السلطان الغوري
في القاهرة شوارع ضيقة، كثيرة المنعرجات والمنعطفات لم تزل محافظة على غرابتها القديمة وميزتها القومية العتيقة حتى يومنا هذا رغم تطاول السنين والأيام عليها.
ففي ذات يوم من أيام الربيع المتوهج بالحرارة والنور، كنت مارة بإحدى هاته الشوارع، بينما النسيم يهب عليلًا من جهة الشمال، وبينما أشعة الشمس الذهبية تهج الأنظار.
كان الطريق هادئًا ساكنًا يسوق المرء إلى أودية الخيال وحرارة الجو بما فيها من وحشة وانقباض تدعوه إلى طلب الراحة وتذكره بأيام الصيف الشديدة الوطأة.
اجتزت الطريق متأملة باستغراب فيما حولي من الحوانيت الصغيرة الممتدة على طول الطريق يمينًا ويسارًا، إذ كانت المناديل الحمراء المعلقة عليها تجعل لها شكلًا لطيفًا، أما أصحاب هذه الحوانيت؛ فالبعض منهم في انتظار زبائنهم وهم مضطجعون يراود النعاس أجفانهم، والبعض الآخر يقطع الوقت بالأحاديث الفاترة، كأنما شدة هذا اليوم القائظ قد نفذت إلى أعماق قلوبهم فصيرتهم في هذه الحالة. وكان يبدو على سيماهم الاستسلام للهدوء المحيط بهم وعدم الاكتراث لمدهشات المدنية. هكذا كانت تمر بهم الساعات وهم في لذة باطنية محفوفة براحة البال وهدوء الضمير؛ لأنهم في أمان من الاضطرابات التي تلحق أولئك الذين يضنيهم إجهاد الفكر في سبيل العمل. إننا لو أحصينا الحوادث المؤلمة التي اعترضت أيام هنائهم ومواسم سرورهم، فكم يبلغ عددها يا ترى؟ ولو فرضنا أن أيام حياتهم ضمت إلى بعضها كحبات المسبحة الواحدة، فكم علامة وقف يصادفها الإنسان بها؟
بعد أن تركت «باب زويلة» بقليل، ذلك الباب الرهيب الذي كان مشنقة في أيام المماليك، وقع نظري على بناءين شامخين: أحدهما على اليسار، والثاني على اليمين، والبناءان يلوح عليهما أثر القدم عند أول نظرة يلقيها الإنسان عليهما، لأن الأيام والليالي كانت قد لونت حائطيهما بلون ثابت لا يزول مدى الأيام.
كان يرتفع من جانب البناء الواقع على يساري منارة مربعة، يرى الناظر من خلال تزييناتها زرقة السماء وأطراف السحب، فأدركت للحال أنه مسجد قديم، وعندما ارتقيت السلالم المؤدية إلى مدخل الجامع كان أول أمر ألفت نظري هو الباب المحلى بالنقوش العربية النفيسة والأشكال الهندسية الجميلة. أثر نفيس يدل على غرام الأوائل بالفنون وولعهم بكل ما هو بديع وجميل.
تركت بعد ذلك ضوء الشارع لأدخل في قتام المسجد، وكان لا بد لي من وقفة عند عتبة إيوانه الصغير ليعتاد النظر على تمييز الأشياء، إلا أن النسيم البارد الآتي من صميم ذلك المسجد المقدس لطف ما بي، ولم يلجئني إلى إطالة الوقوف.
ما أجمل هذا المكان! ملجأ للإسلام بعيد عن حرارة اليوم، في أمان من ضوضاء العالم وضجيج الحياة! سكونه العميق ينفذ إلى قرارة النفس فيسكن ما بها من الآلام، وأنواره النافذة إليه من منوره المتوسط كانت تنتشر في أرجائه وزواياه لتنير الكتابات المنقوشة على الحائط، وتظهر للأنظار التزيينات المتعددة الموجودة به.
