ميادين للفكر مختلفة لأجعل منها تمهيدًا يمهد الطريق إلى المثل السادس الذي نأخذه من المجال الديني، فهنالك اختلافات بين الديانات الثلاث الكبرى؛ وأعني اليهودية، والمسيحية، والإسلام، ثم هنالك في كلِّ دينٍ منها أقسام ومذاهب، فقد تكون فروع الاختلاف هنا كذلك قد ضخمتها أوهام التعصب، في حين أننا إذا أخذناها على حقيقتها، وجدنا أوجه الشبه أشد قوة من أوجه الاختلاف، إنني على هذه العقيدة، وأستغفر الله إذا كنت قد أخطأت سواء السبيل، فأما الديانات الثلاث، فحسبنا انتماؤها جميعًا إلى سيدنا إبراهيم — عليه السلام — آمن بالله الواحد، فجاءت الديانات الثلاث مؤمنة بالله الواحد على اختلاف بينها في التعبير، ولست أريد الإسهاب في ذلك؛ حتى لا أتحدث فيما قد لا يكون لي به علم صحيح، لكنني أنتقل إلى الإسلام وأقسامه وفروعه وجماعاته، فربما عرفت هنا ما يكفل لي قدرًا بشريًّا من صواب الرأي، والرأي في مجمله هو أن ظلال الاختلافات بين تلك التفريعات كلها، قد ضخمها الوهم الذي نبت — أساسًا — في تربة من وطنية أو قومية ضيقة الأفق.
وخذ أوسع الفجوات من تلك الفروع والأقسام؛ وأعني أهل السنة من جهة، والشيعة من جهة أخرى، ولنسأل أنفسنا بادئ ذي بدء: ما الذي استهدفته الشيعة ليكون حجر الأساس؟ كان أول سؤال طُرح، هو هذا: لقد نزل القرآن الكريم وحيًا على محمد — عليه الصلاة والسلام — فإذا أشكل على الناس أمر أثناء حياة النبي، سألوه، فكان ما يجيب به قاطعًا بصوابه، ولكن كيف تكون الحال بعد موت النبي — عليه الصلاة والسلام؟ من ذا يجيب بمثل هذا الصواب القاطع، إذا أشكل على الناس أمر؟ أنترك لكل مسلم فرد — حتى ولو كان من العلماء — حرية أن يجيب؟ وإذا كان الأمر كذلك، فماذا نحن صانعون إذا جاءتنا إجابات مختلفة؟ إنه ليبدو — على ضوء هذا — أنه لا بدَّ من إمام معصوم بوحي من الله، يكون له وحده حق الجواب أمام المشكلات الناشئة … ذلك هو الأساس الأول، تفرع عنه فرع سياسي، عندما أرادوا تحديد من تحق له الإمامة المعصومة، فإذا نحن رددنا الخط الشيعي إلى حقيقته، ورأيناه ساعيًا نحو حل تطمئن له القلوب لما عساه يُشْكِل على الناس، ثم إذا نحن وجدنا أهل السُّنة بدورهم يشترطون شروطًا لمن تحق له الإجابة عما يُشْكِل على المسلمين في أمر دينهم، وجدنا زاوية الفرقة قد ضاقت بين الشعبتين، ومثل ذلك يمكن أن يقال فيما بين المذاهب الإسلامية من فروق.
إننا إذا نظرنا إلى خريطة العالم الإسلامي — والعالم الإسلامي يتجمع معظمه في رقعة مُتَّصلة على الخريطة الجغرافية — وجدنا، الشيعة مركزة في جانب، وأهل السنة مركزين في جانب، بل وأكثر من ذلك، وهو أن المذاهب الأربعة الكبرى داخل جماعة السنة تعود بدورها فيتركز كل مذهب منها بصفة رئيسة في قطر بعينه، فالمذهب المالكي سائد في كذا والمذهب الشافعي سائد في كيت، وكذلك مذهب أبي حنيفة، ومذهب أحمد بن حنبل، فماذا يدل عليه هذا التجمع الجغرافي للأقسام وللفروع؟ إننا نرجح أن يكون ذلك راجعًا لعوامل البيئة المحلية في كلِّ حالة، مضافًا إليها مؤثرات التاريخ في كل قطر اختلفت ظروفه عن الظروف في سائر الأقطار، لكن هذه الاختلافات كلها والتقسيمات كلها احتفظت وراءها بأساس واحد مشترك، يكون به المسلم مسلمًا، وهو الإيمان بالوحي القرآني على محمد — عليه الصلاة والسلام — وأن هذا الأساس المشترك، لهو من الضخامة بحيث يكفل للمسلمين جميعًا وحدة تغرق في ظلها كل ضروب التفرع والتشعب والانقسام.
اللهم هب لنا حكمة نرى في نورها أين تلتقي اختلافات الرأي والرؤية، قبل أن نرى أين تختلف.