أما المنبر والقيشاني المحلى به الجامع فكانا آية في دقة الصناعة، وكلاهما كانا كلوحة فنية تسترعي الأنظار بجميل شكلها. وبالإجمال فإن دقة الصناعة التي كنت ألمحها في الأشكال المتعددة المصنوعة من العاج والصدف جعلتني في دهشة عظيمة، وبعد أن تأملت هذه الأشياء جلست باحترام على الدرج الموجود بجانب المحراب واستسلمت لتأملاتي. كنت أفكر في الغاية التي بني هذا المسجد لأجلها، فأقول في نفسي: هل كان بناؤه بدافع مقدس، أم أنه نتيجة لغرور العصور الاستبدادية؟
رباه، ما أجمل حسنه الرائق! إن معاني الآيات الكريمة المنقوشة على أطراف الجامع تمتزج بالأنوار الواصلة إليه من خلال نوافذه، فتكسب دقائق الأثير المالئة أطرافه حالة روحية توقع الهيبة في النفوس، وكان يخيل لي أن الأدعية التي تقرأ فيه بإخلاص والدعوات الصالحة والأحاديث الشريفة التي يرتلها المصلون أثناء عبادتهم ما زال صداها يرن في قبته الجميلة، ففي كل ركن أثر من الهيبة والجلال، وفي كل زاوية حالة روحية تجذب النفوس وتدعوها إلى التأمل والتفكير.
خطر لي وأنا غارقة في سكون المسجد وجلاله مظاهر الطنطنة التي يراها الإنسان في المعابد التي تقام فيها شعائر الأديان الأخرى، تلك المعابد المملوءة بالهياكل الثمينة والصور الجميلة والرسوم البديعة والمراسم المبهرجة.
نحن في صلواتنا نضع نصب أعيننا أننا بين يدي الخالق عز وجل، فنراعي السكون ونلازم جانب الهدوء. أما هم فقد أرادوا تقوية أسس الدين بأصوات «الأورغ» وبذلك مزجوا الروحانيات بالضجيج والضوضاء.
ابتدأنا في التأخر والتقهقر منذ اليوم الذي أهملنا فيه أوامر ديننا الحنيف. فلو كنا انقدنا إليه تمامًا فأتمرنا بأوامره واجتنبنا نواهيه من يدري في أي ذروة عليا من درجات السعادة كنا الآن؟
أراد أصحاب الأديان الأخرى الوصول إلى ما يؤثر فيهم فاجتهدوا وجدوا في إصلاح معتقداتهم غير المنطقية بتلك المراسم والحفلات، أما نحن المسلمين فقد أهملنا في المحافظة على عقائدنا الدينية المبنية على أساسات منطقية معقولة، ولذلك أخذنا في طريق التقهقر وسبيل الاندحار.
هم قلبوا الباطل وألبسوه صورة الصحيح فاستفادوا دنيويًّا، أما نحن فقد تركنا مناهج الحق وسرنا في طرق معوجة لم توصلنا إلى الغاية المنشودة وهي السعادة. قد هجر الغرب المتمدن ذلك الطريق المزخرف في الاعتقاد فوضحت أمامه سبل الحياة، أما نحن فابتعدنا عن أنوار ديننا الحنيف وسرنا نتخبط على غير هدى، ونتسكع في دياجير الجهل إلى أن وقعنا في هوة التأخر.
وصلنا إلى حالة نكاد نفقد فيها بهاءنا وبريقنا، نظير اللآلئ التي يطول عليها القدم من غير أن تستعمل. فإذا رغبنا في الحياة وأردنا ألا نندثر كالأمم التي بادت لجهلها ولم يبق لها سوى اسمها في صفحات التاريخ، وجب علينا أن نحيد عن طريق الضلال لنسلك مناهج الحق والاستقامة.
كنت مطرقة أتأمل فيما حولي من السكون فمر من أمامي رجلان واتَّجها نحو الباب، ثم فتحا إحدى نوافذ الإيوان وأطلا منها على الخارج حيث الزقاق القديم الملتوي التواء الثعبان. رفعت نظري نحوهما وهما يتحادثان فطرقت أذني كلمة صغيرة استرعت كل انتباهي إذ كان أحدهما يقول: «لما شيد «السلطان الغوري» هذا المسجد أمر أيضًا ببناء مقبرته أمامه.» هذا كل ما سمعته لأنني عدت ثانية إلى الغوص في لجج التفكير. كنت أفكر في اسم السلطان الغوري، ذلك الاسم المحفوف بالخواطر الموجعة والتذكارات المؤلمة فقلت في نفسي: إذن أنا الآن في نفس الجامع الذي بناه السلطان الغوري! ما أغرب هذه الصدفة!
حلقت ثانية في جو التأملات فطار بي الفكر إلى الماضي البعيد، إلى الوقائع الدموية التي شهدتها أرض الشام بين جيوش السلطان سليم المنتصرة على جند «الشاه إسماعيل» وجيوش السلطان الغوري صاحب هذا المسجد.
تصادم الجيشان في (مرج دابق) فاشتبكا مع بعضهما في قتال عنيف، ورأى الغوري أن جيشه آخذ في الهزيمة والإدبار فلم ير بدًّا من الفرار. ابتعد عن ميدان المعركة وفي صحبته أحد الجنود من أتباعه ووقف بالقرب من أحد الأنهار بحجة الوضوء، حيث فرش له الجندي سجادة الصلاة، وما كاد يرتمي عليها متمددًا حتى فاضت روحه.
وعندما خمدت نيران المعركة، لاحظ السلطان سليم أن الغوري لم يكن بين القتلى أو الأسرى فأمر بالبحث عنه في كل جهة. فتقدم إليه أحد جنوده وأخبره بأنه رأى جثة الغوري على مقربة من شاطئ النهر، إلا أن سليمًا داخله الشك في صدق الخبر فأرسل معه «جنديًّا» ليأتيه بالخبر اليقين.
ظن ذلك «الشاويش» الأبله أنه إذا أحضر رأس الغوري لمولاه ينال استحسانه ورضاه، فما كاد يصل إلى مكان الجثة حتى فصل الرأس عنها وحمله مفتخرًا إلى المعسكر. إلا أن السلطان سليم احتدم غيظًا لرؤية هذا المنظر البشع وهاله أن يرى الحاكم المغلوب مهانًا بعد مماته ومقطوع الرأس كمجرم عادي، فأمر بإعدام ذلك الجندي الأحمق.
كنت أفكر في كل هذه الحوادث فيأخذني العجب للخاتمة السوداء التي انتهت بها حياة ذلك السلطان، الآمر ببناء مقبرته على ذلك النمط المكلف مع أن جثته بقيت في مكان ورأسه في مكان آخر، ولم يعرف له مدفن حقيقي حتى الآن!
تصفحت بعين الخيال الأيام التي مرت على مصر بعد هذه الحادثة، فتمثل لناظري استيلاء السلطان سليم على مصر بعد موقعة «العادلية» فصلب «طومان باي»، خلف الغوري، على باب زويلة فالحرائق والمذابح العامة ثم طلوع عصر جديد باندحار المماليك ودوام التحكمات المتسلسلة على مصر. وما يلي ذلك من أيام حكم السلطان سليم في مصر وسلطنته الزاهرة في سراي النيل والصفحات المشرقة من حياته الجنونية.
الملك لله وحده، والذين يأملون الحصول عليه بالقوة والغلبة يضطرون إلى إرجاعه في نهاية الأمر. نحن العاجزين لو كان لنا أن نملك حفنة من التراب على وجه الأرض لكنا شركاء لله عز وجل.
ولما تركت حدائق المنيل وأزهارها المعطرة وخيالاتها اللطيفة راجعة إلى أحضان الحقيقة، كان الجو قد اعتدل وأخذت الأنوار النافذة من قبة المسجد في الزوال، فشكرًا لشمس الربيع التي قادتني إلى هذا الخيال!